١٢{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ } ، في جامع الترمذي : إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص ، آلت أمه أن لا يطعم ولا يشرب حتى تموت ، أو يكفر . وقيل : في عياش بن أبي ربيعة ، أسلم وهاجر مع عمر ، وكانت أمه شديدة الحب له ، وحلفت على مثل ذلك ، فتحيل عليه أبو جهل وأخوه الحارث ، فشداه وثاقاً حين خرج معهما من المدينة إلى أمه قصد ليراها ، وجلده كل منهما مائة جلدة ، ورداه إلى أمه فقالت : لا يزال في عذاب حتى يكفر بمحمد ، في حديث طويل ذكر في السير .{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ } : أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما . وانتصب { حَسَنًا } على أنه مصدر ، وصف به مصدر وصينا ، أي إيصاء حسناً ، أي ذا حسن ، أو على سبيل المبالغة ، أي هو في ذاته حسن . قال ابن عطية : يحتمل أن ينتصب على المفعول ، وفي ذلك تحريض على كونه عاماً لمعان . كما تقول : وصيتك خيراً ، وأوصيتك شراً ؛ وعبر بذلك عن جملة ما قلت له ، ويحسن ذلك دون حرف الجر ، كون حرف الجر في قوله :{ بِوالِدَيْهِ } ، لأن المعنى : ووصينا الإنسان بالحسن في قوله مع والده ، ونظير هذا قول الشاعر : عجبت من دهماء إذ تشكونا ومن أبي دهماء إذ يوصينا انتهى . مثله قول الحطيئة يوصي ابنته برة : وصيت من برة قلباً حرا بالكلب خيراً والحماة شراً وعلى هذا التقدير يكون الأصل بخير ، وهو المفعول الثاني . والباء في بوالديه وفي بالحماة وبالكلب ظرفية بمعنى في ، أي وصينا الإنسان في أمر والديه بخير . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله : { بِوالِدَيْهِ } ، وينتصب { حَسَنًا } بفعل مضمر تقديره : يحسن حسناً ، وينتصب انتصاب المصدر . وفي التحرير : حسناً نصب عند البصريين على التكرير ، أي وصيناه حسناً ، وقيل : على القطع ، تقديره : ووصينا بالحسن ، كما تقول : وصيته خيراً ، أي بالخير ، ويعني بالقطع عن حرف الجر ، فانتصب . وقال أهل الكوفة : ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً ، فيقدر له فعل . انتهى . وفي هذا القول حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول ، وهو لا يجوز عند البصريين . وقال الزمخشري : وصيناه بايتاء والديه حسناً ، أو نائلاً والديه حسناً ، أي فعلاً ذا حسن ، وما هو في ذاته حسن لفرط حسنه ، كقوله :{ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} انتهى . وهذا التقدير فيه إعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز عند البصريين . قال الزمخشري : ويجوز أن يجعل حسناً من باب قولك : زيداً ، بإضمار اضرب إذا رأيته متهيأ للضرب ، فتنصبه بإضمار أولهما ، أو افعل بهما ، لأن الوصية بهما دالة عليه ، وما بعده مطابق له ، فكأنه قال : قلنا أو لهما معروفاً . وقرأ عيسى ، والجحدري : حسناً ، بفتحتين ؛ والجمهور : بضم الحاء وإسكان السين ، وهما كالبَخَل . وقال أبو الفضل الرازي : وانتصابه بفعل دون التوصية المقدمة ، لأنها قد أخذت مفعوليها معاً مطلقاً ومجروراً ، فالحسن هنا صفة أقيم مقام الموصوف بمعنى : أمر حسن . انتهى ، أي أمراً حسناً ، حذف أمراً وأقيم حسن مقامه . وقوله : مطلقاً ، عنى به الإنسان ، وفيه تسامح ، بل هو مفعول به ؛ والمطلق إنما هو المصدر ، لأنه مفعول لم يقيد من حيث التفسير بأداة جر ، بخلاف سائر المفاعيل ، فإنك تقول : مفعول به ، ومفعول فيه ، ومفعول معه ، ومفعول له ؛ وفي مصحف أبي : إحساناً . {وَإِن جَاهَدَاكَ } : أي وقلنا : إن جاهداك { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } : أي بإلهيته ، فالمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، أي { لِتُشْرِكَ } به شيئاً ، لا يصح أن يكون إلهاً ولا يستقيم ، { فَلاَ تُطِعْهُمَا } فيما جاهداك عليه من الإشراك ؛{ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } : شامل للموصي والموصي والمجاهد والمجاهد ، { فَأُنَبِئُكُم } : فأجازيكم ، { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } : من بر ، أو عقوق ، أو طاعة ، أو عصيان . وكرر تعالى ما رتب للمؤمنين من دخولهم { فِى الصَّالِحِينَ } ، ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم . ومعنى { فِى الصَّالِحِينَ } : في جملتهم ، ومرتبة الصلاح شريفة ، أخبر اللّه بها عن إبراهيم ، وسألها سليمان ، عليهما السلام ، وأخبر تعالى أن يجعل من أطاع اللّه ورسوله معهم . ويجوز أن يكون التقدير : في ثواب الصالحين ، وهي الجنة . ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلص ، ذكر حال المنافقين ناساً آمنوا بألسنتهم ، فإذا آذاهم الكفار ، جعلوا ذلك الأذى ، وهو فتنة الناس ، صارفاً لهم عن الإيمان ؛ كما أن عذاب اللّه صارف للمؤمنين عن الكفر ؛ وكونها نزلت في منافقين ، قول ابن زيد . وقال الزجاج : جزع كما يجزع من عذاب اللّه ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك . وقال قتادة : فيمن هاجر ، فردهم المشركون إلى مكة . وقيل : في مؤمنين أخرجهم إلى بدر المشركون فارتدوا ، وهم الذين قال فيهم : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} {وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ } : أي للمؤمنين ، { لَّيَقُولَنَّ } : أي القائلون أو ذيناً في اللّه، { إِنَّا مَعَكُمْ } : أي متابعون لكم في دينكم ، أو مقاتلون معكم ناصرون لكم ، قاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم . وهذه الجملة المقسم عليها مظهرة مغالطتهم ، إذ لو كان إيمانهم صحيحاً ، لصبروا على أذى الكفار ، وإن كانت فيمن هاجر ، وكانوا يحتالون في أمرهم ، وركبوا كل هول في هجرتهم . وقرىء : ليقولن ، بفتح اللام ، ذكره أبو معاذ النحوي والزمخشري . وأعلم : أفعل تفضيل ، أي من أنفسهم ؛ وبما في صدورهم : أي بما تكن صدورهم من إيمان ونفاق ، وهذا إستفهام معناه التقرير ، أي قد علم ما انطوت عليه الضمائر من خير وشر .{ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } : ظاهر في أن ما قبل هذه الجملة في المنافقين ، كما قال ابن زيد ، وعلمه بالمؤمن ، وعد له بالثواب ، وبالمنافق وعيد له بالعقاب . ولما ذكر حال المؤمنين والمنافقين ، ذكر مقالة الكافرين قولاً واعتقاداً ، وهم رؤساء قريش . قال مجاهد : كانوا يقولن لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن كان عليكم شيء فهو علينا . وقيل : قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف ، قالا لعمران : كان في الإقامة على دين الآباء إثم ، فنحن نحمله عنك ، وقيل : قائل ذلك الوليد بن المغيرة . قال ابن عطية : وقوله :{ وَلْنَحْمِلْ } ، أخبر أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالنقل ، لكنهم أخرجوه في صيغة الأمر ، لأنها أوجب وأشد تأكيداً في نفس السامع من المجازاة ، ومن هذا النوع قول الشاعر : فقلت ادعى وأدعو فإن أندى لصوت أن ينادي داعيان ولكونه خبراً حسن تكذيبهم فيه . وقال الزمخشري : أمروهم باتباع سبيلهم ، وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم ، فحمل الأمر على الأمر وأرادوا ، ليجتمع هذان الأمران في الحصول ، أن يتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم . والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، وهذا قول صناديد قريش ، كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن عسى ، كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم . انتهى . وقوله : فإن عسى ، كان تركيب أعجمي لا عربي ، لأن إن الشرطية لا تدخل على عسى ، لأنه فعل جامد ، ولا تدخل أدوات الشرط على الفعل الجامد ؛ وأيضاً فإن عسى لا يليها كان ، واستعمل عسى بغير اسم ولا خبر ، ولم يستعملها تامة . وقرأ الحسن ، وعيسى ، ونوح القارىء : ولنحمل ، بكسر لام الأمر ؛ ورويت عن علي ، وهي لغة الحسن ، في لام الأمر . والحمل هنا مجاز ، شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر ، والخطايا بالمحمول . وقال مجاهد : نحمل هنا من الحمالة ، لا من الحمل . وقرأ الجمهور :{ مِنْ خَطَايَاهُمْ} وقرأ داود بن أبي هند ، فيما ذكر أبو الفضل الرازي : من خطيئتهم ، على التوحيد ، قال : ومعناه الجنس ، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة . وذكر ابن خالويه ، وأبو عمر والداني أن داود هذا قرأ : من خطيآتهم ، بجمع خطيئة جمع السلامة ، بالألف والتاء . وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ : من خطئهم ، بفتح الطاء وكسر الياء ، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين ، فأشبهت الياء ، لأن قياس تسهيلها هو ذلك . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف سماهم كاذبين ؟ وإنما ضمنوا شيئاً علم اللّه أنهم لا يقدرون على الوفاء به ، ومن ضمن شيئاً لا يقدر على الوفاء به ، لا يسمى كاذباً ، لا حين ضمن ، ولا حين عجز ، لأنه في الحالين لا يدخل تحت عد الكاذبين ، وهو المخبر عن الشيء ، لا على ما هو عليه ؟ قلت : شبه اللّه حالهم ، حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به ، فكان ضمانهم عنده ، لا على ما عليه بالكاذبين الذين خبرهم ، لا على ما عليه المخبر عنه . ويجوز أن يريد إنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ، كالكاذبين الذين يصدقون الشيء ، وفي قلوبهم فيه الخلف . انتهى . وتقدم من قول ابن عطية أن قوله : ولنحمل خبر ، يعني أمراً ، ومعناه الخبر ، وهذان الأمران منزلة الشرط والجزاء ، إذ المعنى : أن تتبعوا سبيلنا ، ولحقكم في ذلك إثم على ما تزعمون ، فنحن نحمل خطاياكم . وإذا كان المعنى على هذا ، كان إخباراً في الجزاء بما لا يطابق ، وكان كذباً . |
﴿ ١٢ ﴾