٦٣

أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن قوله :{ فِى عِبَادِى } الآية ، نزلت فيمن كان مقيماً بمكة ؛ أمروا بالهجرة عنها إلى المدينة ، أي جانبوا أهل الشرك ، واطلبوا أهل الإيمان . وقال أبو العالية : سافر والطلب أوليائه . وقال ابن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، ومالك بن أنس : الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية ، ويلزم الهجرة عنها إلى بلد حق . وقال مطرف بن الشخير :{ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ } عدة بسعة الرزق في جميع الأرض .

وقيل : أرض الجنة واسعة أعطيكم . وقال مجاهد : سافروا لجهاد أعدائه .{ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ } ، من باب الاشتغال : أي فإياي اعبدوا فاعبدون .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : ما معنى الفاء في فاعبدون ، وتقدم المفعول ؟

قلت : الفاء جواب شرط محذوف ، لأن المعنى : إن أرضي واسعة ، فإن لم تخلصوا العبادة في أرض ، فاخلصوها في غيرها . ثم حذف الشرط وعوض من حذفة تقديم المفعول ، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص . انتهى . ويحتاج هذا الجواب إلى تأمل .

ولما أخبر تعالى بسعة أرضه ، وكان ذلك إشارة إلى الهجرة ، وأمر بعبادته ، فكأن قد يتوهم متوهم أنه إذا خرج من أرضه التي نشأ فيها لأجل من حلها من أهل الكفر إلى دار الإسلام ، لا يستقيم له فيها ما كان يستقيم له في أرضه ، وربما أدى ذلك إلى هلاكه . أخبر أن كل نفس لها أجل تبلغه ، وتموت في أي مكان حل ، وأن رجوع الجمع إلى أجزائه يوم القيامة .

وقرأ علي :{ تُرْجَعُونَ } ، مبنياً للفاعل ؛ والجمهور : مبنياً للمفعول ، بتاء الخطاب . وروى عن عاصم : بياء الغيبة .

وقرأ أبو حيوة :{ ذَائِقَةُ } ، بالتنوين ؛{ الْمَوْتُ } : بالنصب .

وقرأ :{ لَنُبَوّئَنَّهُمْ } ، من المباءة .

وقرأ علي ، وعبد اللّه ، والربيع بن خيثم ، وابن وثاب ، وطلحة ، وزيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي : من الثواء ؛ وبوّأ يتعدى لاثنين .

قال تعالى :{ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ } مقاعد للقتال ، وقد جاء متعدي بالام .

قال تعالى :{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } ، والمعنى : ليجعلنّ لهم مكان مباءة ، أي مرجعاً يأوون إليه .{ غُرَفَاً } : أي علالي ،

وأما ثوى فمعناه : أقام ، وهو فعل لازم ، فدخلت عليه همزة التعدية فصار يتعدى إلى واحد ، وقد قرىء مشدداً عدى بالتضعيف ، فانتصب غرفاً ، إما على إسقاط حرف الجر ، أي في غرف ، ثم اتسع فحذف ،

وإما على تضمين الفعل معنى التبوئة ، فتعدى إلى اثنين ، أو شبه الظرف المكاني المختص بالمبهم يوصل إليه الفعل . وروي عن ابن عامر : غرفاً ، بضم الراء .

وقرأ ابن وثاب : فنعم ، بالفاء ؛ والجمهور : بغير فاء .{ الَّذِينَ صَبَرُواْ } : أي على مفارقة أوطانهم والهجرة وجميع المشاق ، من امتثال الأوامر واجتناب المناهي .{ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } : هذان جماع الخير كله ، الصبر وتفويض الأمور إلى اللّه تعالى .

ولما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، من أسلم بمكة بالهجرة ، خافوا الفقر فقالوا

غربة في بلاد لا دار لنا ، ولا فيه عقار ، ولا من يطعم . فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدّخر ، ولا تروّي في رزقها ، ولا تحمل رزقها ، من الحمل : أي لا تنقل ، ولا تنظر في إدخار ، قاله مجاهد ، وأبو مجلز ، وعلي بن الأقمر . والإدخار جاء في حديث :  { كيف بك إذا بقيت في حثالة من حثالة الناس يخبئون رزق سنة لضعف اليقين ؟ } قيل : ويجوز أن يكون من الحمالة التي لا تتكفل لنفسها ولا تروى . وقال الحسن : { لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } : لا تدخر ، إنما تصبح فيرزقها اللّه .

وقال ابن عباس : لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ،

وقيل : البلبل يحتكر في حضنيه ،

ويقال : للعقعق مخابىء ، إلا أنه ينساها . وانتفاء حملها لرزقها ، إما لضعفها وعجزها عن ذلك ،

وإما لكونها خلقت لا عقل لها ، فيفكر فيما يخبؤه للمستقبل : أي يرزقها على ضعفها .{ وَإِيَّاكُمْ } : أي على قدرتكم على الاكتساب ، وعلى التحيل في تحصيل المعيشة ، ومع ذلك فرازقكم هو اللّه، { وَهُوَ السَّمِيعُ } لقولكم : نخشى الفقر ، { الْعَلِيمُ } بما انطوت عليه ضمائركم .

ثم أعقب تعالى ذلك بإقرارهم بأن مبدع العالم ومسخر النيرين هو اللّه . وأتبع ذلك ببسط الرزق وضيقه ، فقال :{ اللّه يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء } أن يبسطه ، { وَيَقْدِرُ } لمن يشاء أن يقدره . والضمير في له ظاهره العود على من يشاء ، فيكون ذلك الواحد يبسط له في وقت ، ويقدر في وقت . ويجوز أن يكون الضمير عائداً عليه في اللفظ ، والمراد لمن يشاء آخر ، فصار نظير :{ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } : أي من عمر معمر آخر . وقولهم : عندي درهم ونصفه : أي ونصف درهم آخر ، فيكون المبسوط له الرزق غير المضيق عليه الرزق .

وقرأ علقمة الحمصي : ويقدر : بضم الياء وفتح القاف وشد الدال ، { عَلِيمٌ } : يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم .

ولما أخبر بأنهم مقرون بأن موجد العالم ، ومسخر النيرين ، ومحيي الأرض بعد موتها هو اللّه ، كان ذلك الإقرار ملزماً لهم أن رازق العباد إنما اللّه هو المتكفل به . وأمر رسوله بالحمد له تعالى ، لأن في إقرارهم توحيد اللّه بالإبداع ونفي الشركاء عنه في ذلك ، وكان ذلك حجة عليهم ، حيث أسندوا ذلك إلى اللّه وعبدوا الأصنام .{ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ، حيث يقرون بالصانع الرازق المحيي ، ويعبدون غيره .

﴿ ٦٣