٦٩قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوع الوليد فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا : يا رسول اللّه سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي له ما قبلناه من حق اللّه فبدا له الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ باللّه من غضب اللّه وغضب رسوله فاتهمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه ، وقال : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك ، فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد. فوافاهم فسمع منهم أذان المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فانصرف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخبره الخبر فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ يعني الوليد بن عقبة. وقيل : هو عام نزلت لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق وهو أولى من حكم الآية على رجل بعينه ، لأن الفسوق خروج عن الحق ولا يظن بالوليد ذلك إلا أنه ظن وتوهم فأخطأ ، فعلى هذا يكون معنى الآية : إن جاءكم فاسق بنبإ ، أي بخبر ، فتبينوا. وقرئ : فتثبتوا ، أي : فتوقفوا واطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا على قول الفاسق أَنْ تُصِيبُوا أي كيلا تصيبوا بالقتل والسبي قَوْماً بِجَهالَةٍ أي جاهلين حاله وحقيقة أمرهم فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ أي من إصابتكم بالخطإ نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي : فاتقوا اللّه أن تقولوا باطلا أو تكذبوه فإن اللّه يخبره ويعرفه حالكم فتفتضحوا لَوْ يُطِيعُكُمْ أي الرسول فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ أي مما تخبرونه به فيحكم برأيكم لَعَنِتُّمْ أي لأثمتم وهلكتم عن أبي سعيد الخدري (أنه قرأ واعلموا أن فيكم رسول اللّه لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم قال : هذا نبيكم يوحى إليه وخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا فكيف بكم اليوم) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أي جعله أحب الأديان إليكم وَزَيَّنَهُ أي حسنه وقربه منكم وأدخله فِي قُلُوبِكُمْ حتى اخترتموه لأن من أحب شيئا إذا طال عليه قد يسأم منه والإيمان في كل يوم يزداد في القلب حسنا وثباتا وبذلك تطيعون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ قال ابن عباس : يريد الكذب وَالْعِصْيانَ جميع معاصي اللّه تعالى وفي هذه لطيفة ، وهو أن اللّه تعالى ذكر هذه الثلاثة الأشياء في مقابلة الإيمان الكامل المزين في القلب المحبب إليه. والإيمان الكامل : ما اجتمع فيه ثلاثة أمور : تصديق بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان. فقوله : وكره إليكم الكفر في مقابله. قوله : حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وهو التصديق بالجنان والفسوق وهو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان فكره إلى عبده المؤمن الكذب وهو الجحود وحبب إليه الإقرار بشهادة الحق والصدق وهو : لا إله إلا اللّه. والعصيان في مقابلة العمل بالأركان فكره إليه العصيان وحبب إليه العمل الصالح بالأركان ثم قال تعالى : أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ إشارة إلى المؤمنين المحبب إليهم الإيمان المزين في قلوبهم أي : أولئك هم المهتدون إلى محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي فعل ذلك بكم فضلا منه وَنِعْمَةً عليكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بكم وبما في قلوبكم حَكِيمٌ في أمره بما تقتضيه الحكمة وقيل عليم بما في خزائنه من الخير والرحمة والفضل والنعمة حكيم بما ينزل من الخير بقدر الحاجة إليه على وفق الحكم. قوله عز وجل : وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا. (ق) عن أنس قال : قيل للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لو أتيت عبد اللّه بن أبيّ. فانطلق إليه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة ، فلما أتاه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : إليك عني واللّه لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار : واللّه لحمار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أطيب ريحا منك. فغضب لعبد اللّه رجل من قومه ، فتشاتما ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عليهم فأصلحوا وكف بعضهم عن بعض. (ق) عن أسامة بن زيد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ركب على حمار عليه إكاف تحته قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال : فسار حتى مر على مجلس فيه عبد اللّه بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد اللّه بن أبيّ. وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأصنام واليهود وفي المسلمين عبد اللّه بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد اللّه بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال : لا تغيروا علينا. فسلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى اللّه تعالى وقرأ عليهم القرآن فقال عبد اللّه بن أبي ابن سلول : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذونا به في مجالسنا وارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد اللّه بن رواحة : بلى يا رسول اللّه فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك. واستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم دابته. وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مماراة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر : لآخذن حقي منك عنوة لكثرة عشيرته ، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف. وقيل : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل وكان بينهما وبين زوجها شيء فرقي بها إلى علية فحبسها فيها ، فبلغ ذلك قومها فجاؤوا وجاء معه قومه ، فاقتتلوا بالأيدي والنعال ، فأنزل اللّه عز وجل : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا. وقيل : المراد من الطائفتين الأوس والخزرج. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما أي بالدعاء إلى حكم كتاب اللّه والرضا بما فيه لهما وعليهمافَإِنْ بَغَتْ أي تعدت إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى وأبت الإجابة إلى حكم كتاب اللّه فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ أي ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي إلى كتابه الذي جعله حكما بين خلقه. وقيل : ترجع إلى طاعته في الصلح الذي أمر به فَإِنْ فاءَتْ أي رجعت إلى الحق فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ أي الذي يحملهما على الإنصاف والرضا بحكم اللّه وَأَقْسِطُوا أي اعدلوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) |
﴿ ٦ ﴾