٣٩

٤٢

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ يريد يا صاحبيّ في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول يا سارق الليلة لأن الليلة مسروق فيها غير مسروقة ويجوز أن يريد يا ساكني السجن كقوله أصحاب النار وأصحاب الجنة أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ يعني أآلهة شتى من ذهب وفضة وصفر وحديد وخشب وحجارة وغير ذلك وصغير وكبير ومتوسط متباينون في الصفة وهي مع ذلك لا تضر ولا تنفع خَيْرٌ أَمِ اللّه الْواحِدُ الْقَهَّارُ يعني أن هذه الأصنام أعظم صفة في المدح واستحقاق اسم الإلهية والعبادة أم اللّه الواحد القهار ، قال الخطابي : الواحد هو الفرد الذي لم يزل وحده

وقيل هو المنقطع عن القرين والمعدوم الشريك والنظير وليس هو كسائر الآحاد من الأجسام المؤلفة لأن ذلك قد يكثر بانضمام بعضها إلى بعض والواحد ليس كذلك فهو اللّه الواحد الذي لا مثل له ولا يشبهه شيء من خلقه القهار ، قال الخطابي : القهار هو الذي قهر الجبابرة من خلقه بالعقوبة وقهر الخلق كلهم بالموت ، وقال غيره : القهار هو الذي قهر كل شيء وذللّه فاستسلم وانقاد وذل له ، والمعنى أن هذه الأصنام التي تعبدونها ذليلة مقهورة إذ أراد الإنسان كسرها وإهانتها قدر عليه واللّه هو الواحد في ملكه القهار لعباده الذي لا يغلبه شيء وهو الغالب لكل شيء سبحانه وتعالى ثم بين عجز الأصنام وأنها لا شيء البتة فقال ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ يعني من دون اللّه وإنما قال تعبدون بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالتثنية في المخاطبة لأنه أراد جميع من في السجن من المشركين إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها يعني سميتموها آلهة وأربابا وهي حجارة جمادات خالية عن المعنى لا حقيقة لها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ يعني من قبلكم سموها آلة ما أَنْزَلَ اللّه بِها مِنْ سُلْطانٍ يعني أن تسمية الأصنام آلهة لا حجة لكم بها ولا برهان ولا أمر اللّه بها وذلك أنهم كانوا يقولون إن اللّه أمرنا بهذه التسمية فرد اللّه

عليهم بقوله : ما أَنْزَلَ اللّه بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للّه يعني أن الحكم والقضاء والأمر والنهي للّه تعالى لا شريك له في ذلك أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأنه هو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي سميتموها آلهة ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني عبادة اللّه هي الدين المستقيم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك.

ولما فرغ يوسف عليه الصلاة والسلام من الدعاء إلى اللّه وعبادته رجع إلى تعبير رؤياهما فقال يا صاحِبَيِ

السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً يعني أن صاحب شراب الملك يرجع إلى منزلته ويسقي الملك خمرا كما كان يسقيه أولا والعناقيد الثلاثة هي ثلاثة أيام يبقي في السجن ثم يدعو به الملك ويرده إلى منزلته التي كان عليها

وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ يعني صاحب طعام الملك والسلال الثلاث ثلاثة أيام ثم يعدو به الملك فيصلبه فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قال ابن مسعود رضي اللّه عنه فلما سمعا قول يوسف عليه الصلاة والسلام قالا ما رأينا شيئا إنما كنا نلعب قال يوسف قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ يعني فرغ من الأمر الذي سألتما عنه ووجب حكم اللّه عليكما بالذي أخبرتكما به رأيتما شيئا أم لم تريا وَقالَ يعني يوسف لِلَّذِي ظَنَّ يعني علم وتحقق فالظن بمعنى العلم أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا يعني ساقي الملك اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعني سيدك وهو الملك الأكبر فقل له إن في السجن غلاما محبوسا مظلوما طال حبسه فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ في هاء الكناية في فأنساه إلى من تعود قولان :

أحدهما : إنها ترجع إلى الساقي وهو قول عامة المفسرين والمعنى فأنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك قالوا لأن صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل الساقي حتى أنساه ذكر يوسف أولى من صرفها إلى يوسف.

والقول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين أن هاء الكناية ترجع إلى يوسف ، والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه عز وجل حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بمخلوق مثله في دفع الضرر وتلك غفلة عرضت ليوسف عليه السلام فإن الاستعانة بالمخلوق في دفع الضرر جائزة إلا أنه لما كان مقام يوسف أعلى المقامات ورتبته أشرف المراتب وهي منصب النبوة والرسالة لا جرم صار يوسف مؤاخذا بهذا القدر فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

فإن قلت كيف تمكن الشيطان من يوسف حتى أنساه ذكر ربه.

قلت بشغل الخاطر وإلقاء الوسوسة فإن قد صح في الحديث (إن الشيطان يجري ن ابن آدم مجرى الدم) فأما النسيان الذي هو عبارة عن ترك الذكر وإزالته عن القلب بالكلية فلا يقدر عليه.

وقوله سبحانه وتعالى : فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.

اختلفوا في قدر البضع فقال مجاهد هو ما بين الثلاث إلى السبع وقال قتادة : هو ما بين الثلاث إلى التسع ، وقال ابن عباس هو ما دون العشرة وأكثر المفسرين على أن البضع في هذه الآية سبع سنين وكان يوسف قد لبث قبلها في السجن خمس سنين فجملة ذلك اثنتا عشرة سنة وقال وهب : أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين.

وقال مالك بن دينار : لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قال له يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال يا رب أنسى قلبي ذكرك كثرة البلوى فقلت كلمة قال الحسن قال النبي صلى اللّه عليه وسلم (رحم اللّه يوسف لولا كلمته التي قالها ما لبث في السجن ما لبث) يعني قوله اذكرني عند ربك ثم بكى الحسن وقال نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس ذكره الثعلبي مرسلا وبغير سند

وقيل إن جبريل دخل على يوسف في السجن فلما رآه يوسف عرفه فقال له يوسف يا أخا المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين فقال له جبريل يا طاهر بن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين ويقول لك ما استحييت مني أن استغثت بالآدميين فوعزتي وجلالي لألبثنك في السجن بضع سنين قال يوسف وهو في ذلك عني راض قال نعم قال إذن لا أبالي وقال كعب قال جبريل ليوسف يقول اللّه عز وجل لك من خلقك قال اللّه قال فمن رزقك قال اللّه قال فمن حببك إلى أبيك قال اللّه

قال فمن نجاك من كرب البئر قال اللّه قال فمن علمك تأويل الرؤيا قال اللّه قال فمن صرفك عنك السوء والفحشاء قال اللّه قال فكيف استغثت بآدمي مثلك قالوا فلما انقضت سبع سنين. قال الكلبي : وهذه السبع سوى الخمس سنين التي كانت قبل ذلك ودنا فرج يوسف وأراد اللّه عز وجل إخراجه من السجن رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هالته وذلك أن رأى في منامه سبع بقرات سمان قد خرجن من البحر ثم خرج عقيبهن سبع بقرات عجاف في غاية الهزال فابتلع العجاف السمان ودخلن في بطونهن ولم ير منهن شيء ولم يتبين على العجاف منها شيء ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبع سنبلات أخر يابسات قد استحصدت فالتوت اليابسات على الخضر حتى علون عليهن ولم يبق من خضرتها شيء فجمع السحرة والكهنة والمعبرين وقص عليهم رؤياه التي رآها فذلك

قوله تعالى :

وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣)

﴿ ٤٢