٧

٩

وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي على الوفاء بما حملوا وأن يصدق بعضهم بعضا ويبشر بعضهم ببعض ،

وقيل على أن يعبدوا اللّه ويدعوا الناس إلى عبادته وينصحوا لقومهم وَمِنْكَ يعني يا محمد وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خص هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم من الرسل ، وقدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الذكر تشريفا له وتفضيلا. ولما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال (كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث). قال قتادة وذلك قول اللّه وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ فبدأ به صلّى اللّه عليه وسلّم وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا من تبليغ الرسالة لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ يعني أخذ ميثاقهم لكي يسأل الصادقين يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم مع علمه سبحانه وتعالى صادقون تبكيت من أرسلوا إليهم

وقيل ليسأل الصادقين عن صدقهم عن عملهم للّه عز وجل

وقيل ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً

قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وذلك حين حوصر المسلمون مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة أيام الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير فَأَرْسَلْنا

عَلَيْهِمْ رِيحاً

يعني الصبا قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل. فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا

(ق) عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور).

وقيل الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا ذهب حزنه.

قوله تعالى وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة ، ولم تقاتل ملائكة يومئذ فبعث اللّه عز وجل تلك الليلة ريحا باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم ، حتى كان سيد كل حي يقول يا بني فلان النجاء النجاء هلموا إلي فإذا اجتمعوا عنده قال النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث اللّه عليهم من الرعب وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.

ذكر غزوة الخندق وهي الأحزاب

قال : البخاري قال موسى بن عقبة : كانت في شوال سنة أربع من الهجرة.

وروى محمد بن إسحاق عن مشايخه قال : دخل حديث بعضهم في بعض أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهو ابن قيس وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة ، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، فديننا خير أم دينه؟ قالوا دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال اللّه تعالى فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إلى قوله وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً. قال فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فاجتمعوا على ذلك ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان وقيسا وغيلان فاجتمعوا على ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وإن قريشا قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم وخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة ، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع. فلما سمع بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة ، وكان الذي أشار على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالخندق سلمان الفارسي وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يومئذ حر.

فقال يا رسول اللّه إنا كنا بفارس إذا حوصرنا ضربنا خندقا علينا ، فعمل فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون حتى أحكموه. وروي (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خط الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي ، وكان رجلا قويا فقال المهاجرون سلمان منا وقال الأنصار سلمان منا فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سلمان منا أهل البيت).

قال عمرو بن عوف كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا ، حتى إذا كنا تحت أخرج اللّه من بطن الخندق صخرة مروة حتى كسرت حديدنا وشقت علينا ، فقلنا يا سلمان ارق إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخبره بخبر هذه الصخرة ، فإما أن يعدل عنها فإن المعدل قريب

وإما أن يأمرنا فيها أمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه ، قال فرقي سلمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو ضارب عليه قبة تركية ، فقال يا رسول اللّه خرجت لنا صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيبنا منها شيء قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك ، فهبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مع سلمان إلى الخندق واستند على شق الخندق وأخذ عليه الصلاة والسلام المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق

أضاء ما بين لابتيها يعني المدينة ، حتى كأنه مصباح في جوف بيت مظلم فكبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تكبير فتح وكبر المسلمون معه ، ثم ضربها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الثانية فبرق منها برق حتى أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تكبير فتح وكبر المسلمون معه ثم ضربها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تكبير فتح وكبر المسلمون معه وأخذ بيد سلمان ورقي فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى القوم وقال : أرأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم يا رسول اللّه قال : ضربت ضربتي الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور قيصر من أرض الروم ، كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد للّه موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا قال : فنزل القرآن :

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وأنزل اللّه : قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الآية

(ق) عن أنس قال (خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم ، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال (اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة) فقالوا مجيبين له :

نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما حيينا أبدا

عن البراء بن عازب قال (رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ينقل معنا التراب وهو يقول :

واللّه لولا اللّه ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا

والمشركون قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا

ويرفع بها صوته. (و في رواية قد وارى التراب بياض إبطيه) رجعنا إلى حديث ابن إسحاق قال (فلما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من دومة من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نعمى إلى جانب أحد ، وخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون معه حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فرفعوا إلى الآطام ، وخرج عدو اللّه حييّ بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وكان قد واعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على قومه وعاهده على ذلك ، فلما سمع صوت ابن أخطب أغلق دونه حصته فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له ، فناداه حييّ يا كعب افتح لنا فقال : ويحك يا حييّ إنك امرؤ مشؤوم إني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقا فقال : ويحك افتح أكلمك قال : ما أنا بفاعل. قال : واللّه إن أغلقت دوني إلا خوفا أن آكل معك فأحفظ الرجل ففتح له فقال ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نعمى إلى جانب أحد قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. فقال : له كعب جئتني واللّه بذلّ الدهر وبجام قد يهرق ماؤه ويرعد ويبرق ليس فيه شيء دعني ومحمدا وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حييّ بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه

من اللّه عهدا وميثاقا لئن رجعت قريش ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك.

فنقض كعب بن أسد العهد وبرىء مما كان عليه فيما بينه وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فلما انتهى الخبر إلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإلى المسلمين بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل ، وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة وهو يومئذ سيد بني الخزرج ، ومعهما عبد اللّه بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف. فقال : انطلقوا حتى تنظروا ما بلغنا عن هؤلاء القوم أحق أم لا فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ، ولا تفتوا أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا للناس ، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ونالوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا : لا عقد بيننا وبينه ولا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلا عنده حدة ، فقالله سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسلموا وقالوا : عضل والقارة لغدر ، عضل والقارة بأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه. فقال : رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اللّه أكبر أبشروا يا معشر المسلمين ، وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين ، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ما وعدنا اللّه ورسوله إلا غرورا.

وقال : أوس بن قيظي أحد بني حارثة يا رسول اللّه إن بيوتنا لعورة من العدو ، وذلك على ملأ من رجال قومه ، فأذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة ، فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأقام المشركون عليها بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى ، فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه ، فجرى بينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة فذكر ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما فيه. فقالا : يا رسول اللّه أشيء أمرك اللّه به لا بدلنا من العمل به أم أمر تحبه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا. قال بل شيء أصنعه لكم واللّه ما أصنع ذلك إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم. فقال : له سعد بن معاذ يا رسول اللّه قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك باللّه وعبادة الأصنام لا نعبد اللّه ولا نعرفه ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة واحدة إلا قرى أو بيعا فحين أكرمنا اللّه بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة واللّه ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنت وذاك فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال ليجهدوا علينا فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون وعدوهم محاصروهم ولم يكن بينهم قتال ، إلا أن فوارس من قريش عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبد اللّه بن ضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ، فمروا على بني كنانة فقالوا تهيؤوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان ، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا عليه فلما رأوه قالوا واللّه هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا وضربوا خيولهم فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليه الثغرة التي اقتحموا منها وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا ، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فلما وقف هو وخيله ، قال علي يا عمرو إنك كنت تعاهد اللّه لا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما. قال : أجل قال له علي : فإني أدعوك إلى اللّه ورسوله وإلى الإسلام قال لا حاجة لي بذلك. قال :

إني أدعوك إلى النزال قال : ولم يا ابن أخي فو اللّه ما أحب أن أقتلك. فقال علي : لكني واللّه أحب أن أقتلك

فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل علي علي فتناولا وتجاولا فقتله علي وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة ، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات بمكة ونوفل بن عبد اللّه بن المغيرة المخزومي وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة. فقال : يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه فنزل إليه علي فقتله فغلب المسلمون على جسده فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يبيعهم جسده فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا حاجة لنا في جسدهم وثمنه فشأنكم به فخلى بينهم وبينه قالت عائشة أم المؤمنين : كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة وكان من أحرز حصون المدينة وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمر سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها وفي يده حربة وهو يقول :

لا بأس بالموت إذا حان الأجل

فقالت : له أمه الحق يا بني فقد واللّه أجزت. قالت عائشة : يا أم سعد واللّه لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي وخفت عليه حيث أصاب السهم منه. قالت : فرمي سعد يومئذ بسهم فقطع منه الأكحل رماه خباب بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة. قال سعد : عرق اللّه وجهك في النار ، ثم قال سعد : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فابقني لها فإنه لا قوم أحب لي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة ، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية. قال محمد بن إسحاق : فيما بلغه أن صفية بنت عبد المطلب كانت في فارع حصن حسان بن ثابت قالت وكان حسان معنا مع النساء والصبيان ، قالت صفية : فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، والمسلمون في نحر عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت ، قالت : فقلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني واللّه ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من اليهود وقد شغل عنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه فانزل إليه فاقتله. فقال : يغفر اللّه لك يا بنت عبد المطلب ، واللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا اعتجرت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن.

فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل ، قال : ما لي بسلبه حاجة يا بنت عبد المطلب قالوا : وأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه فيما وصف اللّه من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فأمرني بما شئت. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان نديما لهم في الجاهلية. فقال لهم : يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم ، قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه وإن قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين هذا الرجل والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به ، إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه ، قالوا لقد أشرت برأي ونصح ثم خرج حتّى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا فقد بلغني أمر رأيت حقا على أن أبلغكم نصحا لكم فاكتموا علي.

قالوا نفعل. قال : تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد

ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فنضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم. فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعث إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني. قالوا : صدقت قال فاكتموا علي. قالوا نفعل فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم مثلما حذرهم. فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس وكان مما صنع اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان. فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا. وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابهم ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فإننا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمد ، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان تعلمن واللّه إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحقّ فأرسلوا إلى بني قريظة إنا واللّه لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك شمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا واللّه لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا فأبوا عليهم.

وخذل اللّه عز وجل بينهم وبعث عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم فلما انتهى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا.

وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي وروى غيره عن إبراهيم التيمي عن أبيه قالا قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان يا أبا عبد اللّه رأيتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبتموه قال نعم يا ابن أخي. قال : كيف كنتم تصنعون قال واللّه لقد كنا نجهد. قال الفتى واللّه لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه وفعلنا معه وفعلنا فقال حذيفة : يا ابن أخي لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال من يذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله اللّه الجنة فما قام منا رجل ثم صلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هونا من الليل ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم وما قام منا رجل ثم صلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هونا من الليل ثم التفت إلينا فقال : هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد فلما لم يقم أحد دعاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا حذيفة ولم يكن لي بد من القيام حين دعاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ف

قلت : لبيك يا رسول اللّه ، وقمت حتى أتيته فأخذني بيدي ومسح رأسي ووجهي ثم قال ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئا حتى ترجع إلي. ثم قال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته.

فأخذت سهمي وشددت على أسلابي انطلقت أمشي نحوهم كأنما أمشي في حمام فذهبت فدخلت في القوم وقد أرسل اللّه عليهم ريحا وجنودا وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قال وأبو سفيان قاعد يصطلي فأخذت سهما فوضعته في كبد قوسي

فأردت أن أرميه ولو رميته لأصبته فذكرت قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا تحدثن حدثا حتى ترجع ، فرددت سهمي في كنانتي ، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود اللّه بهم لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قام فقال يا معشر قريش ليأخذ كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو؟

فأخذت بيد جليسي ف

قلت : من أنت؟؟ فقال سبحان اللّه أما تعرفني أنا فلان بن فلان رجل من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم

ضربه فوثب على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم. قال : فرجعت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي فلما سلم أخبرته فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل ، فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفء فأدفأني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأنا مني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه وألصق صدري ببطن قدميه ، فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت ، قال : قم يا نومان فذلك

قوله عز وجل :

إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠)

﴿ ٧