٥٤{لاَّ يَسْئَمُ الاْنْسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ } : هذه الآيات نزلت في كفار ، قيل : في الوليد بن المغيرة ؛ وقيل : في عتبة بن ربيعة ، وكثير من المسلمين يتصفون بوصف أولها من دعاء الخير ، أي من طلب السعة والنعمة ودعاء مصدر مضاف للمفعول . وقرأ عبد اللّه : من دعاء بالخير ، بباء داخلة على الخير ، وفاعل المصدر محذوف تقديره : من دعاء للخير ، وهو وإن مسه الشر ، أي الفقر والضيق ، { فَيَئُوسٌ } : أي فهو يؤوس قنوط ، وأتى بهما صيغتي مبالغة . واليأس من صفة القلب ، وهو أن يقطع رجاءه من الخير ؛ والقنوط : أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر . وبدأ بصيغة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الإنكسار .{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مّنَّا } : سمي النعمة رحمة ، إذ هي من آثار رحمة اللّه .{ مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَاذَا لِى } : أي بسعيي واجتهادي ، ولا يراها أنها من اللّه ، أو هذا لي لا يزول عني .{ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } : أي ظننا أننا لا نبعث ، وأن ما جاءت به الرسل من ذلك ليس بواقع ، كما قال تعالى حكاية عنهم :{ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} {وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى } : ولئن كان كما أخبرت الرسل ، { إِنَّ لِى عِندَهُ } : أي عند اللّه، { لَلْحُسْنَى } : أي الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة ، كما أنعم عليّ في الدنيا ، وأكدوا ذلك باليمين وبتقديم لي عنده على اسم إن ، وتدخل لام التأكيد عليه أيضاً ، وبصيغة الحسنى يؤنث الأحسن الذي هو أفعل التفضيل . ولم يقولوا للحسنة ، أي الحالة الحسنة . وقال الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ، رضي اللّه عنهم : للكافر أمنيتان ، أما في الدنيا فهذه { إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى } ، وأما في الآخرة { الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً}{ فَلَنُنَبّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَلِمُواْ } من الأفعال السيئة ، وذلك كناية عن جزائهم بأعمالهم السيئة .{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } في مقابلة { إِنَّ لِى عِندَهُ} وكني بغليظ : العذاب عن شدته .{ خَسَارًا وَإِذَا أَنْعَمْنَا } : تقدم الكلام على نظيره هذه الجملة في { سُبْحَانَ } ، إلا أن في أواخر تلك كان يؤوساً ، وآخر هذه { فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } : أي فهو ذو دعاء بإزالة الشر عنه وكشف ضره . والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة . يقال : أطال فلان في الظلم ، وأعرض في الدعاء إذا كثر ، أي فذو تضرع واستغاثة . وذكر تعالى في هذه الآية نوعاً من طغيان الإنسان ، إذا أصابه اللّه بنعمة أبطرته النعمة ، وإذا مسه الشر ابتهل إلى اللّه وتضرع . {قُلْ قُلْ إِن كَانَ } : أي القرآن ، { مِنْ عِندِ اللّه } : أبرزه في صورة الاحتمال ، وهو من عند اللّه بلا شك ، ولكنه تنزل معهم في الخطاب . والضمير في { أَرَءيْتُمْ } لكفار قريش . وتقدم أن معنى أرأيتم : أخبروني عن حالكم إن كان هذا القرآن من عند اللّه ، وكفرتم به وشاققتم في اتباعه .{ مَنْ أَضَلَّ مّنكُمْ } ، إذ أنتم المشاقون فيه والمعرضون عنه والمستهزئون بآيات اللّه . وتقدم أن أرأيتم هذه تتعدى إلى مفعول مذكور ، أو محذوف ، وإلى ثانٍ الغالب فيه أن يكون جملة استفهامية . فالمفعول الأول محذوف تقديره : أرأيتم أنفسكم ، والثاني هو جملة الاستفهام ، إذ معناه : من أضل منكم أيها الكفار ، إذ مآلكم إلى الهلاك في الدنيا والآخرة . ثم توعدهم بما هو كائن لا محالة فقال :{ سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ} قال أبو المنهال ، والسدي ، وجماعة : هو وعيد للكفار بما يفتحه اللّه على رسوله من الأقطار حول مكة ، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر .{ وَفِى أَنفُسِهِمْ } : أراد به فتح مكة ، وتضمن ذلك الإخبار بالغيب ، ووقع كما أخبر . وقال الضحاك ، وقتادة :{ فِى الاْفَاقِ } : ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديماً ، { وَفِى أَنفُسِهِمْ } : يوم بدر . وقال عطاء ، وابن زيد : في آفاق السماء ، وأراد الآيات في الشمس والقمر والرياح وغير ذلك ، وفي أنفسهم عبرة الإنسان بجمسه وحواسه ويغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك . ونبهوا بهذين القولين عن لفظ سنريهم ، لأن هلاك الأمم المكذبة قديماً ، وآيات الشمس والقمر وغير ذلك ، قد كان ذلك كله مريباً لهم ، فالقول الأول أرجح . وأخذ الزمخشري هذا القول وذيله فقال : يعني ما يسر اللّه عز وجل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وللخلفاء من بعده ، وأنصار دينه في آفاق الدنيا ، وبلاد المشرق والمغرب عموماً ، وفي ناحية العرب خصوصاً من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلق الأرض قبلهم ، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة ، وتغليب قليلهم على كثيرهم ، وتسليط ضعافهم على أقويائهم ، وإجرائه على أيديهم أموراً خارجة عن المعهود خارقة للعادة ، ونشر دعوة الإسلام في الأقطار المعمورة ، وبسط دولته في أقاصيها ، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهله ، وأيامهم على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علم من أعلام اللّه وآية من آياته تقوى معها النفس ويزداد بها الإيمان ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر خبيث مغالط نفسه . انتهى ما كتبناه مقتصراً عليه .{ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ } : أي القرآن ، وما تضمنه من الشرع هو الحق ، إذ وقع وفق ما أخبر به من الغيب ، و { بِرَبّكَ } : الباء زائد ، التقدير : أو لم يكفك أو يكفهم ربك ، و { أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } بدل من ربك . أما حالة كونه مجروراً بالباء ، فيكون بدلاً على اللفظ . وأما حالة مراعاة الموضع ، فيكون بدلاً على الموضع ، وقيل : إنه على إضمار الحرف أيأو لم يكف ربك بشهادته ، فحذف الحرف ، وموضع أن على الخلاف ، أهو في موضع نصب أو في موضع جر ؟ ويبعد قول من جعل بربك في موضع نصب ، وفاعل كفى إن وما بعدها ، والتقدير عنده : أو لم يكف ربك شهادته ؟ وقرىء : إن بكسر الهمزة على إضمار القول ، وألا استفتاح تنبه السامع على ما يقال . وقرأ السلمي والحسن : في مرية بضم الميم ، وإحاطته تعالى بالأشياء علمه بها جملة وتفصيلاً ، فهو يجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم . |
﴿ ٥٤ ﴾