٢٢ثم جعلناك على . . . . . لما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل واختلافهم بعد ذلك ، ذكر حال نبيه عليه الصلاة والسلام وما منّ به عليه من اصطفائه فقال : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الاْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء} قال قتادة : الشريعة : الأمر ، والنهي ، والحدود ، والفرائض . وقال مقاتل : البينة ، لأنها طريق إلى الحق . وقال الكلبي : السنة ، لأنه كان يستن بطريقة من قبله من الأنبياء . وقال ابن زيد : الدّين ، لأنه طريق إلى النجاة . والشريعة في كلام العرب : الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ، ومنه قول الشاعر : وفي الشرائع من جيلان مقتص رث الثياب خفي الشخص منسرب فشريعة الدّين من ذلك ، من حيث يرد الناس أمر اللّه ورحمته والقرب منه ، من الأمور التي من دين اللّه الذي بعثه في عباده في الزمان السالف ؛ أو يكون مصدر أمر ، أي من الأمر والنهي ، وسمي النهي أمراً . { أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ،قيل : جهال قريظة والنضير . وقيل : رؤساء قريش ، حين قالوا : رجع إلى دين آبائك .{ هَاذَا بَصَائِرُ } : أي هذا القرآن ؛ جعل ما نافية من معالم الدين ، بصائر للقلوب ، كما جعل روحاً وحياة . وقرىء : هذى ، أي هذه الآيات .{ أَمْ حَسِبَ } : أم منقطعة تتقدر ببل والهمزة ، وهو استفهام إنكار . وقال الكلبي : نزلت في عليّ ، وحمزة ، وعبيدة بن الحارث ، وفي عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة . قالوا للمؤمنين : واللّه ما أنتم على شيء ، ولئن كان ما تقولون حقاً ، لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة ؛ كما هو أفضل في الدنيا . واجترحوا : اكتسبوا ، والسيئات : هنا سيئات الكفر ؛ ونجعلهم : نصيرهم ، والمفعول الثاني هو كالذين ، وبه تمام المعنى . وقرأ الجمهور : سواء بالرفع ، ومماتهم بالرفع أيضاً ؛ وأعربوا سواء : مبتدأ ، وخبره ما بعده ، ولا مسوغ لجواز الابتداء به ، بل هو خبر مقدم ، وما بعده المبتدأ . والجملة خبر مستأنف ؛ واحتمل الضمير في { مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } أن يعود على { الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ } ، أخبر أن حالهم في الزمانين سواء ، وأن يعود على المجترحين والصالحين بمعنى : أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء في إهانتهم عند اللّه وعدم كرامتهم عليه ، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى ، وذهن السامع يفرقه ، إذ قد تقدم إبعاد اللّه أن يجعل هؤلاء كهؤلاء . قال أبو الدرداء : يبعث الناس على ما ماتوا عليه . وقال مجاهد : المؤمن يموت مؤمناً ويبعث مؤمناً ، والكافر يموت كافراً ويبعث كافراً . و قال ابن عطية : مقتضى هذا الكلام أنه لفظ الآية ؛ ويظهر لي أن قوله :{ سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } داخل في المحسنة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن ، والأول أيضاً أجود . انتهى . ولم يبين كيفية تشبث الجملة بما قبلها حتى يدخل في المحسنة . وقال الزمخشري : والجملة التي هي : سواء محياهم ومماتهم ، بدل من الكاف ، لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً ؛ فكانت في حكم المفرد . ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم كان سديداً ؟ كما تقول : ظننت زيد أبوه منطلق . انتهى . وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري ، من إبدال الجملة من المفرد ، قد أجازه أبو الفتح ، واختاره ابن مالك ، وأورد على ذلك شواهد على زعمه ، ولا يتعين فيها البدل . وقال بعض أصحابنا ، وهو الإمام العالم ضياء الدين أبو عبد اللّه محمد بن عليّ الإشبيلي ، ويعرف بابن العلج ، وكان ممن أقام باليمن وصنف بها ، قال في كتابه { البسيط في النحو} : ولا يصح أن يكون جملة معمولة للأول في موضع البدل ، كما كان في النعت ، لأنها تقدر تقدير المشتق تقدير الجامد ، فيكون بدلاً ، فيجتمع فيه تجوز أن ، ولأن البدل يعمل فيه العامل الأول ، فيصح أن يكون فاعلاً ، والجملة لا تكون في موضع الفاعل بغير سائغ ، لأنها لا تضمر ، فإن كانت غير معمولة ، فهل تكون جملة ؟ لا يبعد عندي جوازها ، كما يتبع في العطف الجملة للجملة ، ولتأكيد الجملة التأكيد اللفظي . انتهى . وتبين من كلام هذا الإمام ، أنه لا يجوز أن تكون الجملة بدلاً من المفرد ، وأما تجويز الزمخشري أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم ، فيظهر لي أنه لا يجوز ؛ لأنها بمعنى التصيير . لا يجوز صيرت زيداً أبوه قائم ، ولا صيرت زيداً غلامه منطلق ، لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات ، أو من وصف في الذات إلى وصف فيها . وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً ، ليس فيها انتقال مما ذكرنا ، فلا يجوز والذي يظهر لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها ، أن تكون الجملة في موضع الحال ، والتقدير : أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم ؟ ليسوا كذلك ، بل هم مفترقون ، أي افتراق في الحالتين ، وتكون هذه الحال مبينة ما انبهم في المثلية الدال عليها الكاف ، التي هي في موضع المفعول الثاني . وقرأ زيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : سواء بالنصب ، وما بعده مرفوع على الفاعلية ، أجرى سواء مجرى مستوياً ، كما قالوا : مررت برجل سواء هو والعدم . وجوز في انتصاب سواء وجهين : أحدهما : أن يكون منصوباً على الحال ، وكالذين المفعول الثاني ، والعكس . وقرأ الأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب أيضاً ، وخرج على أن يكون محياهم ومماتهم ظرفي زمان ، والعامل ، إما أن نجعلهم ، وإما سواء ، وانتصب على البدل من مفعول نجعلهم ، والمفعول الثاني سواء ، أي أن يجعل محياهم ومماتهم سواء . وقال الزمخشري : ومن قرأ ومماتهم بالنصب ، جعل محياهم ومماتهم ظرفين ، كمقدم الحاج وخفوق النجم ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، والمعنى : إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً ، وأن يستووا مماتاً ، لافتراق أحوالهم وتمثيله بقوله : وخفوق النجم ليس بجيد ، لأن خفوق مصدر ليس على مفعل ، فهو في الحقيقة على حذف مضاف ، أي وقت خفوق النجم ، بخلاف محيا وممات ومقدم ، فإنها تستعمل بالوضع مصدراً واسم زمان واسم مكان ، فإذا استعملت اسم مكان أو اسم زمان ، لم يكن ذلك على حذف مضاف قامت هذه مقامه ، لأنها موضوعة للزمان وللمكان ، كما وضعت للمصدر ؛ فهي مشتركة بين هذه المدلولات الثلاثة ، بخلاف خفوق النجم ، فإنه وضع للمصدر فقط . وقد خلط ابن عطية في نقل القرآن ، وله بعض عذر . فإنه لم يكن معرباً ، فقال : وقرأ طلحة بن مصرف ، وعيسى بخلاف عنه : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالرفع ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، والأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب ؛ ووجه كلاً من القراءتين على ما تقتضيه صنعة الإعراب ، وتبعه على هذا الوهم صاحب التحرير ، وهو معذور ، لأنه ناسخ من كتاب إلى كتاب ؛ والصواب ما استبناه من القراءات لمن ذكرنا . ويستنبط من هذه الآية تباين حال المؤمن العاصي من حال الطائع ، وإن كانت في الكفار ، وتسمى مبكاة العابدين . وعن تميم الداري ، رضي اللّه عنه ، أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح : { سَاء مَا يَحْكُمُونَ} وعن الربيع بن خيثم ، أنه كان يردّدها ليلة أجمع ، وكذلك الفضيل بن عياض ، كان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت ؟ و قال ابن عطية : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر ، بدليل معادلته بالإيمان ؛ ويحتمل أن تكون المعادلة هي بالاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا بكى الخائفون . {سَاء مَا يَحْكُمُونَ } : هو كقوله :{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ } ، وتقدم إعرابه في البقرة . و قال ابن عطية : هنا ما مصدرية ، والتقدير : ساء الحكم حكمهم .{ بِالْحَقّ } : بأن خلقها حق ، واجب لما فيه من فيض الخيرات ، وليدل عليه دلالة الصنعة على الصانع .{ ولتجزي } : هي لام كي معطوفة على بالحق ، لأن كلاًّ من التاء واللام يكونان للتعليل ، فكان الخلق معللاً بالجزاء . وقال الزمخشري : أو على معلل محذوف تقديره : ليدل بها على قدرته ، { بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} و قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون لام الصيرورة ، أي فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون ، لأن يجازي كل واحد بعمله ، وبما اكتسب من خير أو شر . انتهى . |
﴿ ٢٢ ﴾