١٦

{أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ } : هذا تقرير توبيخ ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممن كان قبلهم من مكذبي الرسل ، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها ، وأنهم أقوى منهم في ذلك . قال مجاهداً :{ وَأَثَارُواْ الاْرْضَ } : حرثوها . وقال الفراء : قلبوها للزراعة . وقال غيرهما : قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وإلقاء البذر فيها للزراعة ؛ والإثارة : تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه .

وقرأ أبو جعفر : وآثاروا الأرض ، بمدة بعد الهمزة . وقال ابن مجاهد : ليس بشيء ، وخرجه أبو الفتح على الإشباع كقوله :

ومن ذم الزمان بمنتزاح

وقال : من ضرورة الشعر ، ولا يجيء في القرآن .

وقرأ أبو حيوة : وآثروا من الإثرة ، وهو الاستبداد بالشيء . وقرىء : وأثروا الأرض : أي أبقوا عنها آثاراً . { وَعَمَرُوهَا } : من العمارة ، أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء ، أو من العمران : أي سكنوا فيها ، أو من العمارة .

قال الزمخشري :{ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } : من عمارة أهل مكة ، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع ، ما لهم إثارة الأرض أصلاً ، ولا عمارة لهم رأساً ، فما هو إلاّ تهكم بهم وتضعيف حالهم في دنياهم ، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة ، وهم أيضاً ضعاف القوى .{ فَمَا كَانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ } : قبله محذوف ، أي فكذبوهم فأهلكوا .

وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو :{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ } بالرفع اسما لكان ، وخبرها { السوأى } ،أو هو تأنيث الأسوإ ، افعل من السوء .{ السُّوءى أَن كَذَّبُواْ } : مفعول من أجله متعلق بالخبر ، لا بأساء ، وإلا كان فيه الفصل بين الصلة ومتعلقها بالخبر ، وهو لا يجوز ؛ والمعنى : ثم كان عاقبتهم ، فوضع المظهر موضع المضمر .{ السوأى } : أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم . ويجوز أن تكون { السوأى } مصدراً على وزن فعلى ، كالرجعى ، وتكون خبراً أيضاً . ويجوز أن تكون مفعولاً بأساء بمعنى اقترفوا ، وصفة مصدر محذوف ، أي الإساءة السوأى ، ويكون خبر كان { السُّوءى أَن كَذَّبُواْ}

وقرأ الأعمش والحسن : السوى ، بإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو فيها ، كقراءة من قرأ :{ بِالسُّوء } ، بالإدغام في يوسف .

وقرأ ابن مسعود : السوء ، بالتذكير .

وقرأ الكوفيون وابن عامر :{ عَاقِبَةُ } ، بالنصب ، خبر كان ، والاسم السوأى ، أو السوء مفعول ، وكذبوا الاسم .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون أن بمعنى : أي تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء ، كانت في بمعنى القول ، نحو : نادى وكتب . ووجه آخر ، وهو أن يكون { أساؤا السوأى } بمعنى : اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايات ، { وَأَنْ كَذَّبُواْ } عطف بيان لها ، وخبر كان محذوف ، كما يحذف جواب لما ولو إرادة الإبهام . انتهى . وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جداً .

وأما قول الخطايات فكذا هو في النسخة التي طالعناها ، جمع جمع تكسير بالألف والتاء ، وذلك لا ينقاس ، إنما يقتصر فيه على مورد السماع ، ولا يبعد أن يكون زيادة التاء في الخطايات من الناسخ .

وأما قوله :{ وَأَنْ كَذَّبُواْ } عطف بيان لها ، أي للسوأى ، وخبر كان محذوف الخ . فهذا فهم أعجمي ، لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف ، فيتكلف له محذوفاً يدل عليه دليل . وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها ، لا اقتصاراً ولا اختصاراً ، إلا إن ورد منه شيء ، فلا ينقاس عليه .

وقرأ عبد اللّه وطلحة : يبدىء ، بضم الياء وكسر الدال ؛ والجمهور : بفتحها ؛ والأبوان : يرجعون ، بياء الغيبة ؛ والجمهور : بتاء الخطاب ، أي إلى ثوابه وعقابه ؛ والجمهور : يبلس ، بكسر اللام ؛ وعلي والسلمي : بفتحها ، من أبلسه إذا أسكته ؛ والجمهور : ولم يكن ، بالياء ؛ وخارجة والأريس ، كلاهما عن نافع ، وابن سنان عن أبي جعفر ، والأنطاكي عن شيبة : بتاء التأنيث .{ مّن شُرَكَائِهِمْ } : من الذين عبدوهم من دون اللّه ، وهي الأوثان ، وأضيفوا إليهم لأنهم أشركوهم في أموالهم ،

وقيل : لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء للّه . وقال مقاتل : المراد بهم الملائكة شفعاء للّه ، كما زعموا :{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}{ وَكَانُواْ } معناه : ويكون عند معاينتهم أمر اللّه وفساد حال الأصنام عبر بالماضي ، لتيقن الأمر وصحة وقوعه . وكتب السوأى بالألف قبل الياء ، كما كتبوا علماء بني إسرائيل بواو قبل الألف والتنوين في { يَوْمَئِذٍ } ، تنوين عوض من الجملة المحذوفة ، أي { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } ، يوم إذ { يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} والضمير في { يَتَفَرَّقُونَ } للمسلمين والكافرين ، لدلالة ما بعده عليه .

قال الزمخشري : ويظهر أنه عائد على ما قبله ، إذ قبله :{ اللّه يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} قال قتادة : هي فرقة ، لا اجتماع بعدها .

{فِى رَوْضَةٍ } ، الروضة ، الأرض ذات النبات والماء ، وفي المثل : أحسن من بيضة ، يريدون : بيض النعامة ، والروضة مما تعجب

العرب ، وقد أكثروا من مدحها في أشعارهم . { يُحْبَرُونَ } : يسرون . حبره : سره سروراً ، وتهلل له وجهه وظهر له أثره . يحبر بالضم ، حبراً وحبرة وحبوراً ، وفي المثل : امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة .

وحكى الكسائي : حبرته : أكرمته ونعمته . وقال علي بن سليمان : هو من قولهم : على أسنانه حبرة ، أي أثر ، أي يسير عليهم أثر النعمة .

وقيل : من التحبير ، وهو التحسين ، أي يحسنون .

ويقال : فلان حسن الحبر والسبر ، بالفتح ، إذا كان جميلاً حسن الهيئة .

وقال ابن عباس ، والضحاك ، ومجاهد : يكرمون . وقال يحيى بن أبي كثير ، والأوزاعي ، ووكيع : يسمعون الأغاني . وقال أبو بكر ، وابن عباس : يتوجون على رؤوسهم . وقال ابن كيسان : يحلون . ومعنى { مُحْضَرُونَ } : مجموعون له ، لا يغيب أحد منهم عنه بقوله :{ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا } ، وجاء في روضة منكراً وفي معرفاً .

قال الزمخشري : والتنكير لإيهام أمرها وتفخيمه ، وجاء يحبرون بالفعل المضارع لاستعماله للتجدد ، لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة . وجاء { مُحْضَرُونَ } باسم الفاعل لاستعماله للثبوت ، فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين ، فهو وصف لاذم لهم .

﴿ ١٦