١٧

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسَاكِنِهِمْ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ ... }

{ وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ } لما ذكر تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان ، بيّن حال الكافرين بأنعمه بقصة سبأ ، موعظة لقريش وتحذيراً وتنبيهاً على ما جرى لمن كفر أنعم اللّه ، وتقدم الكلام في سبأ في النمل . ولما ملكت بلقيس ، اقتتل قومها على ماء واديهم ، فتركت ملكها وسكنت قصرها ، وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا : لترجعنّ أو لنقتلنك ، فقالت لهم : لا عقول لكم ولا تطيعوني ، فقالوا : نطيعك ، فرجعت إلى واديهم ، وكانوا إذا مطروا ، أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام ، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمساءة بالصخر والقار ، وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة فيها اثنان عشر مخرجاً على عدد أنهارهم ، وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان ، عليه السلام ، ما سبق ذكره في سورة النمل .

وقيل : الذي بنى لهم السد هو حمير أبو القبائل اليمنية . وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم.قيل : وكان لهم رئيس يلقب بالحمار ، وكان في الفترة ، فمات ولده فرفع رأسه إلى السماء فبزق وكفر ، فلذا يقال في المثل : أكفر من حمار ،

ويقال : بركة جوف حمار ، أي كوادي حمار ، لما حال بهم السيل .

وقرأ الجمهور :{ فِى مَسَاكِنِهِمْ } ، جمعاً ؛ والنخعي ، وحمزة ، وحفص : مفرداً بفتح الكاف ؛ والكسائي : مفرداً بكسرها ، وهي قراءة الأعمش وعلقمة . وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشية ، وهي لغة الناس اليوم ؛ والفتح لغة الحجاز ، وهي اليوم قليلة . وقال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة ، فمن قرأ الجمع فظاهر ، لأن كل أحد له مسكن ، ومن أفرد ينبغي أن يحمل على المصدر ، أي في سكناهم ، حتى لا يكون مفرداً يراد به الجمع ، لأن سيبويه يرى ذلك ضرورة نحو : كلوا في بعض بطنكم تعفوا ، يريد بطونكم . وقوله :

قد عض أعناقهم جلد الجواميس

أي جلود .

آية : أي علامة دالة على اللّه وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره ، أو جعل قصتهم لأنفسهم آية ، إذ : أعرض أهلها عن شكر اللّه عليهم ، فخر بهم وأبدلهم عنها الخمط والإثل ثمرة لهم ؛ و { جَنَّتَانِ } : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي جنتان ، قاله الزجاج ، أو بدل ، قال معناه الفراء ، قال : رفع لأنه تفسير لآية . وقال مكي وغيره ، وضعفه ابن عطية ، ولم يذكر جهة تضعيفه . وقال :{ جَنَّتَانِ } ابتداء ، وخبره في قوله :{ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} انتهى . ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، إلا إن اعتقد إن ثمة صفة محذوفة ، أي جنتان لهم ، أو عظيمتان لهم { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } ، وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام مفلتاً مما قبله .

وقرأ ابن أبي عبلة : جنتين بالنصب ، على أن آية اسم كان ، وجنتين الخبر . قيل : ووجه كون الجنتين آية نبات الخمط والإثل والسدر مكان الأشجار المثمرة . قال قتادة : كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار تسر الناس بظلالها ، ولم يرد جنتين ثنتين ، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة . انتهى .

قال الزمخشري : وإنما أراد جماعة من البساتين عن يمين بلدتهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة ، كما يكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال :{ جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} انتهى . قال ابن زيد : لا يوجد فيها برغوث ، ولا بعوض ، ولا عقرب ، ولا تقمل ثيابهم ، ولا تعيا دوابهم ؛ وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار ، وعلى رأسها المكتل ، فيمتلىء ثماراً من غير أن تتناول بيدها شيئاً . وروي نحو هذا عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس .

{كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ } : قول اللّه لهم على ألسنة الأنبياء المبعوثين إليهم ، وروي ذلك مع الأيمان باللّه ، أو قول لسان الحال لهم ، كما رأوا نعماً كثيرة وأرزاقاً مبسوطة ، وفيه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم ، حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض .{ وَاشْكُرُواْ لَهُ } على ما أنعم به عليكم ، { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ } : أي كريمة التربة ، حسنة الهواء ، رغدة النعم ، سليمة من الهوامّ والمضار ، { وَرَبٌّ غَفُورٌ } ، لا عقاب على التمتع بنعمه في الدنيا ، ولا عذاب في الآخرة ، فهذه لذة كاملة خالية عن المفاسد العاجلة والمآلية .

وقرأ رويس : بنصب الأربعة . قال أحمد بن يحيى : اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا رباً غفوراً .

وقال الزمخشري : منصوب على المدح . ولما ذكر تعالى ما كان من جانبه من الإحسان إليهم ، ذكر ما كان من جانبهم في مقابلته فقال :{ فَأَعْرِضُواْ } : أي عما جاء به إليهم أنبياؤهم ، وكانوا ثلاثة عشر نبياً ، دعوهم إلى اللّه تعالى ، وذكر وهم نعمه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف للّه نعمة ، فبين كيفية الانتقام منهم . كما قال :{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايَاتِ رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا } ،{ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } ، فسلط اللّه عليهم الجرذ فأراً أعمى توالد فيه ، ويسمى الخلد ، وخرقه شيئاً بعد شيء ، وأرسل سيلاً في ذلك الوادي ، فحمل ذلك السد ، فروي أنه كان من العظم ، وكثر به الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار . وروي أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت بهذا الوجه . وقال المغيرة بن حكيم ، وأبو ميسرة : العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي : كل ما بني أو سنم ليمسك الماء . وقال ابن جبير : العرم : المسناة ، بلسان الحبشة . وقال الأخف ٥ : هو عربي ، ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز

المسناة ، كأنها الجسور والسداد ، ومن هذا المعنى قول الأعشى : وفي ذاك للمؤتسى أسوة

مآرب عفى عليها العرم

رجام بنته لهم حمير

إذا جاش دفاعه لم يرم

فأروى الزروع وأشجارها

على سعة ماؤه إذ قسم

فصاروا أيادي لا يقدرو

ن منه على شرب طفل فطم

وقال آخر :

ومن سبأ للحاضرين مآرب

إذا بنوا من دونه سيل العرم

وقال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك : العرام اسم ، وإن ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني به . انتهى . ويمكن أن يسمى الوادي بذلك البناء لمجاروته له ، فصار علماً عليه .

وقال ابن عباس أيضاً : العرم : الشديد ، فاحتمل أن يكون صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته ، والتقدير : السيل العرم ، أو صفة لموصوف محذوف ، أي سيل المطر الشديد الذي كان عنه السيل ، أو سيل الجرذ العرم ، فالعرم صفة للجرذ .

وقيل : العرم اسم للجرذ ، وأضيف السيل إليه لكونه كان السبب في خراب السد الذي حمله السيل ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة .

وقرأ عروة بن الورد فيما حكى ابن خالويه : العرم ، بإسكان الراء تخفيف العرم ، كقولهم : في الكبد الكبد .

ولما غرق من غرق ، ونجا من نجا ، تفرقوا وتحرفوا حتى ضربت العرب بهم المثل فقالوا : تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ ، قيل : الأوس والخزرج منهم .

وعن ابن عباس : كان سيل ذلك الوادي يصل إلى مكة وينتفع به ، وكان سيل العرم في ملك ذي الأذعار بن حسان ، في الفترة بين عيسى ونبينا صلى اللّه عليه وسلم. انتهى .

ودخلت الباء في { بجنيتهم } على الزائل ، وانتصب ما كان بدلاً ، وهو قوله :{ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ } على المعهود في لسان العرب ، وإن كان كثيراً لمن ينتمي للعلم يفهم العكس حتى قال بعضهم : ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح صلاته ، وهو خطأ في لسان العرب ، ولو أبدل ظاء بضاد ، وقد تكلمنا على ذلك في البقرة في قوله :{ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} وسمى هذا المعوض جنتين على سبيل المقابلة ، لأن ما كان فيه خمط وأثل وسدر لا يسمى جنة ، لأنها أشحار لا يكاد ينتفع بها . وجاءت تثنية ذات على الأصح في رد عينها في التثنية فقال :{ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ } ، كما جاء { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} ويجوز أن لا ترد فتقول : ذاتاً كذا على لفظ ذات ، وتقدم ذكر الخلاف في ضم كاف أُكُل وسكونها .

وقرأ الجمهور : أكل منوناً ، وأُلاكُل : الثمر المأكول ، فخرجه الزمخشري على أنه على حذف مضاف ، أي أُكُل خمط قال أو وصف أُلاكُل بالخمط كأنه قيل ذواتي أُكُل شبع . انتهى . والوصف بالأسماء لا يطرد ، وإن كان قد جاء منه شيء ، نحو قولهم : مررت بقاع عرفج كله . وقال أبو علي : البدل في هذا لا يحسن ، لأن الخمط ليس بالأكل نفسه . انتهى . وهو جائز على ما قاله الزمخشري ، لأن البدل حقيقة هو ذلك المحذوف ، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه . قال أبو علي : والصفة أيضاً كذلك ، يريد لا بجنتين ، لأن الخمط اسم لا صفة ، وأحسن ما فيه عطف البيان ، كأنه بين أن أُلاكُل هذه الشجرة ومنها . انتهى . وهذا لا يجوز على مذهب البصريين ، إذ شرط عطف البيان أن يكون معرفة ، وما قبله معرفة ، ولا يجيز ذلك في النكرة من النكرة إلا

الكوفيون ، فأبو علي أخذ بقولهم في هذه المسألة .

وقرأ أبو عمرو : أُكُل خمط بالإضافة : أي ثمر خمط . وقرىء : وأثلاً وشيئاً بالنصب ، حكاه الفضل بن إبراهيم ، عطفاً على جنتين . وقليل صفة لسدر ، وقللّه لأنه كان أحسن أشجاره وأكرم ، قاله الحسن ، وذلك إشارة إلى ما أجراه عليهم من تخريب بلادهم ، وإغراق أكثرهم ، وتمزيقهم في البلاد ، وإبدالهم بالأشجار الكثيرة الفواكه الطيبة المستلذة ، الخمط والأثل والسدر . ثم ذكر سبب ذلك ، وهو كفرهم باللّه وإنكار نعمه . { وَهَلْ } بذلك العقاب { نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ } : أي المبالغ في الكفر ، يجازي بمثل فعله قدراً بقدر ،

وأما المؤمن فجزاؤه بتفضيل وتضعيف .

وقرأ الجمهور : بضم الياء وفتح الزاي ، الكفور رفعاً ؛ وحمزة والكسائي : بالنون وكسر الزاي ، الكفور نصباً .

وقرأ مسلم بن جندب : يجزي مبنياً للمفعول ، الكفور رفعاً ، وأكثر ما يستعمل الجزاء في الخير ، والمجازاة في الشر ، لكن في تقييدهم قد يقع كل واحد منهما موقع الآخر .

﴿ ١٧