١٦

١٧

أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها يعني وبطل ما عملوا في الدنيا من أعمال البر وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأنه لغير اللّه واختلف المفسرون في المعنى بهذه الآية فروى قتادة عن أنس أنها في اليهود والنصارى وعن الحسن مثله ، وقال الضحاك : من عمل عملا صالحا في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك أجرا في الدنيا وهو أن يصل رحما أو يعطي سائلا أو يرحم مضطرا أو نحو هذا من أعمال البر فيجعل اللّه له ثواب عمله في الدنيا يوسع عليه في المعيشة والرزق ويقر عينه فيما خوله ويدفع عنه المكاره في الدنيا وليس له في الآخرة نصيب ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار الآية وهذه حالة الكافر في الآخرة

وقيل نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الغنائم لأنهم كانوا لا يرجون ثواب الآخرة

وقيل إن حمل الآية على العموم أولى فيندرج الكافر والمنافق الذي هذه صفته والمؤمن الذي يأتي بالطاعات وأعمال البر على وجه الرياء والسمعة قال مجاهد في هذه الآية هم أهل الرياء وهذا القول مشكل لأن

قوله سبحانه وتعالى أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لا يليق بحال المؤمن إلا إذا قلنا إن تلك الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة لما كانت لغير اللّه استحق فاعلها الوعيد الشديد وهو عذاب النار ويدل على هذا ما روي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول قال اللّه تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه أخرجه مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (من تعلم علما لغير اللّه أو أراد به غير اللّه فليتبوأ مقعده من النار) أخرجه الترمذي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (من

تعلم علما مما يبتغي به وجه اللّه لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) يعني ريحها أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (تعوذوا باللّه من جب الحزن قالوا يا رسول اللّه وما جب الحزن قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم ألف مرة قيل يا رسول اللّه من يدخله قال القراء المراؤون بأعمالهم) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قال البغوي وروينا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما الشرك الأصغر قال الرياء) أخرجه بغير سند والرياء هو أن يظهر الإنسان الأعمال الصالحة ليحمده الناس عليها أو ليعتقدوا فيه الصلاح أو ليقصدوه بالعطاء فهذا العمل هو الذي لغير اللّه نعوذ باللّه من الخذلان قال البغوي

وقيل هذا في الكفار يعني قوله من كان يريد الحياة وزينتها أما المؤمن فيريد الدنيا والآخرة وإرادته الآخرة غالبة فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة وروينا عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (إن اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة

وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا) أخرجه البغوي بغير سند.

قوله سبحانه وتعالى : أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ لما ذكر اللّه سبحانه وتعالى : في الآية المتقدمة الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر في هذه الآية من كان يريد بعمله وجه اللّه تعالى والدار الآخرة فقال سبحانه وتعالى أفمن كان على بينة من ربه أي كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار وإنما حذف هذا الجواب لظهوره ودلالة الكلام عليه

وقيل معناه أفمن كان على بينة من ربه وهو النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه كمن هو في ضلالة وكفر والمراد بالبينة الدين الذي أمر اللّه به نبيه صلى اللّه عليه وسلم

وقيل المراد بالبينة اليقين يعني أنه على يقين من ربه أنه على الحق وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يعني ويتبعه من يشهد له بصدقه واختلفوا في الشاهد من هو ، فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد وعكرمة والضحاك وأكثر المفسرين : أنه جبريل عليه السلام يريد أن جبريل يتبع النبي صلى اللّه عليه وسلم ويؤيده ويسدده ويقويه وقال الحسن وقتادة هو لسان النبي صلى اللّه عليه وسلم وروي عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي يعني علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى : عنه أنت التالي؟ قال : وما تعني بالتالي؟

قلت :

قوله سبحانه وتعالى ويتلوه شاهد منه قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ووجه هذا القول إن اللسان لما كان يعرف

عما في الجنان ويظهره جعل كالشاهد له لأن اللسان هو آلة الفصل والبيان وبه يتلى القرآن وقال مجاهد الشاهد هو ملك يحفظ النبي صلى اللّه عليه وسلم ويسدده وقال الحسين بن الفضل : الشاهد هو القرآن لأن إعجازه وبلاغته وحسن نظامه يشهد للنبي صلى اللّه عليه وسلم بنبوته ولأنه أعظم معجزاته الباقية على طول الدهر ، وقال الحسين بن علي وابن زيد : الشاهد منه هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ووجه هذا القول أن من نظر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بعين العقل والبصيرة علم أنه ليس بكذاب ولا ساحر ولا كاهن ولا مجنون ، وقال جابر بن عبد اللّه قال علي بن أبي طالب : ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان فقال له رجل وأنت أي آية نزلت فيك فقال على ما تقرأ الآية التي في هود ويتلوه شاهد منه فعلى هذا القول يكون الشاهد علي بن أبي طالب وقوله يعني من النبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد تشريف هذا الشاهد وهو علي لاتصاله بالنبي صلى اللّه عليه وسلم

وقيل يتلوه شاهد منه يعني الإنجيل وهو اختيار الفراء والمعنى أن الإنجيل يتلو القرآن في التصديق بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم والأمر بالإيمان به وإن كان قد نزل قبل القرآن.

وقوله سبحانه وتعالى : وَمِنْ قَبْلِهِ يعني ومن قبل نزول القرآن وإرسال محمد صلى اللّه عليه وسلم كِتابُ مُوسى يعني التوراة إِماماً وَرَحْمَةً يعني أنه كان إماما لهم يرجعون إليه في أمور الدين والأحكام والشرائع وكونه رحمة لأنه الهادي من الضلال وذلك سبب حصول الرحمة

وقوله تعالى : أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني أن الذين وصفهم اللّه بأنهم على بينة من ربهم هم المشار إليهم بقوله أولئك يؤمنون به يعني بمحمد صلى اللّه عليه وسلم

وقيل أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وأصحابه وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ يعني بمحمد صلى اللّه عليه وسلم مِنَ الْأَحْزابِ يعني من جميع الكفار وأصحاب الأديان المختلفة فتدخل فيه اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وغيرهم والأحزاب الفرق الذين تحزبوا وتجمعوا على مخالفة الأنبياء فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يعني في الآخرة روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (و الذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) قال سعيد بن جبير : ما بلغني حديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب اللّه عز وجل حتى بلغني هذا الحديث لا يسمع بي أحد من هذه الأمة الحديث ، قال سعيد : فقلت أين هذا في كتاب اللّه حتى أتيت على هذه الآية وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إلى

قوله سبحانه وتعالى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ قال فالأحزاب أهل الملل كلها ثم قال سبحانه وتعالى : فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فيه قولان

أحدهما أن معناه فلا تك في شك من صحة هذا الدين ومن كون القرآن نازلا من عند اللّه فعلى هذا القول يكون متعلقا بما قبله من

قوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ والقول

الثاني : إنه راجع إلى قوله وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يعني فلا تك في شك من أن النار موعد من كفر من الأحزاب والخطاب في قوله فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ للنبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد به غيره لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يشك قط ويعضد هذا القول سياق الآية وهو

قوله سبحانه وتعالى : وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ يعني لا يصدقون بما أوحينا إليك أو من أن موعد الكفار النار.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠)

﴿ ١٦