٦٩{وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } : الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا ؟ وهي لا تزن عند اللّه جناح بعوضة ، أي ما هي في سرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون . والحيوان ، والحياة بمعنى واحد ، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر حيي ، والمعنى : لهي دار الحياة ، أي المستمرة التي لا تنقطع . قال مجاهد : لا موت فيها . وقيل : الحيوان : الحي ، وكأنه أطلق على الحي اسم المصدر . وجعلت الدار الآخرة حياً على المبالغة بالوصف بالحياة ، وظهور الواو في الحيوان وفي حيوة ، علم لرجل استدل به من ذهب إلى أن الواو في مثل هذا التركيب تبدل ياء لكسر ما قبلها ، نحو : شقي من الشقوة . ومن ذهب إلى أن لام الكلمة لامها ياء ، زعم أن ظهور الواو في حيوان وحيوة بدل من ياء شذوذاً ، وجواب لو محذوف ، أي لو كانوا يعلمون ، لم يؤثروا دار الفناء عليها . وجاء بنا مصدر حي على فعلان ، لأنه يدل على الحركة والاضطراب ، كالغليان ، والنزوان ، واللّهيان ، والجولان ، والطوفان . والحي : كثير الاضطراب والحركة ، فهذا البناء فيه لكثرة الحركة . ولما ذكر تعالى أنهم مقرون باللّه إذا سئلوا : من خلق العالم ؟{ وَمِنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء } ؟ ذكر أيضاً حالة أخرى يرجعون فيها إلى اللّه ، ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد ، وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله :{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ } ؟ قلت : بمحذوف دل عليه ما وصفهم به ، وشرح من أمرهم معناه على ما وصفوا به من الشرك والعناد . { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ } : كائنين في صورة من يخلص الدين للّه من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا اللّه ، ولا يدعون مع اللّه آخر . وفي المخلصين ضرب من التهكم ، و { إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } : جواب لما ، أي فاجأ السحية إشراكهم باللّه ، أي لم يتأخر عنها ولا وقتاً . والظاهر في { لِيَكْفُرُواْ } أنها لام كي ، وعطف عليه { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } في قراءة من كسر اللام وهم : العربيان ونافع وعاصم ، والمعنى : عادوا إلى شركهم .{ لِيَكْفُرُواْ } : أي الحامل لهم على الشرك هو كفرهم بما أعطاهم اللّه تعالى ، وتلذذهم بما متعوا به من عرض الدنيا ، بخلاف المؤمنين ، فإنهم إذا نجوا من مثل تلك الشدة ، كان ذلك جالب شكر اللّه تعالى ، وطاعة له مزدادة . وقيل : اللام في :{ لِيَكْفُرُواْ } ،{ وَلِيَتَمَتَّعُواْ } ، لام الأمر ، ويؤيده قراءة من سكن لام وليتمتعوا وهم : ابن كثير ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ؛ وهذا الأمر على سبيل التهديد ، كقوله :{ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ} وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يأمر اللّه تعالى بالكفر ، وبأن يعمل العصاة ما شاوؤا ، وهوناه عن ذلك ومتوعد عليه ؟ قلت : هو مجاز عن الخذلان والتحلية ، وإن ذلك الأمر مسخط إلى غاية . انتهى . والتحلية والخذلان من ألفاظ المعتزلة . وقرأ ابن مسعود : فتمتعوا فسوف تعلمون ، بالتاء فيهما : أي قيل لهم تمتعوا فسوف تعلمون ، وكذا في مصحف أبيّ . وقرأ أبو العالية : فيتمتعوا ، بالياء ، مبنياً للمفعول . ومن قرأ : وليتمتعوا ، بسكون اللام ، وكان عنده اللام في : ليكفروا ، لام كي ، فالواو عاطفة كلاماً على كلام ، لا عاطفة فعلا على فعل . وحكى ابن عطية ، عن ابن مسعود : لسوف تعلمون ، باللام ، ثم ذكرهم تعالى بنعمه ، حيث أسكنهم بلدة أمنوا فيها ، لا يغزوهم أحد ولا يستلب منهم ، مع كونهم قليلي العدد ، قارين في مكان لا زرع فيه ، وهذه من أعظم النعمة التي كفروها ، وهي نعمة لا يقدر عليها إلا اللّه تعالى . وقرأ الجمهور :{ يُؤْمِنُونَ } ، و { يَكْفُرُونَ } ، بالياء فيهما . وقرأ السلمي ، والحسن : بتاء الخطاب فيهما . وافتراؤهم الكذب : زعمهم أن للّه شريكاً ، وتكذيبهم بالحق : كفرهم بالرسول والقرآن . وفي قوله :{ لَمَّا جَاءهُ } : إشعار بأنهم لم يتوقفوا في تكذيبه وقت مجيء الحق لهم ، بخلاف العاقل ، فإنه إذا بلغه خبر ، نظر فيه وفكر حتى يبين له أصدق هو أم كذب . وأليس تقرير لمقامهم في جهنم كقوله : ألستم خير من ركب المطايا و { لِلْكَافِرِينَ } من وضع الظاهر موضع المضمر : أي مثواهم .{ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا } : أطلق المجاهدة ، ولم يقيدها بمتعلق ، ليتناول المجاهدة في النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين ، وما ورد من أقوال العلماء ، فالمقصود بها المثال . قال ابن عباس : جاهدوا أهواءهم في طاعة اللّه وشكر آلائه والصبر على بلائه .{ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } : لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير ، كقوله :{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءاتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} وقال السدي : جاهدوا فينا بالثبات على الإيمان ، لنهدينهم سبلنا إلى الجنة . وقال أبو سليمان الداراني : جاهدوا فيما علموا ، لنهدينهم إلى ما لم يعلموا . وقيل : جاهدوا في الغزو ، لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة . وقال ابن عباس : المحسنين الموحدين . وقال غيره : المجاهدون . وقال عبد اللّه بن المبارك : من اعتاصت عليه مسألة ، فليسأل أهل الثغور عنها ، كقوله تعالى :{ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}{ وَالَّذِينَ } : مبتدأ خبره القسم المحذوف ، وجوابه : وهو لنهدينهم وبهذا ، ونظيره ردّ على أبي العباس ثعلب في منعه أن تقع جملة القسم والمقسم عليه خبراً للمبتدأ ، ونظيره :{ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} |
﴿ ٦٩ ﴾