لباب التأويل في معاني التنزيل (تفسير الخازن)

أبو الحسن علاء الدين علي بن محمد

الخازن الحسين ابن إبراهيم البغدادي

الشافعي

(ت ٧٤١  هـ ١٣٤١  م)

_________________________________

مقدمة تتضمن ثلاثة فصول

الفصل

الأول : في فضل القرآن وتلاوته وتعليمه

الفصل الثاني في وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم ووعيد من أوتي القرآن فنسيه ولم يتعهده

الفصل الثالث في جمع القرآن وترتيب نزوله وفي كونه نزل على سبعة أحرف

فصل في معنى التفسير والتأويل

القول في الاستعاذة

(بسم اللّه الرّحمن الرّحيم)

الحمد للّه الذي خلق الأشياء فقدرها تقديرا ، وصور شكل الإنسان فأحسنه تصويرا ، ومنحه العقل وجعله سميعا بصيرا وشرفه بما عرفه به من العلم ونور قلبه تنويرا وهداه ، إلى معرفته فيا لها نعمة وفضلا كبيرا ، وأطلق لسانه فأذعن بشكره تحميدا وتهليلا وتكبيرا ، وأرسل محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم إلى كافة الخلق بشيرا ونذيرا ، وأنزل عليه كتابا منيرا ، وأودعه حكمة وحكما وترغيبا وتحذيرا ، وألهم حفاظه تلاوة له وتحبيرا ، وعلم عباده علومه تفهيما وتبصيرا ، وضرب فيه الأمثال ليزيل جهالة وتحييرا ، وجعله برهانا واضحا وصوابا لائحا ووفر فضله توفيرا ، في الصدور محفوظا وبالألسنة متلوا وفي الصحف مسطورا ، يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ، وجعل كل بليغ عن الإتيان بسورة مثله حسيرا. قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.

(أحمده) على تواتر إنعامه حمدا كثيرا وأتوكل عليه مفوضا أمري إليه ومستجيرا ، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له شهادة يغدو قلب قائلها مطمئنا مستنيرا ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي كساه من فضله عزا ومهابة وتوقيرا صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله وأصحابه كما أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

(وبعد) فإن اللّه جلّ ذكره ونفذ أمره أرسل رسوله محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله رحمة للعالمين وبشيرا للمؤمنين ونذيرا للمخالفين أكمل به بنيان النبوة وختم به ديوان الرسالة ، وأتم به مكارم الأخلاق ، ونشر فضله في الآفاق وأنزل عليه نورا هدى به من الضلالة ، وأنقذ به من الجهالة ، وحكم بالفوز والفلاح لمن اتبعه وبالخسران لمن أعرض عنه بعد ما سمعه عجز الخلائق عن معارضته حين تحداهم على أن يأتوا بسورة من مثله في مقابلته ، ثم سهل على عباده المؤمنين مع إعجازه تلاوته ويسر على الألسن قراءته أمر فيه وزجر وبشر وأنذر وذكر المواعظ ليتذكر ، وضرب فيه الأمثال ليتدبر ، وقص فيه من أخبار الماضين ليعتبر ودل فيه على آيات التوحيد ليتفكر ، ثم لم يرض منا بسرد حروفه دون حفظ حدوده ولا بإقامة كلماته دون العمل بمحكماته ولا بتلاوته دون تدبر آياته في قراءته ولا بدراسته دون تعلم حقائقه وتفهم دقائقه ولا حصول لهذه المقاصد منه إلّا بدراية تفسيره وأحكامه ومعرفة حلاله وحرامه وأسباب نزوله وأقسامه والوقوف على ناسخه ومنسوخه في خاصه وعامه ، فإنه أرسخ العلوم أصلا وأسبغها فرعا وفصلا وأكرمها نتاجا وأنورها سراجا فلا شرف إلّا وهو السبيل إليه ولا خير إلّا وهو الدال عليه وقد قيض اللّه تعالى له رجالا موفقين وبالحق ناطقين حتى صنفوا في سائر علومه المصنفات ، وجمعوا سائر فنونه المتفرقات كل على قدر فهمه ومبلغ علمه نظرا للخلف واقتداء بالسلف فشكر اللّه سعيهم ورحم كافتهم.

ولما كان كتاب معالم التنزيل الذي صنفه الشيخ الجليل والحبر النبيل الإمام العالم الكامل محيي السنة قدوة الأمة وإمام الأئمة مفتي الفرق ناصر الحديث ظهير الدين أبو محمد الحسين بن مسعود البغويّ قدس اللّه روحه ونور ضريحه من أجل المصنفات في علم التفسير وأعلاها وأنبلها وأسناها جامعا للصحيح من الأقاويل عاريا عن الشبه والتصحيف والتبديل محلى بالأحاديث النبوية ، مطرزا بالأحكام الشرعية موشى بالقصص الغريبة وأخبار الماضين العجيبة مرصعا بأحسن الإشارات مخرجا بأوضح العبارات ، مفرغا في قالب الجمال بأفصح مقال ، فرحم اللّه تعالى مصنفه وأجزل ثوابه وجعل الجنة متقلبة ومآبه.

ولما كان هذا الكتاب كما وصفت أحببت أن أنتخب من غرر فوائده ودرر فرائده وزواهر نصوصه وجواهر فصوصه مختصرا جامعا لمعاني التفسير ولباب التأويل والتعبير حاويا لخلاصة منقوله متضمنا لنكته وأصوله مع فوائد نقلتها وفرائد لخصتها من كتب التفاسير المصنفة في سائر علومه المؤلفة ، ولم أجعل لنفسي تصرفا سوى النقل والانتخاب ، مجتنبا حد التطويل والإسهاب وحذفت منه الإسناد لأنه أقرب إلى تحصيل المراد فما أوردت فيه من الأحاديث النبوية والأخبار المصطفوية على تفسير آية أو بيان حكم ، فإن الكتاب يطلب بيانه من السنة ، وعليهما مدار الشرع وأحكام الدين عزوته إلى مخرجه ، وبينت اسم ناقله ، وجعلت عوض كل اسم حرفا يعرف به ليهون على الطالب طلبه فما كان من صحيح أبي عبد اللّه محمد بن إسماعيل البخاري فعلامته قبل ذكر اسم الصحابي الراوي للحديث

(خ) وما كان من صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري فعلامته

(م) وما كان مما اتفقا عليه فعلامته

(ق) وما كان من كتب السنن أبي داود والترمذي والنسائي فإني أذكر اسمه بغير علامة وما لم أجده في هذه الكتب ووجدت البغوي قد أخرجه بسند له انفرد به قلت روى البغوي بسنده ، وما رواه البغوي بإسناد الثعلبي

قلت : روى البغوي بإسناد الثعلبي ، وما كان فيه من أحاديث زائدة وألفاظ متغيرة فاعتمده فإني اجتهدت في تصحيح ما أخرجته من الكتب المعتبرة عند العلماء كالجمع بين الصحيحين للحميدي وكتاب جامع الأصول لابن الأثير الجزري ، ثم إني عوضت عن حذف الإسناد شرح غريب الحديث ، وما يتعلق به ليكون أكمل فائدة في هذا الكتاب وأسهل على الطلاب ، وسقته بأبلغ ما قدرت عليه من الإيجاز وحسن الترتيب مع التسهيل والتقريب.

وينبغي لكل مؤلّف كتابا في فن قد سبق إليه أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد استنباط شيء كان معضلا أو جمعه إن كان متفرقا ، أو شرحه إن كان غامضا ، أو حسن نظم وتأليف أو إسقاط حشو وتطويل وأرجو أن لا يخلو هذا الكتاب عن هذه الخصال التي ذكرت وسميته [لباب التأويل في معاني التنزيل ] واللّه تعالى أسأل التوفيق لإتمام ما قصدت ، وإليه أرغب في تيسير ما أردت ، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وأن يتقبله مني إنه هو السميع العليم ، وهو حسبي ونعم الوكيل ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وقبل أن أشرع في الكلام على التفسير أقدم

مقدمة تتضمن ثلاثة فصول

الفصل

الأول : في فضل القرآن وتلاوته وتعليمه

(م) عن زيد بن أرقم قال قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة والمدينة فحمد اللّه وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : (أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به) فحث على كتاب اللّه ورغب فيه ثم قال : (و أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي زاد في رواية كتاب اللّه فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل)

وفي رواية : كتاب اللّه هو حبل اللّه من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على ضلالة ،

وفي رواية الترمذي عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إني تارك فيكم ما إنّ تمسكتم به لن تضلوا بعدي

أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما)

(م) عن عمر بن الخطاب قال أما إن نبيكم صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن اللّه تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين) وعن الحارث الأعور قال : مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على عليّ فقلت يا أمير المؤمنين ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث قال : أوقد فعلوها قلت نعم قال أما إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : ألا إنها ستكون فتنة فقلت ما المخرج منها يا رسول اللّه قال : كتاب اللّه فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم والفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه اللّه ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه ، وهو حبل اللّه المتين وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به من قال به صدق ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور. أخرجه الترمذي وقال : حديث غريب وإسناده مجهول وفي الحارث مقال.

(قوله هو الفصل) أي الفاصل بين الحق والباطل ليس بالهزل أي هو جد كله ليس فيه شيء من الهزل ، والجبار في صفة الآدمي هو المتسلط العاتي المتكبر على الناس ، قصمه اللّه أي أهلكه.

(قوله وهو حبل اللّه المتين) الحبل يرد على وجوه منها العهد ومنها الأمان فإذا اعتصم به الإنسان آواه اللّه تعالى إلى جواره والذكر الشرف والحكيم المحكم العاري من الاختلاف والاضطراب ، والصراط المستقيم الطريق الواضح ، ومعنى لا تزيغ به الأهواء أي لا يميل عن الحق ، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح

(خ) عن عثمان عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)

(ق) عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران).

(قوله الماهر بالقرآن) يعني الحاذق الكامل الحفظ الجيد التلاوة ،

وقوله : مع السفرة جمع سافر وهو الرسول من الملائكة سمي بذلك لأنه يسفر برسالات اللّه إلى أنبيائه

وقيل السفرة الكتبة من الملائكة والبررة المطيعون للّه تعالى فيما يأمر ، به ومعنى كونه من الملائكة أن له منازل في الجنة يكون فيها رفيقا لهم.

وقوله :

يتعتع أي يتردد في تلاوته لضعف حفظه. له أجران : يعني يحصل له أجر بسبب القراءة وأجر بسبب تعبه فيها والمشقة التي تحصل له فيها وليس معناه أن له أجرا أكثر من الماهر ، بل الماهر أفضل منه وأكثر أجرا

(ق) عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب ، وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب ولا طعم لها ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن ، كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها فيه دليل على فضيلة حفاظ القرآن واستحباب ضرب الأمثال لإيضاح المقاصد ، عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب ، وقد رفعه بعضهم عن ابن مسعود ، ووقفه بعضهم عليه عن ابن عباس قال : قال رجل يا رسول اللّه أي الأعمال أحب إلى اللّه تعالى؟ قال (الحالّ المرتحل). قال : وما الحال المرتحل؟ قال : (الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل). أخرجه الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند اللّه آخر آية تقرؤها) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح. عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول يا رب حله فيلبس تاج الكرامة ثم يقول يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول يا رب ارض عنه فيرضى عنه فيقال اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة) أخرجه الترمذي وقال :

حديث حسن عن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من قرأ القرآن وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجا ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل بهذا) أخرجه أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله اللّه به الجنة ، وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار) أخرجه الترمذي وقال :

حديث غريب وليس له إسناد صحيح

(ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما أذن اللّه لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به) معنى أذن في اللغة استمع ولا نحمله على الإصغاء فإنه يستحيل على اللّه تعالى بل هو كناية عن تقريبه قارئ القرآن وإجزال ثوابه في ذلك وذلك لأن سماع اللّه لا يختلف فموجب تأويل الحديث ، وقوله يتغنى بالقرآن أي يحسن صوته به ويكون ذلك مع تحزين وترقيق في القراءة ،

وقيل معناه يستغنى به عن الناس ، و

القول الأول أولى ويدل عليه سياق الحديث وهو قوله يجهر به

(خ) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال :

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن).

الفصل الثاني في وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم ووعيد من أوتي القرآن فنسيه ولم يتعهده عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)

وفي رواية : من قال في القرآن برأيه أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن (قوله فليتبوأ) معناه فليتخذ له مباءة أي منزلا من النار. عن جندب بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من قال في كتاب اللّه عزّ وجلّ برأيه فأصاب فقد أخطأ) أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث غريب وسأل أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه عن

قوله تعالى وَفاكِهَةً وَأَبًّا فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب اللّه بغير علم.

قال العلماء :

النهي عن القول في القرآن : الرأي إنما ورد في حق من يتأول القرآن على مراد نفسه وما هو تابع لهواه وهذا لا يخلو إما أن يكون عن علم أو لا ، فإن كان عن علم كمن يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أن المراد من الآية غير ذلك لكن غرضه أن يلبس على خصمه بما يقوي حجته على بدعته كما يستعمله الباطنية والخوارج وغيرهم من أهل البدع في المقاصد الفاسدة ليغروا بذلك الناس ، وإن كان القول في القرآن بغير علم لكن عن جهل وذلك بأن تكون الآية محتملة لوجوه فيفسرها بغير ما تحتمله من المعاني والوجوه.

فهذان القسمان مذمومان وكلاهما داخل في النهي والوعيد الوارد في ذلك فأما التأويل وهو صرف الآية على طريق الاستنباط إلي معنى يليق بها محتمل لما قبلها وما بعدها وغير مخالف للكتاب والسنة فقد رخص فيه أهل العلم ، فإن الصحابة رضي اللّه عنهم قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولكن على قدر ما فهموا من القرآن تكلموا في معانيه وقد دعا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لابن عباس فقال : (اللّهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فكان أكثر ما نقل عنه التفسير

(ق) عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها)

(ق) عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة إن تعاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت الإبل المعلقة التي حبست بالعقال) وهذا مثل ضربه لصاحب القرآن ففيه الحث على تعاهده بكثرة التلاوة والتكرار لئلا ينسى

(ق) عن عبد اللّه بن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي استذكروا القرآن فإنه أشد تفصّيا من صدور الرجال من النعم من عقلها)

وفي رواية لا يقل أحدكم نسيت آية كذا وكذا بل هو نسي.

(قوله بئسما لأحدكم) : أي بئست الحالة حالة من حفظ القرآن ثم غفل عنه حتى نسيه (قوله لا يقل أحدكم نسيت آية كذا وكذا) معناه إنما كره نسبة النسيان إلى النفس لأجل أن اللّه تعالى هو المقدر للأشياء كلها وهو الذي أنساه وإياه.

وقيل أصل النسيان الترك فكره أن يقول تركت القرآن أو قصدت إلى نسيانه ،

وقوله : بل نسي هو بضم النون وتشديد السين وفتح الياء أي عوقب بالنسيان على ذنب صدر منه أو لسوء تعهده القرآن وقوله أشد تفصيا أي خروجا من صدور الرجال وفي معناه تفلتا من الإبل في عقلها أي تخلصا من العقال وهو الحبل الذي تربط به ، عن سعد بن عبادة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلّا لقي اللّه يوم القيامة أجذم). أخرجه أبو داود الأجذم. قيل هو مقطوع اليد ،

وقيل هو مقطوع الحجة

وقيل هو الذي به جذام. عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ، وعرضت على ذنوب أمتي فلم أر فيها ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها) أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث غريب

(ق) عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن ينال بسوء).

أراد بالقرآن المصحف فلا يجوز حمله إلى أرض العدو وهي بلاد الكفار للنهي الوارد فيه ولو كتب كتابا إليهم فيه آية من القرآن فلا بأس بذلك لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كتب إلى هرقل ملك الروم : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ.

عن عمران بن حصين أنه مر على رجل يقرأ ثم سأل فاسترجع ثم قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (من قرأ القرآن فليسأل اللّه به ، فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس) أخرجه الترمذي عن صهيب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه) أخرجه الترمذي وقال ليس إسناده بالقوي. عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة ، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب.

الفصل الثالث في جمع القرآن وترتيب نزوله وفي كونه نزل على سبعة أحرف

(خ) عن زيد بن ثابت قال : بعث إليّ أبو بكر لمقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر إن عمر جاءني فقال : إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في كل المواطن فيذهب من القرآن كثير ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قال قلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال عمر : هو واللّه خير ، فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح اللّه صدري للذي شرح له صدر عمر ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد : فقال لي أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، قد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتتبع القرآن فاجمعه قال زيد : فو اللّه لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن ، فقلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ فقال أبو بكر هو واللّه خير ، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللّه صدري للذي شرح له صدر أبي بكر ،

وفي رواية فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح اللّه صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ، ورأيت في ذلك الذي رأيا.

قال : فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة أو مع أبي خزيمة الأنصاري ، فلم أجدها مع أحد غيره لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر براءة فألحقتها في سورتها.

قال : فكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه اللّه ، ثم عند عمر حياته حتى توفاه اللّه ، ثم عند حفصة بنت عمر.

قال بعض الرواة : اللخاف يعني الخزف

(خ) عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ، فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبد اللّه بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي اللّه عنهم فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

قال ابن شهاب : وأخبرني خارجة بن زيد أنه سمع زيد بن ثابت يقول فقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخت الصحف قد كنت أسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري من المؤمنين رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ فألحقناها في سورتها في المصحف قال في رواية ابن اليمان مع خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شهادته رجلين ، زاد في رواية قال ابن شهاب : اختلفوا يومئذ في التابوت فقال زيد التابوه وقال عبد اللّه بن الزبير وسعيد بن العاص التابوت ، فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال :

اكتبوه التابوت فإنه بلسان قريش.

(شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما) (قوله بعث إلى أبو بكر لمقتل أهل اليمامة) أي لأوان قتلهم وأراد به الوقعة التي كانت باليمامة في زمن أبي بكر الصديق. وهي وقعة الردة مع أصحاب الردة فقتل فيها خلق كثير من قراء القرآن. واليمامة مدينة باليمن على يومين من الطائف وعلى أربعة أيام من مكة ، ولها عمائر وهي في عداد أرض نجد (قوله استحرّ القتل) أي كثر ، وينسب المكروه إلى الحر والمحبوب إلى البرد. وشرح الصدر سعته وقبوله الخير (قوله فتتبعت القرآن جمعه من الرقاع) جمع رقعة ، وهي ما يكتب فيها ، والعسب بضم العين والسين المهملتين جمع عسيب وهو جريد النخل وسعفه ، واللخاف حجارة بيض رقاق واحدته لخفة. (قوله يغازي أهل الشام) أي مع أهل الشام في فتح إرمينية بكسر الهمزة وتخفيف الياء لا غير ، سميت بارمين بن لمطي بن لومن بن يافث بن نوح وهو أول ما نزل بها سميت باسمه وآذربيجان بفتح الهمزة وسكون الذال وغير ذلك في ضبطها. وقال ابن جني فيها خمسة موانع من الصرف : التعريف والتأنيث والعجمة والتركيب والألف والنون ، وهو موضع من بلاد العجم يشتمل على بلاد كثيرة.

(قوله حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة) أو مع أبي خزيمة الأنصاري. وفي الحديث الآخر فقدت آية من سورة الأحزاب إلى قوله فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ الآية فاعلم أن المذكور في الحديث الأول غير المذكور في الحديث الثاني وهما قضيتان ، فأما المذكور في الحديث الأول فهو أبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن عمر بن مالك بن النجار الأنصاري ، شهد بدرا وما بعدها ، وتوفي في خلافة عثمان ، وهو الذي وجدت عنده آخر سورة التوبة ، كذا ذكره ابن عبد البر.

وأما المذكور في الحديث الثاني فهو أبو عمارة خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة الخطمي الأوسي الأنصاري يعرف بذي الشهادتين شهد بدرا ، وما بعدها وقتل يوم صفين مع علي بن أبي طالب.

(قوله فقدت آية من سورة الأحزاب إلى قوله فوجدنا مع خزيمة) معناه أنه كان يطلب نسخ القرآن من الأصل الذي كتب بأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبين يديه فلم يجد تلك الآية إلّا مع خزيمة ، وليس فيه إثبات القرآن بقول الواحد لأن زيدا كان قد سمعها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعلم موضعها من سورة الأحزاب بتعليم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كما صرح به الحديث قد كنت أسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ بها وتتبعه الرجال كان للاستظهار لا لاستحداث علم لأن القرآن العظيم كان محفوظا عند زيد وغيره من الصحابة فقد ثبت في الصحيح عن أنس قال : جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أربعة كلهم من الأنصار أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو زيد وزيد يعني ابن ثابت قلت لأنس من أبو زيد؟ قال أحد عمومتي أخرجاه في الصحيحين اسم أبي زيد سعد بن عبيد. وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (خذوا القرآن من أربعة من ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة قال : حديث حسن صحيح وتقدم حديث زيد بن ثابت وفيه أنه استحرّ القتل بقراء القرآن ، فثبت بمجموع هذه الأحاديث أن القرآن كان على هذا التأليف والجمع في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإنما ترك جمعه في مصحف واحد لأن النسخ كان يرد على بعضه ويرفع الشيء بعد الشيء من التلاوة كما كان ينسخ بعض أحكامه فلم يجمع في مصحف واحد ثم لو رفع بعض تلاوته أدى ذلك إلى الاختلاف واختلاط أمر الدين ، فحفظ اللّه كتابه في القلوب إلى انقضاء زمن النسخ ، ثم وفق لجمعه الخلفاء الراشدين رضي اللّه تعالى عنهم ، وثبت بالدليل الصحيح أن الصحابة إنما جمعوا القرآن بين الدفين كما أنزله اللّه عزّ وجلّ على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم من غير أن زادوا فيه أو نقصوا منه شيئا.

والذي حملهم على جمعه ما جاء مبينا في الحديث وهو أنه كان مفرقا في العسب واللخاف وصدور الرجال فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته ، ففزعوا إلى خليفة رسول رب العالمين صلّى اللّه عليه وسلّم أبي بكر فدعوا إلى جمعه ، فرأى في ذلك رأيهم فأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من جميعهم ، فكتبوا كما سمعوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من غير أن قدموا أو أخروا شيئا ووضعوا له ترتيبا لم يأخذوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يلقن أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل عليه السلام إياه على ذلك ، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية ، تكتب عقب آية كذا في سورة كذا ، فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه ، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على النحو الذي هو في مصاحفنا الآن ، وقد صح في حديث ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام في كل عام مرة في رمضان ، وأنه عرضه في العام الذي توفي فيه مرتين. ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على جبريل عليه السلام ، وهي العرضة التي نسخ فيها ما نسخ وبقي فيها ما بقي.

ولهذا أقام أبو بكر زيد بن ثابت في كتابة المصحف ، وألزمه بها لأنه قرأ على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في العام الذي توفي فيه مرتين فكان جمع القرآن سببا لبقائه في الأمة رحمة من اللّه تعالى لعباده وتحقيقا لوعده في حفظه على ما قال تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ واعلم أن اللّه تعالى أنزل القرآن المجيد من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى سماء الدنيا في شهر رمضان في ليلة القدر ، ثم كان ينزله مفرقا على لسان جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مدة رسالته نحو ما عند الحاجة وحدوث ما يحدث على ما شاء اللّه تعالى وترتيب نزول القرآن غير ترتيبه في التلاوة والمصحف ، فأما ترتيب نزوله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأول ما نزل من القرآن بمكة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. ثم

ن وَالْقَلَمِ ثم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. ثم المدثر. ثم تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ. ثم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. ثم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. ثم وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ثم وَالْفَجْرِ. ثم وَالضُّحى . ثم أَلَمْ نَشْرَحْ ثم وَالْعَصْرِ ثم وَالْعادِياتِ ثم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ثم أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ثم أَرَأَيْتَ الَّذِي ثم قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. ثم الْفِيلِ. ثم قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ. ثم وَالنَّجْمِ. ثم عَبَسَ. ثم سورة القدر. ثم سورة البروج. ثم التين. ثم لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. ثم الْقارِعَةُ. ثم القيامة. ثم الهمزة. ثم المرسلات. ثم ق. ثم سورة البلد. ثم الطَّارِقِ ثم اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ثم ص. ثم الأعراف. ثم الجن. ثم يس. ثم الفرقان. ثم فاطر. ثم مريم. ثم طه. الواقعة. ثم الشعراء ثم النمل ثم القصص. ثم سورة بني إسرائيل. ثم يونس. ثم هود ثم يوسف. ثم الحجر. ثم الأنعام. ثم والصافات. ثم لقمان. ثم سبأ. ثم الزمر.

ثم المؤمن. ثم السجدة. ثم حم عسق. ثم الزخرف. ثم الدخان. ثم الجاثية. ثم الأحقاف. ثم الذاريات. ثم الغاشية. ثم الكهف. ثم النحل. ثم نوح. ثم إبراهيم. ثم الأنبياء. ثم قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. ثم تنزيل السجدة ثم الطور ثم الملك. ثم الحاقة. ثم سَأَلَ سائِلٌ. ثم عَمَّ يَتَساءَلُونَ ثم النازعات. ثم إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ . ثم إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. ثم الروم. ثم العنكبوت ، واختلفوا في آخر ما نزل بمكة فقال ابن عباس العنكبوت وقال الضحاك وعطاء المؤمنين ، وقال مجاهد : ويل للمطففين ، فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بمكة فذلك ثلاث وثمانون سورة على ما استقرت عليه روايات الثقات.

وأما ما نزل بالمدينة فإحدى وثلاثون سورة ، فأول ما نزل بها سورة البقرة. ثم الأنفال. ثم آل عمران. ثم الأحزاب. ثم الممتحنة. ثم النساء. ثم إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ. ثم الحديد. ثم سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. ثم الرعد. ثم سورة الرحمن. ثم هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ. ثم الطلاق. ثم لَمْ يَكُنِ ثم الحشر. ثم الفلق. ثم الناس. ثم إِذا جاءَ نَصْرُ اللّه وَالْفَتْحُ ثم النور. ثم الحج. ثم إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ثم المجادلة. ثم الحجرات. ثم التحريم. ثم الصف. ثم الجمعة. ثم التغابن. ثم الفتح.

ثم التوبة. ثم المائدة. ومنهم من يقدم المائدة على التوبة فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بالمدينة واختلفوا في الشورى فقيل نزلت بمكة

وقيل نزلت بالمدينة ، وسنذكر ذلك في مواضعه إن شاء اللّه تعالى.

فصل في كون القرآن نزل على سبعة أحرف وما قيل في ذلك :

(ق) عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكدت أساوره في الصلاة فتربصت حتى سلم فلببته بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها قال : أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ف

قلت : كذبت فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلقت به أقوده إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت يا رسول اللّه إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أرسله ، اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعه يقرؤها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (هكذا أنزلت) ثم قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم :

(اقرأ يا عمر) فقرأت بقراءتي التي أقرأني فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (هكذا أنزلت) ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه).

(قوله فكدت أساوره في الصلاة) أي أو أثبه وأقاتله وهو في الصلاة والتربص التثبت.

(قوله فلببته بردائه) هو بتشديد الباء الأولى ومعناه أخذت بمجامع ردائه في عنقه وجذبته به مأخوذ من اللبة وفيه بيان ما كانوا عليه من الاعتناء بالقرآن والذب عنه والمحافظة على لفظه كما سمعوه من غير عدول إلى ما تجوزه العربية ،

وأما أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عمر بإرساله فلأنه لم يثبت عنده ما يقتضي تعزيره ، ولأن عمر إنما نسبة إلى مخالفته في القراءة والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يعلم من جواز القراءة ووجوهها ما لا يعلمه عمر ، ولأنه إذا قرأ وهو ملبب لا يتمكن من حضور القلب وتحقيق القراءة تمكن المطلق.

(قوله إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه)

قال العلماء : سبب إنزاله على سبعة أحرف التخفيف والتسهيل ، واختلفوا في المراد بسبعة أحرف فقيل : هو توسعه وتسهيل ولم يقصد به الحصر وقال الأكثرون : هو حصر العدد في سبعة أحرف ثم قيل هي في سبع من المعاني كالوعد والوعيد والمحكم والمتشابه والحلال والحرام والقصص والأمثال والأمر والنهي ،

وقيل : هي في صورة التلاوة وكيفية النطق بكلمات القرآن من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق ومد وقصر وإمالة لأن العرب كانت مختلفة اللغات في هذه الوجوه فيسر اللّه تعالى عليهم ليقرأ كل إنسان بما يوافق لغته ويسهل على لسانه.

وقال أبو عبيدة هي سبع لغات من لغات العرب تميمها ومعدها وهي أفصح لغات العرب وأعلاها ،

وقيل :

هي لغة قريش وهوازن وهذيل وأهل اليمن ،

وقيل : السبعة كلها لمضر وحدها وهي متفرقة في القرآن العزيز غير مجتمعة في كلمة واحدة ،

وقيل : بل هي مجتمعة في بعض الكلمات كقوله تعالى وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ويَرْتَعْ

وَيَلْعَبْ وباعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وبِعَذابٍ بَئِيسٍ

وقيل هي سبع قراءات وهو الصحيح الموافق للحديث لأن هذه السبعة ظهرت واستفاضت عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وضبطها عنه الصحابة وأثبتها عثمان والجماعة في المصاحف وأخبروا بصحتها وحذفوا منها ما لم يثبت متواترا. وإن هذه الأحرف تختلف معانيها تارة وألفاظها أخرى وليست متضادة ولا متباينة.

فأما من قال إن المراد بالأحرف سبعة معان مختلفة كالأحكام والأمثال والقصص فخطأ محض لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أشار إلى جواز القراءة بكل واحد من الحروف وإبدال حرف بحرف وقد تقرر إجماع المسلمين على أنه يحرم إبدال آية أمثال بآية أحكام ، وقول من قال إن المراد خواتيم الآي فيجعل مكان غفور رحيم سميع عليم ففاسد أيضا وخطأ للإجماع على أنه لا يجوز تغيير نظم القرآن واللّه أعلم

(ق) عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (أقرأني جبريل على حرف فراجعته فزادني فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف) معنى الحديث لم أزل أطلب من جبريل أن يطلب من اللّه عزّ وجلّ الزيادة في الأحرف للتوسعة والتخفيف ويسأل جبريل ربه عزّ وجلّ فيزيده حتى انتهى إلى السبعة

(م) عن أبي بن كعب رضي اللّه عنه قال : كنت في المسجد فدخل رجل يصلّي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر ، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه ، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ف

قلت : إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه فدخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقرأ فحسن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية ، فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى اللّه عزّ وجلّ فرقا فقال لي : يا أبي أرسل إليّ أن اقرأ على حرف واحد فرددت إليه أن هوّن على أمتي ، فرد إليّ الثانية أن اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هوّن على أمتي ، فرد إليّ الثالثة أن أقرأه على سبعة أحرف ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها ف

قلت : اللّهم اغفر لأمتي اللّهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم ترغب إلى الناس كلهم حتى إبراهيم.

(قوله فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية) معناه وسوس لي الشيطان تكذيبا للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية لأنه كان في الجاهلية غافلا ومشككا فوسوس له الشيطان الجزم بالتكذيب.

وقيل :

معناه أنه اعترته حيرة ودهشة ونزغ الشيطان في قلبه تكذيبا لم يعتقده وهذه الخواطر إذا لم يستمر عليها الإنسان لا يؤاخذ بها.

(قوله ضرب في صدري ففضت عرقا) قال القاضي عياض : ضربه صلّى اللّه عليه وسلّم في صدره تثبيتا له حين رآه قد غشيه ذلك الخاطر المذموم.

(قوله وكأنما انظر إلى اللّه تعالى فرقا) الفرق بالتحريك الخوف والخشية والمعنى أنه غشيه من الهيبة والخوف والعظمة حين ضربه ما أزال عنه ذلك الخاطر.

(قوله ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها) معناه مسألة مجابة قطعا

وأما باقي الدعوات فمرجوة الإجابة وليست قطعية الإجابة واللّه أعلم. روى البغوي بسنده عن ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : (إن القرآن نزل على سبعة أحرف لكل آية منه ويروي لكل حرف منه ظهر وبطن ولكل حد مطلع) قيل في معناه الظهر لفظ القرآن والبطن تأويله.

وقيل في معناه الظهر ما حدث عن أقوام أنهم عصوا فعوقبوا فهو في الظاهر خبر وفي الباطن عظة.

وقيل الظهر التلاوة باللسان كما أنزل ، والبطن التدبر والتفهم والتفكر بالقلب فالتلاوة باللسان كما تكون بالتعليم والتلقين والتدبر والتفهم تكون بصدق النية وتعظيم الحرمة وإخلاص العمل وطيب المطعم من الحلال المحض.

(قوله ولكل حد مطلع) معناه ، مصعد يصعد إليه من معرفة علمه.

وقيل المطلع الفهم وقد يفتح اللّه تعالى على المتدبر والمتفكر في القرآن العزيز من التأويل والمعاني ما لا يفتحه على غيره (و فوق كل ذي علم عليم) واللّه أعلم.

فصل في معنى التفسير والتأويل

فأما التفسير فأصله في اللغة من الفسر ، وهو كشف ما غطى ، وهو بيان المعاني المعقولة فكل ما يعرف به الشيء ومعناه فهو تفسير. وقد يقال فيما يختص بمفردات الألفاظ وغريبها تفسير.

وقيل هو من التفسرة وهو الدليل الذي ينظر فيه الطبيب فيكشف عن علة المريض فكذلك المفسر يكشف عن معنى الآية وشأنها وقصتها.

وأما التأويل فاشتقاقه من الأول وهو الرجوع إلى الأصل يقال أولته فأول أي صرفته فانصرف ، وهو رد الشيء إلى الغاية والمراد منه بيان غايته المقصودة منه فالتأويل بيان المعاني والوجوه المستنبطة الموافقة للفظ الآية. والفرق بين التفسير والتأويل أن التفسير يتوقف على النقل المسموع والتأويل يتوقف على الفهم الصحيح واللّه أعلم.

القول في الاستعاذة

ولفظها المختار أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم لموافقة

قوله تعالى : فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّه مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ومعنى أعوذ باللّه ألتجئ إليه وأمتنع به مما أخشاه من عاذ يعوذ ، والشيطان أصله من شطن أي تباعد من الرحمة

وقيل من شاط يشيط إذا هلك واحترق غضبا والشيطان اسم لكل عارم عات من الجن والإنس وشيطان الجن مخلوق من قوة النار فلذلك فيه القوة الغضبية الرجيم فعيل بمعنى فاعل أي يرجم بالوسوسة والشر

وقيل بمعنى مفعول أي مرجوم بالشهب عند استراق السمع ،

وقيل مرجوم بالعذاب

وقيل مرجوم بمعنى مطرود عن الرحمة وعن الخيرات وعن منازل الملأ الأعلى.

وأما حكم الاستعاذة ففيه مسائل.

المسألة الأولى : اتفق الجمهور على أن الاستعاذة سنة في الصلاة فلو تركها لم تبطل صلاته سواء تركها عمدا أو سهوا ، ويستحب لقارئ القرآن خارج الصلاة أن يتعوذ أيضا. وحكي عن عطاء وجوبها سواء كانت في الصلاة أو غيرها. وقال ابن سيرين إذا تعوذ الرجل في عمره مرة واحدة كفى في إسقاط الوجوب ، دليل الوجوب ظاهر

قوله تعالى : فَاسْتَعِذْ والأمر للوجوب ، وأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم واظب على التعوذ فيكون واجبا ، ودليل الجمهور أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة وتأخير البيان عن وقته غير جائز. وأجيب عن

قوله تعالى : فَاسْتَعِذْ بأن معناه عند جماهير العلماء إذا أردت القراءة فاستعذ كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة. وأجيب عن مواظبة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأنه صلّى اللّه عليه وسلّم واظب على أشياء كثيرة من أفعال الصلاة ليست بواجبة كتكبيرات الانتقالات والتسبيحات في الصلاة فكان التعوذ مثلها.

المسألة الثانية : وقت الاستعاذة قبل القراءة عند الجمهور سواء كان في الصلاة أو خارجها ، وحكي عن النخعي أنه بعد القراءة ، وهو قول داود وإحدى الروايتين عن ابن سيرين حجة الجمهور ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : (كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر ثم يقول : سبحانك اللّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. ثم يقول : اللّه أكبر كبيرا ، ثم يقول : أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) أخرجه الترمذي وقال هذا الحديث أشهر حديث في الباب وقد تكلم في بعض رجاله وقال أحمد لا يصح ولأبي داود والنسائي عن أبي سعيد نحوه. وعن جبير بن مطعم أنه رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى صلاة قال عمر ولا أدري أي صلاة هي قال : اللّه أكبر كبيرا والحمد للّه كثيرا ثلاثا وسبحان اللّه بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم من نفخة ونفثه وهمزه ، قال نفخه الكبر ونفثه الشعر وهمزه الموتة) أخرجه أبو داود

وقيل الموتة الجنون لأن من جن فقد مات عقله.

وقيل همزه هو الذي يوسوسه في الصلاة ونفخه هو الذي يلقيه من الشبه في الصلاة ليقطع عليه صلاته. ، واحتج مخالف الجمهور بظاهر

قوله تعالى : فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّه وأجيب عنه بما تقدم. وقال مالك : لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام رمضان بعد القراءة. لنا ما تقدم من الأدلة.

المسألة الثالثة : المختار من لفظ الاستعاذة عند الشافعي أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ، وبه قال أبو حنيفة لموافقة

قوله تعالى : فَاسْتَعِذْ بِاللّه مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ولحديث جبير بن مطعم. وقال أحمد الأولى أن يقول أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم جمعا بين هذه الآية وبين

قوله تعالى : فَاسْتَعِذْ بِاللّه إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ولحديث أبي سعيد. وقال الثوري والأوزاعي : الأولى أن يقول : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم إن اللّه هو السميع العليم ، وبالجملة فالاستعاذة تطهر القلب عن كل شيء يشغله عن اللّه تعالى. ومن لطائف الاستعاذة أن قوله أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم إقرار من العبد بالعجز والضعف واعتراف من العبد بقدرة البارئ عزّ وجلّ وأنه هو الغني القادر على دفع جميع المضرات والآفات واعتراف من العبد أيضا بأن الشيطان عدو مبين ، ففي الاستعاذة التجاء إلى اللّه تعالى القادر على دفع وسوسة الشيطان الغوي الفاجر ، وأنه لا يقدر على دفعه عن العبد إلّا اللّه تعالى واللّه أعلم.

سورة الفاتحة

١

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)

وهي سبع آيات بالاتفاق وسبع وعشرون كلمة ومائة وأربعون حرفا. واختلف العلماء في نزولها فقيل نزلت بمكة وهو قول أكثر العلماء.

وقيل نزلت بالمدينة وهو قول مجاهد.

وقيل نزلت مرتين بمكة ومرة بالمدينة وسبب ذلك التنبيه على شرفها وفضلها ولها عدة أسماء وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى وفضله. (فأول ذلك فاتحة الكتاب) سميت بذلك لأن بها افتتح القرآن ، وبها تفتتح كتابة المصاحف ، وبها تفتتح الصلاة. (الثاني سورة الحمد) سميت بذلك لافتتاحها بالحمد للّه (الثالث أم القرآن) وأم الكتاب ، سميت بذلك لأنها أصل القرآن وأم كل شيء أصله ،

وقيل هي إمام لما يتلوها من السور. (الرابع السبع المثاني) سميت بذلك لأنها تثنى في الصلاة ويقرأ بها في كل ركعة ،

وقيل لأن اللّه تعالى استثناها لهذه الأمة وادخرها لهم لم ينزلها على غيرهم

وقيل لأنها أنزلت مرتين (الخامس الوافية) سميت بذلك لأنها لا تقسم في القراءة في الصلاة كما يقسم غيرها من السور (السادس الكافية) سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها في الصلاة ولا يكفي عنها غيرها.

(فصل : في ذكر فضلها)

(خ) عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلم أجبه ، ثم أتيته فقلت يا رسول إلي إني كنت أصلي فقال : ألم يقل اللّه استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم ثم قال لي لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له يا رسول ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قال : الحمد للّه رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ورواه مالك في الموطأ عنه وقال فيه إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نادى أبي بن كعب وهو يصلي وذكر نحوه وفيه حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها ورواه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج على أبيّ وهو يصلي وذكر نحو رواية الموطأ وقال فيه حديث حسن صحيح عن أبيّ بن كعب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما أنزل اللّه في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهو مقسومة بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل) أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الحمد للّه رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني) أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح

(م) عن ابن عباس قال : بينا جبريل قاعد عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سمع نقيصا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته (قوله سمع نقيضا) هو بالقاف والضاد المعجمة أي صوتا كصوت فتح الباب

(م) عن أبي هريرة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج غير تمام) قال فقلت يا أبا هريرة إنا أحيانا نكون وراء الإمام فغمز ذراعي وقال : اقرأ بها في نفسك يا فارسي فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : قال اللّه تبارك وتعالى : (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد الحمد للّه رب العالمين قال اللّه حمدني عبدي ، وإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي ، وإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدني وربما قال فوض إليّ عبدي ، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).

(قوله : فهي خداج) أي ناقصة (قوله : فغمز ذراعي) أي كبس ساعدي بيده. (قوله قسمت الصلاة) أراد بالصلاة هنا القراءة لأنه فسرها بها ولأن القراءة ركن من أركانها وجزء من أجزائها. (قوله : نصفين) حقيقة هذه القسمة التي جعلها بينه وبين عبده راجعة إلى المعنى لا إلى اللفظ لأن هذه السورة من جهة المعنى نصفها ثناء ونصفها مسألة ودعاء وقسم الثناء انتهى عند

قوله تعالى : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ من قسم الدعاء ولهذا قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. (قوله : حمدني عبدي ومجدني) أي أثنى علي لأن الحمد هو الثناء بجميل الفعال والتمجيد الثناء بصفات الجلال

وقيل التحميد والتمجيد التعظيم (قوله : وربما قال فوض إلي عبدي) وجه مطابقة هذا لقوله مالك يوم الدين يقال فلان فوض أمره إلى فلان إذا رده إليه وعول فيه عليه وفي الحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة وأنها متعينة وهو مذهب الشافعي وجماعة وستأتي هذه المسألة إن شاء اللّه تعالى بعد ذكر تفسير الفاتحة ، واللّه أعلم.

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الباء في بسم اللّه حرف خافض يخفض ما بعده مثل من وعن والمتعلق به مضمر محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : أبدأ بسم اللّه أو باسم اللّه أبدأ أو أقرأ ، وإنما طولت الباء في بسم اللّه وأسقطت الألف طلبا للخفة ،

وقيل لما أسقطوا الألف ردوا طولها على الباء ليدل طولها على الألف المحذوفة وأثبتت الألف في

قوله تعالى : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لقلة استعماله

وقيل إنما طولوا الباء لأنهم أرادوا أن يستفتحوا كتاب اللّه بحرف معظم

وقيل الباء حرف منخفض الصورة فلما اتصل باسم اللّه ارتفع واستعلى

وقيل إن عمر بن عبد العزيز كان يقول لكتابه طولوا الباء من بسم اللّه وأظهروا السين ودوروا الميم تعظيما لكتاب اللّه عز وجل. والاسم هو المسمى عينه وذاته قال اللّه تعالى : إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى ثم نادى الاسم فقال يا يحيى وقال سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ، وتَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ وهذا القول ليس بقوي ، والصحيح المختار أن الاسم غير المسمى وغير التسمية ، فالاسم ما تعرف به ذات الشيء ، وذلك لأن الاسم هو الأصوات المقطعة والحروف المؤلفة الدالة على ذات ذلك الشيء المسمى به ، فثبت بهذا أن الاسم غير المسمى وأيضا قد تكون الأسماء كثيرة والمسمى واحد كقوله تعالى : وَللّه الْأَسْماءُ الْحُسْنى . وقد يكون الاسم واحدا والمسميات به كثيرة كالأسماء المشتركة وذلك يوجب المغايرة وأيضا فقوله : فَادْعُوهُ بِها أمر أن يدعي اللّه تعالى بأسمائه فالاسم آلة الدعاء والمدعو هو اللّه تعالى فالمغايرة حاصلة بين ذات المدعو وبين اللفظ المدعو به. وأجيب عن

قوله تعالى : إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى بأن المراد ذات الشخص المعبر عنه بيحيى لا نفس الاسم.

وأجيب عن قوله تعالى سبح اسم ربك وتبارك اسم ربك بأن معنى هذه الألفاظ يقتضي إضافة الاسم إلى اللّه تعالى وإضافة الشيء إلى نفسه محال

وقيل كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى عن النقص فكذلك يجب تنزيه أسمائه وكون الاسم غير التسمية هو أن التسمية عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء ، والاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة والفرق ظاهر. واختلفوا في اشتقاق الاسم فقال البصريون من السمو وهو العلو ، فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر به وعلا عليه ، فكأنه علا على معناه وصار علما له. وقال الكوفيون من السمة وهي العلامة فكأنه علامة لمسماه ، وحجة البصريين لو كان الاسم اشتقاقه من السمة لكان تصغيره وسيم وجمعه أوسام وأجمعوا على أن تصغيره سمي وجمعه أسماء وأسام (اللّه) هو اسم علم خاص للّه تعالى تفرد به الباري سبحانه وتعالى ليس بمشتق ولا يشركه فيه أحد وهو الصحيح المختار دليله

قوله تعالى : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا يعني لا يقال لغيره اللّه ،

وقيل هو مشتق من أله يأله إلاهة مثل عبد الرجل يعبد عبادة دليله (و يذرك وآلهتك) أي وعبادتك ومعناه المستحق للعبادة دون غيره.

وقيل : من الوله وهو الفزع لأن الخلق يولهون إليه أي يفزعون إليه في حوائجهم ، قال بعضهم :

ولهت إليكم في بلايا تنوبني فألفتكم فيها كرائم محتد

وقيل أصله أله ، يقال : ألهت إلى فلان أي سكنت إليه فكأن الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره ،

وقيل أصله ولاه فأبدلت الواو همزة سمي بذلك لأن كل مخلوق وإله نحوه إما بالتخير أو بالإرادة ومن هذا قيل اللّه محبوب كل الأشياء يدل عليه ، (و إن من شيء إلا يسبح بحمده) ومن خصائص هذا الاسم أنك إذا حذفت منه شيئا بقي الباقي يدل عليه فإن حذفت الألف بقي اللّه ، وإن حذفت اللام وأثبت الألف بقي إله ، وإن حذفتهما بقي له وإن حذفت الألف واللامين معا بقي هو والواو عوض عن الضمة. وذهب بعضهم إلى أن هذا الاسم هو الاسم الأعظم لأنه يدل على الذات وباقي الأسماء تدل على الصفات (الرحمن الرحيم) قال ابن عباس : هما اسمان رقيقان

أحدهما أرق من الآخر ، قيل : هما بمعنى مثل ندمان ونديم ومعناهما ذو الرحمة وإنما جمع بينهما للتأكيد ،

وقيل : ذكر

أحدهما بعد الآخر تطميعا لقلوب الراغبين إليه ،

وقيل الرحمن فيه معنى العموم والرحيم فيه معنى الخصوص فالرحمن بمعنى الرزاق في الدنيا وهو على العموم لكافة الخلق المؤمن والكافر والرحيم بمعنى الغفور الكافي للمؤمنين في الآخرة فهو على الخصوص ، ولذلك قيل رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ورحمة اللّه إرادة الخير والإحسان لأهله ،

وقيل هي ترك عقوبة من يستحق العقاب وإسداء الخير والإحسان إلى من لا يستحق فهو على الأول صفة ذات ، وعلى الثاني صفة فعل ،

وقيل الرحمن بكشف الكروب والرحيم بغفر الذنوب ،

وقيل : الرحمن بتبيين الطريق ، والرحيم بالعصمة والتوفيق.

(فصل : في حكم البسملة) وفيه مسألتان :

(الأولى) في كون البسملة الفاتحة وغيرها من السور سوى سورة براءة. اختلف العلماء في ذلك ، فذهب الشافعي وجماعة من العلماء إلى أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة ذكرت في أولها سوى سورة براءة ، وهو قول ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وسعيد بن جبير وعطاء وابن المبارك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وإسحاق ، ونقل البيهقي هذا القول عن علي بن أبي طالب والزهري والثوري ومحمد بن كعب. وذهب الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة إلى أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ، زاد أبو داود ولا من غيرها من السور ، وإنما هي بعض آية في سورة النمل ، وإنما كتبت للفصل والتبرك قال مالك ولا يستفتح بها في الصلاة المفروضة ، وللشافعي قول إنها ليست من أوائل السور مع القطع بأنها من الفاتحة. فأما حجة من منع كون البسملة آية من الفاتحة ومن غيرها فحديث أنس المشهور المخرج في الصحيحين وحديث عائشة قالت : (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد للّه رب العالمين) قالوا ولأن أول ما نزل به جبريل : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ولم يذكر البسملة في أولها فدلّ على أنها ليست منها قالوا ولأن محل القرآن لا يثبت إلا بالتواتر والاستفاضة ولأن الصحابة أجمعوا على عدد كثير من السور منها سورة الملك ثلاثون آية وسورة الكوثر ثلاث آيات وسورة الإخلاص أربع آيات فلو كانت البسملة منها لكانت خمسا.

وأما حجة من ذهب إلى إثباتها في أوائل السور من جهة النقل فقد صح عن أم سلمة (أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية منها) وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في

قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قال هي فاتحة الكتاب قيل فأين السابعة قال بسم اللّه الرحمن الرحيم أخرجهما ابن خزيمة وغيره ، وروى عن ابن عباس :

(أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان لا يعلم فصل السورة

وفي رواية انقضاء السورة حتى ينزل عليه بسم اللّه الرّحمن الرّحيم) أخرجه أبو داود والحاكم أبو عبد اللّه في مستدركه وقال فيه : إنه صحيح على شرط الشيخين.

وروى الدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إذا قرأ تم الحمد للّه فاقرؤوا بسم اللّه الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم اللّه الرحمن الرحيم أحد آياتها) قال الدارقطني في رجال إسناده كلهم ثقات وروى موقوفا ، وروى الدار قطني عن أم سلمة (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين إلى آخرها قطعها آية آية وعدّها عد الأعراب ، وعدّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية ولم يعد عليهم) وأخرج مسلم في أفراده عن أنس قال : (بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين أظهرنا إذ غفا غفوة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول اللّه؟ قال أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الحديث. قال البيهقي : أحسن ما احتج به أصحابنا في أن بسم اللّه الرحمن الرحيم من القرآن وأنها من فواتح السور سوى سورة براءة ما رويناه في جمع الصحابة كتاب اللّه عز وجل في المصاحف وأنهم كتبوا فيها بسم اللّه الرحمن الرحيم على رأس كل سورة سوى سورة براءة فكيف يتوهم متوهم أنهم كتبوا فيها مائة وثلاثة عشر آية ليست في القرآن ، قال وقد علمنا بالروايات الصحيحة عن ابن عباس أنه كان يعد بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من الفاتحة وروى الشافعي بسنده عن ابن عمر أنه كان لا يدع بسم اللّه الرحمن الرحيم لأمّ القرآن والسورة التي بعدها زاد غيره عنه إنه كان يقول لما كتبت في المصحف لم لم تقرأ وروى الشافعي عن ابن عباس أنه كان يفعله ويقول انتزع الشيطان منهم خير آية في القرآن.

وفي أفراد البخاري من حديث أنس (أنه سئل كيف كانت قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال كانت مدّا ثم قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم يمد اللّه ويمد الرحمن ويمد الرحيم) فقد ثبت بهذه الأدلة الصحيحة الواضحة أن البسملة من الفاتحة من كل موضع ذكرت فيه وأيضا فأجمع الصحابة على إثباتها في المصاحف ، وأنهم طلبوا بكتابة المصاحف تجريد كلام اللّه عز وجل المنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قرآنا وتدوينه مخافة من أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه ، ولهذا لم يكتبوا فيه لفظة آمين ، وإن كان قد ورد أنه كان يقولها بعد الفاتحة فلو لم تكن البسملة من القرآن في أوائل السور لما كتبوها وكان حكمها حكم آمين.

(المسألة الثانية في حكم الجهر بالبسملة والإسرار) إذا ثبت بما تقدم من الأدلة أن البسملة آية من الفاتحة ومن غيرها من السور حيث كتبت كان حكمها في الجهر والإسرار حكم الفاتحة فيجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية ويسر بها مع الفاتحة في الصلاة السرية وممن قال بالجهر بالبسملة من الصحابة أبو هريرة وابن عباس وابن عمر وابن الزبير. ومن التابعين فمن بعدهم سعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وعكرمة وعطاء وطاوس ومجاهد وعلي بن الحسين وسالم بن عبد اللّه ومحمد بن كعب القرظي وابن سيرين وابن المنكدر ونافع مولى ابن عمر ويزيد بن أسلم وعمر ومكحول وعمر بن عبد العزيز وعمرو بن دينار ومسلم بن خالد وإليه ذهب الشافعي وهو أحد قولي ابن وهب صاحب مالك ويحكى أيضا عن ابن المبارك وأبي ثور. وممن ذهب إلى الإسرار بها من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعمار بن ياسر وابن مغفل وغيرهم. ومن التابعين فمن بعدهم الحسن والشعبي وإبراهيم النخعي وقتادة والأعمش والثوري وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم.

أما حجة من قال بالجهر فقد روى جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وابن عباس وأنس وعلي بن أبي طالب وسمرة بن جندب وأم سلمة (أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جهر بالبسملة فمنهم من صرح بذلك ومنهم من فهم ذلك من عبارته ولم يرد في صريح الإسرار بها عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلا روايتان إحداهما ضعيفة وهي رواية عبد اللّه بن مغفل والأخرى عن أنس وهي في الصحيح وهي معللة بما أوجب سقوط الاحتجاج بها ، وروى نعيم بن عبد اللّه المجمر قال : (صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ثم قرأ بأم القرآن وذكر الحديث وفيه ثم يقول إذا سلم إني لأشبهكم صلاة برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) أخرجه النسائي وابن خزيمة في صحيحه وقال أما الجهر ببسم اللّه الرّحمن الرحيم فقد ثبت وصح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وروى الدار قطني بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم (كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم اللّه الرحمن الرحيم) وذكر الحديث قال الدار قطني إسناده كلهم ثقات وعن ابن عباس قال كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم) أخرجه الدار قطني وقال ليس في روايته مجروح وأخرجه الحاكم أبو عبد اللّه وقال إسناده صحيح وليس له علة

وفي رواية عن ابن عباس قال : (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يفتتح الصلاة ببسم اللّه الرحمن الرحيم) أخرجه الدار قطني وقال صحيح ليس في إسناده مجروح وأخرجه الترمذي وقال ليس إسناده بذلك قال الشيخ أبو شامة أي لا يماثل إسناده ما في الصحيح ولكن إذا انضم إلى ما تقدم من الأدلة رجح على ما في الصحيح وعن أنس قال : (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يجهر بالقراءة ببسم اللّه الرحمن الرحيم) أخرجه الدار قطني وقال إسناده صحيح وفيه عن محمد بن أبي السري العسقلاني قال : صليت خلف المعتمر بن سليمان ما لا أحصى صلاة الصبح والمغرب ، فكان يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ، وسمعت المعتمر يقول : ما ألوي أن أقتدي بصلاة أنس بن مالك :

وقال أنس بن مالك ما ألوي أن أقتدي بصلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أخرجه الدار قطني وقال : كلهم ثقات. وأخرجه الحاكم أبو عبد اللّه وقال : رواة هذا الحديث عن آخرهم كلهم ثقات

قلت وفي الباب أحاديث وأدلة وإيرادات وأجوبة من الجانبين يطول ذكرها وفي هذا القدر كفاية وباللّه التوفيق.

٢

قوله عز وجل : الْحَمْدُ للّه لفظه خبر كأنه سبحانه وتعالى يخبر أن المستحق للحمد هو اللّه تعالى ، ومعناه الأمر أي قولوا الحمد للّه وفيه تعليم الخلق كيف يحمدونه والحمد والمدح أخوان ،

وقيل بينهما فرق وهو أن المدح قد يكون قبل الإحسان وبعده والحمد لا يكون إلا بعد الإحسان ،

وقيل إن المدح قد يكون منهيا عنه ،

وأما الحمد فمأمور به ، والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة ويكون بمعنى الثناء بجميل الأفعال ، تقول : حمدت الرجل على علمه وكرمه والشكر لا يكون إلا على النعمة ، فالحمد أعم من الشكر ، إذ لا تقول شكرت فلانا على علمه فكل حامد شاكر وليس كل شاكر حامدا ،

وقيل : الحمد باللسان قولا ، والشكر بالأركان فعلا ، والحمد ضد الذم واللام في للّه لام الاستحقاق كقولك الدار لزيد يعني أنه المستحق للحمد لأنه المحسن المتفضل على كافة الخلق على الإطلاق رَبِّ الْعالَمِينَ الرب بمعنى المالك كما يقال رب الدار ورب الشيء أي مالكه ويكون بمعنى التربية والإصلاح ، يقال : رب فلان الضيعة يربها إذا أصلحها فاللّه تعالى ، مالك العالمين ومربيهم ومصلحهم ، ولا يقال الرب للمخلوق معرفا بل يقال رب الشيء مضافا. والعالمين جمع عالم لا واحد له من لفظه ، وهو اسم لكل موجود سوى اللّه تعالى فيدخل فيه جميع الخلق.

وقال ابن عباس : هم الجن والإنس لأنهم المكلفون بالخطاب

وقيل العالم اسم لذوي العلم من الملائكة والجن والإنس ولا يقال للبهائم عالم لأنها لا تعقل. واختلف في مبلغ عددهم فقيل للّه ألف عالم ستمائة عالم في البحر وأربعمائة في البر.

وقيل ثمانون ألف عالم أربعون ألفا في البر ومثلهم في البحر.

وقيل ثمانية عشر ألف عالم الدنيا منها عالم واحد وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء. الفسطاط الخيمة واشتقاق العالم من العلم

٣

وقيل من العلامة ، وإنما سمي بذلك لأنه دال على الخالق سبحانه وتعالى الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فالرحمن هو المنعم بما لا يتصور صدور تلك النعمة من العباد ، والرحيم هو المنعم بما يتصور صدور تلك النعمة من العباد فلا يقال لغير اللّه رحمن ، ويقال لغيره من العباد رحيم.

فإن قلت قد سمي مسيلمة الكذاب برحمان اليمامة وهو قول شاعرهم فيه : وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

قلت هو من باب تعنتهم في كفرهم ومبالغتهم في مدح صاحبهم فلا يلتفت إلى قولهم هذا.

فإن قلت : قد ذكر الرحمن الرحيم في البسملة فما فائدة تكريره هنا مرة ثانية.

قلت : ليعلم أن العناية بالرحمة أكثرها من غيرها من الأمور وأن الحاجة إليها أكثر فنبه سبحانه وتعالى بتكرير ذكر الرحمة على كثرتها وأنه هو المتفضل بها على خلقه.

٤

قوله تعالى : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يعني أنه تعالى صاحب ذلك اليوم الذي يكون فيه الجزاء. والمالك هو المتصرف بالأمر والنهي ،

وقيل : هو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر على ذلك إلا اللّه تعالى.

وقيل : مالك أوسع من ملك لأنه يقال مالك العبد والدابة ولا يقال ملك هذه الأشياء ولأنه لا يكون ملكا لشيء إلا وهو يملكه ، وقد يكون مالكا لشيء ولا يملكه

وقيل ملك أولى ، لأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا

وقيل هما بمعنى واحد مثل فرهين وفارهين ، قال ابن عباس : مالك يوم الدين قاضي يوم الحساب.

وقيل الدين الجزاء ويقع على الخير والشر يقال كما تدين تدان

وقيل هو يوم لا ينفع فيه إلا الدين

وقيل الدين القهر. يقال : دنته فدان أي قهرته فذل.

فإن قلت : لم خص يوم الدين بالذكر مع كونه مالكا للأيام كلها؟

قلت : لأن ملك الأملاك يومئذ زائل فلا ملك ولا أمر يومئذ إلا للّه تعالى كما قال تعالى : الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وقال : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للّه الْواحِدِ الْقَهَّارِ وقد يسمى في دار الدنيا آحاد الناس بالملك وذلك على المجاز لا على الحقيقة.

٥

قوله تعالى : إِيَّاكَ نَعْبُدُ رجع من الخبر إلى الخطاب ، وفائدة ذلك من أول السورة إلى هنا ثناء والثناء في الغيبة أولى. ومن قوله : إياك نعبد دعاء والخطاب في الدعاء أولى.

وقيل فيه ضمير أي قولوا : إياك نعبد والمعنى إياك نخص بالعبادة ونوحدك ونطيعك خاضعين لك. والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل ، وسمي العبد عبدا لذلته وانقياده.

وقيل : العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤدي به الفرض لتعظيم اللّه تعالى ، فقول العبد إياك نعبد معناه لا أعبد أحدا سواك ، والعبادة غاية التذلل من العبد ونهاية التعظيم للرب سبحانه وتعالى لأنه العظيم المستحق للعبادة ولا تستعمل العبادة إلا في الخضوع للّه تعالى لأنه مولى أعظم النعم وهي إيجاد العبد من العدم إلى الوجود ثم هداه إلى دينه فكان العبد حقيقا بالخضوع والتذلل به وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي منك نطلب المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا.

فإن قلت : الاستعانة على العمل إنما تكون قبل الشروع فيه فلم أخر الاستعانة على العبادة وما الحكمة فيه؟

قلت ذكروا فيه وجوها

أحدها أن هذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل ونحن بحمد اللّه نجعل التوفيق والاستطاعة مع الفعل فلا فرق بين التقديم والتأخير.

الثاني أن الاستعانة نوع تعبد فكأنه ذكر جملة العبادة أولا ثم ذكر ما هو من تفاصيلها ثانيا.

الثالث كأن العبد يقول شرعت في العبادة فإني أستعين بك على إتمامها فلا يمنعني من إتمامها مانع.

الرابع إن العبد إذا قال إياك نعبد حصل له الفخر وذلك منزلة عظيمة فيحصل بسبب ذلك العجب فأردف ذلك بقوله وإياك نستعين ليزول ذلك العجب الحاصل بسبب تلك العبادة

٦

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي أرشدنا ،

وقيل ثبتنا ، وهو كما تقول للقائم قم حتى أعود إليك ومعناه دم على ما أنت عليه وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم على الهداية يعني سؤال التثبيت وطلب مزيد الهداية لأن الألطاف والهدايات من اللّه لا تتناهى وهذا مذهب أهل السنّة والصراط الطريق ، قال جرير :

أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم

أي على طريقة حسنة ، قال ابن عباس : هو دين الإسلام ،

وقيل هو القرآن وروى ذلك مرفوعا.

وقيل السنّة والجماعة

٧

وقيل معناه اهدنا صراط المستحقين للجنة صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ هذا بدل من الأول ، أي الذين مننت عليهم بالهداية والتوفيق ، وهم الأنبياء والمؤمنين الذين ذكرهم اللّه تعالى في قوله : فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وقال ابن عباس : هم قوم موسى وعيسى الذين لم يغيّروا ولم يبدلوا

وقيل هم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأهل بيته غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يعني غير صراط الذين غضبت عليهم. والغضب في الأصل هو ثوران دم القلب لإرادة الانتقام ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه) وإذا وصف اللّه به فالمراد منه الانتقام فقط دون غيره وهو انتقامه من العصاة وغضب اللّه لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين وَلَا الضَّالِّينَ أي وغير الضالين عن الهدى وأصل الضلال الغيبوبة والهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه وهلك

وقيل غير المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى. عن عدي بن حاتم عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال) أخرجه الترمذي ، وذلك لأن اللّه تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال : مَنْ لَعَنَهُ اللّه وَغَضِبَ عَلَيْهِ وحكم على النصارى بالضلال فقال : وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ

وقيل : غير المغضوب عليهم بالبدعة ولا الضالين عن السنّة واللّه أعلم.

(فصل : في آمين وحكم الفاتحة) وفيه مسألتان : الأولى :

السنّة للقارئ بعد فراغه من الفاتحة أن يقول آمين مفصولا عنها بسكتة ، وهو مخفف وفيه لغتان المد والقصر قال في المد : ويرحم اللّه عبدا قال آمينا. وقال في القصر : آمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا. ومعنى آمين اللّهم اسمع واستجب. وقال ابن عباس : معناه كذلك يكون.

وقيل : هو اسم من أسماء اللّه تعالى

وقيل هو خاتم اللّه تعالى على عباده به يدفع عنهم الآثام

(ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) قال ابن شهاب : وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول آمين

وفي رواية للبخاري (أن الإمام إذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه).

(قوله : فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة). معناه وافقهم في وقت التأمين فأمن مع تأمينهم ،

وقيل : وافقهم في الصفة والخشوع والإخلاص و

القول الأول هو الصحيح. واختلفوا في هؤلاء الملائكة فقيل هم الحفظة

وقيل غيرهم من الملائكة.

(قوله غفر له ما تقدم من ذنبه) : يعني تغفر له الذنوب الصغائر دون الكبائر وقول ابن شهاب : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول آمين معناه أن هذه صيغة تأمينه صلّى اللّه عليه وسلّم.

المسألة الثانية في حكم الفاتحة : اختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة فذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى وجوب الفاتحة وأنها متعينة في الصلاة ولا تجزئ إلا بها ، واحتجوا بما روى عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) أخرجاه في الصحيحين وبحديث أبي هريرة : (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام) الحديث وقد تقدم في فضل سورة الفاتحة وذهب أبو حنيفة إلى أن الفاتحة لا تتعين على المصلي بل الواجب عليه قراءة آية من القرآن طويلة أو ثلاث آيات قصار واحتج بقوله تعالى : فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وبقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث الأعرابي المسيء صلاته (ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن) أخرجاه في الصحيحين دليل الجمهور ما تقدم من الأحاديث. فإن قيل المراد من الحديث لا صلاة كاملة قلنا هذا خلاف ظاهر لفظ الحديث ومما يدل عليه حديث أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) أخرجه الدار قطني وقال إسناده صحيح وعنه (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمره أن يخرج فينادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد) أخرجه أبو داود. وأجيب عن حديث الأعرابي بأنه محمول على الفاتحة فإنها متيسرة أو على ما زاد على الفاتحة أو على العاجز عن قراءة الفاتحة ، واللّه أعلم.

﴿ ٠