١٨

{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ } : لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه ، كان ذلك حثاً على طاعة اللّه ، ثم بين أن الطاعة تكون للأبوين ، وبين السبب في ذلك ، فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه ، أخبر اللّه عنه بذلك .

وقيل : هو من كلام اللّه ، قاله للقمان ، أي قلنا له اشكر . وقلنا له :{ وَوَصَّيْنَا}

وقيل : هذه الآية اعتراض بيّن أثناء وصيته للقمان ، وفيها تشديد وتوكيد لاتباع الولد والده ، وامتثال أمره في طاعة اللّه تعالى . وقال القرطبي : والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت نزلتا في سعد بن أبي وقاص ، وعليه جماعة من المفسرين . ولما خص الأم بالمشقات من الحمل والنفاس والرضاع والتربية ، نبه على السبب الموجب للإيصاء ، ولذلك جاء في الحديث الأمر ببرّ الأم ثلاث مرات ، ثم ذكر الأب ، فجعل له مرة الربع من المبرة .

{وَهْناً عَلَى وَهْنٍ } ، قال ابن عباس : شدة بعد شدة ، وخلقاً بعد خلق . وقال الضحاك : ضعفاً بعض ضعف . وقال قتادة : جهداً على جهد ، يعني : ضعف الحمل ، وضعف الطلق ، وضعف النفاس ، وانتصب على هذه الأقوال على الحال .

وقيل :{ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ } : نطفة ثم علقة ، إلى آخر النشأة ، فعلى هذا يكون حالاً من الضمير المنصوب في حملته ، وهو الولد .

وقرأ عيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية : وهناً على وهن ، بفتح الهاء فيهما ، فاحتمل أن يكون كالشعر والشعر ، واحتمل أن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن وهناً ، بفتحها في المصدر قياساً .

وقرأ الجمهور : بسكون الهاء فيهما . وقرؤا :{ وَفِصَالُهُ}

وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والجحدري ، ويعقوب : وفصله ، ومعناه الفطام ، أي في تمام عامين ، عبر عنه بنهايته ، وأجمعوا على اعتبار العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ،

وأما في تحريم اللبن في الرضاع فخلاف مذكور في الفقه . و { أَنِ اشْكُرْ } في موضع نصب ، على قول الزجاج . وقال النحاس : الأجود أن تكون مفسرة .{ لِى } : أي على نعمة الإيمان .{ وَلِوالِدَيْكَ } : على نعمة التربية { إِلَىَّ الْمَصِيرُ } : توعد أثناء الوصية .{ وَإِن جَاهَدَاكَ } إلى :{ فَلاَ تُطِعْهُمَا } : تقدم الكلام عليه في العنكبوت ، إلا أن هنا عليّ ، وهناك لتشرك بلام العلة . وانتصب { مَّعْرُوفاً } على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي صحاباً ، أو مصاحباً معروفاً وعشرة جميلة ، وهو إطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما وانتهارهما ، وعيادتما إذا مرضا ، ومواراتهما إذا ماتا .{ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ } : أي رجع إلى اللّه ، وهو سبيل الرسول لا سبيلهما .{ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } : أي مرجعك ومرجعهما ، فأجازي كلاً منكم بعمله .

ولما نهى لقمان ابنه عن الشرك ، نبهه على قدرة اللّه ، وأنه لا يمكن أن يتأخر عن مقدوره شيء فقال :{ تَعْمَلُونَ يابُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ } ، والظاهر أن الضمير في إنها ضمير القصة .

وقرأ نافع : مثقال ، بالرفع على { إِن تَكُ } تامة ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر ، وأخبر عن مثقال ، وهو مذكر ، إخبار المؤنث ، لأضافته إلى مؤنث ، وكأنه قال : إن تك زنة حبة ؛ وباقي السبعة : بالنصب على { إِن تَكُ } ناقصة ، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام تقديره : هي ، أي التي سألت عنها . وكان فيما روي قد سأل لقمان ابنه : أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر ؟ أيعلمها اللّه ؟ فيكون الضمير ضمير جوهر لا ضمير عرض ، ويؤيده قوله :{ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ}

وقرأ عبد الكريم الجزري : فتكن ، بكسر الكاف وشد النون وفتحها ؛ وقراءة محمد بن أبي فجة البعلبكي : فتكن ، بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة .

وقرأ قتادة : فتكن ، بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ، من وكن يكن ، ورويت هذه القراءة عن عبد الكريم الجزري أيضاً : أي تستقر ، ويجوز أن يكون الضمير ضمير عرض ، أي تلك الفعلة من الطاعة أو المعصية . وعلى من قرأ بنصب مثقال ، يجوز أن يكون الضمير في أنها ضمير الفعلة ، لا ضمير القصة .

قال الزمخشري : فمن نصب يعني مثقال ، كان الضمير للّهيئة من الإساءة والإحسان ، أي كانت مثلاً في الصغر والقماءة ، كحبة

الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه ، كجوف الصخرة ، أو حيث كانت من العالم العلوي أو السفلي .

{يَأْتِ بِهَا اللّه } ، يوم القيامة ، فيحاسب عليها .{ إِنَّ اللّه لَطِيفٌ } ، يتوصل علمه إلى كل خفي .{ خَبِيرٌ } : عالم يكنهه . وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرها . وبدأ له بما يتعلق به أولاً ، وهو كينونة الشيء .{ فِى صَخْرَةٍ } : وهو ما صلب من الحجر وعشر إخراجه منها ، ثم أتبعه بالعالم العلوي ، وهو أغرب للسامع ، ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد ، وهو الأرض .

وعن ابن عباس والسدي ، أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض . قال ابن عباس : هي تحت الأرضين السبع ، يكتب فيها أعمال الفجار .

قال ابن عطية : قيل : أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء ، وهي على ظهر ملك .

وقيل : هي صخرة في الريح ، وهذا كله ضعيف لا يثبت سنده ، وإنما معنى الكلام : المبالغة والانتهاء في التفهم ، أي إن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة ، وما يكون في السماء والأرض . انتهى . قيل : وخفاء الشيء يعرف بصغره عادة ، ويبعده عن الرائي . وبكونه في ظلمة وباحتجابه ، ففي صخرة إشارة إلى الحجاب ، وفي السموات إشارة إلى البعد ، وفي الأرض إشارة إلى الظلمة ، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن .

وفي قوله :{ يَأْتِ بِهَا اللّه } دلالة على العلم والقدرة ، كأنه قال : يحيط بها علمه وقدرته .

ولما نهاه أولاً عن الشرك ، وأخبره ثانياً بعلمه تعالى وباهر قدرته ، أمره بما يتوسل به إلى اللّه من الطاعات ، فبدأ بأشرفها ، وهو الصلاة ، حيث يتوجه إليه بها ، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها ، أو على ما يصيبه بسبب الأمر بالمعروف ممن يبعثه عليه ، والنهي عن المنكر ممن ينكره عليه ، فكثيراً ما يؤذى فاعل ذلك ، وهذا إنما يريد به بعد أن يمثل هو في نفسه فيأتي بالمعروف . إن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما نهاه عنه وأمره به . والعزم مصدر ، فاحتمل أن يراد به المفعول ، أي من معزوم الأمور ، واحتمل أن يراد به الفاعل ، أي عازم الأمور ، كقوله :{ فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ} وقال ابن جريج : مما عزمه اللّه وأمر به ؛

وقيل : من مكارم الأخلاف وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة . والظاهر أنه يريد من لازمات الأمور الواجبة ، لأن الإشارة بذلك إلى جميع ما أمر به ونهى عنه . وهذه الطاعات يدل إيصاء لقمان على أنها كانت مأموراً بها في سائر الملل . والعزم : ضبط الأمر ومراعاة إصلاحه . وقال مؤرج : العزم : الحزم ، بلغة هذيل . والحزم والعزم أصلان ، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء ، لاطراد تصاريف كل واحد من اللفظين ، فليس أحدهما أصلاً للآخر .

{وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } : أي لا تولهم شق وجهك ، كفعل المتكبر ، وأقبل على الناس بوجهك من غير كبر ولا إعجاب ، قاله ابن عباس والجماعة . قال ابن خويز منداد : نهى أن يذل نفسه من غير حاجة ، وأورد قريباً من هذا ابن عطية احتمالاً فقال : ويحتمل أن يريد : ولا سؤالاً ولا ضراعة بالفقر . قال : والأول ، يعني تأويل ابن عباس والجماعة ، أظهر لدلالة ذكر الاختيال والعجز بعده . وقال مجاهد :{ وَلاَ تُصَعّرْ } ، أراد به الإعراض ، كهجره بسب أخيه .

وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وزيد بن علي : تصعر ، بفتح الصادر وشد العين ؛ وباقي السبعة : بألف ؛ والجحدري : يصعر مضارع أصعر .{ وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا } : تقدم الكلام على هذه الجملة في سورة سبحان .{ إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } : تقدم الكلام في النساء على نظير هذه الجملة في قوله :{ إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} ولما وصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ صار هو في نفسه ممتثلاً للمعروف مزدجراً عن المنكر ، أمر به غيره وناهياً عنه غيره ، نهاه عن التكبر على الناس والإعجاب والمشي مرحاً ، وأخبره أنه تعالى لا يحب المختال ، وهو المتكبر ، ولا الفخور . قال مجاهد : وهو الذي يعدد ما أعطي ، ولا يشكر اللّه . ويدخل في الفخور : الفخر بالأنساب .

﴿ ١٨