١٣

{وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ } ، قال الحسن : عقر سليمان الخيل على ما فوتته من صلاة العصر ، فأبدله اللّه خيراً منها ، وأسرع الريح تجري بأمره .

وقرأ الجمهور : الريح بالنصب ، أي ولسليمان سخرنا الريح ؛ وأبو بكر : بالرفع على الابتداء ، والخبر في المجرور ، ويكون الريح على حذف مضاف ، أي تسخير الريح ، أو على إضمار الخبر ، أي الريح مسخرة .

وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وخالد بن الياس : الرياح ، بالرفع جمعاً . وقال قتادة : كانت تقطع في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة شهر ، وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر . وقال الحسن : فخرج من مستقره بالشام يريد تدمر التي بنتها الجن بالصفاح والعمد ، فيقيل في اصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان . والغد وليس الشهر هو على حذف مضاف ، أي جزى غدوها ، أي جريها في الغد ومسيرة شهر ، وجرى رواحها ، أي جريها في الرواح مسيرة شهر . وأخبر

هنا في الغدو وعن الرواح بالزمان وهو شهر ، ويعني شهراً واحداً كاملاً ، ونصب شهر جائز ، ولكنه لم يقرأ به فيما أعلم .

وقرأ ابن أبي عبلة : غدوتها وروحتها على وزن فعلة ، وهي المرة الواحدة من غدا وراح . وقال وهب : كان مستقر سليمان ، عليه السلام ، بتدمر ، وكانت الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر ، وفيه يقول النابغة : ألا سليمان قد قال الإله له

قم في البرية فاصددها عن العبد

وجيش الجن إني قد أذنت لهميبنون تدمر بالصفاح والعمد

ووجدت أبياتاً منقورة في صخرة بأرض يشكر شاهدة لبعض أصحاب سليمان ، عليه السلام ، وهي :

ونحن ولا حول سوى حول ربنانروح من الأوطان من أرض تدمر

إذا نحن رحنا كان ريث رواحنامسيرة شهر والغد ولآخر

أناس أعز اللّه طوعاً نفوسهم

بنصر ابن داود النبي المطهر

لهم في معاني الدين فضل ورفعة

وإن نسبوا يوماً فمن خير معشر

وإن ركبوا الريح المطيعة أسرعت

مبادرة عن يسرها لم تقصر

تظلهم طير صفوف عليهم

متى رفرفت من فوقهم لم تنشر

انتهى ما حكى وهب . { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } : الظاهر أنه جعله له في معدنه عيناً تسيل كعيون الماء ، دلالة على نبوته . قال قتادة : يستعملها فيما يريد .

وعن ابن عباس ومجاهد والسدي : أجريت له ثلاثة أيام بلياليهن ، وكانت بأرض اليمن . قال مجاهد : سالت من صنعاء ، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله ، وكان لا يذوب . وقالت فرقة : المعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود ، عليه السلام . قالوا : وكانت الأعمال تتأتى منه ، وهو بارد دون نار ، وعين بمعنى الذات . وقالوا : لم يكن أولاً ذاب لأحد قبله .

وقال الزمخشري : أراد بها معدن النحاس نبعاً له ، كما ألان الحديد لداود ، فنبع كما ينبع الماء من العين ، فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه ، كما قال :{ إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا} انتهى ويحتمل { مَن يَعْمَلُ } أن يكون في موضع نصب ، أي وسخرنا من الجن من يعمل ، وأن يكون في موضع رفع على الابتداء ، وخبره في الجار والمجرور قبله { بِإِذْنِ رَبّهِ } لقوله :{ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا}

وقرأ الجمهور : يزغ مضارع زاغ ، أي ومن يعدل عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان . وقرىء : يزغ بضم الياء من أزاغ : أي ومن بمل ويصرف نفسه عن أمرنا .{ وَعَذَابٍ السَّعِيرِ } : عذاب الآخرة ، قاله ابن عباس . وقال السدي : كان معه ملك بيده سوط من نار ، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني . ولبعض الباطنية ، أو من يشبههم ، تحريف في هذه الجمل . إن تسبح الجبال هو نوع قوله :{ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } ، وإن تسخير الريح هو أنه راض الخيل وهي كالريح ، وإن { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } يكون فرسخاً ، لأن من يخرج للتفرج لا يسير في غالب الأمر أشد من فرسخ . والإنة الحديد وإسالة القطر هو استخراج ذو بهما بالنار واستعمال الآلات منهما .

{وَمِنَ الْجِنّ } : هم ناس من بني آدم أقوياء شبهوا بهم في قواهم ، وهذا تأويل فاسد وخروج بالجملة عما يقوله أهل التفسير في الآية ، وتعجيز للقدرة الإلهية ، نعوذ باللّه من ذلك . والمحاريب ، قال مجاهد : المشاهد ، سميت باسم بعضها تجوزاً . و

قال ابن عطية : القصور . وقال قتادة : كليهما . وقال ابن زيد : مساكن .

وقيل : ما يصعد اليه بالدرج ، كالغرف . والتماثيل : الصور ، وكانت لغير الحيوان . وقال الضحاك : كانت تماثيل حيوان ، وكان عملها جائزاً في

ذلك الشرع .

وقال الزمخشري : هي صور الملائكة والنبين والصالحين ، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ، ليراها الناس ، فيعبدوا نحو عبادتهم ، وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع ، لأنه ليس من مقبحات الفعل ، كالظلم والكذب . وعن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرماً ، أو صوراً محذوفة الرؤوس . انتهى ، وفيه بعض حذف .

وقيل : التماثيل طلسمات ، فيعمل تمثالاً للتمساح ، أو للذباب ، أو للبعوض ، ويأمر أن لا يتجاوز ذلك الممثل به ما دام ذلك التمثال والتصوير حراما في شريعتنا . وقد ورد تشديد الوعيد على المصورين ، ولبعض العلماء استثناء في شيء منها . وفي حديث سهل بن حنيف : لعن اللّه المصورين ، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام .

وحكى مكي في الهداية أن قوماً أجازوا التصوير ، وحكاه النحاس عن قوم واحتجوا بقوله : { وَتَمَاثِيلَ } ، قاله ابن عطية ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه . وقرىء :{ كَالْجَوَابِ } بلاياء ، وهو الأصل ، اجتزاء بالكسرة ، واجراء الألف واللام مجرى ما عاقبها ، وهو التنوين ، وكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه ، وهو أل . و { الراسيات } : الثابتات على الأثافي ، فلا تنقل ولا تحمل لعظمها . وقدمت المحاريب على التماثيل ، لأن النقوش تكون في الأبنية . وقدم الجفان على القدور ، لأن القدور آلة الطبخ ، والجفان آلة الأكل ، والطبخ قبل الأكل ، لما بين الأبنية الملكية . وأراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور ، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيها ، والقدور لا تكون فيها ولا تحضر هناك ، ولهذا قال :{ وَقُدُورٍ رسِيَاتٍ} ولما بين حال الجفان ، سرى الذهن إلى عظمة ما يطبخ فيه ، فذكر القدور للمناسبة ، وذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب لاحتياجه إلى قتال الأعداء ، وفي حق سليمان المحاريب والتماثيل ، لأنه كان ملكاً ابن ملك ، قد وطدله أبوه الملك ، فكانت حاله حالة سلم ، إذ لم يكن أحد يقدر على محاربته .

وقال عقب :{ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } ، و { اعْمَلُواْ صَالِحاً } ، وعقب ما يعلمه الجن :{ اعْلَمُواْ ءالَ دَاوُودُ شَاكِراً } ، إشارة إلى أن الإنسان لا يستغرق في الدنيا ولا يلتفت إلى زخارفها ، وأنه يجب أن يعمل صالحاً ، { اعْلَمُواْ ءالَ دَاوُودُ}

وقيل : مفعول اعلموا محذوف ، أي اعلموا الطاعات وواظبوا عليها شكراً لربكم على ما أنعم به عليكم ، فقيل : انتصب شكراً على الحال ،

وقيل : مفعول من أجله ،

وقيل : مفعول له باعملوا ، أي اعلموا اعملاً هو الشكر ، كالصلاة والصيام والعبادات كلها في أنفسها هي الشكر إذا سدت مسدة ،

وقيل : على المصدر لتضمينه اعلموا اشكروا بالعمل للّه شكراً . روي أن مصلى آل داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلاً ونهاراً ، وكانوا يتناوبونه . وكان سليمان ، عليه السلام ، يأكل الشعير ، ويطعم أهله الخشكار ، والمساكين الدرمك ، وما شبع قط ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخاف إن شبعت أن أنس الجياع . و { الشَّكُورُ } : صيغة مبالغة ، وأريد به الجنس . قال ابن عباس : الشكور : من يشكر على أحواله كلها . وقال السدي : من يشكر على الشكر .

وقيل : من يرى عجزه عن الشكر ، وهذه الجملة تحتمل أن تكون خطاباً لآل داود ، وهو الظاهر ، وأن تكون خطاباً للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وفيها تنبيه وتحريض على الشكر .

﴿ ١٣