سورة ص

ويقال لها سورة داود عليه الصلاة والسلام وهي مكية وهي ست

وقيل ثمان وثمانون آية وسبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة وثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣)

١

٣

قوله عز وجل : ص قيل هو قسم

وقيل اسم للسورة

وقيل هو مفتاح اسمه الصمد وصادق الوعد والصبور

وقيل معناه صدق اللّه وعن ابن عباس صدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قال ابن عباس أي ذي البيان

وقيل ذي الشرف وهو قسم قيل وجوابه قد تقدم وهو

قوله تعالى ص أقسم اللّه سبحانه وتعالى بالقرآن إن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم لصادق

وقيل جواب القسم محذوف تقديره والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما تقول الكفار دل على هذا المحذوف ،

قوله تعالى : بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا

وقيل بل الذين كفروا موضع القسم

وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره بل الذين كفروا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ والقرآن ذي الذكر

وقيل جوابه (إن كل إلا كذب الرسل)

وقيل جوابه (إن هذا لرزقنا)

وقيل (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) وهذا ضعيف لأنه تخلل بين القسم وهذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة

وقيل بل لتدارك كلام ونفي آخر ومجاز الآية أن اللّه تعالى أقسم بص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا من أهل مكة في عزة أي حمية وجاهلية وتكبر عن الحق وشقاق أي خلاف وعداوة لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعني من الأمم الخالية فَنادَوْا أي استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي ليس الحين حين فرار وتأخر قال ابن عباس : كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض مناص أي اهربوا وخذوا حذركم فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا مناص فأنزل اللّه عز وجل : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي ليس الحين حين هذا القول.

وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨)

٤

٨

وَعَجِبُوا يعني كفار مكة أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعني رسولا من أنفسهم ينذرهم وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ

قوله عز وجل : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وذلك أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلا أكبرهم سنا الوليد بن المغيرة امشوا إلى أبي طالب فأتوا إلى أبي طالب وقالوا له أنت شيخنا

وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنما أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فأرسل إليه أبو طالب فدعا به فلما أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إليه قال له يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (و ماذا يسألونني) قالوا ارفض آلهتنا وندعك وإلهك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (أ تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم) فقال أبو جهل للّه أبوك لنعطينكها وعشرة أمثالها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (قولوا لا إله إلا اللّه) فنفروا من ذلك وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا كيف يسمع الخلق إله واحد إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي عجب وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب أَنِ امْشُوا أي يقول بعضهم لبعض امشوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي اثبتوا على عبادة آلهتكم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي لأمر يراد بنا وذلك أن عمر رضي اللّه عنه لما أسلم وحصل للمسلمين قوة بمكانه قالوا إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لشيء يراد بنا

وقيل يراد بأهل الأرض

وقيل يراد بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم أن يملك علينا ما سَمِعْنا بِهذا أي بالذي يقوله محمد من التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ قال ابن عباس يعنون النصرانية لأنها آخر الملل وإنهم لا يوحدون اللّه بل يقولون ثالث ثلاثة

وقيل يعنون ملة قريش وهي دينهم الذي هم عليه إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أي كذب وافتعال أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن مِنْ بَيْنِنا أي يقول أهل مكة ليس هو بأكبرنا ولا أشرفنا قال اللّه تعالى : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي وحيي وما أنزلت بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي لو ذاقوه لما قالوا هذا القول.

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢)

٩

١٢

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يعني مفاتيح النبوة يعطونها من شاؤوا الْعَزِيزِ أي في ملكه الْوَهَّابِ الذي وهب النبوة لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي ليس لهم ذلك فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ يعني إن ادعوا شيئا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء ليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون.

وقيل أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وهذا أمر توبيخ وتعجيز جُنْدٌ ما هُنالِكَ أي هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند ما هنالك مَهْزُومٌ أي مغلوب مِنَ الْأَحْزابِ يعني أن قريشا من جملة الأجناد الذين تجمعوا وتحزبوا على الأنبياء بالتكذيب فقهروا وأهلكوا أخبر اللّه سبحانه وتعالى نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر وهناك إشارة إلى مصارعهم ببدر ثم قال عز وجل معزيا لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ قال ابن عباس : ذو البناء المحكم.

وقيل ذو الملك الشديد الثابت والعرب تقول هو في عز ثابت الأوتاد يريدون بذلك أنه دائم شديد وقال الأسود بن يعفر :

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد

وقيل ذو قوة وأصل هذا أن بيوتهم تثبت بالأوتاد ،

وقيل ذو القوة والبطش.

وفي رواية عن ابن عباس رضي اللّه عنهما والجنود والجموع الكثيرة يعني أنهم يقرون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء وسميت الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم

وقيل الأوتاد جمع الوتد وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها ، فكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد يشد كل طرف منه إلى وتد فيتركه حتى يموت.

وقيل يرسل عليه العقارب والحيات.

وقيل كانت له أوتاد وأحبال وملاعب يلعب عليها بين يديه.

وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧)

١٣

١٧

وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ أي الذين تحزبوا على الأنبياء فأعلم اللّه تعالى أن مشركي قريش حزب من أولئك الأحزاب إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ أي إن أولئك الطوائف والأمم الخالية لما كذبوا أنبياءهم وجب عليهم العذاب فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين إذا نزل بهم العذاب وفي الآية زجر وتخويف للسامعين وَما يَنْظُرُ أي ينتظر هؤُلاءِ أي كفار مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ أي رجوع والمعنى أن تلك الصيحة التي هي ميعاد عذابهم إذا جاءت لم ترد ولم تصرف وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول

وقيل نصيبنا من العذاب قاله النضر بن الحارث استعجالا منه بالعذاب وقال ابن عباس يعني كتابنا والقط الصحيفة التي حصرت كل شيء قيل لما نزلت في الحاقة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ قالوا استهزاء عجل لنا كتابنا في الدنيا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ

وقيل قطنا أي حسابنا يقال لكتاب الحساب قط

وقيل القط كتاب الجوائز ، قال اللّه عز وجل لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي على ما يقول الكفار من التكذيب وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ قال ابن عباس ذا القوة في العبادة

(ق) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (إن أحب الصيام إلى اللّه تعالى صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وأحب الصلاة إلى اللّه صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)

وقيل معناه ذا القوة في الملك إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى اللّه عز وجل بالتوبة عن كل ما يكره وقال ابن عباس مطيع للّه عز وجل

وقيل مسبح بلغة الحبشة.

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)

١٨

٢٠

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ أي بتسبيحه إذا سبح بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ أي غدوة وعشية والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها وفسره ابن عباس بصلاة الضحى وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس في قوله بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ قال كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلّى الضحى فقال (يا أم هانئ إن هذه صلاة الإشراق) قلت والذي أخرجاه في الصحيحين من حديث أم هانئ في صلاة الضحى ، قالت أم هانئ : ذهبت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة بنته تستره بثوب فسلمت عليه فقال من هذه قلت أم هانئ بنت أبي طالب فقال مرحبا يا أم هانئ فلما فرغ من غسله قام وصلّى ثمان ركعات ملتحفا بثوب قالت أم هانئ وذلك ضحى) ولهما عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى قال (ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يصلي الضحى غير أم هانئ فإنها قالت إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلّى ثمان ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود).

قوله تعالى : وَالطَّيْرَ أي وسخرنا له الطير مَحْشُورَةً أي مجموعة إليه تسبح معه كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى طاعته مطيع له بالتسبيح معه وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قويناه بالحرس والجنود ، قال ابن عباس كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابا كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل. وروي عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل ادعى على رجل من عظمائهم ، عند داود عليه الصلاة والسلام فقال هذا غصبني بقرة فسأله داود فجحده فسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى اللّه إلى داود في منامه أن اقتل المدعى عليه فقال هذه رؤيا ولست أعجل عليه حتى أتثبت فأوحي إليه مرة أخرى فلم يفعل فأوحي إليه الثالثة أن

يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل إليه داود فقال إن اللّه عز وجل أوحى إليّ أن أقتلك فقال تقتلني بغير بينة فقال داود نعم واللّه لأنفذن أمر اللّه فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله ، قال لا تعجل حتى أخبرك إني واللّه ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أوخذت فأمر به داود فقتل فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود واشتد به ملكه فذلك

قوله تعالى وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ يعني النبوة والإصابة في الأمور وَفَصْلَ الْخِطابِ قال ابن عباس يعني بيان الكلام وقال ابن مسعود علم الحكم والتبصر بالقضاء وقال علي بن أبي طالب هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به. وقال أبيّ بن كعب فصل الخطاب الشهود والأيمان

وقيل إن فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد اللّه تعالى والثناء عليه أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر وأول من قاله داود عليه الصلاة والسلام.

وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢)

٢١

٢٢

قوله عز وجل : وَهَلْ أَتاكَ أي وقد أتاك يا محمد نَبَأُ الْخَصْمِ أي خبر الخصم فاستمع له نقصصه عليك.

وقيل ظاهره الاستفهام ومعناه الدلالة على أنه من الأخبار العجيبة والتشويق إلى استماع كلام الخصماء والخصم يقع على الواحد والجمع إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي صعدوا وعلوا المحراب أي بالبيت الذي كان يدخل فيه داود يشتغل بالطاعة والعبادة والمعنى أنهم أتوا المحراب من سوره وهو أعلاه ، وفي الآية قصة امتحان داود عليه الصلاة والسلام. واختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب ذلك وسأذكر ما قاله المفسرون ثم أتبعه بفصل فيه ذكر نزاهة داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق بمنصبه صلّى اللّه عليه وسلّم لأن منصب النبوة أشرف المناصب وأعلاها فلا ينسب إليها إلا ما يليق بها

وأما ما قاله المفسرون (١) إن داود عليه الصلاة والسلام تمنى يوما من الأيام منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وذلك أنه كان قد قسم الدهر ثلاثة أيام يوم يقضي فيه بين الناس ، ويوم يخلو فيه لعبادة ربه عز وجل ويوم لنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فقال يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي ، فأوحى اللّه إليه أنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها ابتلي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنمرود وذبح ابنه ، وابتلي إسحاق بالذبح وبذهاب بصره وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف. فقال داود عليه الصلاة والسلام رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم صبرت أيضا فأوحى اللّه عز وجلّ إنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا فاحترس.

فلما كان اليوم الذي وعده اللّه به دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور فبينما هو كذلك إذ جاءه الشيطان وقد تمثل له في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وجناحاها من الدر والزبرجد فوقعت بين رجليه فأعجبه حسنها فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل لينظروا إلى قدرة اللّه تعالى فلما قصد أخذها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة فذهب ليأخذها فطارت من الكوة فنظر داود أين تقع فيبعث من يصيدها له ، فأبصر امرأة في بستان على شاطئ بركة تغتسل

وقيل رآها تغتسل على سطح لها فرآها من أجمل النساء خلقا فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها فزاده ذلك إعجابا بها فسأل عنها فقيل هي شايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود فكتب داود إلى ابن أخته أن أبعث أوريا إلى موضع كذا وقدمه قبل التابوت وكان من قدم

________

(١) قوله

وأما ما قاله المفسرون إلخ لم يذكر جوابه وقد ذكره صاحب الكشاف فقال بعد ذكر القصة فهذا ونحوه ما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أبناء المسلمين فضلا عن بعض أعلام الأنبياء ا ه.

على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح اللّه على يديه أو يستشهد فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأسا فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأسا فبعثه فقتل في المرة الثالثة فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود فهي أم سليمان عليه الصلاة والسلام.

وقيل إن داود أحب أن يقتل أوريا فيتزوج امرأته فهذا كان ذنبه. وقال ابن مسعود : كان ذنب داود أنه التمس من الرجل أن ينزل له عن امرأته.

وقيل كان ذلك مباحا لهم غير أن اللّه عز وجل لم يرض لداود ذلك لأنه رغبة في الدنيا وازدياد من النساء وقد أغناه اللّه تعالى عنها بما أعطاه من غيرها.

وقيل في سبب امتحان داود أنه كان جزأ الدهر أجزاء يوما لنسائه ويوما للعبادة ويوما للحكم بين بني إسرائيل ويوما يذاكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا ، فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك

وقيل إنهم ذكروا فتنة النساء فأضمر داود في نفسه أنه إن ابتلى اعتصم فلما كان يوم عبادته أغلق عليه الأبواب وأمر أن لا يدخل عليه أحد وأكبّ على قراءة التوراة فبينما هو يقرأ إذ دخلت حمامة وذكر نحو ما تقدم فلما دخل بالمرأة لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث اللّه عز وجلّ الملكين إليه.

وقيل إن داود عليه السلام ما زال يجتهد في العبادة حتى برز له حافظاه من الملائكة فكانوا يصلون معه فلما استأنس منهم قال أخبروني بأي شيء أنتم موكلون ، قالوا نكتب صالح أعمالك ونوافقك ونصرف عنك السوء فقال في نفسه : ليت شعري كيف أكون لو خلوني ونفسي وتمنى ذلك ليعلم كيف يكون فأوحى اللّه تعالى إلى الملكين أن يعتزلاه ليعلم أنه لا غنى له عن اللّه تعالى فلما فقدهم جد واجتهد في العبادة إلى أن ظن أنه قد غلب نفسه فأراد اللّه تعالى أن يعرفه ضعفه فأرسل طائرا من طيور الجنة وذكر نحو ما تقدم.

وقيل إن داود قال لبني إسرائيل لأعدلن بينكم ولم يستثن فابتلى

وقيل إنه أعجبه عمله فابتلى فبعث اللّه إليه ملكين في صورة رجلين وذلك في يوم عبادته فطلبا أن يدخلا عليه فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب فما شعر إلا وهما بين يديه جالسان وهو يصلي يقال كانا جبريل وميكائيل فذلك

قوله عز وجل : وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ أي خاف منهما حين هجما عليه في محرابه بغير إذنه فقال لهما من أدخلكما عليّ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ أي نحن خصمان بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي تعدى وخرج عن الحد جئناك لتقضي بيننا.

فإن قلت إذ جعلتهما ملكين فكيف يتصور البغي منهما والملائكة لا يبغي بعضهم على بعض؟.

قلت هذا من معاريض الكلام لا على تحقيق البغي من

أحدهما والمعنى رأيت خصمين بغى

أحدهما على الآخر فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ أي لا تجر في حكمك وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي أرشدنا إلى طريق الحق والصواب فقال لهما داود تكلما فقال

أحدهما.

إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣)

٢٣

إِنَّ هذا أَخِي على ديني وطريقتي لا من جهة النسب لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً يعني امرأة وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ أي امرأة واحدة والعرب تكني بالنعجة عن المرأة وهذا على سبيل التعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي فَقالَ أَكْفِلْنِيها قال ابن عباس أي أعطنيها

وقيل معناه انزل عنها وضمها إلي واجعلني كافلها والمعنى طلقها لأتزوجها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ يعني غلبني وقهرني في القول لأنه أفصح مني في الكلام وإن حارب كان أبطش مني لقوة ملكه والمعنى أن الغلبة كانت له عليّ لضعفي في يده وإن كان الحق وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة ولأوريا امرأة واحدة فضمها داود إلى نسائه.

قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)

٢٤

٢٥

قالَ داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي بضمها إلى نعاجه.

فإن قلت كيف قال داود لقد ظلمك ولم يكن سمع قول الآخر قلت معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك

وقيل إنما قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي يظلم بعضهم بعضا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم لا يظلمون أحدا وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي هم قليل وما صلة.

والمعنى أن الصالحين الذين لا يظلمون قليل فلما قضى داود بينهما نظر

أحدهما إلى صاحبه وضحك وصعد إلى السماء فعلم داود أن اللّه تعالى ابتلاه فذلك

قوله تعالى : وَظَنَّ داوُدُ أي أيقن وعلم أَنَّما فَتَنَّاهُ أي ابتليناه وامتحناه وقال ابن عباس : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحولا في صورتهما وعرجا وهما يقولان قضى الرجل على نفسه فعلم داود أنه إنما عنى به.

وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول إن داود النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حين نظر إلى المرأة فهم ففظع على بني إسرائيل أوصى صاحب البعث فقال إذا حضر العدو فقرب فلانا بين يدي التابوت وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به ومن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو يهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة ونزل الملكان يقصان عليه قصته ففطن داود فسجد فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبهته وهو يقول في سجوده : رب زل داود زلة أبعد ما بين المشرق والمغرب رب إن لم ترحم ضعف داود ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده. فجاء جبريل من بعد أربعين ليلة فقال يا داود إن اللّه تعالى قد غفر لك الهم الذي هممت به فقال داود : إن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به وقد عرفت أن اللّه عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال رب دمي الذي عند داود ، فقال جبريل ما سألت ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن قال نعم فعرج جبريل وسجد داود ما شاء اللّه تعالى ثم نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال سألت اللّه يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال قل لداود إن اللّه تعالى يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب لي دمك الذي عند داود فيقول :

هو لك يا رب فيقول اللّه تعالى فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا عن دمك فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود.

(فصل في تنزيه داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق به وما ينسب إليه) اعلم أن من خصه اللّه تعالى بنبوته وأكرمه برسالته وشرفه على كثير من خلقه وائتمنه على وحيه وجعله واسطة بينه وبين خلقه لا يليق أن ينسب إليه ما لو نسب إلى آحاد الناس لاستنكف أن يحدث به عنه فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء والصفوة الأمناء ذلك. روى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة وهو حد الفرية على الأنبياء. وقال القاضي عياض : لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا ونقله بعض المفسرين ولم ينص اللّه تعالى على شيء من ذلك ولا ورد في حديث صحيح والذي نص عليه اللّه في قصة داود وظن داود أن ما فتناه وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داود. قال الإمام فخر الدين حاصل القصة يرجع إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته وكلاهما منكر عظيم فلا يليق بعاقل أن يظن بداود عليه الصلاة والسلام. هذا وقال غيره إن اللّه تعالى أثنى على داود قبل هذه القصة وبعدها وذلك يدل على استحالة ما نقوله من

القصة فكيف يتوهم عاقل أن يقع بين مدحين ذم ولو جرى ذلك من بعض الناس في كلامه لاستهجنه العقلاء وقالوا أنت في مدح شخص كيف تجري ذمه أثناء مدحك واللّه تعالى منزه عن مثل هذا في كلامه القديم.

فإن قلت في الآية ما يدل على صدور الذنب منه وهو

قوله تعالى وظن داود إنما فتناه وقوله فاستغفر ربه وقوله وأناب وقوله فغفرنا له ذلك.

قلت ليس في هذه الألفاظ شيء مما يدل على ذلك وذلك لأن مقام النبوة أشرف المقامات وأعلاها فيطالبون بأكمل الأخلاق والأوصاف وأسناها فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشرية عاتبهم اللّه تعالى على ذلك وغفره لهم كما قيل (حسنات الأبرار سيئات المقربين).

فإن قلت فعلى هذا القول والاحتمال فما معنى الامتحان في الآية؟

قلت ذهب المحققون من علماء التفسير وغيرهم في هذه القصة إلى أن داود عليه الصلاة والسلام ما زاد على أن قال للرجل. انزل لي عن امرأتك وأكفلنيها ، فعاتبه اللّه تعالى على ذلك ونبهه عليه وأنكر عليه شغله بالدنيا

وقيل إن داود تمنى أن تكون امرأة أوريا له فاتفق أن أوريا هلك في الحرب فلما بلغ داود قتله لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ثم تزوج امرأته ، فعاتبه اللّه تعالى على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند اللّه تعالى.

وقيل إن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت نفسها منه لجلالته فاغتمّ لذلك أوريا فعاتبه اللّه تعالى على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسعة وتسعون امرأة ويدل على صحة هذا الوجه قوله وعزني في الخطاب فدل هذا على أن الكلام كان بينهما في الخطبة ولم يكن قد تقدم تزوج أوريا لها ، فعوتب داود بسببين

أحدهما : خطبته على خطبة أخيه

والثاني : إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه.

وقيل إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس هو بسبب أوريا والمرأة وإنما هو بسبب الخصمين وكونه قضى ل

أحدهما قبل سماع كلام الآخر

وقيل هو قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فحكم على خصمه بكونه ظالما بمجرد الدعوى فلما كان هذا الحكم مخالفا للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه الصلاة والسلام مما نسب إليه واللّه أعلم.

وقوله عز وجل : فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ أي سأل ربه الغفران وَخَرَّ راكِعاً أي ساجدا ، عبّر بالركوع عن السجود لأن كل واحد منهما فيه انحناء.

وقيل معناه وخرّ ساجدا بعد ما كان راكعا واللّه تعالى أعلم بمراده.

(فصل) اختلف العلماء في سجدة ص هل هي من عزائم السجود ، فذهب الشافعي رحمه اللّه تعالى إلى أنها ليست من عزائم سجود التلاوة قال : لأنها توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة. وقال أبو حنيفة : هي من عزائم سجود التلاوة واستدل بهذه الآية على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجود التلاوة ، وعن أحمد : في سجدة ص روايتان وقد ثبت أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سجد فيها

(خ). عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : سجدة ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سجد فيها قال مجاهد قلت لابن عباس أسجد في ص فقرأ ومن ذريته داود وسليمان حتى أتى فبهداهم اقتده فقال نبيكم ممن أمر أن يقتدى بهم فسجدها داود فسجدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وللنسائي (عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سجد في ص وقال سجدها داود توبة فنسجدها شكرا) عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال (قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سورة ص وهو على المنبر فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشوف الناس لسجوده فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشوفتم

فنزل وسجد وسجدوا) أخرجه أبو داود قوله تشوف الناس يعني تهيئوا وتأهبوا واستعدوا للسجود وعن ابن عباس قال (جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول اللهم اكتب لي بها أجرا وحطّ عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه الصلاة والسلام).

قال ابن عباس : (سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ سجدة ثم سجد فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة) أخرجه الترمذي قال المفسرون سجد داود أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجدا تمام أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة وكان من دعائه في سجوده سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء سبحان خالق النور سبحان الحائل بين القلوب سبحان خالق النور إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي سبحان خالق النور إلهي أنت خلقتني وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر سبحان خالق النور إلهي الويل لداود يوم يكشف عنه الغطاء ، فيقال هذا داود الخاطئ سبحان خالق النور إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي ، سبحان خالق النور إلهي بأي قدم أقوم أمامك يوم القيامة يوم تزل أقدام الخاطئين ، سبحان خالق النور إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلا من عند سيده سبحان خالق النور ، إلهي أنا لا أطيق حر شمسك فكيف أطيق حر نارك سبحان خالق النور إلهي أنا لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم سبحان خالق النور إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصابه سبحان خالق النور إلهي كيف تستر الخطاؤون بخطاياهم دونك وأنت تشاهدهم حيث كانوا ، سبحان خالق النور إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي سبحان خالق النور إلهي اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواني سبحان خالق النور إلهي أعوذ بوجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني سبحان خالق النور إلهي فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين سبحان خالق النور

وقيل مكث داود أربعين يوما لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتى غطى رأسه فنودي يا داود أجائع أنت فتطعم أظمآن أنت فتسقى أمظلوم أنت فتنصر فأجيب في

غير ما طلب ولم يجب في ذكر خطيئته بشيء فحزن حتى هاج ما حوله من العشب فاحترق من حر جوفه ثم أنزل اللّه تعالى له التوبة والمغفرة. قال وهب : إن داود أتاه نداء أني قد غفرت لك قال يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا قال اذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداءك فتحلل منه ، قال فانطلق داود وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره ثم نادى يا أوريا فقال من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني قال أنا داود قال

ما جاء بك يا نبي اللّه قال أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك قال وما كان منك إليّ قال عرضتك للقتل قال بل عرضتني للجنة فأنت في حل فأوحى اللّه تعالى إليه يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالغيب ألا أعلمته إنك قد تزوجت امرأته ، قال فرجع فناداه فأجابه فقال من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني قال أنا داود قال ما جاء بك يا نبي اللّه أليس قد عفوت عنك قال نعم ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها قال فسكت ولم يجبه ودعاه مرة فلم يجبه وعاوده فلم يجبه فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى الويل لداود ثم الويل الطويل لداود إذا وضعت الموازين بالقسط سبحان خالق النور الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار سبحان خالق النور فأتاه نداء من السماء يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك قال يا رب كيف وصاحبي لم يعف عني قال يا داود أعطيه يوم القيامة من الثواب ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه فأقول له رضيت عبدي فيقول يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي ، فأقول هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي قال يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي فذلك قوله فاستغفر ربه وخرّ راكعا وَأَنابَ أي رجع فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي الذنب وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا أي يوم القيامة بعد المغفرة لَزُلْفى أي لقربة ومكانة وَحُسْنَ مَآبٍ أي حسن مرجع ومنقلب.

قال وهب بن منبه إن داود عليه الصلاة والسلام لما تاب اللّه عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا يرقأ دمعه ليلا ولا نهارا وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام يوم للقضاء بين بني إسرائيل ، ويوم لنسائه ويوم يسيح في الجبال والفيافي والساحل ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك ، فإذا كان يوم سياحته يخرج إلى الفيافي ويرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ثم يجيء إلى الجبال ويرفع صوته ويبكي فتبكي معه الجبال والحجارة والطير والدواب حتى تسيل من بكائهم الأودية ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته ويبكي فتبكي معه الحيتان ودواب البحر وطين الماء فإذا أمسى رجع فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه إن اليوم يوم نوح داود على نفسه فليحضره من يساعده ويدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط فيها ثلاث فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ويجيء أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب ثم يرفع داود عليه الصلاة والسلام صوته بالبكاء والنوح على نفسه ويرفع الرهبان معه أصواتهم فلا يزال يبكي حتى يغرق الفرش من دموعه ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله ويأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ويمسح بها وجهه ويقول يا رب اغفر ما ترى فلو عادل بكاء داود بكاء أهل الدنيا لعدله. وعن الأوزاعي مرفوعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (إن مثل عيني داود عليه الصلاة والسلام كالقربتين ينقطان ماء ولقد خدت الدموع في وجهه كخديد الماء في الأرض).

وقال وهب : لما تاب اللّه تعالى على داود قال : يا رب أغفرت لي فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخاطئين إلى يوم القيامة ، قال فوسم اللّه تعالى خطيئته في يده اليمنى فما رفع فيها طعاما ولا شرابا إلا بكى إذا رآها وما قام خطيبا في الناس إلا وبسط راحته فاستقبل بها الناس ليروا وسم خطيئته وكان يبدأ إذا دعا واستغفر بالخاطئين قبل نفسه. وعن الحسن قال : كان داود عليه الصلاة والسلام بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين يقول تعالوا إلى داود الخاطئ ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي عليه حتى يبتل بدموع عينيه وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول هذا أكل الخاطئين قال وكان داود عليه الصلاة والسلام قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر فلما كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله وقام الليل كله. وقال ثابت كان داود إذا ذكر عقاب اللّه انخلعت أوصاله فلا يشهدها إلا الأسر وإذا ذكر رحمة اللّه تراجعت

وقيل إن الوحوش والطير كانت تستمع إلى قراءته فلما فعل ما فعل كانت لا تصغي إلى قراءته.

وقيل إنها قالت يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك.

يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)

٢٦

٢٨

قوله عز وجل : يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي لتدبر أمر الناس بأمر نافذ الحكم فيهم فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي بالعدل وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر اللّه تعالى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دين اللّه وطريقه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي بما تركوا الإيمان بيوم الحساب.

وقيل بتركهم العمل بذلك اليوم

وقيل بترك العدل في القضاء.

قوله تعالى : وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا قال ابن عباس : لا لثواب ولا لعقاب.

وقيل معناه ما خلقناهما عبثا لا لشيء ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أهل مكة هم الذين ظنوا أنما خلقناهم لغير شيء وأنه لا بعث ولا حساب فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ قيل إن كفار قريش قالوا للمؤمنين إنما نعطي في الآخرة من الخير ما تعطون فنزلت هذه الآية أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ يعني الذين اتقوا الشرك وهم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كَالْفُجَّارِ يعني الكفار والمعنى لا نجعل الفريقين سواء في الآخرة.

كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢)

٢٩

٣٢

كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ أي هذا كتاب يعني القرآن أنزلناه إليك مُبارَكٌ أي كثير خيره ونفعه لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي ليتدبروا ويتفكروا في أسراره العجيبة ومعانيه اللطيفة

وقيل تدبر آياته اتباعه في أوامره ونواهيه وَلِيَتَذَكَّرَ أي وليتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أي ذوو العقول والبصائر.

قوله تعالى : وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ قيل إن سليمان عليه الصلاة والسلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ما أصاب وهو ألف فرس

وقيل ورثها من أبيه

وقيل إنها كانت خيلا من البحر لها أجنحة فصلى سليمان عليه الصلاة والسلام الصلاة الأولى التي هي الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه فعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتمّ لذلك وقال ردّوها عليّ فأقبل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف تقربا إلى اللّه تعالى وطلبا لمرضاته حيث اشتغل بها عن طاعته وكان ذلك مباحا له وإن كان حراما علينا وبقي منها مائة فرس فالذي في أيدي الناس من الخيل يقال إنه من نسل تلك المائة فلما عقرها اللّه تعالى أبدله اللّه تعالى خيرا منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف شاء ،

وقوله تعالى : إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ قيل هي الخيل القائمة على ثلاث قوائم مقيمة الرابعة على طرف الحافر من رجل أو يد

وقيل الصافن القائم وجاء في الحديث (من سرّه أن يقوم له الناس صفونا فليتبوأ مقعده من النار) أي قياما الجياد : أي الخيار السراع في الجري واحده جواد قال ابن عباس يريد الخيل السوابق فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي آثرت حب الخير وأراد بالخير الخيل سميت به لأنه معقود في نواصيها الخير الأجر والغنيمة

وقيل حب الخير يعني المال ومنه الخيل التي عرضت عليه عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يعني صلاة العصر حَتَّى تَوارَتْ أي استترت الشمس بِالْحِجابِ أي ما يحجبها من الأبصار يقال إن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه.

رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)

٣٣

٣٤

رُدُّوها عَلَيَّ أي ردوا الخيل علي فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ جمع ساق وَالْأَعْناقِ أي جعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين وكان ذلك مباحا له لأن نبي اللّه سليمان لم يكن ليقدم على محرم ولم يكن ليتوب عن ذنب وهو ترك الصلاة بذنب آخر وهو عقر الخيل ، وقال محمد بن إسحاق : لم يعنفه اللّه تعالى على عقره الخيل إذ كان ذلك أسفا على ما فاته من فريضة ربه عز وجلّ ،

وقيل إنه ذبحها وتصدق بلحومها.

وقيل معناه إنه حبسها في سبيل اللّه تعالى وكوى سوقها وأعناقها بكي الصدقة. وحكي عن علي رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : معنى ردوها عليّ يقول بأمر اللّه تعالى للملائكة الموكلين بالشمس ردوها

عليّ فردوها عليه فصلى العصر في وقتها قال الإمام فخر الدين بل التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن أن نقول إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أنه كذلك في ديننا ثم إن سليمان عليه الصلاة والسلام احتاج إلى غزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر اللّه تعالى وتقوية دينه وهو المراد بقوله عن ذكر ربي ثم إنه عليه الصلاة والسلام أمر بإعدائها وإجرائها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر برد الخيل إليه وهو قوله ردوها عليّ فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور الأول تشريف لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو الثاني أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والمملكة يبلغ إلى أنه يباشر الأمور بنفسه الثالث أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها من غيره فكان يمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزمنا شيء من تلك المنكرات والمحظورات والعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة فإن قيل فالجمهور قد فسروا الآية بتلك الوجوه فما قولك فيه ، فنقول : لنا هاهنا مقامات المقام الأول أن يدعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي ذكروها وقد ظهروا الحمد للّه أن الأمر كما ذكرنا ظهورا لا يرتاب عاقل فيه ، المقام الثاني : أن يقال هب أن لفظ الآية يدل عليه إلا أنه كلام ذكره الناس وأن الدلائل الكثيرة قد قامت على عصمة الأنبياء ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات.

قوله عزّ وجلّ : وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه وكان سبب ذلك ما ذكر عن وهب بن منبه قال : سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون وبها ملك عظيم الشأن ولم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر وكان اللّه تعالى قد أتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر إنما يركب إليه الريح فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وسبى ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسنا وجمالا فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها فشقّ ذلك على سليمان ، فقال لها ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ ، قالت : إني أذكر أبي وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك فقال سليمان : فقد أبدلك اللّه ملكا هو أعظم من ملكه وسلطانا أعظم من سلطانه وهداك إلى الإسلام وهو خير من ذلك قالت إن ذلك كذلك ولكني إذ ذكرته أصابني ما تراه من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا لي صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزني وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي فأمر سليمان الشياطين ، فقال : مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئا فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه فعمدت إليه حين صنعوه فألبسته ثيابا مثل ثيابه التي كان يلبسها ، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو إليه في ولائدها فتسجد له ويسجدن معها كما كانت تصنع في ملكه وتروح في كل عشية بمثل ذلك وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا.

وبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صديقا له وكان لا يرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل حاضرا سليمان أو غائبا ، فأتاه فقال : يا نبي اللّه كبر سني ورق عظمي ونفد عمري وقد حان مني الذهاب وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء اللّه تعالى وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير أمرهم. فقال : افعل فجمع له سليمان الناس ، فقام فيهم خطيبا فذكر من مضى من أنبياء اللّه تعالى وأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضله اللّه تعالى به حتى انتهى إلى سليمان فقال : ما كان أحكمك في صغرك وأورعك في صغرك وأفضلك في صغرك وأحكم أمرك في صغرك وأبعدك عن كل ما يكره اللّه تعالى في صغرك ثم انصرف ، فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتى ملئ غضبا فلما دخل سليمان داره دعاه فقال : يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء اللّه تعالى فأثنيت

عليهم خيرا في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم فلما ذكرتني جعلت تثني علي خيرا في صغري وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر عمري؟ قال آصف : إنّ غير اللّه يعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة ، فقال سليمان في داري؟ قال : في دارك قال : فإنا للّه وإنا إليه راجعون قد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك.

ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة وولائدها ثم أمر بثياب الظهيرة فأتى بها وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار ولا ينسجها إلا الأبكار ولا يغسلها إلا الأبكار لم تمسها يد امرأة قد رأت الدم فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده وأمر برماد ففرش له ثم أقبل تائبا إلى اللّه تعالى حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك به في ثيابه تذللا إلى اللّه تعالى وتضرعا إليه يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى ثم رجع إلى داره وكانت له أم ولد يقال لها أمينة كان إذا دخل الخلاء أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر وكان لا يمسّ خاتمه إلا وهو طاهر وكان ملكه في خاتمه فوضعه يوما عندها ثم دخل مذهبه ، فأتاها شيطان اسمه صخر المارد في صورة سليمان لا تنكر منه شيئا فقال : خاتمي أمينة فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الطير والوحش والجن والإنس وخرج سليمان فأتى أمينة وقد تغيرت حالته وهيأته عند كل من رآه فقال : يا أمينة خاتمي قالت من أنت قال سليمان بن داود فقالت كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول : أنا سليمان بن داود فيحثون عليه التراب ويقولون انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان. فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب السوق ويعطونه كل يوم سمكتين فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة ويشوي الأخرى فيأكلها.

فمكث على ذلك أربعين صباحا عدة ما كان يعبد الوثن في داره ثم إن آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حكم عدو اللّه الشيطان في تلك المدة فقال آصف يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيتم قالوا نعم فقال أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن هل أنكرن من خاصة أمره ما أنكرنا في عامة الناس وعلانيتهم فدخل على نسائه فقال : ويحكن هل أنكرتن من ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن : أشده ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من الجنابة ، فقال : إنا للّه وإنا إليه راجعون. قال الحسن : ما كان اللّه سبحانه وتعالى ليسلط الشيطان على نساء نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم قال وهب : ثم إن آصف خرج على بني إسرائيل فقال ما في الخاصة أشد مما في العامة فلما مضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان صدر يومه فلما أمسى أعطاه سمكتيه فباع سليمان إحداهما بأرغفة وبقر بطن الأخرى ليشويها ، فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه وجعله في يده ووقع للّه ساجدا وعكفت عليه الطير والجن وأقبل الناس عليه وعرف الذي كان دخل عليه لما كان أحدث في داره فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين أن يأتوه بصخر فطلبوه حتى أخذوه فأتي به فأدخله في جوف صخرة وسدّ عليه بأخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم أمر به فقذفوه في البحر.

وقيل في سبب فتنة سليمان عليه الصلاة والسلام أن جرادة كانت أبرّ نسائه عنده وكان يأتمنها على خاتمه ، فقالت له يوما إن أخي بينه وبين فلان خصومة فأحب أن تقضي له فقال نعم ولم يفعل فابتلي بقوله نعم وذكروا نحو ما تقدم.

وقيل إن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده فأعاده في يده فسقط وكان فيه ملكه فأيقن سليمان بالفتنة فأتاه آصف فقال : إنك مفتون بذلك والخاتم لا يتماسك في يدك ففرّ إلى اللّه تعالى تائبا فإني أقوم مقامك وأسير بسيرتك إلى أن يتوب اللّه عليك. ففر سليمان إلى اللّه تعالى تائبا وأعطى آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت في

يده فأقام آصف في ملك سليمان بسيرته أربعة عشر يوما إلى أن رد اللّه تعالى على سليمان ملكه وتاب عليه فرجع إلى ملكه وجلس على سريره وأعاد الخاتم في يده فثبت فهو الجسد الذي ألقي على كرسيه. وروي عن سعيد بن المسيب قال : احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام فأوحى اللّه تعالى إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي فابتلاه اللّه تعالى وذكر نحو ما تقدم من حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه ، قال القاضي عياض وغيره من المحققين : لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبيه الشيطان به وتسليطه على ملكه وتصرفه في أمته بالجور في حكمه وإن الشياطين لا يسلطون على مثله هذا وقد عصم اللّه تعالى الأنبياء من مثل هذا ، والذي ذهب إليه المحققون أن سبب فتنته ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل اللّه تعالى فقال له صاحبه قل إن شاء اللّه فلم يقل إن شاء اللّه ، فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وايم اللّه الذي نفسي بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسنا أجمعين)

وفي رواية لأطوفنّ بمائة امرأة فقال له الملك قل إن شاء اللّه فلم يقل ونسي قال العلماء والشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه وهي عقوبته ومحنته لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص وغلب عليه من التمني

وقيل نسي أن يستثني كما صح في الحديث لينفذ أمر اللّه ومراده فيه

وقيل إن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه أنه ولد له ولد فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض إن عاش له ولد لم ننفك من البلاء فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله ، فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب فحمله فكان يربيه في السحاب خوفا من الشياطين فبينما هو مشتغل في بعض مهماته إذا ألقى ذلك الولد ميتا على كرسيه فعاتبه اللّه على

خوفه من الشياطين ولم يتوكل عليه في ذلك ، فتنبه لخطئه فاستغفر ربه فذلك

قوله عز وجل : وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ أي رجع إلى ملكه بعد الأربعين يوما

وقيل أناب إلى الاستغفار وهو قوله :

قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)

٣٥

قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي أي سأل ربه المغفرة وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي لا يكون لأحد من بعدي

وقيل لا تسلبنيه في باقي عمري وتعطيه غيري كما سلبته مني فيما مضى من عمري إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ

فإن قلت قول سليمان لا ينبغي لأحد من بعدي مشعر بالحسد والحرص على الدنيا.

قلت لم يقل ذلك حرصا على طلب الدنيا ولا نفاسة بها ولكن كان قصده في ذلك أن لا يسلط عليه الشيطان مرة أخرى وهذا على قول من قال إن الشيطان استولى على ملكه.

وقيل سأل ذلك ليكون علما وآية لنبوته ومعجزة دالة على رسالته ودلالة على قبول توبته حيث أجاب اللّه تعالى دعاءه وردّ ملكه إليه وزاده فيه

وقيل كان سليمان ملكا ولكنه أحب أن يخص بخاصية كما خص داود بإلانة الحديد وعيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فسأل شيئا يختص به كما روى في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال (إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني اللّه منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان :

رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرددته خاسئا)

قوله تعالى :

فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)

وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢)

٣٦

٤٤

فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً أي لينة ليست بعاصفة حَيْثُ أَصابَ أي حيث أراد وَالشَّياطِينَ أي وسخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ أي يبنون له ما يشاء وَغَوَّاصٍ يعني يستخرجون له اللئالئ من البحر وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر وَآخَرِينَ أي وسخرنا له آخرين وهم مردة الشياطين مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي مشدودين في القيود سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد هذا عَطاؤُنا أي قلنا له هذا عطاؤنا فَامْنُنْ أي أحسن إلى من شئت أَوْ أَمْسِكْ أي عمن شئت بِغَيْرِ حِسابٍ أي لا حرج عليك فيما أعطيت ولا فيما أمسكت قال الحسن : ما أنعم اللّه تعالى على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان فإنه إن أعطى أجر وإن لم يعط لم تكن عليه تبعة

وقيل هذا في أمر الشياطين يعني هؤلاء الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم فخل عنه وأمسك أي احبس من شئت منهم في العمل

وقيل في الوثاق لا تبعة عليك فيما تتعاطاه وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ لما ذكر اللّه تعالى ما أنعم به عليه في الدنيا أتبعه بما أنعم به عليه في الآخرة.

قوله عز وجل : وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ أي بمشقة وَعَذابٍ أي ضر وذلك في المال والجسد وقد تقدمت قصة أيوب ارْكُضْ يعني أنه لما انقضت مدة ابتلائه قيل له اركض أي اضرب بِرِجْلِكَ يعني الأرض ففعل فنبعت عين ماء عذب هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ أمره اللّه تعالى أن يغتسل منه ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فركض برجله الأرض مرة أخرى فنبعت عين ماء عذب أخرى فشرب منه فذهب كل داء كان في باطنه فذلك

قوله عز وجل : وَشَرابٌ.

وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧)

وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢)

٤٣

٥٢

وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا أي إنما فعلنا ذلك معه على سبيل التفضل والرحمة لا على اللزوم وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يعني سلّطنا البلاء عليه فصبر ، ثم أزلناه عنه وكشفنا ضره فشكر فهو موعظة لذوي العقول والبصائر وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً أي ملء كفك من حشيش أو عيدان أو ريحان فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط فشكر اللّه حسن صبرها معه فأفتاه في ضربها وسهل له الأمر وأمره بأن يأخذ ضغثا يشتمل على مائة عود صغار فيضربها به ضربة واحدة ففعل ولم يحنث في يمينه وهل ذلك لأيوب خاصة أم لا؟ فيه قولان

أحدهما أنه عام.

وبه قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح

والثاني أنه خاص بأيوب.

قال مجاهد واختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده مائة سوط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة.

فقال مالك والليث بن سعيد وأحمد لا يبر.

وقال أبو حنيفة والشافعي إذا ضربه ضربة واحدة فأصابه كل سوط على حدة فقد بر واحتجوا بعموم هذه الآية إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً أي على البلاء الذي ابتليناه به نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ

قوله تعالى : وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي اذكر صبرهم فإبراهيم ألقي في النار فصبر وإسحاق أضجع للذبح في قول فصبر ويعقوب ابتلي بفقد ولده وذهاب بصره فصبر : أُولِي الْأَيْدِي قال ابن عباس أولي القوة في طاعة اللّه تعالى :

وَالْأَبْصارِ أي في المعرفة باللّه تعالى ،

وقيل : المراد باليد أكثر الأعمال وبالبصر أقوى الإدراكات فعبر بهما عن العمل باليد وعن الإدراك بالبصر وللإنسان قوتان عالمية وعاملية وأشرف ما يصدر عن القوة العالمية معرفة اللّه تعالى وأشرف ما يصدر عن القوة العاملية طاعته وعبادته فعبر عن هاتين القوتين بالأيدي والأبصار إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ قيل معناه أخلصناهم بذكرى الآخرة فليس لهم ذكرى غيرها ،

وقيل نزعنا من قلوبهم حبّ الدنيا وذكراها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكراها

وقيل كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى اللّه تعالى ،

وقيل أخلصوا بخوف الآخرة وهو الخوف الدائم في القلب

وقيل أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ يعني من الذين اختارهم اللّه تعالى واتخذهم صفوة وصفاهم من الأدناس والأكدار وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ أي اذكرهم بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ

قوله عز وجل : هذا ذِكْرٌ أي الذي يتلى عليكم ذكر

وقيل شرف

وقيل جميل تذكرون به وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أي حسن مرجع ومنقلب يرجعون وينقلبون إليه في الآخرة ثم ذكر ذلك

فقال تعالى : جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ قيل تفتح أبوابها لهم بغير فتح لها بيد بل بالأمر يقال لها انفتحي انغلقي مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ أي مستويات الأسنان والشباب والحسن بنات ثلاث وثلاثين سنة

وقيل متآخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن ولا يتحاسدن.

هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧)

وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠)

٥٣

٦٠

هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ أي قيل للمؤمنين هذا ما توعدون ،

وقيل هذا ما يوعد به المتقون إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ أي دائم ما له من نفاد وانقطاع بل هو دائم كلما أخذ منه شيء عاد مثله في مكانه.

قوله تعالى : هذا أي الأمر الذي ذكرناه وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ يعني الكافرين لَشَرَّ مَآبٍ يعني لشر مرجع يرجعون إليه ثم بينه

فقال تعالى : جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ أي الفراش هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ معناه هذا حميم وهو الماء الحار وغساق. قال ابن عباس : هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها

وقيل هو ما يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة

وقيل الغساق عين في جهنم

وقيل هو البارد المنتن والمعنى هذا حميم وغساق فليذوقوه وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أي مثل الحميم والغساق أَزْواجٌ أي أصناف أخر من العذاب هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ قال ابن عباس هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة هذا فوج يعني جماعة الأتباع مقتحم معكم النار أي داخلوها كما دخلتموها أنتم قيل إنهم يضربون بالمقامع حتى يقتحموها بأنفسهم خوفا من تلك المقامع قالت القادة لا مَرْحَباً بِهِمْ أي الأتباع إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي داخلوها كما صليناها نحن قالُوا أي قال الأتباع للقادة بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي لا رحبت بكم الأرض والعرب تقول مرحبا وأهلا وسهلا أي أتيت رحبا وسعة أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا يعني وتقول الأتباع للقادة أنتم بدأتم بالكفر قبلنا وشرعتموه لنا

وقيل معناه أنتم قدمتم لنا هذا العذاب بدعائكم إيانا إلى الكفر فَبِئْسَ الْقَرارُ أي فبئس دار القرار جهنم.

قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)

رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧)

٤٦

٦٥

قالُوا يعني الأتباع رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا أي شرعه وسنه لنا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ أي ضعف عليه العذاب في النار.

قال ابن عباس حيات وأفاعي وَقالُوا يعني كفار قريش وصناديدهم وأشرافهم وهم في النار ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ أي في الدنيا مِنَ الْأَشْرارِ يعنون بذلك فقراء المؤمنين مثل عمار وخباب وصهيب وبلال وسليمان وإنما سموهم أشرارا لأنهم كانوا على خلاف دينهم أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ يعني أن الكفار إذا دخلوا النار نظروا فلم يروا فيها الذين كانوا يسخرون منهم فقالوا ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخريا لم يدخلوا معنا النار أم دخلوها فزاغت عنهم الأبصار أي أبصارنا فلم نرهم حين دخلوا.

وقيل معناه أم هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا

وقيل معناه أم كانوا خيرا منا ونحن لا نعلم فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئا إِنَّ ذلِكَ أي الذي ذكر لَحَقٌّ ثم بين ذلك

فقال تعالى : تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي في النار وإنما سماه تخاصما لأن قول القادة للأتباع لأمر حبا بكم وقول الأتباع للقادة بل أنتم لا مرحبا بكم من باب الخصومة.

قوله عز وجل : قُلْ أي يا محمد لمشركي مكة إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أي مخوف وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ يعني الذي لا شريك له في ملكه الْقَهَّارُ أي الغالب وفيه شعار بالترهيب والتخويف ثم أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب

فقال تعالى : رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ فكونه ربا يشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود وكونه غفارا يشعر بأنه يغفر الذنوب وإن عظمت ويرحم قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ يعني القرآن قاله ابن عباس

وقيل يعني القيامة.

أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢)

فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥)

٦٨

٧٥

أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي لا تتفكرون فيه فتعلمون صدقي في نبوتي وأن ما جئت به لم أعلمه إلا بوحي من اللّه تعالى : ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى يعني الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ يعني في شأن آدم حين قال اللّه تعالى : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ.

فإن قلت كيف يجوز أن يقال إن الملائكة اختصموا بسبب قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ والمخاصمة مع اللّه تعالى لا تليق ولا تمكن.

قلت لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة وهو علة لجواز المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة إِنْ يُوحى إِلَيَّ أي إنما علمت هذه المخاصمة بوحي من اللّه تعالى إليّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ يعني إلا أنما أنا نبي أنذركم وأبين لكم ما تأتونه وتجتنبونه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (أتاني ربي في أحسن صورة قال أحسبه قال في المنام فقال يا محمد هل تدري فيم

يختصم الملأ الأعلى قلت لا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو قال في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض قال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟

قلت نعم في الكفارات والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجمعات وإسباغ الوضوء على المكاره ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه وقال يا محمد إذا صليت فقل : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون قال والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام)

وفي روايةقلت لبيك وسعديك في المرتين) وفيها (فعلمت ما بين المشرق والمغرب) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.

(فصل : في الكلام على معنى هذا الحديث) وللعلماء في هذا الحديث وفي أمثاله من أحاديث الصفات مذهبان

أحدهما وهو مذهب السلف إمراره كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والإيمان به من غير تأويل له والسكوت عنه وعن أمثاله مع الاعتقاد بأن اللّه تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

المذهب الثاني : هو تأويل الحديث ،

وقيل الكلام على معنى الحديث نتكلم على إسناده فنقول قال البيهقي : هذا حديث مختلف في إسناده فرواه زهير بن محمد عن يزيد بن يزيد عن جابر عن خالد بن الحلاج عن عبد الرّحمن بن عائش عن رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ورواه جهضم بن عبد اللّه عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن عبد الرّحمن بن عائش الحضرمي عن مالك بن عامر عن معاذ بن جبل عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ورواه موسى بن خلف العمي عن يحيى عن زيد عن جده ممطور وهو أبو سلام عن ابن السكسكي عن مالك بن يخامر

وقيل فيه غير ذلك ، ورواه أبو أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس وقال فيه أحسبه قال في المنام ، ورواه قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن الحلاج عن ابن عباس قال البخاري عبد الرّحمن بن عائش الحضرمي له حديث واحد إلا أنهم يضطربون فيه وهو حديث الرؤية. قال البيهقي وقد روى من طرق كلها ضعاف وفي ثبوته نظر وأحسن طريق فيه رواية جهضم بن عبد اللّه ثم رواية موسى بن خلف وفيهما ما يدل على أن ذلك كان في المنام.

فأما تأويله فإن الصورة هي التركيب والمصور هو المركب ولا يجوز أن يكون الباري تبارك وتعالى مصورا ولا أن يكون له صورة لأن الصور مختلفة والهيئات متضادة ولا يجوز إضافة ذلك إليه سبحانه وتعالى فاستحال أن يكون مصورا وهو الخالق الباري المصور فقوله أتاني ربي في أحسن صورة يحتمل وجهين

أحدهما وأنا في أحسن صورة كأنه زاده جمالا وكمالا وحسنا عند رؤيته وفائدة ذلك تعريفه لنا أن اللّه تعالى زين خلقته وحسن صورته عند رؤيته لربه وإنما التغيير وقع بعد لشدة الوحي وثقله.

الوجه الثاني : أن الصورة بمعنى الصفة ويرجع ذلك إلى اللّه تعالى والمعنى أنه رآه في أحسن صفاته من الإنعام عليه والإقبال والاتصال إليه وأنه تلقاه بالإكرام والإعظام والإجلال. وقد يقال في صفات اللّه تعالى إنه جميل ومعناه أنه مجمل في أفعاله وذلك نوع من الإحسان والإكرام فذلك من حسن صفة اللّه تعالى وقد يكون حسن الصورة أيضا يرجع إلى صفاته العلية من التناهي في العظمة والكبرياء والعلو والعز والرفعة حتى لا منتهى ولا غاية وراءه ، ويكون معنى الحديث على هذا تعريفنا ما تزايد من معارفه صلّى اللّه عليه وسلّم عند رؤية ربه عزّ وجلّ فأخبر عن عظمته وعزته وكبريائه وبهائه وبعده عن شبه الخلق وتنزيهه عن صفات النقص وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم (فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي) فتأويله أن المراد باليد النعمة والمنة والرحمة وذلك شائع في لغة العرب فيكون معناه على هذا الإخبار بإكرام اللّه تعالى إياه وإنعامه عليه بأن شرح صدره ونور قلبه وعرفه ما لا يعرفه أحد حتى وجد برد النعمة والمعرفة في قلبه وذلك لما نور قلبه وشرح صدره

فعلم ما في السموات وما في الأرض بإعلام اللّه تعالى إياه وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون إذ لا يجوز على اللّه تعالى ولا على صفات ذاته مماسة أو مباشرة أو نقص وهذا هو أليق بتنزيهه وحمل الحديث عليه وإذا حملنا الحديث على المنام وأن ذلك كان في المنام فقد زال الإشكال وحصل الغرض ولا حاجة بنا إلى التأويل.

ورؤية البارئ عزّ وجلّ في المنام على الصفات الحسنة دليل على البشارة والخير والرحمة للرائي وسبب اختصام الملأ الأعلى وهم الملائكة في الكفارات وهي الخصال المذكورة في الحديث في أيها أفضل وسميت هذه الخصال كفارات لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه ، وإنما سماه مخاصمة لأنه ورد مورد سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه واللّه تعالى أعلم.

قوله عز وجل : إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ أي آدم فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي أتممت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك على سبيل التشريف كبيت اللّه وناقة اللّه ولأن الروح جوهر شريف قدسي يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء وكسريان النار في الفحم فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي تعظم وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي توليت خلقه أَسْتَكْبَرْتَ أي تعظمت بنفسك عن السجود له أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك منهم فأجاب إبليس بقوله :

قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)

إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)

قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)

٧٦

٨٨

قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ يعني لو كنت مساويا له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له فكيف وأنا خير منه. ثم بين كونه خيرا منه فقال خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ والنار أشرف من الطين وأفضل منه وأخطأ إبليس في القياس لأن مآل النار إلى الرماد الذي لا ينتفع به والطين أصل كل ما هو نام ثابت كالإنسان والشجرة المثمرة ومعلوم أن الإنسان والشجرة المثمرة خير من الرماد وأفضل.

وقيل : هب أن النار خير من الطين بخاصية فالطين خير منها وأفضل بخواص وذلك مثل رجل شريف نسيب لكنه عار عن كل فضيلة فإن نسبه يوجب رجحانه بوجه واحد ، ورجل ليس بنسيب ولكنه فاضل عالم فيكون أفضل من ذلك النسيب بدرجات كثيرة قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة

وقيل من السماء.

وقيل من الخلقة التي كان فيها وذلك لأن إبليس تجبر وافتخر بالخلقة فغير اللّه تعالى خلقته فاسود وقبح بعد حسنه ونورانيته فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي مطرود وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ

فإن قلت إذا كان الرجم بمعنى الطرد وكذلك اللعنة لزم التكرار فما الفرق.

قلت الفرق أن يحمل الرجم على الطرد من الجنة أو السماء وتحمل اللعنة على معنى الطرد من الرحمة فتكون أبلغ وحصل الفرق وزال التكرار.

فإن قلت كلمة إلى لانتهاء الغاية وقوله إلى يوم الدين يقتضي انقطاع اللعنة عنه عند مجيء يوم الدين.

قلت معناه أن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا كان يوم القيامة زيد له مع اللعنة من أنواع العذاب ما ينسى بذلك اللعنة فكأنها انقطعت عنه قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ يعني النفخة الأولى قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ أي أنا أقول الحق

وقيل الأول قسم يعني فبالحق وهو اللّه تعالى أقسم بنفسه لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أي بنفسك وذريتك وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ يعني من بني آدم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ أي جعل وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي المتقولين القرآن من تلقاء نفسي وكل من قال شيئا من تلقاء نفسه فقد تكلف له

(ق) عن مسروق قال : دخلنا على ابن مسعود فقال يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل اللّه أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم اللّه أعلم قال اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ لفظ البخاري إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ أي موعظة لِلْعالَمِينَ أي للخلق أجمعين وَلَتَعْلَمُنَّ يعني أنتم يا أهل مكة نَبَأَهُ أي خبر صدقه بَعْدَ حِينٍ قال ابن عباس : بعد الموت ،

وقيل يوم القيامة

وقيل من بقي علم بذلك إذا ظهر أمره وعلا ومن مات علمه بعد الموت. وقال الحسن بن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين واللّه تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

﴿ ٠