١٨٨وقوله سبحانه لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا الآية ذهب جماعة إلى أن الآية في المنافقين وقالت جماعة كبيرة إنما نزلت في أهل الكتاب أحبار اليهود قال سعيد بن جبير الآية في الهيود فرحوا بما أعطى اللّه آل إبراهيم من النبوءة والكتاب فهم يقولون نحن على طريقهم ويحبون أن يحمدوا بذلك وهم ليسوا على طريقهم وقراءة سعيد بن جبير بما أوتوا بمعنى أعطوا بضم الهمزة والطاء وعلى قراءته يستقيم المعنى الذي قال والمفازة مفعلة من فاز يفوز إذا نجا وباقي الآية بين ثم دل سبحانه على مواضع النظر والعبرة فقال إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار أي تعاقب الليل والنهار إذ جعلهما سبحانه خلفة ويدخل تحت اختلافهما قصر أحدهما وطول الآخر وبالعكس واختلافهما بالنور والظلام والآيات العلامات الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته سبحانه قال الفخر وأعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الإشتغال بالخلق والإستغراق في معرفة الحق فلما طال الكلام في تقرير الأحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والكبرياء والجلال وذكر الأدعية فختم بهذه الآيات بنحو ما فى سورة البقرة انتهى وقوله سبحانه الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا الذين في موضع خفض صفة لأولى الألباب وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتهليل والتكبير ونحوه من ذكر اللّه وأن يحضر القلب اللسان وذلك من أعظم وجوه العبادات والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة وابن آدم متنقل في هذه الثلاث الهيئات لا يخلو في غالب أمره منها فكأنها تحصر زمنه وكذلك جرت عائشة رضي اللّه عنها إلى حصر الزمن في قولها كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر اللّه على كل أحيانه قلت خرجه أبو داود فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغيره وذهب جماعة إلى أن قوله تعالى الذين يذكرون اللّه إنما هو عبارة عن الصلاة أي لا يضيعونها ففي حال العذر يصلونها قعودا وعلى جنوبهم ثم عطف على هذه العبادة التي هي ذكر اللّه باللسان الصلاة فرضها وندبها بعبادة أخرى عظيمة وهي الفكرة في قدرة اللّه تعالى ومخلوقاته والعبر التي بث ... وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ... قال الغزالي ونهاية ثمرة الدين في الدنيا تحصيل معرفة اللّه وتحصيل الإنس بذكر اللّه تعالى والإنس يحصل بدوام الذكر والمعرفة تحصل بدوام الفكر انتهى من الأحياء ومر النبي صلى اللّه عليه وسلم على قوم يتفكرون في اللّه فقال تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره قال ع وهذا هو قصد الآية في قوله ويتفكرون في خلق السموات والأرض وقال بعض العلماء المتفكر في ذات اللّه كالناظر في عين الشمس لأنه سبحانه ليس كمثله شيء وإنما التفكر وانبساط الذهن في المخلوقات وفي أحوال الآخرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا عبادة كتفكر وقال ابن عباس وأبو الدرداء فكرة ساعة خير من قيام ليلة وقال سري السقطي فكرة ساعة خير من عبادة سنة ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الآخرة وقال الحسن بن أبي الحسن الفكرة مرءاة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته وأخذ أبو سليمان الداراني قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام كذلك مفكرا حتى طلع الفجرفقال له ما هذا يا أبا سليمان فقال إني لما طرحت إصبعي في أذن القدح تذكرت قول اللّه سبحانه إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل فتفكرت في حالي وكيف أتلقى الغل أن طرح في عنقي يوم القيامة فما زلت في ذلك حتى أصبح قال ع وهذه نهاية الخوف وخير الأمور أوسطها وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج وقراءة علم كتاب اللّه ومعاني سنة رسوله لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا لكن يحسن أن لا تخلوا البلاد من مثل هذا قال ع وحدثني أبي رحمه اللّه عن بعض علماء المشرق قال كنت بائتا في مسجد الأقدام بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد أضطجع في كساء له حتى أصبح وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا فلماأقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس فاستعظمت جرءته في الصلاة بغير وضوء فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظمه فلما دنوت منه سمعته وهو ينشد ... منسجن الجسم غائب حاضر ... منتبه القلب صامت ذاكر ... ... منبسط في الغيوب منقبض ... كذاك من كان عارفا ناكر ... يبيت في ليلة أخا فكر ... فهو مدى الليل نائم ساهر ... قال فعلمت أنه ممن يعبد اللّه بالفكرة فانصرفت عنه قال الفخر ودلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر انتهى وفي العتبية قال مالك قيل لأم الدرداء ماكان أكثر شأن أبي الدرداء قالت كان أكثر شأنه التفكر قال مالك وهو من الأعمال وهو اليقين قال اللّه عز و جل ويتفكرون في خلق السموات والأرض قال ابن رشد والتفكر من الأعمال كما قاله مالك رحمه اللّه وهو من أشرف الأعمال لأنه من أعمال القلوب التي هي أشرف الجوارح ألا ترى انه لا يثاب أحد على عمل من أعمال الجوارح من سائر الطاعات إلا مع مشاركة القلوب لها بإخلاص النية للّه عز و جل في فعلها انتهى من البيان والتحصيل قال ابن بطال أن الإنسان إذا كمل إيمانه وكثر تفكره كان الغالب عليه الإشفاق والخوف انتهى قال ابن عطاء اللّه الفكرة سير القلب في ميادين الإعتبار والفكر سراج القلب فإذا ذهبت فلا إضاءة له قلت قال بعض المحققين وذلك أن الإنسان إذا تفكر علم وإذا علم عمل قال ابن عباد قال الإمام أبو القاسم القشيري رحمه اللّه التفكر نعت كل طالب وثمرته الوصول بشرط العلم ثم فكر الزاهدين في فناء الدنيا وقلة وفائها لطلابها فيزدادون بالفكر زهدا وفكر العابدين في جميل الثواب فيزدادون نشاطا عليه ورغبة فيه وفكر العارفين في الآلاء والنعماء فيزدادون محبة للحق سبحانه انتهى وقوله تعالى ربنا ماخلقت هذا باطلا أي يقولون يا ربنا على النداء ما خلقت هذا باطلا يريد لغير غاية منصوبة بل خلقته وخلقت البشر لينظروا فيه فيوحدوك ويعبدوك فمن فعل ذلك نعمته ومن ضل عن ذلك عذبته وقولهم سبحانك أي تنزيها لك عما يقول المبطلون وقولهم ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته أي فلا تفعل ذلك بنا والخزي الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء قال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن جريج وغيرهم هذه إشارة إلى من يخلد في النار وأما من يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي أي وما أصابه من عذابها إنما هو تمحيص لذنوبه وقوله سبحانه وما للظالمين من أنصار هو من قول الداعين |
﴿ ١٨٨ ﴾