١٨

{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ } : خطاب توبيخ وإعلام أن الفرار لا ينجي من القدر ، وأنه تنقطع أعمارهم في يسيرهم من المدة ، واليسير مدة : الآجال . قال الربيع بن خيثم : وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي :{ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ } ،أو القتل ، لا ينفعكم الفرار ، لأن مجيء الأجل لا بد منه . وإذاً هنا تقدّمها حرف عطف ، فلا يتحتم إعمالها ، بل يجوز ، ولذلك قرأ بعضهم :{ وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُواْ خَلْفَكَ } في سورة الإسراء ، بحذف النون . ومعنى خلفك : أي بعد فراقهم إياك . و { قَلِيلاً } : نعت لمصدر محذوف ، أي تمتيعاً قليلاً ، أو لزمان محذوف ، أي زماناً قليلاً . ومرّ بعض المروانية على حائط مائل فأسرع ، فتليت له هذه الآية ، فقال : ذلك القليل نطلب .

وقرأ الجمهور :{ لاَّ تُمَتَّعُونَ } ، بتاء الخطاب ؛ وقرىء : بياء الغيبة . و { مَن ذَا } : استفهام ، ركبت ذا مع من وفيه معنى النفي ، أي لا أحد يعصمكم من اللّه .

قال الزمخشري :

فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ، ولا عصمة إلا من السوء ؟

قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله :

متقلداً سيفاً ورمحاً

أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع . انتهى .

أما الوجه الأول ففيه حذف جملة لا ضرورة تدعو

إلى حذفها ، والثاني هو الوجه ، لا سيما إذا قدر مضاف محذوف ، أي يمنعكم من مراد اللّه . والقائلين لإخوانهم كانوا ، أي المنافقون ، يثبطون إخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يقولون : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحماً لا تهمهم أبو سفيان ، فخلوهم .

وقيل : هم اليهود ، كانوا يقولون لأهل المدينة : تعالوا إلينا وكونوا معنا . وقال ابن زيد : انصرف رجل من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يوم الأحزاب ، فوجد شقيقه عنده سويق ونبيذ ، فقال : أنت هاهنا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين الرماح والسيوف ؟ فقال : هلم إليه ، فقد أحيط بك وبصاحبك . والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبداً ، فقال : كذبت والذي يحلف به ، ولأخبرنه بأمرك . فذهب ليخبره ، فوجد جبريل قد نزل بهذه الآية . وقال ابن السائب : هي في عبد اللّه بن أبيّ ، ومعتب بن قشير ، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة . فإذا جاءهم المنافق قالوا له : ويحك اجلس ولا تخرج ، ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنا ننتظركم . وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن يجدوا بدا من إتيانه ، فيأتون ليرى الناس وجوههم ، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة ، فنزلت . وتقدم الكلام في { هَلُمَّ } في أواخر الأنعام .

وقال الزمخشري : وهلموا إلينا ، أي قربوا أنفسكم إلينا ، قال : وهو صوت سمي به فعل متعد مثل : احضر واقرب . انتهى .

والذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتاً ، وإنما هو مركب مختلف في أصل تركيبه ؛ فقيل : هو مركب من هاالتي للتنبيه ولم ، وهو مذهب البصريين .

وقيل : من هل وأم ، والكلام على ترجيح المختار منهما مذكور في النحو .

وأما قوله : سمي به فعل متعد ، ولذلك قدر { هَلُمَّ إِلَيْنَا } : أي قربوا أنفسكم إلينا ؛ والنحويون : أنه متعد ولازم ؛ فالمتعدي كقوله :{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ } : أي احضروا شهداءكم ، واللازم كقوله :{ هَلُمَّ إِلَيْنَا } ، وأقبلوا إلينا .{ وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ } : أي القتال ، { إِلاَّ قَلِيلاً} يخرجون مع المؤمنين ، يوهمونهم أنهم معهم ، ولا نراهم يقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه ، كقوله :{ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً} وقلته إما لقصر زمانه ،

وإما لقلة عقابه ، وإنه رياء وتلميع لا تحقيق .

﴿ ١٨