٤٤وقيل : { يا حسرة على العباد } من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لما وثب القوم لقتله . وقيل : هو من قول الرسل الثلاثة ، قالوا ذلك حين قتلوا ذلك الرجل ، وحل بهم العذاب ، قالوا يا حسرة على هؤلاء ، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا ' . انتهى . فالألف واللام للعهد إذا قلنا : إن العباد المراد بهم الرسل الثلاثة أو من أرسلوا إليه ، وهم الهالكون بسبب كفرهم وتكذيبهم إياهم . والظاهر أنها لتعريف جنس الكفار المكذبين . وتلخص : أن المتحسر الملائكة ، أو اللّه تعالى ، أو المؤمنون ، أو الرسل الثلاثة ، أو ذلك الرجل . أقوال { ما يأتيهم} إلى آخر الآية . تمثيل لقريش ، وهم الذين عاد عليهم الضمير في قوله { ألم يروا كم أهلكنا} ، قال ابن عطية : ' و { كم} هنا خبرية و { أنهم} بدل منها ، والرؤية رؤية البصر ' . انتهى . فهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب ب { أهلكنا} ولا يسوغ فيها ، إلا ذلك . وإذا كان كذلك امتنع لأن يكون { أنهم} بدل منها لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت { أهلكنا} على { أنهم} لم يصح . ألا ترى أنك لو قلت . أهلكنا انتفاء رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون . لم يكن كلاما ، لكن ابن عطية توهم أن { يروا} مفعوله { كم} فتوهم أن قولهم { أنهم لا يرجعون} بدل لأنه يسوغ أن يتسلط عليه ، فتقول : ألم يروا أنهم لا يرجعون . وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية . وقال الزجاج : ' هو بدل من الجملة . والمعنى : ألم يروا أن القرون التي أهلكناها إليهم لا يرجعون ، لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى النهي ' . وهذا الذي قاله الزجاج ليس بشيء ، لأنه ليس بدلا صناعيا . وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صنعة النحو . وقال أبو البقاء : ' أنهم إليهم انتهى . وليس بشيء ، لأن { كم} ليس بمعمول ل { يروا} ونقل عن الفراء أنه يعمل { يروا} في الجملتين من غير إبدال وقولهم في الجملتين تجوز لأن { أنهم} وما بعده ليس بجملة ولم يبين كيفية هذا العمل . وقال الزمخشري: { ألم يروا } ألم يعلموا وهو معلق عن العمل في { كم} لا يعمل فيها عامل قبلها ، كانت للاستفاهم أو للخبر ، لأن أصلها الاستفهام إلا أن معناها نافذ في الجملة . كما نفذ في قولك : الم يروا أن زيدا لمنطلق . وإن لم تعمل في لفظه و { أنهم إليهم لا يرجعون} بدل من { أهلكنا} على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ' . انتهى . فجعل { يروا} بمعنى يعلموا ، وعلقها على العمل في { كم} وقوله : ' لأن { كم} لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر ' . وهذا ليس على إطلاقه ، لأن العامل إذا كان حرف جر ، أو أسما مضافا ، جاز أن يعمل فيها نحوكم . على كم جذع بيتك ؟ وأين كم رئيس صحبت ؟ وعلى كم فقير تصدقت ؟ أرجو الثواب ؟ وأين كم شهيد في سبيل اللّه أحسنت إليه ؟ قوله : ' أو للخبر ' الخبرية فيها لغتان الفصيحة كما ذكر ، لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار . واللغة الأخرى حكاها الأخفش يقولون فيها : ملكت كم غلام . أي : ملكت كثيرا من الغلمان . فكما يجوز أن يتقدم العامل على كثير كذلك يجوز أن يتقدم على كم ، لأنها بمعناها . وقوله : ' لأن أصلها الاستفهام ' ليس أصلها الاستفهام ، بل كل واحدة أصل في بابها لكنها لفظ مشترك بين الاستفهام والخبر . وقوله : ' إلا أن معناها نافذ في الجملة ' . يعني : معنى { يروا} نافذ في الجملة ، لأن جعلها معلقة وشرح ب { يعلموا} . وقوله كما تقدم في قولك - ألم يروا ان زيدا لمنطلق . فإن زيدا لمنطلق معمول من حيث المعنى ل { يروا} ولو كان عاملا من حيث اللفظ لم تدخل اللام وكانت أن مفتوحة كإن وفي خبرها اللام من الأدوات التي تعلق أفعال القلوب . وقوله : ' وأنهم لا يرجعون ' إلى آخر كلامه . لا يصح أن يكون بدلا لا على اللفظ ولا على المعنى . أما على اللفظ ، فإنه زعم أن { يروا} معلقة فيكون { كم} استفهاما وهو معمول ل { أهلكنا} و { أهلكنا} لا يتسلط على { أنهم إليهم لا يرجعون} وتقدم لنا ذلك . وأما على المعنى فلا يصح أيضا ، لأنه قال تقديره : أي على المعنى ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ، فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك فلا يكون بدل كل من كل ، ولا بعضا من الإهلاك ، ولا يكون بدل بعض من كل ، ولا يكون بدل اشتمال ، لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف إلى ما أبدل منه . وكذلك بدل بعض من كل وهذا لا يصح هنا ، لا تقول : ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم وفي بدل الاشتمال نحو . أعجبني الجارية ملاحتها . وسرق زيد ثوبه يصح : أعجبني ملاحة الجارية . وسرق ثوب زيد . وتقدم لنا الكلام على إعراب مثل هذه الجملة في قوله : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } [ الأنعام : ٦ ] في سورة الأنعام والذي تقتضيه صناعة العربية أن { أنهم} معمول المحذوف ودل عليه المعنى . وتقديره : قضينا أو حكمنا أنهم إليهم لا ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب لتتفق القراءتان ولا تختلفا . والضمير في { أنهم} عائد على معنى { كم} وهم القرون . و { إليهم} عائد على من أسند إليه { يرو} وهم قريش . فالمعنى : أنهم لا يرجعون إلى من في الدنيا وقيل : الضمير في { انهم} عائد على من أسند إليه { يروا} وفي { إليهم} عائد على المهلكين . والمعنى : أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة . أي : أهلكناهم ، وقطعنا نسلهم . والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم . وقرأ عبد اللّه { ألم يروا من أهلكنا أنهم} هلى هذا بدل اشتمال . وفي قولهم { أنهم لا يرجعون} رد على القائلين بالرجعة . وقيل لابن عباس : إن قوما يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة فقال : ليس القوم نحن إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه ' . وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر بتثقيل { لما} وباقي السبعة بتخفيفا . فمن ثقلها كانت عنده بمعنى إلا و { إن} نافية . أي : ما كل . أي : كلهم إلا { جميع لدينا محضرون} .أي : محشرون . قاله قتادة . وقال ابن سلام : ' معذبون ' ، وقيل : التقدير لمن ما وليس بشيء ومن خفف { لما} جعل { إن} المخففة من الثقيلة و { ما} زائدة . أي : إن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين . وأما الكوفيون ف { إن} عندهم نافية واللام بمعنى إلا و { ما} زائدة . و { لما} المشددة بمعنى غلآ ثابت في لسان العرب بنقل الثقات ، فلا يلتفت إلى زعم الكسائي لأنه لا يعرف ذلك . وقال أبو عبد اللّه الرازي : ' في كون لما بمعنى إلا معنى مناسب ، وهو أن لما كأنها حرفا نفي جميعا وهما لم وما فتأكد النفي وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخرة ' انتهى . . وهذا أخذه من قول الفراء في ألا في الاستثناء أنها مركبة من إن ولا إلا أن الفراء جعل أن المخففة من الثقيلة وما الزائدة . أي : عن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين . وأما الكوفيون و { إن} عندهم مافية والللام بمعنى إلا و { ما} زائدة . ولما المشددة بمعنى إلا ثابت حرف مفي ، وهو قول مردود عند النحاة ركيك وما تركب منه وزاد تحريفا أرك منه . و { كل} بمعنى الإحاطة . و { جميع} فعيل بمعنى مفعول ويدل على الاجتماع . و { جميع محضرون} هنا على المعنى كما أفرد منتصر على اللفظ ، وكلاهما بعد جميع يراعى فيه الفواصل . وجاءت هذه الجملة بعد ذكر للإهلاك تبيينا أنه تعالى ليس من أهله يترك بل بعد إهلاكهم جمع ، وحساب ، وثواب ، وعقاب ، ولذلك أعقب هذا بما يدل على الحشر من قوله { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها} وما بعده من الآيات . وبدأ بالأرض ، لأنه مستقرهم ، حركة وسكونا ، حياة وموتا . وموت الأرض : جدبها ، وإحياؤها بالغيث . والضمير في { لهم} عائد على كفار قريش ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر ، و { أحييناهم} استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية ، وكذلك نسلخ . وقيل : { أحييناها } في موضع الحال ، والعامل فيها { آية} بما فيها من معنى الإعلام ويكون { آية} خبرا مقدما و { الأرض الميتة} مبتدأ ، فالنية بآية التأخير . والتقدير : والأرض الميتة آية لهم محياة ، كقولك : قائم زيد مسرعا . أي : زيد قائم مسرعا . و { لهم} متعلق بآية لا صفة ، وقال الزمخشري : ' ويجوز أن يوصف الأرض والليل بالفعل ، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض وليل بإحيائهما فعوملا معاملة النكرات في وصفها بالأفعال ' . ونحوه : ولقد أمر على اللئيم يسبني انتهى . وهذا هدم لما استقر عند أئمة النحو من أن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة . ولا دليل لمن ذهب إلى ذلك وأما يسبنى فحال . أي : سابا لي . وقد تبع الزمخشري ابن مالك على ذلك في التسهيل من تأليف . وفي هذه الجمل تعدد نعم إحياؤها بحيث تصير مخضرة ، تبهج النفس والعين ، وإخراج الحب منها ، حيث صار ما يعيشون به في المكان الذي هم فيه مستقرون لا في السماء ولا في الهواء ، وجعل الحبات لأنهم أكلوا من الحب وربما تاقت النفس غلى النقلة فالأرض يوجد منها الحب ، والشجر يوجد منه الثمر ، وتفجير العيون يحصل به الاعتماد على تحصيل الزرع والثمر ، ولو كان من السماء لم يدر أين يغرس ولا يقع المطر . وقرأ جناح بن حبيش { وفجرنا} بالتخفيف . والجمهور بالتشديد . ومن ثمره { بفتحتين . وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي بضمتين . والأعمش بضم الثاء وسكون الميم . والضمير في { ثمره} عائد على الماء ، قيل : لدلالة العيون عليه ، ولكونه على حذف مضاف . أي : من ماء العيون . وقيل على النخيل واكتفى به للعلم في اشتراك الأعيان فيما علق به النخيل من أكل ثكره أو يراد من ثمر المذكور وهو الجنات كما قال الشاعر : فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق فقيل له : كيف قلت بعيون كأنه والذي تقدم خطوط ؟ فقال : أرت كان ذاك . وقيل : عائد إلى التفجير الدال عليه { وفجرنا} الآية أقرب مذكور . وعنى ب { ثمره} فوائده كما تقول ثمرة التجارة الربح . وقال الزمخشري : ' وأصله : من ثمرنا . كما قال { وجعلنا وفجرنا} فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات . والمعنى : ليأكلوا مما خلقه اللّه من الثمر ، ومما عملته أيديهم من الغرس ، والسقي ، والآبار ، وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه . وبأن أكله يعني أن الثمر في نفسه فعل اللّه وخلقه . وفيه آثار من كد بني آدم . ويجوز أن تكون { ما} نافية على أن الثمر خلق اللّه ولم تعمله أيدي الناس ، ولا يقدرون على خلقه . وقرأ الجمهور { وما علمته} بالضمير فإن كانت { ما} موصولة فالضمير عائد عليها وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر . وقرأ طلحة وعيسى وحمزة والكسائي وأبو بكر بغير ضمير . مفعول { علمت} على التقديرين محذوفة . وجوز في هذه القراءة أن تكون { ما} مصدرية . أي : وعمل أيديهم . وهو مصدر أريد به المعمول فيعود إلى معنى الموصول . ولما عدد تعالى هذه النعم حض على الشكر فقال { أفلا تشكرون} ثم نزه تعالى نفسه عن كل ما يلحد به ملحد ، أو يشرك به مشرك ، فذكر إنشاء الزواج وهي الأنواع من جميع الأشياء مما تنبت الأرض من النخل والشجر والزرع والثمر وغير ذلك . وكل صنف زوج ، مختلف لونا وطعما وشكلا وصغرا وكبرا { ومن أنفسهم} ذكورا وإناثا { مما يعلمون} أي : أنواعا مما لا يعلمون أعلموا بوجوده ولم يعلموا ما هو ، إذ لا يتعلق علمهم بما هيته أمر محتاج إليه في دين ولا دنيا . وفي إعلامه بكثرة مخلوقاته دليل على اتساع ملكه ، وعظم قدرته . ولما ذكر تعالى الاستدلال بأحوال الأرض وهي المكان الكلي ذكر الاستدلال بالليل والنهار وهو الزمان الكلي وبينهما مناسبة ، لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر ، والزمان لا تستغني عنه الأعراض ، لأن كل عرض فهو في زمان ومثله مذكور في قوله : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر } [ فصلت : ٣٧ ] ثم قال بعده { ومن آياته أنك ترى الأرض هامدة } [ فصلت : ٣٩ ] الآية وبدأ هناك بالزمان ، لأن المقصود إثبات الوحدانية بدليل قوله { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} الآية . ثم الحشر بقوله { إن الذي أحياها لمحيي الموتى} وهذا المقصود الحشر أولا ، لأن ذكره فيها أكثر ، وذكر التوحيد في فصلت أكثر بدليل قوله { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض} انتهى . وهو من كلام أبي عبد اللّه الرازي وفيه تلخيص . و { نسلخ} معناه : نكشط ونقشر ، وهو استعارة لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل . و { مظلمون} داخلون في الظلام كما ثقول أعتمنا وأسحرنا ، دخلنا في العتمة وفي السحر . واستدل قوم بهذا على أن الليل اصل والنهار فرع طارىء عليه ، ومستقر الشمس بين يدي العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها كما جاء في حديث أبي ذر } ويقال لها اطلعي من حيث طلعت فإذا كان طلوعها من مغربها يقال لها اطلعي من حيث غربت فذلك حين { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } [ الأنعام : ١٥٨ ] ، وقال ابن عباس : ' إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه استوت تحت العرش إلى ان تطلع ' . وقال الحسن : ' للشمس في السنة ثلاثمائة وستون مطلعا ، تنزل كل يوم مطلعا ، ثم لا تنزل إلى الحول وهي تجري في فلك المنازل ، أو يوم القيامة ، أو غيبوبتها ، لأنها تجري كل وقت إلى حد محدد تغرب فيه ، أو أحد مطالعها في المنقلبين ، لأنهما نهايتها مطالعها فإذا استقر وصولها كرت راجعة وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين ' . ونحا إلى هذا ابن قتيبة أو وقوفها عند الزوال كل يوم ، ودليل استقرارها وقوف ذلك الظلام حينئذ . وقال الزمخشري : ' بمستقر لها لحد لها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في ى خر السنة . شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره أو كمنتهى لها من المشاق والمغارب لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا ، ومغربا مغربا ، حتى تبلغ أقصاها ، ثم ترجع فلذلك حدها ومستقرها لأنها تعدوه أو لا يعدلها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب . وقيل : مستقرها : محلها الذي أقر اللّه عليه أمرها في جريها فاستقرت عليه ، وهو آخر السنة . وقيل : الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها ، وهو يوم القيامة ، وقال أبو عبد اللّه الرازي : ما ملخصه : ' في المستقر وجوه في الزمان وفي المكان ، ففي الزمان الليل ، أو السنة ، أو يوم القيامة . وفي المكان : غاية ارتفاعها في الصيف ، وانخفاضها في الشتاء ، ويجري إلى ذلك الموضع فترجع ، أو غاية مشارقها ، فلها في كل يوم مشرق إلى سنة أشهر ، ثم تعود على تلك المقنطرات ، وهذا هو ما تقدم في الارتفاع ، فإن اختلاف المشارق ، سبب اختلاف الارتفاع ، أو وصولها إلى بيتها في الأسد أو الدائرة التي عليها حركتها حيث لا تميل عن منطقة البروج على مرور الشمس . ويحتمل أن يقال : تجري مجرى مستقرها فإن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس في فلك والفلك يدور فيدير الشمس ، فالشمس تجري مجرى مستقرها ' . انتهى . وقرىء { إلى مستقرها} ، وقرأ عبد اللّه وابن عباس وعكرمة وعطاء بن رباح وزين العابدين والباقر وابنه الصادق وابن أبي عبدة { لا مستقر لها} نفيا . مبنيا على الفتح . فيقتضي انتفاء كل مستقر وذلك في الدنيا ، أي : هي تجري دائما فيها لا تستقر إلا ابن أبي عبلة فإنه قرأ برفع { مستقر} وتنويه على إعمالها إعمال ليس . نحو قول الشاعر : تعز فلا شيء على الأرض باقيا ولا وزر مما قضى اللّه واقيا الإشارة بذلك غلى جري الشمس . أي : ذلك الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق ، تقدير { العزيز} الغالب بقدرته على كل مقدور ، المحيط علما بكل معلوم . وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر وابن محيصن والحسن بخلاف عنه { والقمر} بالرفع على الابتداء . وباقي السبعة بالنصب على الاشتغال . . و { قدرناه} على حذف مضاف . أي : قدرنا سيره . و { منازل} طرف أي منازلة . وقيل : قدرنا نوره فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية ، وينقص في المنازل الاستقبالية ، وقيل { قدرناه} جعلنا أنه أجرى عكس منازل أنوار الشمس ، ولا يحتاج إلى حذف حرف الصفة فإن جرم القمر المظلم ينزل فيه النور لقبول عكس ضياء الشمس مثل المرآة المجلوة إذا قوبل بها الشعاع ، وهذه المنازل معروفة عند العرب ، وهي ثمانية وعشرون منزلة القمر كل ليلة في واحدة منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو لا بتفاوت يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ، ثم يسير ليلتين إذا نقص الشهر ، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة وهي : الشرطين ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، ، الدبرة ، الصرفة ، العواء ، السماك ، العفر ، الزباني ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرع الدلو المقدم ، فرع الدلو المؤخر ، بطن الحوت ، ويقال له : الرشاء ، فإذا كان في ى خر منازله دق واستقوس واصفر فشبه بالعرجون القديم من ثلاثة الأوجه ، وقرأ سليمان التيمي { كالعرجون} بكسر العين وفتح الجيم . والجمهور بضمهما . وهما لغتان كالبريون . و { القديم} ما مر عليه زمان طويل . وقيل : أقل عدة الموصوف بالقدم حول ، فلو قال رجل : كل مملوك لي قديم فهو حر ، أو كتب ذلك في وصية ، عتق منهم من مضى له حول وأكثر ' . انتهى . والقدم : أمر نسبي وقد يطلق على ما ليس له سنة ، ولا سنتان ، فلا يقال : العالم قديم وإنما تعتبر العادة في ذلك . { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ينبغي لها} مستعملة فيما لا يمكن خلافه . أي : لم يجعل لها قدرة على ذلك ، وهذا الإدراك المنبغي هو : قال الزمخشري : ' إن اللّه تعالى جعل لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسما من الزمان ، وضرب له حدا معلوما ، ودبر أمرهما على التعاقب ، فلا ينبغي للشمس أن يستهل لها ، ولا يصح ولا يستقيم لوقوع التدبير على العاقبة . وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان على حياله أن يدرك القمر ، فتجتمع معه في وقت واحد ، وتدخله في سلطانه ، فتطمس نوره ، ولا يسبق الليل النهار : يعني : آية الليل آية النهار ، وهما النيران ، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل اللّه ما دبر من ذلك ، وينقص ما ألف فيجمع بين الشمس والقمر ، فتطلع الشمس من مغربها ' . انتهى . وقال ابن عباس والضحاك : ' إذا طلعت لم يكن للقمر ضوء وإذا طلع لم يكن للشمس ضوء ' . وقال مجاهد : ' لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر ' . وقال قتادة : ' لكل أحد حد لا يعدوه ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا ' . وقال ابن عباس ايضا : ' إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها ' ، وقال الحسن : ' لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة . أي : لا تبقي الشمس حتى يطلع الفجر ولكن إذا غربت طلع ' . وقال يحيى بن سلام : ' لا تدركه ليلة البدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها ' . وقيل : ' لا يمكنها أن تدركه في سرعته ، لأن دائرة فلك القمر داخله في فلك عطارد داخل في فلك الزهرة ، وفلك الزهرة داخل في فلك الشمس ، فإذا كان طريق الشمس أبعععد قطع القمر جميع أجزاء فلكه ، أي : من البروج الاثني عشر في زمان تقطع الشمس فيه برجا واحدا من فلكه . وقال النحاس : ' ما قيل فيه وأبينه أن مسير القمر مسير سريع والشمس لا تدركه في السير ' . انتهى . وهو ملخص القول الذي قبله { ولا الليل سابق النهار} لا يعارض قوله { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا } [ الأعراف ٥٤ ] لأن ظاهر قوله { يطلبه حثيثا} ن النهار سابق أيضا ، فيوافق الظاهر . وفهم أبو عبد اللّه الرازي من قوله { يطلبه حثيثا} أن النهار يطلب الليل ، والليل سابقة . وفهم من قوله { ولا الليل سايق النهار} أن الليل مسبوق لا سابق فأورده سؤالا . وقال : كيف يكون الليل سابقا مسبوقا ؟ وأجاب أن المراد من الليل هنا سلطان الليل ، وهو القمر ، وهو لا يسبق الشمس . بالحركة اليومية السريعة والمراد من الليل هناك : نفس الليل ، وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه ' . انتهى . وعرض له هذا السؤال لكونه جعل الضمير الفاعل في { يطلبه} عائدا على النهار ، وضمير المفعول عائدا على { الليل} والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل ، لأنه كان قبل دخول همزة النقل { يغشى الليل النهار} وضمير المفعول عائد على النهار ، لأنه المفعول قبل النقل وبعده ، وقرأ عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الخطفي { سابق} بغير تنوين { النهار} بالنصب ، قال المبرد : ' سمعته يقرأ ما هذا ؟ قال : أردت سابق النهار فحذفت ، لأنه أخف ' . انتهى . وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين وتقدم شرح { وكل في فلك يسبحون } [ الأنبياء : ٣٣ ] في سورة الأنبياء والظاهر من الذرية أنه يراد به الأبناء ومن نشأ منهم . وقيل : ينطلق على الآباء وعلى الأبناء . قاله أبو عثمان ، و قال ابن عطية : ' هذا تخلط ولا يعرف هذا في اللغة ' انتهى . وتقدم الكلام في الذرية في آل عمران . والظاهر : أن الضمير في { لهم} وفي { ذرياتهم} عائد على شيء واحد ، فالمعنى : أنه تعالى حمل ذريات هؤلاء وهم آباؤهم الأقدمون في سفينة نوح - عليه السلام - قاله ابن عباس ، وجماعة . ومن مثله للسفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة ، أو أريد بقوله { ذرياتهم} حذف مضاف . أي : ذريات جنسهم ، وأريد بالذرية : من لا يطيق المشي والركوب من الذرية والضعفاء و { الفلك} ، اسم جنس من عليهم بذلك . وكون الفلك مرادا به الجنس . قاله ابن عباس أيضا ، ومجاهد والسدي ومن مثله الإبل وسائر ما يركب . وقيل : الضميران مختلفان . أي : ذرية القرون الماضية قاله علي بن سليمان . وكان آية لهؤلاء ، إذ هم نسل تلك الذرية ، وقيل : الذرية : النطف و { الفلك المشحون} بطون النساء . ذكره الماوردي ، ونسب إلى علي بن أبي طالب . وهذا لا يصح ، لأنه من نوع تفسير الباطنية ، وغلاة المتصوفة الذين يفسرون كتاب اللّه على شيء لا يدل عليه اللفظ بجهة من جهات الدلالة ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويدل على أنه أريد ظاهر الفلك قوله { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} يعني : الإبل والخيل والبغال والحمير . والمماثلة في أنه مركوب مبلغ للأوطان فقط . هذا إذا كان الفلك جنسا ، ولأما إن أريد به سفينة نوح فالمماثلة تكون في كونها سفنا مثلها ، وهي الموجودة في بني آدم ويبعد قول من قال ' الذرية في الفلك : قوم نوح في سفينته والمثل : الأجل وما يركب ' . لأنه يدفعه قوله { وإن نشأ نغرقهم} ، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش وزيد بن علي وأبان بن عثمان { ذرياتهم} بالجمع وكسر زيد وأبان الذال وباقي السبعة وطلحة وعيسى بالإفراد ، وقال الزمخشري } ذريتهم أولادهم ومن يهمهم حمله ' . وقيل : اسم الذرية يقع على النساء لأنهن مزارعها ، وفي الحديث : ' أنه نهى عن قتل الذراري يعني النساء ' . { من مثله} من مثل الفلك { ما يركبون} من الإبل وهي سفائن البر . وقيل { الفلك المشحون} سفينة نوح ، ومعنى حمل اللّه ذرياتهم فيها ، أنه حمل فيها آباؤهم الأقدمون ، وفي أصلابهم هم وذرياتهم ، وإنما ذكر ذلارياتهم دونهم ، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح ، و { من مثله} من مثل ذلك الفلك { ما يركبون} من السفن ' . انتهى . وقال أبو عبد اللّه الرازي : ' إنما خص الذريات بالذكر ، لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم . أي : لم يكن الحمل حملا لهم وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين ' . وقال أيضا : ' الضمير في ' وآية لهم ' عائد على العباد في قوله { يا حسرة على العباد} ثم قال بعععد { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وآية لهم الليل وآية لهم أنا حملنا ذريتهم} ذريات العباد ، ولا يلزم أن يكون الضمير في الموضعين المعنيين فهو كقوله : { لا تقتلوا أنفسكم } [ النساء ] إنما يريد . لا يقتل بعضكم بعضا ، فكذلك هذا { وآية لهم} أي : آية كل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم ، أو ذرية بعض منهم ' . انتهى . والظاهر في قوله {وخلقنا} أنه أريد الإنشاء والاختراع ، فالمراد الإبل وما يركب ، وتكون { من} للبيان ، وإن كان ما يصنعه الإنسان قد ينسب إلى اللّه خلقا ، لكن الأكثر ما ذكرنا ، وإذا أريد به السفن تكون { من} للتبعيض ، و { لهم} الظاهر عوده على ما عاد عليه { وآية لهم} لأنه المحدث عنهم . وجوز أن يعود على الذرية والظاهر : أن الضمير في { مثله} عائد على { الفلك} ، وقيل : يعود على معلوم غير مذكور . وتقديره : من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض} كما قالوا في قوله { من ثمره} أي : من ثمر ما ذكرنا . وقرأ الحسن { نغرقهم} مشددا . والجمهور مخففا . والصريخ : فعيل بمعنى صاروخ . أي : مستغيث . بمعنى مصرخ أي مغيث لهم ولا معين ، وقال الزمخشري : ' { فلا صريخ لهم} أي : فلا إغاثة لهم ' . انتهى . كأنه جعله مصدرا من أفعل ويحتاج إلى نقل أن صريخا يكون مصدرا بمعنى صراخ والظاهر : أن قوله { فلا صريخ لهم} أي : لا مغيث لهؤلاء الذين شاء اللّه إغراقهم { ولا هم منقذون} أي : ينجون من الموت بالغرق نفي أولا الصريخ وهو خاص ، ثم نفى ثانيا إنقاذهم انتهى . وليس بحسن ولا أحسن . والفاء في { فلا صريخ لهم} تعلق الجملة بما قبلها تعليقا واضحا ، وترتبط به ربطا لائحا ، والخلاص من العذاب بما يدفعه من أصله ، فنفي بقوله { فلا صريخ لهم} وما يرفعه بعععد وقوعه فنفي بقوله { ولا هم ينقذون} وانتصب { رحمة} على الاستثناء المفرغ للمفعول من أجله . أي : لرحمة منا . وقال الكسائي والزجاج : ' إلى حين ' . أي : إلى حين الموت . قاله قتادة . وقال الزمخشري : ' إما الرحمة منا ، وليتمتع بالحياة إلى حين . أي : إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق ' . انتهى . وإنما قال : ' لا بد لهم من موت الغرق ' ، لأنه تعالى قال { وإن نشأ} أي : إغراقهم { نغرقهم} فمن شاء أغراقه لا بد أن يموت بالغرق . والظاهر : أن { رحمة ومتاعا إلى حين} يكون للذين ينقذون ، فلا يفيد الدوام بل ينقذه اللّه رحمة له ، ويمتعه إلى حين ثم يمينه . وقيل : فيه تقسيم إلا رحمة لمن علم أنه يؤمن فينقذه اللّه رحمة ، ومن علم أنه لا يؤمن بمنعه زمانا ويزداد إثما . |
﴿ ٤٤ ﴾