١٩٦

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه} .

قرأ ابن أبي إسحاق : (الحج) بكسر الحاء في جميع القرآن وهي لغة تميم وقيس بن غيلان.

وذكر عن طلحة بن مصرف : بالكسر هاهنا،

وفي سورة آل عمران،

وبالفتح في سائر القرآن.

وقرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم،

برواية حفص : بالكسر في آل عمران وبالفتح في سائر القرآن.

وقرأ الباقون : بالفتح كل القرآن وهي لغة أهل الحجاز. قال الكسائي : هما لغتان ليس بينهما في المعنى شيء مثل رَطل ورِطل (......) بنصب وكسر.

وقال أبو معاذ : (الحج) بالفتح مصدر والحج بالكسر الإسم مثل قسم وقِسم وشرب وشِرب وسَقي وسقِي وفي مصحف عبداللّه {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه} بالبيت.

وقرأ علقمة وإبراهيم : واتيموا الحج والعمرة.

واختلف المفسرون في اتمامهما.

فقال بعضم : معنى ذلك واتموا الحج والعمرة بمناسكهما وحدودهما وسنتهما وهو قول ابن عباس وعلقمة وإبرهيم ومجاهد.

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في هذه الآية قال : من أحرم بحج أو عمرة ليس له أن يحل حتّى يتمها،

وتمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة فطاف بالبيت وقد حل من إحرامه كلّه بتمام العمرة،

إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حلّ،

وفرائض الحج أربعة : الإحرام،

والوقوف بعرفة،

وطواف الافاضة،

والطواف والسعي بين الصفا والمروة،

وأعمال العمرة كلها أربعة : فرض الاحرام،

والطواف،

والسعي،

والحلق أو التقصير،

وأقله ثلاث شعرات.

روى سعيد بن جبير وطاوس : تمام الحج والعمرة أن يحرم بهما مفردين......

وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبداللّه بن سلمة فقال جاء رجل إلى علي فقال : أرأيت قول اللّه عزّ وجلّ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه} قال : إن تحرم من دويرة أهلك.

قال قتادة (إتمام العمرة) أن يعتمر في غير أشهر الحج،

وما كان في أشهر الحج ثمّ أقام حتّى يحج فهي متعة،

وعليه فيها الهدي إن وجد،

أو الصيام،

وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلها حتّى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة.

ابن جريح عن عطاء عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه : (عمرة في رمضان تعدل حجّة).

وقال الضحاك : أيامها أن يكون النفقة حلالاً (وينتهي) عما نهى اللّه عنه.

وقال سفيان : تمامها أن يخرج من (بلده) لهما لا يريد غيرهما ولا يخرج لتجارة ولا لحاجة حتّى إذا كنت قريباً من مكّة قلت : لو حججت أو إعتمرت،

وذلك يجزي ولكن التمام أن يخرج له ولا يخرج لغيره.

وروى جعفر بن سليمان (البيعي) عن ثابت عن أنس قال : قال رسول اللّه : (يأتي على الناس زمان يحج أغنياء الناس للنزهة،

وسائلهم للتجارة وقرّاؤهم للرياء والسمعة وفقرائهم للمسألة).

وفي هذا المعنى كان يقول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : الوفَّاد كثير والحجاج قليل.

حكم الآية

اختلف الفقهاء في العمرة،

فقال قوم : هي سنّة حسنة وليست بفريضة واجبة وهو مذهب أحمد ومالك بن أنس وأبي ثور وقول الشافعي في القديم وهو اختيار جرير بن محمّد الطبري،

وإحتجوا بقراءة الشعبي {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} للّه رفعاً.

وبما روى محمّد بن المنكدر عن جابر عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) إنّه سأل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟

وأن تعتمروا خيرٌ لكم؟

وفي مهاجر الحج فريضة والعمرة تطوع قالوا أيضاً لما ذكر اللّه فرض الحج لم يذكر معه العمرة،

وقال عزّ من قائل {وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} .

وقال الآخرون : ان العمرة فريضة وهي الحج والأصغر،

وهو قول علي وابن عبّاس وزيد ابن ثابت وعلي بن الحسين وعطاء وقتادة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وقول الشافعي في الجديد والأصح من مذهبه واختيار أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه،

وإحتجوا في ذلك بقراءة العامة والعمرة،

نصباً على معنى وأتموا فرض الحج والعمرة.

وبما روي عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) إنّه قال : (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة).

وروى عكرمة عن ابن عبّاس إنّه قال : واللّه إن العمرة لفريضة الحج،

في كتاب اللّه {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه} وقال ابن عمر : ليس من خلق اللّه أحد إلاّ وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً،

كما قال اللّه تعالى. فمن زاد بعد ذلك فهو خير وتطوع.

وقال مسروق : أمرنا في كتاب اللّه بأربعة : إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحجّ والعمرة فنزّلت العمرة من الحجّ منزلة الزكاة من الصلاة،

ثمّ تلا هذه الآية {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه} .

وقال عبدالملك بن سليمان : سأل رجل سعيد بن جبير عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) ان العمرة فريضة هي أم تطوع؟

فقال : فريضة،

قال : فإن الشعبي يقول هي تطوع،

قال : كذّب الشعبي،

ثمّ قرأ (واتموا الحج والعمرة للّه)،

فمن قال : إن العمرة ليست بفرض يأول الآية على معنى : أتموها إذا دخلتم فيها ولم يرد إبتدأ الدخول فيه فرضاً عليه،

وذلك كالمتطوع بالحج لا خلاف فيه إذا أحرم أنَّ عليه المضي فيه وإتمامه،

فإن لم يكن فرضاً عليه إبتدأ الدخول فيه وكذلك العمرة.

ومثله روي ابن وهب عن زيد قال : ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال : فقلت له : قول اللّه {فأتموا الحج والعمرة للّه} قال : ليس من الخلق أحد ينبغي له إذا شرع في أمر إلاّ أن يتمه وإذا خرج فيها لم ينبغي له أن يحل يوماً ثمّ يرجع كما لو صام يوماً لم ينبغي له أن يفطر في نصف النهار،

ودليل هذا التأويل قوله {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} لم يرد به الابتداء وإنّما أراد به اتمام ما مضى من العهد والعقد،

ومن أوجب العمرة تأول الاتمام على معنى الابتداء والالزام أي أقيموها وافعلوها يدلّ عليه قوله عزّ وجلّ {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} أي فعلهن وقام بهن،

وقوله {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} أيّ ثمّ ابتدئوا الصيام وأتموه لأنه ذكره عقيب الأكل والشرب والصبح،

وهذا هو الأصح والأوضح لأنه جمع بين الاثنين،

وحمل الآية على عمومها فمعناه إبتدئوا العمرة فإذا دخلتم فيها فأتموها،

فيكون جامع بين وجهي الاتمام،

ولأن من أوجهها أكثر،

والأخبار في إيجاب الحجّ والعمرة مقترنتين أظهر وأشهر.

عن أبي رزين العقيلي إنّه قال : يا رسول اللّه إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحجّ والعمرة ولا الطعن،

قال : (حجَّ عن أبيك واعتمر).

وقال أبو المشفق : لقيت النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) بعرفة فدنوت منه حتّى اختلفت عنق راحلتي وعنق راحلته فقلت : يا رسول اللّه انبئني بعمل ينجيني من عذاب اللّه ويدخلني الجنّة؟

قال : (اعبد اللّه ولا تشرك به شيئاً وأقم الصلاة المكتوبة وأدّ الزكاة المفروضة وحجّ وإعتمر وصمّ رمضان وانظرما تحب من النّاس ان يأتوه إليك فافعله بهم وما تكره من الناس إن يأتوه إليك فذرهم منه).

عاصم عن شفيق عن عبداللّه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (تابعوا بين الحجّ والعمرة فإنّهم لينفيان الفقر والفاقة والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجّ المبرور ثواب دون الجنّة).

في افراد الحج

عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أفرد الحج.

ابراهيم عن الاسود عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لا نرى إلاّ الحج.

حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت خرجنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) موافين هلال ذي الحجة فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من شاء أن يهل بالحج فليهل ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة،

والأفراد ان يحرم بالحج من الميقات ويفرغ منه ثمّ يحرم بالعمرة من مكّة) وهو إختيار الشافعي وأصحابه.

في القِران

عبد العزيز بن صهيب وحميد الطويل ويحيى بن إسحاق كلهم عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (لبيك عمرةً وحجاً لبيك عمرةً وحجاً). حميد بن هلال قال : سمعت مطرفاً يقول : قال لي عمران بن الحصين : جمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بين حجة وعمرة ثمّ توفي قبل أن ينهي عنهما وقبل أن ينزل القرآن بتحريمه.

وعن أبي وائل قال : قال قيس بن معبد : كنت أعرابياً نصرانياً فأسلمت فكنت حريصاً على الجهاد فوجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ فأتيت رجلاً من عشيرتي يقال له،

هريم بن عبد اللّه فسألته فقال : إجمعها ثمّ إذبح ما استيسر من الهدي،

فأهللت بهما،

ثمّ أتيت العذيب يلقيني سليمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما،

فقال أحدهما للآخر : ما هذا بأفقه من بعيرة،

فأتيت عمر بن الخطاب فقلت : يا أمير المؤمنين إني أسلمت وأنا حريص على الجهاد وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ فأتيت هريم بن عبد اللّه،

فقال : إجمعهما ثمّ إذبح ما إستيسر من الهدي،

وأهللت بهما،

فلما أتيت العذيب لقيني سليمان بن ربيعة وزيد فقال أحدهما للآخر : ما هذا بأفقه من بعيرة فقال عمر : هديت سنّة نبيك (صلى اللّه عليه وسلم) .

علي بن الحسن عن عثمان بن الحكم ان عثمان نهى عن المتعة وأن يجمع الحج والعمرة.

فقال علي : لبيك بحج وعمرة معاً،

وقال عثمان : أتفعلها وأنا أنهى عنها؟

فقال علي : لم أكن لأدع سنّة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لأحد من الناس.

والقرآن لم يحرم الحج والعمرة معاً من الميقات،

وهو إختيار أبي حنيفة وأصحابه.

{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} واختلف العلماء في معنى الاحصار الذي جعل اللّه على من ابتلى به في حجته وعمرته ما استيسر من الهدي.

وقال قوم : هو كل مانع أو حابس مَنَع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه اللّه تعالى عليه في احرامه ووصوله إلى البيت الحرام أي شيء كان من مرض أو جرح أو كسر أو خوف أو عدو أو لدغ أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلته أو غيرها من الاعذار،

فإنه يقيم مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو من الهدي فإذا نحر الهدي حل من إحرامه،

هذا قول إبراهيم النخعي والحسن ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير ومقاتل والكلبي ومذهب أهل العراق،

وإحتجوا في أن الاحصار في كلام العرب هو صنع العلة من المرض وأشباهه غير القهر والغلبة،

فأما منع العدو بالحبس والقهر من سلطان قاهر فإن ذلك حصر لا إحصار،

كذا قال : الكسائي وأبو عبيدة والفراء قالوا : ما كان من مرض وذهاب نفقه قيل فيه حصر فهو محصر،

وما كان من خشية عدو أو سجن قيل فيه حصر فهو محصور،

يدلّ عليه قوله تعالى {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} أي محبساً،

قالوا : وإنما جعلنا حبس العدو إحصاراً قياساً على المرض،

إذ كان في حكمه (فلا دلالة) ظاهرة.

وقال الآخرون : بالأُخرى أن يمنع عدو أو قاهر من بني آدم من الوصول إلى البيت،

وأمّا المرض وسائر الاعذار فغير داخل في هذه الآية.

هذا قول ابن عمر وابن عبّاس وعبد اللّه بن الزبير وسعد بن المسيب وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب ومذهب الشافعي وأهل المدينة فاحتجوا بأن نزول هذه الآية في قصة الحديبية وذلك إحصار عدو،

يدلّ عليه قوله في سياق الآية {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} ولا يكون إلامِن الخوف وفي الحديث : (لا حصر إلاّ من حبس عدو).

وقال ثعلب : تقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور،

وأحصره العدو إذا منعه من السير فهو محصر،

وذكر يونس عن أبي عمرو قال : إذا منعته من كل وجه فقد أحصرته.

قال الشافعي : فإذا أحصر بعدوّ كافر أو مسلم أو سلطان يحبسه في سجن نحر هدياً لإحصاره حيث أحصر في حلّ أو حرم وحلّ من إحرامه ولا شيء إلاّ أن يكون واجباً فيقضي فإذا لم يجد هدياً يشتريه أو كان فقيراً ففيه قولان أحدهما : لا حلّ إلاّ لهدي.

والآخر : حلّ إذا لم يقدر عليه وأتى به إذا قدر عليه.

وقال بعض الفقهاء : إذا لم يعتبر اجزاؤه وعليه طعام أو صيام وكلما وجب على المحرم في ماله من بدنه وجزاء وهدي وصدقة فلا يجزي إلاّ في الحرم لمساكين أهلها إلاّ في موضعين أحدهما : دم المحصر في العدو فإنه ينحر حيث حبس ويحل.

والآخر : من ساق هدياً لغرض فعطب في طريقه فذبحه وخلى بينه وبين المساكين لم يجز له ولا لرؤسائه أن يأكلوا منه شيئاً وإن كانوا مساكين.

وإن كان ما ساقه لغرض مثل أن يكون قارناً أو متمتعاً جاز له أن يأكل ويطعم غيره،

فهذا معنى الاحصار وحكمه،

فأما المرض وما أشبهه فان له أن يتداوى فيما لابد منه ويفدى ثمّ يجعلها عمرة ويحج عام قابل ويهدي،

وقوله تعالى {فَمَا اسْتَيْسَرَ} أي عليه ما تيسر،

محلّه رفع،

وإن شئت جعلت بها في محل النصب أي قاهر،

واما استيسر من الهدي مثل جدية السرج وجمعها جدي قاله أبو عمرو. قال : لا أعلم في الكلام ثالثهما.

وقرأ الأعرج : (الهدي) بكسر الدال وتشديد الياء في جميع القرآن على معنى المفعول.

وروى عصمة عن عاصم : بتشديد الهدي في محل الرفع والجر وتخفيفه في حال النصب نحو قوله {هَدْيَا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} {وَ الْهَدْىَ وَ الْقَلَادَ} وهما جميعاً ما يهدي إلى بيوت اللّه سمي بذلك لانه تقرب إلى اللّه بمنزلة الهدية يهديها الانسان إلى غيره متقرباً بما بعث إليه.

واختلفوا في تأويل قوله {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} . فقال علي وابن عبّاس : شاة.

وقال ابن عمر : فما استيسر من الهدي : الابل والبقر ناقة دون ناقة وبقرة دون بقرة سن دون سن وأنكر أن يكون الشاة من الهدي،

وأقوى الأقوال بالصواب قول من قال إنه شاة،

لأنه أقرب إلى التيسر،

ولأن اللّه سمي الشاة هدياً في قوله{هَدْيَا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وفي الظبي شاة. {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ} ،

واختلفوا في المحل الذي يحل المحصر بلوغ هديه إليه فقال بعضهم : هو ذبحه أو نحره بالموضع الذي يحصر فيه سواء كان في الحل أو الحرم ومعنى محلّه : حين يحل ذبحه وأكله والانتفاع به كقوله (صلى اللّه عليه وسلم) في اللحم الذي تصدق به عليه بريرة قال : (قربوه فقد بلغ محله) يعني فقد بلغ محل طيبه وحلاله بالهدية الينا بعد إن كانت صدقة على بريرة : وهذا على قول من جعل الاحصار إحصار العدو.

يدلّ عليه فعل النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه بالحديبية حتّى صدوا عن البيت ونحروا هديهم بها والحديبية ليست من الحرم.

روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال : لما كتب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كتاب القضية بينه وبين مشركي قريش عام الحديبية فقال لأصحابه : (قوموا فانحروا واحلقوا) قال : فواللّه ما قام منهم أحد حتّى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام فدخل على أم سلمة فذكر ذلك لها،

فقالت أم سلمة : يا رسول اللّه أخرج ثمّ لا تكلم أحداً منهم بكلمة حتّى تنحر بدنتك وتدعو حلاقك فتحلق فخرج فلم يتكلم حتّى فعل ذلك،

فلما رأوا ذلك قاموا ونحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتّى كاد بعضهم (يقتل) بعضاً غماً.

وقال بعضهم : محل هدي المحصر لا يحل له غيره فإن كان حاجاً فمحله يوم النحر وإن كان معتمراً يوم مبلغ هديه الحرم.

روى إبراهيم الجعفي عن عبد الرحمن بن زيد قال : خرجنا مهلين بعمرة وفينا الأسود بن يزيد حتّى نزلنا ذات السقوف فلُدِغ صاحب لنا فشق ذلك عليه ولم يدر كيف يصنع،

فخرج بعضنا إلى الطريق يتشوّف فإذا بركب فيهم عبد اللّه بن مسعود فسألوه عن ذلك فقال : ليبعث بهدي إلى مكّة،

واجعلوا بينكم وبينه إمارة فإذا ذبح الهدي فليحل وعليه قضاء عمرته.

{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} معنى الآية ولا تحلقوا رؤسكم حال الاحرام إلاّ أن يضطر الرجل حلقه إما لمرض يحتاج إلى مداواته.

{أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} من هوام وصداع فحلق أو فدي {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} نزلت هذه الآية في كعب بن حجر قال : مرَّ بي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) زمن الحديبية ولي وفرة من شعر فيها القمل والصئبان وهو يتناثر على وجهي (وانا اقبح) فدبر اليَّ.

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أيؤذيك هوام رأسك؟

قلت : نعم يارسول اللّه.

قال : (فاحلق رأسك) فأنزل اللّه{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} ثلاثة أيام.

{أَوْ صَدَقَةٍ} على ست مساكين لكل مسكين نصف صاع {أَوْ نُسُكٍ} أو ذبيحة واحدها نسكة.

وقرأ الحسن : أو نسك تخفيفاً وهي لغة تميم.

قال العلماء : أعلاها بدنه وأوسطها بقرة وأدناها شاة وهو مخير بين هذه الثلاثة إن شاء فعل.

وقال أنس وعكرمة : {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} عشرة أيام {أَوْ صَدَقَةٍ} على عشرة مساكين لكل مسكين مدٌ من بر أو مدٌ من تمر أو نسك وهي الشاة والقول الأول هو الصحيح وهو المشهور وهذه (الفريضة) أن يأتي بها أجمعوا على أنه يصوم حيث شاء من البلاد.

واما النسك والطعام،

فقال بعضهم : يجب أن تكون مكّة.

وقال بعضهم : أي موضع شاء وهو الصواب لأنه أُبهم في الآية ولم يخصّ مكاناً دون مكان.

{فَإِذَآ أَمِنتُمْ} من خوفكم وبرأتم من مرضكم.

{فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} اختلفوا في هذه المتعة.

فقال بعضهم : معناه فمن أحصر حتّى (عام) الحجّ ثمّ قدّم مكّة فخرج من إحرامه بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك،

فيكمل العمرة إلى السنة المستقبلة ثمّ يحج ويهدي فيكون جميعاً بذلك الاحلال من (الذي) حلّ إلى إحرامه الثاني من القابل.وهذا قول عبداللّه بن الزبير.

وقال بعضهم : معناه {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} وقد حللتم من إحرامكم بعد الاحصار ولم يقولوا عمرة يخرجون بها من إحرامكم لحجتكم ولئن حللتم حين أخبرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج حللتم فاستمتعتم باحلالكم إلى حجكم فعليكم ما استيسر من الهدي،

وهذا قول علقمة وإبراهيم وسعيد بن جبير.

وكذلك روى عبداللّه بن سلمة عن علي رضي اللّه عنه {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} الآية فإن أخرّ العمرة حتّى يجمعها مع الحجّ فعليه الهدي.

وقال السّدي : معناه فمن فسخ حجة بعمرة فجعله عمرة واستمتع بعمرته إلى حجة فعليه ما استيسر من الهدي.

وقال ابن عبّاس وعطاء وجماعة : هو الرجل يقدم معتمراً من أفق من الآفاق في أشهر الحج فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكّة حتّى حان وقت الحج فيحج من عامّة ذلك فيكون مستمتعاً بالاحلال إلى إحرامه بالحج فمعنى التمتع الاحلال بالعمرة فيقيم حلالاً فيفعل ما يفعل الحلال ثمّ يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات ومعنى التمتع التلذذ وأصله من التزود،

والمتاع الزاد ثمّ جعل كلّ تلذذ تمتعاً.

قال الفقهاء : فالتمتع الذي يجب عليه الهدي هو أن يجتمع فيه أربع شرائط وهي : أن يحرم في أشهر الحجّ،

ويحل من العمرة في أشهر الحج،

وان يحرم بالحج من عامه ذلك من مكّة ولا يرجع إلى الميقات،

وزاد بعض أصحابنا : أن يكون من غير الحرم،

فمن يحرم بشيء من هذه الشرائط سقط عنه الدم ولا يكون متمتعاً.

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى أهلكم.

قال المفسرون : يصوم يوماً قبل التروية ويوم عرفة ولا تجاوز بآخرهنّ يوم عرفة.

وقال طاوس ومجاهد : إذا صامهنَّ في أشهر الحج أجزينّ.

{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ذكر الكمال على التأكيد.

كقول الأعشى :

ثلاث بالغداة فذاك حسبي

وست حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ربي

وشرب المرء فوق الري داء

وقال الفرزدق :

ثلاث واثتان وهن خمس

وسادسة تميل إلى سهامي

وقال بعضهم : كاملة بالهدي،

وقيل بالثواب،

وقيل كاملة بشروطها وحدودها،

وقيل : لفظه خبر وحكمه أمر،

أي : فأكلوها ولا تنقوصها.

{ ذلك } التمتع {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي كمن لم يكن من أهل الحرم.

عكرمة : هو ما دون المواقيت إلى مكّة.

وقال ابن جريح : حاضري المسجد الحرام أهل عرفة والرجيع يضحيان ويهديان.

{وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ} {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} قال الفراء : تقديرها وقسط الحج أشهر معلومات،

فهذا كما يقال : البرد شهران والحرّ شهران،

أيّ (وفيهما) شهران،

وسمعت الكسائي يقول : إنما الصيد شهران (والطيلسان) شهران وقت الصيد ووقت ليس (الطيلسان).

وقال الزجاج : معناه أشهر الحجّ أشهر معلومات وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة.

قال ابن عبّاس : جعلهن اللّه للحجّ،

وسائر الشهور للعمرة فلا يصلح لأحد أن يحرم بالحج إلاّ في أشهر الحج وأما العمرة فإنه يحرم بها في كلّ شهر. فآخر هذه الاشهر يوم عرفة وقد جاء في بعض الأخبار في تفسير أشهر الحج وعشر من ذي الحُجّة وفي بعضها تسع من ذي الحُجّة فمن قال تسع فإنّما عبّر به عن الأيام لأن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (الحجّ عرفة) فمن وقف بعرفة في يوم عرفة من ليل أو نهار فقدتم حجّه. ومن قال عشرة عبّر به عن الليالي فمن لم يدركه إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحجّ والشهور إنّما يؤرخ بالليالي.

وحكى الفراء : إن العرب تقول صمنا عشراً يذهبون بها إلى الليالي والصوم لا يكون إلاّ بالنهار فلا تضاد في هذه الأخبار وإنّما قال أشهر وهي شهران وبعض الثالث،

لأنها وقت والعرب تسمي الوقت بقليله وكثيره فيقولون : أتيتك يوم الخميس،

وإنّما أتاه في ساعة منه،

ويقولون : اليوم يومان منذ لم أره،

وإنّما هو يوم وبعض اخر ويقولون : زرتك العام.

وقال بعض أصحابنا : الاثنان فما فوقهما جماعة لأن الجمع ضم شيء إلى شيء،

قلنا : جاز ان يسمي الاثنان بانفرادهما جماعة وجاز ان يسمي الاثنان وبعض الثالث جماعة،

وقد سمى اللّه الاثنين جمعاً في قوله {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ولم يقل قلباكما.

وقال عروة بن الزبير وغيره : أراد بالأشهر شوالاً وذا القعدة وذا الحجة (كاملاً) لأنه يبقى على الحاج أمور بعد عرفة يجب عليه فعلها مثل الرمي والحلق والنحر والبيتوتة بمنى،

فكأنها في حكم الحجّ.

حكم الآية

فمن أحرم بالحجّ قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجه ويكون ذلك عمرة،

كمن دخل في صلاة قبل وقتها فتكون نافلة،

وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد ومذهب الاوزاعي والشافعي.

وقال مالك والثوري وأبو حنيفة ومحمّد : يكره له ذلك وإن فعل أجزأه،

ودليل الشافعي وأصحابه

﴿ ١٩٦