| ٨٩قوله تعالى : لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ قال ابن عباس : (لما نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم- قالوا يا رسول اللّه كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها وكانوا قد حلفوا على ما اتفقوا عليه فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم) وقد تقدم تفسير اللغو في الأيمان في سورة البقرة وقوله تعالى : وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ يعني ولكن يؤاخذكم بما تعمدتم وقصدتم به اليمين ومنه قول الفرزدق : ولست بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم وفي الآية حذف تقديره ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم فحذفه لأنه معلوم عند السامعين فَكَفَّارَتُهُ يعني فكفارة إيمانكم التي عقدتموها إذا حنثتم إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يعني من أقصد ذلك لأن من الناس من يسرف في إطعام أهله ومنهم من يقتر عليهم فأمر اللّه بالعدل في أداء الكفارة. وقيل : أراد بالأوسط في القيمة فلا يكون غالبا من أعلى الموجود ولا خسيس الثمن من أردأ الموجود بل الوسط في القيمة وقيل أراد بالأوسط الأفضل قال ابن عباس : كل شيء في كتاب اللّه أوسط فهو أفضل فعلى هذا يكون المعنى من خير ما تطعمون أهليكم وأفضله أَوْ كِسْوَتُهُمْ هو معطوف على محل أوسط أي كما تطعمون المساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم فكذلك فاكسوهم من أوسط الكسوة أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يعني عتق رقبة والمراد جملة الشخص. ( (فصل في حكم الآية وفيه مسائل)) المسألة الأولى : في بيان الكفارة وهي أربعة أنواع : النوع الأول : من الكفارة الإطعام فيجب إطعام عشرة مساكين واختلفوا في قدر ما يطعم لكل مسكين فذهب قوم إلى أنه يطعم لكل مسكين مد من الطعام بمد النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو رطل وثلث بالبغدادي من غالب قوت البلد وكذلك سائر الكفارات وهذا قول ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسليمان بن يسار وعطاء والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي ويروى عن عمر وعلي وعائشة أنه يطعم لكل مسكين مدان من بر وهو نصف صاع وبه قال أهل العراق. وقال أبو حنيفة : إن أطعم من الحنطة فنصف صاع وإن أطعم من غيرها فصاع وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد. وقال أحمد بن حنبل : يطعم لكل مسكين مد من البر أو نصف صاع من غيرها مثل التمر والشعير : ومن شرط الإطعام تمليك الطعام للمساكين فلو عشاهم وغداهم لم يجزه وقال أبو حنيفة : يجزيه ذلك ولا يجوز إخراج القيمة في الكفارة كالدراهم والدنانير. وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك ولا إخراج الدقيق والخبز في الكفارة بل يجب إخراج الحب ، وجوّزه أبو حنيفة ولا يجوز صرف الكل إلى مسكين واحد في عشرة أيام. النوع الثاني : من الكفارات الكسوة واختلف العلماء في قدرها فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوبا واحدا مما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو عمامة أو سراويل أو كساء ونحو ذلك وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء وطاوس وإليه ذهب الشافعي. وقال مالك : يجب أن يكسو كل مسكين ما تجوز به الصلاة فيكسو الرجل ثوبا والمرأة ثوبين درعا وخمارا. وقال أحمد : للرجال ثوبا وللمرأة ثوبين درعا وخمارا وهو أدنى ما يجزى في الصلاة وقال ابن عمر : يجب قميص وإزار ورداء. وقال أبو موسى الأشعري : يجب ثوبان وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين وقال إبراهيم النخعي : يجب ثوب جامع كالملحفة. النوع الثالث : من الكفارات العتق فيجب إعتاق رقبة مؤمنة وكذلك يجب في جميع الكفارات وأجاز أبو حنيفة والثوري إعتاق الرقبة الكافرة في جميع الكفارات إلا كفارة القتل فإن اللّه قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل ومذهب الشافعي أن المطلق يحمل على المقيد ولا يجوز إعتاق المرتد في الكفارات بالإجماع ويشترط أن تكون الرقبة سليمة الرق حتى لو أعتق في الكفارة مكاتبا أو أم ولد أو عبدا اشتراه بشرط العتق أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه فكل هؤلاء لا يجزى في إعتاق الكفارة وجوز أصحاب الرأي عتق المكاتب في الكفارة إذا لم يؤد من نجوم الكتابة شيئا وجوزوا عتق القريب في الكفارة ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل فلا يجزى مقطوع اليد أو الرجل ولا الأعمى ولا الزمن ولا المجنون المطبق ويجوز عتق الأعور والأصم ومقطوع الأذنين والأنف لأن هذه العيوب كلها لا تضر بالعمل وعند أبي حنيفة كل عيب يفوت جنسا من المنفعة يمنع الجواز فيجوز عتق مقطوع إحدى اليدين ولا يجوز عتق مقطوع الأذنين في الكفارة. النوع الرابع : من الكفارات الصوم وهو قوله تعالى : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يعني الكفارة فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يعني فإذا عجز من لزمته كفارة اليمين عن الإطعام أو الكسوة أو العتق وجب عليه صيام ثلاثة أيام وهو قوله تعالى : فصيام ثلاثة أيام ، يعني فعليه صيام ثلاثة أيام. قال الشافعي : إذا كان عنده قوته أو قوته عياله يومه وليلته وفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام وإن لم يكن عنده هذا القدر جاز له الصيام. وقال أبو حنيفة : يجوز له الصيام إذا لم يكن عنده من المال ما تجب فيه الزكاة فجعل من لا زكاة عليه عادما. وقال الحسن : إذا لم يجد درهمين صام. وقال سعيد بن جبير : ثلاثة دراهم. واختلفوا في وجوب التتابع في الصيام عن كفارة اليمين على قولين : أحدهما : أنه يجب التتابع فيه قياسا على كفارة الظهار والقتل وهو قول ابن عباس ومجاهد وطاوس وعطاء وقتادة وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وأحد قولي الشافعي والقول الثاني : لا يجب التتابع في كفارة اليمين فإن شاء تابع وإن شاء فرق والتتابع أفضل وبه قال الحسن ومالك وهذا القول الثاني للشافعي. المسألة الثانية : كلمة أو للتخيير بين الإطعام والكسوة والعتق فإن شاء أطعم وإن شاء كسا وإن شاء أعتق فبأيها أخذ المكفر فقد أصاب وخرج عن العهدة. المسألة الثالثة : لا يجوز صرف شيء من الكفارات إلا إلى مسلم حر محتاج فلو صرف إلى ذمي أو عبد أو غني لا يجزيه. وجوز أبو حنيفة صرفها إلى أهل الذمة واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز. المسألة الرابعة : اختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث فذهب قوم إلى جوازه لما روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (من حلف على يمينه فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير) أخرجه الترمذي (ق) عن عبد الرحمن بن سمرة. قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة فإنها إن أتتك عن مسألة وكلت إليها وإن أتتك من غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفّر عن يمينك) وهذا قول عمر وابن عباس وعائشة وعامة الفقهاء وبه قال الحسن وابن سيرين وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي. إلا أن الشافعي قال : إن كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز لأنه بدني إنما يجوز الطعام أو الكسوة أو العتق. وقال أبو حنيفة : لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث وقوله ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الإطعام أو الكسوة أو العتق أو الصوم عند العجز كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ يعني : وحنثتم ، لأن الكفارة لا تجب بمجرد اليمين إنما تجب بالحنث بعد اليمين وفيه إشارة إلى تقديم الكفارة على اليمين لا يجوز ، بل بعد اليمين وقبل الحنث كما تقدم وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ يعني قللوا أيمانكم ففيه النهي عن كثرة الحلف ومنه قول الشاعر : قليل الألايا حافظ ليمينه وصفه بأنه لا يحلف وقيل في معنى الآية : واحفظوا أيمانكم عن الحنث إذا حلفتم لئلا تحتاجوا إلى التكفير وهذا إذا لم يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه فإن حلف على ذلك فالأفضل ، بل الأولى أن يحنث نفسه ويكفر لما روي عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (إني واللّه إن شاء اللّه لا أحلف على يمين فأرى غيرها خير منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) أخرجاه في الصحيحين قوله تعالى : كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ يعني كما بيّن لكم كفارة أيمانكم إذا حنثتم كذلك يبين لكم جميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني نعمه التي أنعم بها عليكم أن بيّن لكم آياته ومعالم شريعته. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) | 
﴿ ٨٩ ﴾