٤هذه السورة مكية ، قيل : إلا خمس آيات :{ تتجافي } إلى { بِهَا تُكَذّبُونَ} وقال ابن عباس ، ومقاتل ، والكبي : إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة :{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً} قال كفار قريش : لم يبعث اللّه محمداً إلينا ، وإنما الذي جاء به اختلاق منه ، فنزلت . ولما ذكر تعالى ، فيما قبلها ، دلائل التوحيد من بدء الخلق ، وهو الأصل الأول ؛ ثم ذكر المعاد والحشر ، وهو الأصل الثاني ، وختم به السورة ، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث ، وهو تبيين الرسالة . و { الْكِتَابِ } : القرآن . قال الحوفي :{ تَنزِيلَ} مبتدأ ، { وَلاَ رَيْبَ } خبره . ويجوز أن يكون { تَنزِيلَ } خبر مبتدأ ، أي هذا المتلو تنزيل ، أو هذه الحروف تنزيل ، و { الم } بدل على الحروف . وقال أبو البقاء :{ الم } مبتدأ ، و { تَنزِيلَ } خبره بمعنى المنزل ، و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } حال من الكتاب ، والعامل فيه تنزيل ، و { مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } متعلق بتنزيل أيضاً . ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في فيه ، والعامل فيه الظرف . ويجوز أن يكون { تَنزِيلَ } مبتدأ ، و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } الخبر ، و { مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } حال كما تقدم . ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل ، لأن المصدر قد أخبر عنه . ويجوز أن يكون الخبر { مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } ، و { لاَ رَيْبَ } حال من الكتاب ، وأن يكون خبراً بعد خبر . انتهى . والذي أختاره أن يكون { تَنزِيلَ } مبتدأ ، و { لاَ رَيْبَ } اعتراض ، و { مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } الخبر . و قال ابن عطية :{ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } متعلق بتنزيل ، ففي الكلام تقديم وتأخير ؛ ويجوز أن يتعلق بقوله :{ لاَ رَيْبَ } ،أي لا شك ، من جهة اللّه تعالى ، وإن وقع شك الكفرة ، فذلك لا يراعى . والريب : الشك ، وكذا هو في كل القرآن ، إلا قوله :{ رَيْبَ الْمَنُونِ} انتهى . وإذا كان { تَنزِيلَ } خبر مبتدأ محذوف ، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه ، لم نقل فيه : إن فيه تقديماً وتأخيراً ، بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً . وأما كونه متعلقاً بلا ريب ، فليس بالجيد ، لأن نفي الريب عنه مطلقاً هو المقصود ، لأن المعنى : لا مدخل للريب فيه ، إن تنزيل اللّه ، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه ، وهو الإعجاز ، فهو أبعد شيء من الريب . وقولهم :{ افْتَرَاهُ } ، كلام جاهل لم يمعن النظر ، أو جاحد مستيقن أنه من عند اللّه ، فقال ذلك حسداً ، أو حكماً من اللّه عليه بالضلال . وقال الزمخشري : والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي في كونه منزلاً من رب العالمين . ويشهد لوجاهته قوله :{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } ، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين . وكذلك قوله :{ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ } ، وما فيه من تقدير أنه من اللّه ، وهذا أسلوب صحيح محكم ، أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين ، وأن ذلك ما لا ريب فيه . ثم أضرب عن ذلك إلى قوله :{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } ، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل ، والهمزة إنكاراً لقولهم وتعجباً منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات ، ثم أضرب عن الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك . انتهى ، وهو كلام فيه تكثير . وقال أبو عبيدة : أم يكون معناه : بل يقولون ، فهو خروج من حديث إلى حديث ؛ ومن ربك في موضع الحال ، أي كائناً من عند ربك ، وبه متعلق بلتنذر ، أو بمحذوف تقديره : أنزله لتنذر . والقوم هنا قريش والعرب ، وما نافية ، ومن نذير : من زائدة ، ونذير فاعل أتاهم . أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولاً بخصوصيتهم قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لا لهم ولا لآبائهم ، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل ، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم ، وعبدوا الأصنام وعم ذلك ، فهم مندرجون تحت قوله :{ وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } ،أي شريعته ودينه ؛ والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر ، بل يكون نذيراً لمن باشره ، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير ، ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال ابن عباس ، ومقاتل : المعنى لم يأتهم في الفترة بين عيس ومحمد ، عليهما السلام . وقال الزمخشري :{ مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } ،كقوله :{ مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } ، وذلك أن قريشاً لم يبعث اللّه إليهم رسولاً قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم. فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير ، لم تقم عليهم حجة . قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا ، وأما قيامها بمعرفة اللّه وتوحيده وحكمته فنعم ، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان . انتهى . والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون ، وذلك أنهم فهموا من قوله :{ مَا ءاتَاهُمُ } ، و { مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } ، أن ما نافية ، وعندي أن ما موصولة ، والمعنى : لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم .{ مّن نَّذِيرٍ } : متعلق بأتاهم ، أي أتاهم على لسان نذير من قبلك . وكذلك { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } : أي العقاب الذي أنذره آباؤهم ، فما مفعولة في الموضعين ، وأنذر يتعدى إلى اثنين . قال تعالى :{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } ، وهذا القول جار على ظواهر القرآن . قال تعالى :{ وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } ، و { أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } ،{ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } ،{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً} ولما حكى تعالى عنهم أنهم يقولون : إن محمداً صلى اللّه عليه وسلم افتراه ورد عليهم ، اقتصر في ذكر ما جاء به القرآن على الإنذار ، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعاً لهم ، ولأنه إذا ذكر الإنذار ، صار عند العاقل فكر فيما أنذر به ، فلعل ذلك الفكر يكون سبباً لهدايته . و { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } : ترجية من رسول اللّه ، كما كان في قوله :{ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } ، من موسى وهارون . قال الزمخشري : وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة . انتهى . يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي ، ومعناه : إرادة اهتدائهم ، وهذه نزغة اعتزالية ، لأنه عندهم أن يرد هداية العبد ، فلا يقع ما يريد ، ويقع ما يريد العبد ، تعالى اللّه عن ذلك . ولما بين تعالى أمر الرسالة ، ذكر ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل بذكر مبدأ العالم . وتقدم الكلام على { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } في الأعراف .{ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ } : أي إذا جاوزتموه إلى سواه فاتخذتموه ناصراً وشفيعاً .{ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } موجد هذا العالم ، فتعبدوه وترفضوا ما سواه ؟ |
﴿ ٤ ﴾