٢٣

الظاهر أن الخطاب في قوله :{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ } ، للمؤمنين ، لقوله قبل :{ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ } ، وقوله بعد :{ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّه وَالْيَوْمَ الاْخِرَ} والمعنى : أنه / صلى اللّه عليه وسلم ج ، لكم فيه

الاقتداء . فكما نصركم ووازركم حتى قاتل بنفسه عدوكم ، فكسرت رباعيته الكريمة ، وشج وجهه الكريم ، وقتل عمر ، وأودي ضروباً من الإيذاء ؛ يجب عليكم أن تنصروه وتوازروه ، ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه ، ولا عن مكان هو فيه ، وتبذلوا أنفسكم دونه ؛ فما حصل لكم من الهداية للإسلام أعظم من كل ما تفعلونه معه / صلى اللّه عليه وسلم ، من النصرة والجهاد في سبيل اللّه ، ويبعد قول من قال : إن خطاب للمنافقين . { وَالْيَوْمِ الاْخِرِ } : يوم القيامة .

وقيل : يوم السياق . و { أُسْوَةٌ } : اسم كان ، و { لَكُمْ } : الخبر ، ويتعلق { فِى رَسُولِ اللّه } بما يتعلق به { لَكُمْ } ،أو يكون في موضع الحال ، لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتاً بعد لأسوة ، أو يتعلق بكان على مذهب من أجاز في كان وأخواتها الناقصة أن تعمل في الظرف والمجرور ، ويجوز أن يكون { فِى رَسُولِ اللّه } الخبر ، ولكم تبيين ، أي لكم ، أعني :{ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّه}

قال الزمخشري : بدل من لكم ، كقوله :{ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} انتهى . ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ، ولا من ضمير المخاطب ، اسم ظاهر في بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة ، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش ، ويدل عليه قول الشاعر : بكم قريش كفينا كل معضلة

وأمّ نهج الهدى من كان ضليلاً

وقرأ الجمهور : إسوة بكسر الهمزة ؛ وعاصم بضمها . والرجاء : بمعنى الأمل أو الخوف . وقرن الرجاء بذكر اللّه ، والمؤتسي برسول اللّه ، هو الذي يكون راجياً ذاكراً . ولما بين تعالى المنافقين وقولهم :{ مَّا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } ، بين حال المؤمنين ، وقولهم صندماً قال المنافقون . وكان اللّه وعدهم أن يزلزلهم حتى يستنصروه في قوله :{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ } الآية . فلما جاء الأحزاب ، ونهض بهم للقتال ، واضطربوا ، { قَالُواْ هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ } ، وأيقنوا بالجنة والنصر .

وعن ابن عباس ، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لأصحابه : { إن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً } ، أي في آخر تسع ليال أو عشر . فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك .

وقيل : الوعد هو ما جاء في الآية مما وعده عليه السلام حين أمر بحفر الخندق ، فإنه أعلمهم بأنهم يحضرون ، وأمرهم بالاستعداد لذلك ، وأعلمهم أنهم سينصرون بعد ذلك . فلما رأوا الأحزاب قالوا ذلك ، فسلموا الأول الأمر ، وانتظروا آخره . وهذا إشارة إلى الخطب ، إيماناً باللّه وبما أخبر به الرسول مما لم يقع ، كقولك : فتح مكة وفارس والروم ، فالزيادة فيما يؤمن ، لا في نفس الإيمان .

وقرأ ابن أبي عبلة : وما زادوهم ، بالواو ، وضمير الجمع يعود على الأحزاب ، وتقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقت زيداً في الحديث . وقد عدت صدق هذه في ما يتعدى بحرف الجر ، وأصله ذلك ، ثم يتسع فيه فيحذف الحرف ويصل الفعل إليه بنفسه ، ومنه قولهم في المثل : صدقني سن بكره ، أي في سن بكره . فما عاهدوا ، إما أن يكون على إسقاط الحرف ، أي فيما عاهدوا ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : صدقوا اللّه ،

وإما أن يكون صدق يتعدى إلى واحد ، كما تقول : صدقني أخوك إذا قال لك الصدق ، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب . وكان المعاهد عليه مصدوقاً مجازاً ، كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي لك ، وهم وافون به ، فقد صدقوه ، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ، وكان مكذوباً . وهؤلاء الرجال ، قال مقاتل والكلبي : هم أهل العقبة السبعون ، أهل البيعة . وقال أنس : نزلت في قوم لم يشهدوا بدراً ، فعاهدوا أن لا يتأخروا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فوفوا . وقال زيد بن رومان : بنو حارثة .

{فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ } ، وهذا تجوز ، لأن الموت أمر لا بد منه أن يقع بالإنسان ، فسمي نحباً لذلك . وقال مجاهد : قضى نحبه : أي عهده . قال أبو عبيدة : نذره .

وقال الزمخشري :{ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ } ، يحتمل موته شهيداً ، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقالت فرقة : الموصوفون بقضاء النحب جماعة من الصحابة وفوا بعهود الإسلام على التمام . فالشهداء منهم ، والعشرة الذين شهد لهم الرسول بالجنة ، منهم من حصل في هذه المرتبة بما لم ينص عليه ، ويصحح هذا القول قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقد سئل من الذي قضى نحبه وهو على المنبر ؟ فدخل طلحة بن عبيد اللّه فقال : هذا ممن قضى نحبه .{ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } : إذا فسر قضاء النحب بالشهادة ، كان التقدير : ومنهم من ينتظر الشهادة ؛ وإذا فسر بالوفاء لعهود الإسلام ، كان التقدير : ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح . وقال مجاهد : ينتظر يوماً فيه جهاد ، فيقضي نحبه .{ وَمَا بَدَّلُواْ } : لا المستشهدون ، ولا من ينتظر . وقد ثبت طلحة يوم أحد حتى أصيبت يده ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { أوجب طلحة } ، وفيه تعريض لمن بدل من المنافقين حين ولو الأدبار ، وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار .

﴿ ٢٣