٥

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)

قوله عز وجل : الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إنما كرر إحلال الطيبات للتأكيد كأنه قال : اليوم أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها ويحتمل أن يراد باليوم ، اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية أو اليوم الذي تقدم ذكره في قوله : اليوم يئس الذي كفروا من دينكم اليوم أكملت لكم دينكم. ويكون الغرض من ذكر هذا الحكم ، أنه تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، فبين أنه كما أكمل الدين وأتم النعمة ، فكذلك أتم النعمة بإحلال الطيبات.

وقيل : ليس المراد باليوم يوما معينا وقد تقدم الكلام في ذلك اليوم وفي معنى الطيبات في الآية المتقدمة.

وقوله تعالى : وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ يعني وذبائح أهل الكتاب حل لكم وهم اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم. فأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم وهم متنصروا العرب من بني تغلب فلا تحل ذبيحته.

روي عن علي بن أبي طالب قال : لا تأكل من ذبائح نصارى العرب بني تغلب فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر. وبه قال ابن مسعود. ومذهب الشافعي : أن من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن ، فإنه لا تحل ذبيحته.

سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس به. ثم قرأ : ومن يتولهم منكم ، فإنه منهم وهذا

________

(١) قوله وسيأتي بيان هذه المسألة إلخ لم يتعرض لما ذكره هنا عند الآية الآتية في سورة الأنعام ا ه مصححه.

قول الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى مثل هذا مذهب الشافعي.

وأجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له ، وأجمعوا على أن المراد بطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم خاصة لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح فحمل هذه الآية عليه أولى ولأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره ، وإنما تختلف الذكاة ، فلما خص أهل الكتاب بالذكر دل على أن المراد بطعامهم وذبائحهم واختلف العلماء فيما لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم اللّه فقال ابن عمر : لا يحل ذلك وهو قول ربيعة وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل. سئل الشعبي وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح فقال : يحل فإن اللّه قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.

وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي والنصراني وذكر غير اسم اللّه وأنت تسمع فلا تأكل وإذا غاب عنك فكل فقد أحله اللّه لك وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا وإن ذكروا غير اسم اللّه فيكون هذا ناسخا لقوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ ، وليس الأمر كذلك ولا نسخ لأن الأصل أنهم يذكرون اللّه عند الذبح فيحمل أمرهم على هذا فإن تيقنا أنهم ذبحوا على غير اسم اللّه لم تأكل ولا وجه للنسخ.

وقوله تعالى : وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ يعني أن ذبائحنا لهم حلال وهذا يدل على أنهم مخاطبون بشريعتنا.

وقال الزجاج : معناه ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم فجعل الخطاب للمؤمنين على معنى أن التحليل يعود إلى إطعامنا إياهم لا إليهم لأنه لا يمتنع أن يحرم اللّه تعالى أن تطعمهم من ذبائحنا.

وقيل : إن الفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة من الجانبين وإباحة الذبائح كانت حاصلة من الجانبين لا جرم ذكر اللّه تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين ثم قال تعالى : وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ قال مجاهد : هن الحرائر فعلى هذا القول لا تدخل الأمة المؤمنة في هذا التحليل ومن أجاز نكاحهن أجازه بشرطين : خوف العنت ، وعدم طول الحرة.

وقال ابن عباس : المحصنات : العفائف. فعلى هذا القول لا يحل نكاح الزانية لأنها لم تدخل في هذا التحليل وأباح العلماء نكاحها إذا تابت وحسنت توبتها.

روى طارق بن شهاب أن رجلا أراد أن يزوج أخته فقالت : إني أخشى أن أفضحك إني قد بغيت فأتى عمر فذكر ذلك له منها فقال : أليس قد تابت؟ قال : بلى. قال : فزوجها.

وقيل : إنما خص المحصنات بالذكر وهن الحرائر أو العفائف ليحث المؤمنين على تخير النساء ليكون الولد كريم الأصل من الطرفين.

وقوله تعالى : وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني وأحل لكم المحصنات من أهل الكتاب اليهود والنصارى. قال ابن عباس : يعني الحرائر من أهل الكتاب. وقال الحسن والشعبي والنخعي والضحاك : يريد العفائف من أهل الكتاب فعلى قول ابن عباس : لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية وهو مذهب الشافعي قال : لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان ، الكفر ، والرق. وعلى قول الحسن ومن وافقه ، يجوز التزويج بالأمة الكتابية وهو مذهب أبي حنيفة لعموم هذه الآية. واختلف العلماء في حكم هذه المسألة فذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التزويج بالذميات من اليهود والنصارى. روي أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية وأن طلحة بن عبيد اللّه تزوج يهودية وروي عن ابن عمر كراهية ذلك ويحتج

بقوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وكان يقول : لا أعلم شركا أعظم من قولها إن ربها عيسى وأجاب الجمهور عن قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن بأنه عام خص بهذه الآية فأباح اللّه تعالى المحصنات من أهل الكتاب وحرم من سواهن من أهل الشرك وقال سعيد بن المسيب والحسن : يجوز التزويج بالذميات والحربيات من أهل الكتاب لعموم

قوله تعالى : وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وأجاب جمهور العلماء بأن ذلك مخصوص بالذميات دون الحربيات من أهل الكتاب.

قال ابن عباس : من نساء أهل الكتاب من تحل لنا ومنهن من لا تحل لنا. وقرأ : قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والمراد بهم أهل الذمة دون أهل الحرب من أهل الكتاب.

وقوله تعالى : إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن وهو العوض الذي يبذله الزوج للمرأة مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ يعني متعففين بالتزوج غير زانين وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ يعني ولا منفردين ببغي واحدة قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها وحده حرم اللّه الجماع على جهة السفاح وهو الزنا واتخاذ الصديق وهو الخدن وأحله على جهة الإحصان وهو التزويج بعقد صحيح وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ يعني ومن يجحد ما أمر اللّه به من توحيده ونبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به من عند اللّه فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ يعني فقد بطل ثواب عمله الذي كان عمله في الدنيا وخاب وخسر في الدنيا والآخرة.

وقيل في معنى الآية ، ومن يكفر بشرائع الإيمان وتكاليفه فقد خاب وخسر وقال قتادة ذكر لنا إن ناسا من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم؟ يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا ، فأنزل اللّه تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.

وقيل : لما أباح اللّه تعالى نكاح الكتابيات ، قلن فيما بينهن لولا أن اللّه قد رضي أعمالنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، فأنزل اللّه هذه الآية والمعنى أن تزوج المسلمين إياهن ليس بالذي يخرجهن من الكفر.

وقيل : إن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة بإباحة ذبائحهم ونكاح نسائهم إلا أن ذلك غير حاصل لهم في الآخرة ، لأن كل من كفر باللّه وجحد نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.

وقيل : إن من أحل ما حرم اللّه أو حرم ما أحل اللّه أو جحد بشيء مما أنزل اللّه فقد كفر باللّه وحبط عمله المتقدم وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ إذا مات على ذلك وهذا الشرط لا بد منه لأنه إذا تاب وآمن قبل الموت قبلت توبته وصح إيمانه.

﴿ ٥