٦

{سواء عليهم أستغفرت لهم}، يا محمد، {أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم إن اللّه لا يهدي القوم الفاسقين}، ذكر محمد بن إسحاق وغيره عن جماعة، من أصحاب السير أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما سمع بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم اللّه بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليهم، فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبرة الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج، على ذلك الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار! وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين! وأعان جهجاهاً الغفاري رجل من المهاجرين يقال له جعال، وكان فقيراً، فغضب عبد اللّه بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السن، فقال ابن أبي أفعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، واللّه ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك، أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة لنخرجن الأعز منها الأذل. يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما واللّه لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولتحولوا إلى غير بلادكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فقال زيد بن أرقم أنت -واللّه- الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين، فقال عبد اللّه بن أبي اسكت، فإنما كنت ألعب. قال فمشى زيد بن أرقم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وذلك بعد فراغه من العدو، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال دعني أضرب عنقه يا رسول اللّه، قال كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ ولكن أذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس. وأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عبد اللّه بن أبي فأتاه فقال أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني؟ فقال عبد اللّه والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك، وإن زيداً لكاذب، وكان عبد اللّه في قومه شريفاً عظيماً، فقال من حضر من الأنصار من أصحابه يا رسول اللّه عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله. فعذره النبي صلى اللّه عليه وسلم وفشت الملامة في الأنصار لزيد، وكذبوه، وقال له عمه وكان زيد معه ما أردت إلى أن كذبك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والناس مقتوك، وكان زيد يساير النبي صلى اللّه عليه وسلم فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي صلى اللّه عليه وسلم. فلما استقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال يا رسول اللّه لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها. فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو ما بلغك ما قال صاحبكم عبد اللّه بن أبي؟ قال وما قال؟ قال زعم إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل. فقال أسيد فأنت واللّه يا رسول اللّه تخرجه إن شئت، هو واللّه الذليل وأنت العزيز، ثم قال يا رسول اللّه ارفق به فواللّه لقد جاء اللّه بك، وإن قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً. وبلغ عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال يا رسول اللّه إنه بلغني أنك تريد قتل عبد اللّه بن أبي، لما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فواللّه لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني، وإني أخشى أن تأمر به غير فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد اللّه بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر، فأدخل النار. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. قالوا وسار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياماً. وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد اللّه بن أبي. ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع، يقال له نقعاً فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها وضلت ناقة النبي صلى اللّه عليه وسلم وذلك ليلاً، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة، قيل من هو؟ قال رفاعة بن زيد بن التابوت، فقال رجل من المنافقين كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته؟ ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي! فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة، وأخبر بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه، وقال ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه، ولكن اللّه أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي، هي في الشعب قد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعون قبل الشعب فإذا هي كما قال، فجاؤوا بها وآمن ذلك المنافق. فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات ذلك اليوم، وكان من عظماء اليهود وكهفاً للمنافقين، فلما وافى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، قال زيد بن أرقم جلست في البيت لما بي من الهم والحياء،

فأنزل اللّه تعالى سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد اللّه. فلما نزلت أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأذن زيد وقال يا زيد إن اللّه صدقك، وأوفى بأذنك. وكان عبد اللّه بن أبي بقرب المدينة، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه حتى أناخ على مجامع طرق المدينة، فلما جاء عبد اللّه بن أبي قال وراءك، قال مالك ويلك؟ قال لا واللّه لا تدخلها أبداً إلا بإذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل، فشكا عبد اللّه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما صنع ابنه، فأرسل إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن خل عنه حتى يدخل، فقال أما إذا جاء أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنعم، فدخل فلم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات. قالوا فلما نزلت الآية وبان كذب عبد اللّه بن أبي قيل له يا أبا حباب إنه قد نزل فيك أي شداد فاذهب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال أمرتموني أن أؤمن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد

فأنزل اللّه تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لووا رؤوسهم} الآية.

﴿ ٦