١٩الأمر بقوله :{ فَادْعُواْ اللّه } للمنيبين المؤمنين أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :أي اعبدوه ، { مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ } من الشرك على كل حال ، حتى في حال غيظ أعدائكم المتمالئين عليكم وعلى استئصالكم . ورفيع : خبر مبتدأ محذوف . وقال الزمخشري : ثلاثة أخبار مترتبة على قوله :{ الَّذِى يُرِيكُمُ } ،أو أخبار مبتدأ محذوف ، وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً . انتهى . أما ترتبها على قوله :{ هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ } ، فبعيد كطول الفصل ، وأما كونها أخباراً مبتدأ محذوف ، فمبني على جواز تعدد الأخبار ، إذا لم تكن في معنى خبر واحد ، والمنع اختيار أصحابنا . وقرىء : رفيع بالنصب على المدح ، واحتمل أن يكون رفيع للمبالغة على فعيل من رافع ، فيكون الدرجات مفعول ، أي رافع درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة . وبه فسرا بن سلام ، أو عبر بالدرجات عن السموات ، أرفعها سماء ، والعرش فوقهنّ . وبه فسر ابن جبير ، واحتمل أن يكون رفيع فعيلاً من رفع الشيء علا فهو رفيع ، فيكون من باب الصفة المشبهة ، والدرجات : المصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش ، أضيفت إليه دلالة على عزه وسلطانه ، أي درجات ملائكته ، كما وصفه بقوله :{ ذِي الْمَعَارِجِ } ،أو يكون ذلك عبارة عن رفعه شأنه وعلو سلطانه . كما أن قوله :{ ذُو الْعَرْشِ } عبارة عن ملكه ، وبنحوه فسر ابن زيد قال : عظيم الصفات . و { الرُّوحُ } : النبوة ، قاله قتادة والسدي ، كما قال :{ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } ؛ وعن قتادة أيضاً : الوحي . وقال ابن عباس : القرآن ، وقال الضحاك : جبريل يرسله لمن يشاء . وقيل : الرحمة ، وقيل : أرواح العباد ، وهذان القولان ضعيفان ، والأولى الوحي ، استعير له الروح لحياة الأديان المرضية به ، كما قال : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} و قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون القاء الروح عامل لكل ما ينعم اللّه به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة . انتهى . وقال الزجاج : الروح : كل ما به حياة الناس ، وكل مهتد حي ، وكل ضال ميت . انتهى . وقال ابن عباس :{ مِنْ أَمْرِهِ } : من قضائه . وقال مقاتل : بأمره ، وحكى الشعبي من قوله ، ويظهر أن من لابتداء الغاية . وقرأ الجمهور :{ لّيُنذِرَ } مبنياً للفاعل ، { يَوْمٍ } بالنصب ، والظاهر أن الفاعل يعود على اللّه ، لأنه هو المحدث عنه . واحتمل يوم أن يكون مفعولاً على السعة ، وأن يكون ظرفاً ، والمنذر به محذوف . وقرأ أبي وجماعة : كذلك إلا أنهم رفعوا يوم على الفاعلية مجازاً . وقيل : الفاعل في القراءة الأولى ضمير الروح . وقيل : ضمير من . وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح : لينذر مبنياً للمفعول ، يوم التلاق ، برفع الميم . وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه : لتنذر بالتاء ، فقالوا : الفاعل ضمير الروح ، لأنها تؤنث ، أو فيه ضمير الخطاب الموصول . وقرىء : التلاق والتناد ، بياء وبغير ياء ، وسمي يوم التلاق لالتقاء الخلائق فيه ، قاله ابن عباس . وقال قتادة ومقاتل : يلتقي فيه الخالق والمخلوق . وقال ميمون بن مهران : يلتقي فيه الظالم والمظلوم . وحى الثعلبي : يلتقي المرء بعلمه . وقال السدّي : يلاقي أهل السماء أهل الأرض . وقيل : يلتقى العابدون ومعبودهم .{ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } : أي ظاهرون من قبورهم ، لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ، لأن الأرض إذ ذاك قاع صفصف ، ولا من ثياب ، لأنهم يحشرون حفاة عراة . ويوماً بدل من يوم التلاق ، وكلاهما ظرف مستقبل . والظرف المستقبل عند سيبويه لا يجوز إضافته إلى الجملة الإسمية ، لا يجوز : أجيئك يوم زيد ذاهب ، أجراء له مجرى إذا ، فكما لا يجوز أن تقول : أجيئك إذا زيد ذاهب ، فكذلك لا يجوز هذا . وذهب أبو الحسن إلى جواز ذلك ، فيتخرج قوله :{ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } على هذا المذهب . وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا على قلة ، والدلائل مذكورة في علم النحو . و قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون انتصابه على الظرف ، والعامل فيه قوله :{ لاَ يَخْفَى } ، وهي حركة إعراب لا حركة بناء ، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن ، كيومئذ . وقال الشاعر : على حين عاتبت المشيب على الصبا وكقوله تعالى :{ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ} وأما في هذه الآية فالجملة اسم متمكن ، كما تقول : جئت يوم زيد أمير ، فلا يجوز البناء . انتهى . يعني أن ينتصب على الظرف قوله :{ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} وأما قوله لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن ، فالبناء ليس متحتماً ، بل يجوز فيه البناء والإعراب . وأما تمثيله بيوم ينفع ، فمذهب البصريين أنه لا يجوز فيه إلا الإعراب ، ومذهب الكوفيين جواز النباء والإعراب فيه . وأما إذا أضيف إلى جملة سمية ، كما مثل من قوله : جئت يوم زيد أمير ، فالنقل عن البصريين تحتم الإعراب ، كما ذكر ، والنقل عن الكوفيين جواز الإعراب والبناء . وذهب إليه بعض أصحابنا ، وهو الصحيح لكثرة شواهد البناء على ذلك . ووقع في بعض تصانيف أصحابنا أنه يتحتم فيه البناء ، وهذا قول لم يذهب إليه أحد ، فهو وهم .{ لاَ يَخْفَى عَلَى اللّه مِنْهُمْ شَىْء } : أي من سرائرهم وبواطنهم . قال ابن عباس : إذا هلك من في السموات ومن في الأرض ، فلم يبق إلا اللّه قال :{ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ، فلا يجيبه أحد ، فيرد على نفسه :{للّه الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وقال ابن مسعود : يجمع اللّه الخلائق يوم القيامة في صعيد بأرض بيضاء ، كأنها سبيكة فضة لم يعص اللّه فيها قط ، فأول ما يتكلم به أن ينادي مناد : { لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ؟ فيجيبوا كلهم :{للّه الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} روي أنه تعالى يقرر هذا التقرير ويسكت العالم هيبة وجزعاً ، فيجيب نفسه بقوله :{للّه الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } ، فيجيب الناس ، وإنما خص التقرير باليوم ، وإن كان الملك له تعالى في ذلك اليوم وفي غيره ، لظهور ذلك للكفرة والجهلة ووضوحه يوم القيامة . وإذا تأمّل من له مسكة عقل تسخير أهل السموات الأرض ، ونفوذ القضاء فيهم ، وتيقن أن لا ملك إلا للّه ، ومن نتائج ملكه في ذلك اليوم جزاء كل نفس بما كسبت ، وانتفاء الظلم ، وسرعة الحساب ، إن حسابهم في وقت واحد لا يشغله حساب عن حساب . قال ابن عطية : وهذه الآية نص في أن الثواب والعقاب معلق باكتساب العبد . انتهى ، وهو على طريقة الأشعرية . وروى أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار . و { يَوْمَ الاْزِفَةِ } : هو يوم القيامة ، يأمر تعالى نبيه أن ينذر العالم ويحذرهم منه ومن أهواله ، قاله مجاهد وابن زيد . والآزفة صفة لمحذوف تقديره يوم الساعة الآزفة ، أو الطامة الآزفة ونحو هذا . ولما اعتقب كل إنذار نوعاً من الشدة والخوف وغيرهما ، حسن التكرار في الآزفة القريبة ، كما تقدم ، وهي مشارفتهم دخول النار ، فإنه إذ ذاك تزيغ القلوب عن مقارها من شدة الخوف . وقال أبو مسلم : يوم الآزفة : يوم المنية وحضور الأجل ، يدل عليه أنه يعدل وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق ، ويوم بروزهم ، فوجب أن يكون هذا اليوم غيره ، وهذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات ، يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب ، وأيضاً فالصفات المذكورة بعد قوله :{ يَوْمَ الاْزِفَةِ } ، لائقة بيوم حضور المنية ، لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب لعظم خوفه ، يكاد قلبه يبلغ حنجرته من شدّة الخوف ، ولا يكون له حميم ولا شفيع يرفع عنه ما به من أنواع الخوف . {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ } ،قيل : يجوز أن يكون ذلك يوم القيامة حقيقة ، ويبقون أحياء مع ذلك بخلاف حالة الدنيا ، فإن من انتقل قلبه إلى حنجرته مات ، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن ما يبلغون إليه من شدة الجزع ، كما تقول : كادت نفسي أن تخرج ، وانتصب كاظمين على الحال . قال الزمخشري : هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى ، إذا المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها ، ويجوز أن تكون حالاً عن القلوب ، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها ، مع بلوغها الحناجر . وإنما جمع الكاظم جمع السلامة ، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ، كما قال :{ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} وقال : فظلت أعناقهم لها خاضعين ، ويعضده قراءة من قرأ : كاظمون ، ويجوز أن يكون حالاً عن قوله : أي وانذرهم مقدرين . و قال ابن عطية : كاظمين حال ، مما أبدل منه قوله تعالى :{ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ مُهْطِعِينَ } : أراد تشخص فيه أبصارهم ، وقال الحوفي : القلوب رفع بالإبتداء ، ولدى الحناجر الخبر متعلق بمعنى الاستقرار . وقال أبو البقاء : كاظمين حال من القلوب ، لأن المراد أصحابها . انتهى .{ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ } : أي محب مشفق ، ولا شفيع يطاع في موضع الصفة لشفيع ، فاحتمل أن يكون في موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع على الموضع واحتمل أن ينسحب النفي على الوصف فقط ، فيكون من شفيع ، ولكنه لا يطاع ، أي لا تقبل شفاعته ، واحتمل أن ينسحب النفي على الموصوف وصفته : أي لا شفيع فيطاع ، وهذا هو المقصود في الآية أن الشفيع عند اللّه إنما يكون من أوليائه تعالى ، ولا تكون الشفاعة إلا لمن ارتضاه اللّه وأيضاً فيكون في زيادة التفضل والثواب ولا يمكن شيء من هذا في حق الكافر . وعن الحسن : واللّه لا يكون لهم شفيع البتة ، { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ } ،كقوله : وإن سقيت كرام الناس فاسقينا أي الناس الكرام ، وجوزوا أن تكون خائنة مصدراً ، كالعافية والعاقبة ، أي يعلم خيانة الأعين . ولما كانت الأفعال التي يقصد بها التكتم بدنية ، فأخفاها خائنة الأعين من كسر جفن وغمز ونظر يفهم معنى ويريد صاحب معنى آخر وقلب ، وهو ما تحتوي عليه الضمائر ، قسم ما ينكتم به إلى هذين القسمين ، وذكر أن علمه متعلق بهما التعلق التام . وقال الزمخشري : ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين ، لأن قوله : { وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ } لا يساعد عليه . انتهى ، يعني أنه لا يناسب أن يكون مقابل المعنى إلا المعنى ، وتقدم أن الظاهر أن يكون التقدير الأعين الخائنة ، والظاهر أن قوله : يعلم خائنة الأعين الآية متصل بما قبله ، لما أمر بإنكاره يوم الآزفة ، وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم ، وأن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك ، ولا من يشفع له . ذكر اطلاعه تعالى على جميع ما يصدر من العبد ، وأنه مجازي بما عمل ، ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا علم أن اللّه مطلع على أعماله . و قال ابن عطية : يعلم خائنة الأعين متصل بقوله :{ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ، لأن سرعة حسابه للخلق إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر ، ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون . وقالت فرقة : يعلم متصل بقوله : لا يخفي على اللّه منهم شيء ، وهذا قول حسن ، يقويه تناسب المعنيين ، ويضعفه بعد الآية من الآية وكثرة الحائل . انتهى . وقال الزمخشري : فإن قلت : فإن قلت : بم اتصل قوله : يعلم خائنة الاعين ؟ قلت : هو خبر من أخبار هو في قوله :{ هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ } ، مثل :{ يُلْقِى الرُّوحَ } ، ولكن من يلقي الروح قد علل بقوله :{ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ } ، ثم أسقط وتذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله :{ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } ، فبعد لذلك عن إخوانه . انتهى . وفي بعض الكتب المنزلة ، انا مرصاد الهمم ، انا العالم بحال الفكر وكسر العيون . وقال مجاهد : خائنة الأعين : مسارقة النظر إلى ما لا يجوز ؛ ومثل المفسرون خائنة الأعين بالنظر الثاني إلى حرمة غير الناظر ، وما تحفي الصدور بالنظر الأول الذي لا يمكن رفعه . |
﴿ ١٩ ﴾