سورة المجادلة

مدنية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قد سمع اللّه . . . . .

فسح في المجلس : وسع لغيره . { قَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللّه وَاللّه يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللّه سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ}

هذه السورة مدنية . قال الكلبي : إلا قوله :{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} وعن عطاء : العشر الأول منها مدني وباقيها مكي . قرأ الجمهور :{ قَدْ سَمِعَ } بالبيان ؛ وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن : بالإدغام ، قال خلف بن هشام البزار : سمعت الكسائي يقول : من قرأ قد سمع ، فبين الدال عند السين ، فلسانه أعجمي ليس بعربي ، ولا يلتفت إلى هذا القول ؛ فالجمهور على البيان . والتي تجادل خولة بنت ثعلبة ، ويقال بالتصغير ، أو خولة بنت خويلد ، أو خولة بنت حكيم ، أو خولة بنت دليج ، أو جميلة ، أو خولة بنت الصامت ، أقوال للسلف . وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة .

وقيل : سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته . قالت زوجته : يا رسول اللّه ، أكل أوس شبابي ونثرت له بطني ، فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني ، فقال لها : { ما أراك إلا قد حرمت عليه } ، فقالت : يا

رسول اللّه لا تفعل ، فإني وحيدة ليس لي أهل سواه ، فراجعها بمثل مقالته فراجعته ، فهذا هو جدالها ، وكانت في خلال ذلك تقول : اللّهم إن لي منه صبية صغاراً ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا . فهذا هو اشتكاؤها إلى اللّه ، فنزل الوحي عند جدالها .

قالت عائشة رضي اللّه تعالى عنها : سبحان من وسع سمعه الأصوات . كان بعض كلام خولة يخفى عليّ ، وسمع اللّه جدالها ، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أوس وعرض عليه كفارة الظهار :  { العتق } ، فقال : ما أملك ، و { الصوم} ، فقال : ما أقدر ، و { الاطعام} ، فقال : لا أجد إلا أن تعينني ، فأعانه صلى اللّه عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً ودعا له ، فكفر بالإطعام وأمسك أهله . وكان عمر ، رضي اللّه تعالى عنه ، يكرم خولة إذا دخلت على ه ويقول : قد سمع اللّه لها .

وقال الزمخشري : معنى قد : التوقع ، لأنه صلى اللّه عليه وسلم والمجادلة كانا متوقعين أن يسمع اللّه مجادلتها وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرح عنها . انتهى .

وقرأ الحرميان وأبو عمرو : يظهرون بشدّهما ؛ والأخوان وابن عامر : يظاهرون مضارع ظاهر ؛ وأبيّ : يتظاهرون ، مضارع تظاهر ؛ وعنه : يتظهرون ، مضارع تظهر ؛ والمراد به كله الظهار ، وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، يريد في التحريم ، كأنه إشارة إلى الركوب ، إذ عرفه في ظهور الحيوان . والمعنى أنه لا يعلوها كما لا يعلو أمّه ، ولذلك تقول العرب في مقابلة ذلك : نزلت عن امرأتي ، أي طلقتها . وقوله : { مّنكُمْ } ، إشارة إلى توبيخ العرب وتهجين عادتهم في الظهار ، لأنه كان من إيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم .

٢

الذين يظاهرون منكم . . . . .

وقرأ الجمهور : { أُمَّهَاتِهِمْ } ، بالنصب على لغة الحجاز ؛ والمفضل عن عاصم : بالرفع على لغة تميم ؛ وابن مسعود : بأمهاتهم ، بزيادة الباء .

قال الزمخشري : في لغة من ينصب . انتهى . يعني أنه لا تزاد الباء في لغة تميم ، وهذا ليس بشيء ، وقد رد ذلك على الزمخشري . وزيادة الباء في مثل : ما زيد بقائم ، كثير في لغة تميم ، والزمخشري تبع في ذلك أبا عليّ الفارسي رحمه اللّه . ولما كان معنى كظهر أمي : كأمي في التحريم ، ولا يراد خصوصية الظهر الذي هو من الجسد ، جاء النفي بقوله :{ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } ، ثم أكد ذلك بقوله :{ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ } : أي حقيقة ، { إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ } وألحق بهنّ في التحريم أمّهات الرضاع وأمّهات المؤمنين أزواج الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والزوجات لسن بأمّهات حقيقة ولا ملحقات بهنّ . فقول المظاهر منكر من القول تنكره الحقيقة وينكره الشرع ، وزور : كذب باطل منحرف عن الحق ، وهو محرم تحريم المكروهات جدّاً ، فإذا وقع لزم ، وقد رجى تعالى بعده بقوله :{ وَإِنَّ اللّه لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } مع الكفارة .

وقال الزمخشري :{ وَإِنَّ اللّه لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } لما سلف منه إذ تاب عنه ولم يعد إليه . انتهى ، وهي نزغة اعتزالية .

والظاهر أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها . فلو قال : أنت عليّ كظهر أختي أو ابنتي ، لم يكن ظهاراً ، وهو قول قتادة والشعبي وداود ، ورواية أبي ثور عن الشافعي . وقال الجمهور : الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي في قول هو ظهار ، والظاهر أن الذمي لا يلزمه ظهاره لقوله :{ مّنكُمْ } ،أي من المؤمنين وبه قال أبو حنيفة والشافعي لكونها ليست من نسائه . وقال مالك : يلزمه ظهاره إذا نكحها ، ويصح من المطلقة الرجعية . وقال : المزني لا يصح . وقال بعض العلماء : لا يصح ظهار غير المدخول بها ، ولو ظاهر من أمته التي يجوز له وطئها ، لزمه عند مالك . وقال

أبو حنيفة والشافعي : لا يلزم ، وسبب الخلاف هو : هل تندرج في نسائهم أم لا ؟ والظاهر صحة ظهار العبد لدخوله في يظهرون منكم ، لأنه من جملة المسلمين ، وإن تعذر منه العتق والإطعام ، فهو قادر على الصوم .

وحكى الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهاره ، وليست المرأة مندرجة في الذين يظهرون ، فلو ظاهرت من زوجها لم يكن شيئاً . وقال الحسن بن زياد : تكون مظاهرة . وقال الأوزاعي وعطاء وإسحاق وأبو يوسف : إذا قالت لزوجها أنت عليّ كظهر فلانة ، فهي يمين تكفرها . وقال الزهري : أرى أن تكفر كفارة الظاهر ، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها .

٣

والذين يظاهرون من . . . . .

والظاهر أن قوله تعالى : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } : أن يعودوا للفظ الذي سبق منهم ، وهو قول الرجل ثانياً : أنت مني كظهر أمي ، فلا تلزم الكفارة بالقول ، وإنما تلزم بالثاني ، وهذا مذهب أهل الظاهر . وروي أيضاً عن بكير بن عبد اللّه بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة : وهو قول الفراء . وقال طاووس وقتادة والزهري والحسن ومالك وجماعة :{ لِمَا قَالُواْ } : أي للوطء ، والمعنى : لما قالوا أنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهر ثم وطىء ، فحينئذ يلزمه الكفارة ، وإن طلق أو ماتت . وقال أبو حنيفة ومالك أيضاً والشافعي وجماعة : معناه يعودون لما قالوا بالعزم على الإمساك والوطء ، فمتى عزم على ذلك لزمته الكفارة ، طلق أو ماتت . قال الشافعي : العود الموجب للكفارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار ، ويمضي بعده زمان يمكن أن يطلقها فيه فلا يطلق . وقال قوم : المعنى : والذين يظهرون من نسائهم في الجاهلية ، أي كان الظهار عادتهم ، ثم يعودون إلى ذلك في الإسلام ، وقاله القتبي . وقال الأخفش : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : فتحرير رقبة لما قالوا ، وهذا قول ليس بشيء لأنه يفسد نظم الآية .

{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ، والظاهر أنه يجزىء مطلق رقبة ، فتجزىء الكافرة . وقال مالك والشافعي : شرطها الإسلام ، كالرقبة في كفارة القتل . والظاهر إجزاء المكاتب ، لأنه عبد ما بقي عليه درهم ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه : وإن عتق نصفي عبدين لا يجزىء . وقال الشافعي : يجزىء .{ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } : لا يجوز للمظاهر أن يطأ حتى يكفر ، فإن فعل عصى ، ولا يسقط عنه التكفير . وقال مجاهد : يلزمه كفارة أخرى .

وقيل : تسقط الكفارة الواجبة عليه ، ولا يلزمه شيء . وحديث أوس بن الصامت يرد على هذا القول ، وسواء كانت الكفارة بالعتق أم الصوم أم الإطعام . وقال أبو حنيفة : إذا كانت بالإطعام ، جاز له أن يطأ ثم يطعم ، وهو ظاهر قوله :{ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً } ، إذ لم يقل فيه :{ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } ، وقيد ذلك في العتق والصوم . والظاهر في التماس الحقيقة ، فلا يجوز تماسهما قبلة أو مضاجعة أو غير ذلك من وجوه الاستمتاع ، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي . وقال الأكثرون : هو الوطء ، فيجوز له الاستمتاع بغيره قبل التكفير ، وقاله الحسن والثوري ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي . والضمير في { يَتَمَاسَّا } عائد على ما عاد عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها .{ ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } : إشارة إلى التحرير ، أي فعل عظة لكم لتنتهوا عن الظهار .

٤

فمن لم يجد . . . . .

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ } : أي الرقبة ولا ثمنها ، أو وجدها ، أو ثمنها ، وكان محتاجاً إلى ذلك ، فقال أبو حنيفة : يلزمه العتق ولو كان محتاجاً إلى ذلك ، ولا ينتقل إلى الصوم ، وهو الظاهر . وقال الشافعي : ينتقل إلى الصوم . والشهران بالأهلة ، وإن جاء أحدهما ناقصاً ، أو بالعدد لا بالأهلة ، فيصوم إلى الهلال ، ثم شهراً بالهلال ، ثم يتم الأول بالعدد . والظاهر وجوب التتابع ، فإن أفطر بغير عذر استأنف ، أو بعذر من سفر ونحوه . فقال ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي : في أحد قوليه يبني . وقال النخعي وابن جبير والحكم بن عيينة والثوري وأصحاب الرأي والشافعي : في أحد قوليه . والظاهر أنه إن وجد الرقبة بعد أن شرع في الصوم ، أنه يصوم ويجزئه ، وهو مذهب مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يلزمه العتق ، ولو وطىء في خلال الصوم بطل التتابع ويستأنف ، وبه قال مالك وأبو حنيفة . وقال الشافعي : يبطل إن جامع نهاراً لا ليلاً .

{فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } لصوم لزمانة به ، أو كونه يضعف به ضعفاً شديداً ، كما جاء في حديث أوس لما قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ فقال : واللّه يا رسول اللّه إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني . والظاهر مطلق الإطعام ، وتخصصه ما كانت العادة في الإطعام وقت

النزول ، وهو ما يشبع من غير تحديد بمدّ . ومذهب مالك أنه مد وثلث بالمدّ النبوي ، ويجب استيعاب العدد ستين عند مالك والشافعي ، وهو الظاهر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه . { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ } ،

قال ابن عطية : إشارة إلى الرجعة والتسهيل في الفعل من التحرير إلى الصوم والإطعام . ثم شدّد تعالى بقوله :{ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه } : أي فالزموها وقفوا عندها . ثم توعد الكافرين بهذا الحكم الشرعي .

وقال الزمخشري : ذلك البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها ، لتصدقوا باللّه ورسوله في العمل بشرائعه التي شرعها في الظهار وغيره ، ورفض ما كنتم عليه من جاهليتكم ، { وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه } التي لا يجوز تعديها ، { وَلِلْكَافِرِينَ } الذين لا يتبعونها ولا يعملون عليها { عَذَابٌ أَلِيمٌ} انتهى .

٥

انظر تفسير الآية:٦

٦

إن الذين يحادون . . . . .

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّه وَرَسُولَهُ } : نزلت في مشركي قريش ، أخزوا يوم الخندق بالهزيمة ، كما أخزى من قاتل الرسل من قبلهم . ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ، ذكر المحادّين المخالفين لها ، والمحادة : المعاداة والمخالفة في الحدود .{ كتبوا } ، قال قتادة : أخزوا . وقال السدي : لعنوا . قيل : وهي لغة مذحج . وقال ابن زيد وأبو روق : ردّوا مخذولين . وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق .{ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } : أي من قاتل الأنبياء .

وقيل : يوم بدر . وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا . وعن أبي عبيدة : التاء بدل من الدال ، أي كبدوا : أصابهم داء في أكبادهم . قيل : والذين من قبلهم منافقو الأمم . قيل : وكبتوا بمعنى سيكبتون ، وهي بشارة للمؤمنين بالنصر . وعبر بالماضي لتحقق وقوعه ، وتقدّم الكلام في مادة كبت في آل عمران .

{وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ } على صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وصحة ما جاء به .{ وَلِلْكَافِرِينَ } : أي الذين يحادّونه ، { عَذَابٌ مُّهِينٌ } : أي يهينهم ويذلهم . والناصب ليوم يبعثهم العامل في للكافرين أو مهين أو اذكر أو يكون على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء ؟ فقيل له :{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّه } : أي يكون يوم يبعثهم اللّه ، وانتصب { جَمِيعاً } على الحال : أي مجتمعين في صعيد واحد ، أو معناه كلهم ، إذ جميع يحتمل ذينك المعنيين ؛{ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } ، تخجيلاً لهم وتوبيخاً .{ أَحْصَاهُ } بجميع تفاصيله وكميته وكيفيته وزمانه ومكانه .{ وَنَسُوهُ } لاستحقارهم إياه واحتقارهم أنه لا يقع عليه حساب .{ شَهِيدٌ } : لا يخفى عليه شيء .

٧

ألم تر أن . . . . .

وقرأ الجمهور : ما يكون بالياء ؛ وأبو جعفر وأبو حيوة وشيبة : بالتاء لتأنيث النجوى .

قال صاحب اللوامح : وإن شغلت بالجار ، فهي بمنزلة : ما جاءتني من امرأة ، إلا أن الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في العامة ، يعني القراءة العامة ، قال : لأنه مسند إلى { مِن نَّجْوَى } وهو يقتضي الجنس ، وذلك مذكر . انتهى . وليس الأكثر في هذا الباب التذكير ، لأن من زائدة . فالفعل مسند إلى مؤنث ، فالأكثر التأنيث ، وهو القياس ،

قال تعالى :{ وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايَاتِ رَبّهِمْ } ،{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } ، ويكون هنا تامة ، ونجوى احتمل أن تكون مصدراً مضافاً إلى ثلاثة ، أي من تناجي ثلاثة ، أو مصدراً على حذف مضاف ، أي من ذوي نجوى ، أو مصدراً أطلق على الجماعة المتناجين ، فثلاثة : على هذين التقديرين .

قال ابن عطية : بدل أو صفة .

وقال الزمخشري : صفة .

وقرأ ابن أبي عبلة ثلاثة وخمسة بالنصب على الحال ، والعامل يتناجون مضمرة يدل عليه نجوى .

وقال الزمخشري : أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبها من المستكن فيه . وقال ابن عيسى : كل سرار نجوى . وقال ابن سراقة : السرار ما كان بين اثنين ، والنجوى ما كان بين أكثر . قيل : نزلت في المنافقين ، واختص الثلاثة والخمسة لأن المنافقين كانوا يتناجون على هذين العددين مغايظة لأهل الإيمان ؛ والجملة بعد إلا في المواضع الثلاثة في موضع الحال ، وكونه تعالى رابعهم وسادسهم ومعهم بالعلم وإدراك ما يتناجون به .

وقال ابن عباس : نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية ، تحدّثوا فقال أحدهم : أترى اللّه يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً ، فقال

الثالث : إن كان يعلم بعضاً فهو يعلمه كله .

{وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ } : إشارة إلى الثلاثة والخمسة ، والأدنى من الثلاثة الاثنين ، ومن الخمسة الأربعة ؛ ولا أكثر يدل على ما يلي الستة فصاعداً .

وقرأ الجمهور :{ وَلاَ أَكْثَرَ } عطفاً على لفظ المخفوض ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب : بالرفع عطفاً على موضع نجوى إن أريد به

المتناجون ، ومن جعله مصدراً محضاً على حذف مضاف ، أي ولا نجوى أدنى ، ثم حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه . ويجوز أن يكون { وَلاَ أَدْنَى } مبتدأ ، والخبر { إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } ، فهو من عطف الجمل ،

وقرأ الحسن أيضاً ومجاهد والخليل بن أحمد ويعقوب أيضاً : ولا أكبر بالباء بواحدة والرفع ، واحتمل الإعرابين : العطف على الموضع والرفع بالابتداء . وقرىء :{ يُنَبّئُهُمُ } بالتخفيف والهمز ؛ وزيد بن علي : بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء ؛ والجمهور : بالتشديد والهمز وضم الهاء .

قوله عز وجل { لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّه وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ}

٨

انظر تفسير الآية:٩

٩

ألم تر إلى . . . . .

نزلت { أَلَمْ تَرَ } في اليهود والمنافقين . كانوا يتناجون دون المؤمنين ، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم ، موهمين المؤمنين من أقربائهم أنهم أصابهم شر ، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أقرباؤهم . فلما كثر ذلك منهم ، شكا المؤمنون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين ، فلم ينتهوا ، فنزلت ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : نزلت في اليهود . وقال ابن السائب : في المنافقين .

وقرأ الجمهور :{ وَيَتَنَاجَوْنَ } ؛ وحمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ورويس : وينتجون مضارع انتجى .{ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّه } : كانوا يقولون : السام عليك ، وهو الموت ؛ فيرد عليهم : وعليكم . وتحية اللّه لأنبيائه :{ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}{ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللّه بِمَا نَقُولُ } : أي إن كان نبياً ، فما له لا يدعو علينا حتى نعذب بما نقول ؟ ف

قال تعالى :{ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ}

ثم نهى المؤمنين أن يكون تناجيهم مثل تناجي الكفار ، وبدأ بالإثم لعمومه ، ثم بالعدوان لعظمته في النفوس ، إذ هي ظلامات العباد . ثم ترقى إلى ما هو أعظم ، وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام ، وفي هذا طعن على المنافقين ، إذ كان تناجيهم في ذلك .

وقرأ الجمهور :{ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ } ، وأدغم ابن محيصن التاء في التاء .

وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس : فلا تنتجوا مضارع انتجى ؛ والجمهور : بضم عين العدوان ؛ وأبو حيوة بكسرها حيث وقع ؛ والضحاك : ومعصيات الرسول على الجمع . والجمهور : على الإفراد .

وقرأ عبد اللّه : إذا انتجيتم فلا تنتجوا .

١٠

إنما النجوى من . . . . .

وأل في { إِنَّمَا النَّجْوَى } للعهد في نجوى الكفار { بِالإِثْمِ وَالْعُدْوانِ } ، وكونها { مِنَ الشَّيْطَانِ } ، لأنه هو الذي يزينها لهم ، فكأنها منه .

{لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ } : كانوا يوهمون المؤمنين أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا .{ وَلَيْسَ } : أي التناجي أو الشيطان أو الحزن ، { بِضَارّهِمْ } : أي المؤمنين ، { إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه } : أي بمشيئته ، فيقضي بالقتل أو الغلبة . وقال ابن زيد : هي نجوى قوم من المسلمين يقصدون مناجاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وليس لهم حاجة ولا ضرورة . يريدون التبجح بذلك ، فيظن المسلمون أن ذلك في أخبار بعد وقاصداً نحوه . وقال عطية العوفي : نزلت في المناجاة التي يراها المؤمن في النوم تسوءه ، فكأنه نجوى يناجي بها . انتهى . ولا يناسب هذا القول ما قبل الآية ولا ما

بعدها ، وتقدمت القراءتان في نحو : { لِيَحْزُنَ} وقرىء : بفتح الياء والزاي ، فيكون { الَّذِينَ } فاعلاً ، وفي القراءتين مفعولاً .

١١

يا أيها الذين . . . . .

ولما نهى تعالى المؤمنين عن ما هو سبب للتباغض والتنافر ، أمرهم بما هو سبب للتواد والتقارب ، فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية . قال مجاهد وقتادة والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض .

وقال ابن عباس : المراد مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب . وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان الصحابة يتشاحون على الصف الأول ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة ، فنزلت .

وقرأ الجمهور :{ تَفَسَّحُواْ } ؛ وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى : تفاسحوا . والجمهور : في المجلس ؛ وعاصم وقتادة وعيسى :{ فِى الْمَجَالِسِ} وقرىء : في المجلس بفتح اللام ، وهو الجلوس ، أي توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه . والظاهر أن الحكم مطرد في المجالس التي للطاعات ، وإن كان السبب مجلس الرسول .

وقيل : الآية مخصوصة بمجلس الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكذا مجالس العلم ؛ ويؤيده قراءة من قرأ { فِى الْمَجَالِسِ } ، ويتأول الجمع على أن لكل أحد مجلساً في بيت الرسول صلى اللّه عليه وسلم. وانجزم { يَفْسَحِ اللّه } على جواب الأمر في رحمته ، أو في منازلكم في الجنة ، أو في قبوركم ، أو في قلوبكم ، أو في الدنيا والآخرة ، أقوال .

{وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ } : أي انهضوا في المجلس للتفسح ، لأن مريد التوسعة على الوارد يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع . أمروا أولاً بالتفسح ، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إذا ائتمروا . وقال الحسن وقتادة والضحاك : معناه : إذا دعوا إلى قتال وصلاة أو طاعة نهضوا .

وقيل : إذا دعوا إلى القيام عن مجلس الرسول صلى اللّه عليه وسلم نهضوا ، إذ كان عليه الصلاة والسلام أحياناً يؤثر الانفراد في أمر الإسلام .

وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن عامر ونافع وحفص : بضم السين في اللفظين ؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بكسرها . والظاهر أن قوله :{ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } معطوف على { الَّذِينَ كَفَرُواْ } ، والعطف مشعر بالتغاير ، وهو من عطف الصفات ، والمعنى : يرفع اللّه المؤمنين العلماء درجات ، فالوصفان لذات واحدة . وقال ابن مسعود وغيره : تم الكلام عند قوله :{ مّنكُمْ } ، وانتصب { وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } بفعل مضمر تقديره : ويخص الذين أوتوا العلم درجات ، فللمؤمنين رفع ، وللعلماء درجات .

١٢

يا أيها الذين . . . . .

{بين يدي نجواكم } استعارة ، والمعنى قبل نجواكم ،

وعن ابن عباس وقتادة أن قوما من المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للرسول ، عليه الصلاة والسلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم ، وكان صلى اللّه عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت مشددة عليهم أمر المناجاة ، وهذا الحكم قيل : نسخ قبل العمل به . وقال قتادة : عمل به ساعة من نهار . وقال مقاتل : عشرة أيام . وقال علي كرم اللّه وجهه : ما عمل به أحد غيري ، أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، وناجيت عشر مرار أتصدق في كل مرة بدرهم ، ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس فنزلت الرخصة في ترك الصدقة . وقرئ { صدقات} بالجمع .

وقال ابن عباس : هي منسوخة بالآية التي بعدها

وقيل : بآية الزكاة .

١٣

أأشفقتم أن تقدموا . . . . .

{أأشفقتم } أخفتم من ذهاب المال في الصدقة ، أو من العجز عن وجودها تتصدقون به . فإذا لم تفعلوا ما أمرتم به ، وتاب اللّه عليكم عذركم ، ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وأفعال الطاعات .

وقرأ عياش

عن أبي عمر وخبير : بما يعملون بالياء من تحت ، والجمهور بالتاء .

قوله عز وجل { خَبِيرٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللّه } سقط : إلى آخر الآية {}

١٤

ألم تر إلى . . . . .

{الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ } : هم المنافقون ، والمغضوب عليهم : هم اليهود ، عن السدي ومقاتل ، أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه : { يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان } ، فدخل عبد اللّه بن أبي بن سلول ، وكان أزرق أسمر قصيراً ، خفيف اللحية ، فقال عليه الصلاة والسلام :  { علام تشتمني أنت وأصحابك } ؟ فحلف باللّه ما فعل ، فقال عليه الصلاة والسلام له :  { فعلت } ، فجاء بأصحابه فحلفوا باللّه ما سبوه ، فنزلت . والضمير في { مَّا هُم } عائد على { الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ } ، وهم المنافقون : أي ليسوا منكم أيها المؤمنون ، { وَلاَ مِنْهُمْ } : أي ليسوا من الذين تولوهم ، وهم اليهود . وما هم استئناف إخبار بأنهم مذبذبون ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، كما قال عليه الصلاة والسلام : { مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكفار بقلبه} . و

قال ابن عطية : يحتمل تأويلاً آخر ، وهو أن يكون قوله :{ مَّا هُم } يريد به اليهود ، وقوله :{ وَلاَ مِنْهُمْ } يريد به المنافقين ، فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن ، لأنهم تولوا مغضوباً عليهم ، ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ، ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صواباً . انتهى . والظاهر التأويل الأول ، لأن الذين تولوا هم المحدث عنهم . والضمير في { وَيَحْلِفُونَ } عائد عليهم ، فتتناسق الضمائر لهم ولا تختلف . وعلى هذا التأويل يكون { مَّا هُم } استئنافاً ، وجاز أن يكون حالاً من ضمير { تَوَلَّوْاْ} وعلى احتمال ابن عطية ، يكون { مَّا هُم } صفة لقوم .{ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ } ، إما أنهم ما سبوا ، كما روي في سبب النزول ، أو على أنهم مسلمون . والكذب هو ما ادعوه من الإسلام .{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : جملة حالية يقبح عليهم ، إذ حلفوا على خلاف ما أبطنوا ،

فالمعنى : وهم عالمون متعمدون له .

١٥

أعد اللّه لهم . . . . .

والعذاب الشديد : المعد لهم في الآخرة .

وقرأ الجمهور : { أَيْمَانِهِمْ } جمع يمين ؛ والحسن : إيمانهم ، بكسر الهمزة : أي ما يظهرون من الإيمان ،

١٦

اتخذوا أيمانهم جنة . . . . .

{جَنَّةُ } : أي ما يتسترون به ويتقون المحدود ، وهو الترس ، { فَصَدُّواْ } : أي أعرضوا ، أو صدوا الناس عن الإسلام ، إذ كانوا يثبطون من لقوا عن الإسلام ويضعفون أمر الإيمان وأهله ، أو صدوا المسلمين عن قتلهم بإظهار الإيمان ، وقتلهم هو سبيل اللّه فيهم ، لكن ما أظهروه من الإسلام صدوا به المسلمين عن قتلهم .

١٧

لن تغني عنهم . . . . .

{لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مّنَ اللّه شَيْئًا } : تقدم الكلام على هذه الجملة في أوائل آل عمران .

١٨

يوم يبعثهم اللّه . . . . .

{فَيَحْلِفُونَ لَهُ } : أيللّه تعالى . ألا ترى إلى قولهم :{ وَاللّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ؟{ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } أنهم مؤمنون ، وليسوا بمؤمنين . والعجب منهم ، كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على عالم الغيب والشهادة ، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم ؟ والمقصود أنهم مقيمون على الكذب ، قد تعودوه حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا ، { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء } : أي شيء نافع لهم .

١٩

استحوذ عليهم الشيطان . . . . .

{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ } : أي أحاط بهم من كل جهة ، وغلب على نفوسهم واستولى عليها

وتقدمت هذه المادة في قوله تعالى : { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } في النساء ، وأنها من حاذ الحمار العانة إذا ساقها ، وجمعها غالباً لها ، ومنه كان أحوذياً نسيج وحده .

وقرأ عمر : استحاذ ، أخرجه على الأصل والقياس ، واستحوذ شاذ في القياس فصيح في الاستعمال .{ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّه } : فهم لا يذكرونه ، لا بقلوبهم ولا بألسنتهم ؛ و { حِزْبُ الشَّيْطَانِ } : جنده ، قاله أبو عبيدة .

٢٠

إن الذين يحادون . . . . .

{أُوْلَئِكَ فِى الاْذَلّينَ } : هي أفعل التفضيل ، أي في جملة من هو أذل خلق اللّه تعالى ، لا ترى أحداً أذل منهم .

٢١

كتب اللّه لأغلبن . . . . .

وعن مقاتل : لما فتح اللّه مكة للمؤمنين ، والطائف وخيبر وما حولهم ، قالوا : نرجو أن يظهرنا اللّه على فارس والروم ، فقال عبد اللّه بن أبي : أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ؟ واللّه إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك ، فنزلت : { كَتَبَ اللّه لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } :{ كِتَابَ } : أي في اللوح المحفوظ ، أو قضى . وقال قتادة : بمعنى قال ، { وَرُسُلِى } : أي من بعثت منهم بالحرب ومن بعثت منهم بالحجة .{ إِنَّ اللّه قَوِىٌّ } : ينصر حزبه ، { عَزِيزٌ } : يمنعه من أن يذل .

٢٢

لا تجد قوما . . . . .

{لاَّ تَجِدُ قَوْماً } ،

قال الزمخشري ، من باب التخييل : خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوماً مؤمنين يوادون المشركين ، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن يمتنع ، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء اللّه . وزاد ذلك تأكيداً بقوله :{ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ} انتهى . وبدأ بالآباء لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم ، فنهاهم عن موادتهم .

وقال تعالى :{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } ، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب ، ثم أتى ثالثاً بالإخوان لأنهم بهم التعاضد ، كما قيل : أخاك أخاك إن من لا أخاً له

كساع إلى الهيجاء بغير سلاح

ثم رابعاً بالعشيرة ، لأن بها التناصر ، وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إلى ما دعوا إليه ، كما قال : لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهاناً

وقرأ الجمهور :{ كِتَابَ } مبنياً للفاعل ، { فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ } نصباً ، أي كتب اللّه . وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : كتب مبنياً للمفعول ، والإيمان رفع . والجمهور :{أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } على الإفراد ؛ وأبو رجاء : على الجمع ، والمعنى : أثبت الإيمان في قلوبهم وأيدهم بروح منه تعالى ، وهو الهدى والنور واللطف .

وقيل : الروح : القرآن .

وقيل : جبريل يوم بدر .

وقيل : الضمير في منه عائد على الإيمان ، والإنسان في نفسه روح يحيا به المؤمن ، والإشارة بأولئك كتب إلى الذين لا يوادّون من حادّ اللّه ورسوله . قيل : والآية نزلت في أبي حاطب بن أبي بلتعة .

وقيل : الظاهر أنها متصلة بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود .

وقيل : نزلت في ابن أبيّ وأبي بكر الصديق ، رضى اللّه تعالى عنه ، كان منه سب للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فصكه أبو بكر صكة سقط منها ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : { أوفعلته } ؟ قال : نعم ، قال :  { لا تعد } ، قال : واللّه لو كان السيف قريباً مني لقتلته .

وقيل : في أبي عبيدة بن الجراح ، قتل أباه عبد اللّه بن الجراح يوم أُحد ، وفي

أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه بن عمير يوم أُحد . وقال ابن شوذب : يوم بدر ، وفي عمر قتل خاله العاصي بن هشام يوم بدر ، وفي عليّ وحمزة وعبيد بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة يوم بدر . وقال الواقدي في قصة أبي عبيدة أنه قتل أباه ، قال : كذلك يقول أهل الشام ، وقد سألت رجالاً من بني فهر فقالوا : توفي أبوه قبل الإسلام . انتهى ، يعنون في الجاهلية قبل ظهور الإسلام . وقد رتب المفسرون . { وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومصعب وعمر وعليّ وحمزة وعبيد مع أقربائهم ، واللّه تعالى أعلم .

﴿ ٠