١٨

{شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لا اله إِلا هُوَ} .

عن غالب القطان قال : أتيتُ الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش وكنت اختلف إليه. فلما كنتُ ذات ليلة اردتُ أنْ أنحدر الى البصرة قام من الليل يتهجد؛ فمر بهذه الآية {شَهِدَ اللّه أَنَّهُ اله إِلا هُوَ} الآية. ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد اللّه به وأستودع اللّه هذه الشهادة وهي لي عند اللّه وديعه،

أن الدين عند اللّه الإسلام قالها مراراً. قلت : لقد سمع. فما شيئاً فصلَّيتُ معهُ وودعته،

ثم قلت : آية سمّعتك نردِّدها فما بلغك فيها؟

قال : واللّه لا أحدث بها الى سنة. فلبثت على بابه ذلك اليوم،

واقمت سنة،

فلما مضت السنة قلتُ : يا أبا محمد مضت السنة،

فقال : حدثنا أبو وائل عن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يجيء بصاحبها يوم القيامة فيقول اللّه : عبدي عهد إليّ وأنا أحقُ من وفى بالعهد. أدخلوا عبدي الجنة).

خالد بن زيد عن يزيد الرقاسي عن أنس بن مالك قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من قرأ {شَهِدَ اللّه أَنَّهُ اله إِلا هُوَ} الآية.. عند منامهِ خلق اللّه عزَّ وجلَّ له سبعين الف ملك يستغفرون له الى يوم القيامة).

وعن الزبير بن العوام قال : قلت : لأدنونَّ هذه (العشية) من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهي عشية عرفه حتى أسمع ما يقول،

فحبستُ ناقتي من ناقة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وناقة رجل كان الى جنبه. فسمعتهُ يقول : {شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لا اله إِلا هُوَ} الآية. فما زال يردَّدها حتى دفع.

يعقوب عن جعفر عن سعيد بن جبير قال : كان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنماً. فلما نزلت {شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لا اله إِلا هُوَ} الآية ،

خرَّوا سجّداً.

قال الكلبي : قدم حبران من أهل الشام على النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فلما أبصرا المدينة،

قال أحدهما لصاحبهِ : ما أشبه هذه المدينة صفة مدينة النبي (صلى اللّه عليه وسلم) الذي يخرج آخر الزمان فلما دخلا على النبي (صلى اللّه عليه وسلم) عرفاهُ بالصفة والنعت. فقالا لهُ : أنت محمد؟

قال : نعم. قالا : وأنت أحمد؟

قال : إنا محمد وأحمد قالا : إنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنَّا بك وصدَّقناك. فقال : بلى. قالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب اللّه؟

فأنزل اللّه هذه الآية {شَهِدَ اللّه أَنَّهُ اله إِلا هُوَ} الآية.. فأسلم الرجلان. واختلف القرّاء في هذه الآية. فقرأ أبو نهيك وأبو الشعثاء : {شَهِدَ اللّه} بالرفع والمدَّ على معنى : هم شهداء يعني : الذين مرَّ ذكرهم.

وروى المهلّب عن محارب بن دثار : {شَهِدَ اللّه} منصوبة على الحال والمدح.

وقرأ الآخرون : {شَهِدَ اللّه} على الفعل أي بيَّن؛ لأن الشهادة تبيين.

وقال مجاهد : حكم اللّه،

الفرّاء وأبو عبيدة : قضى اللّه،

المفضَّل : لعلم اللّه.

ابن كيسان : شهد اللّه بتدبيره العجيب،

وصنعه المتقن،

وأُموره المحكمة من خلقه أنه لا اله إلا هو،

وهذا كقول القائل :

وللّه في كل تحريكة وتسكينة أبداً شاهد

وفي كل شيء لهُ آية تدلُ على أنَّهُ واحد

وقيل لعبض الأعراب : ما الدليل على أنَّ للعالم صانعاً؟

فقال : إنَّ البعرة تدلُ على البعير،

وآثار القدم تدلُ على المسير،

وهيكل علَّوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة؛ أما يدلاَّن على الصانع الخبير.

قال ابن عباس : (خلق اللّه الارواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة،

وشهد بنفسه لنفسهِ قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا برَّ ولا بحر،

فقال : شهد اللّه أنَّهُ لآ اله إلا هو).

وقرأ ابن مسعود : (أنَّ لا آله إلا هو...)

وقرأ ابن عباس : {شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لا اله إِلا هُوَ} : بكسر الألف جعلهُ خبراً مستأنفاً معترضاً في الكلام على توهم الفاء،

كأنهُ قال : فإنَّه لآ اله إلاَّ هو،

قاله أو عبيدة والمفضَّل،

وقال بعضهم : كسره؛ لأن الشهادة قول وما بعد القول يكون مكسوراً على الحكاية فتقديرهُ قال اللّه : أنَّهُ لآ اله إلاَّ هو.

{وَالْمَلَاكَةُ} : قال المفضّل : معنى شهادة اللّه للإخبار والإعلام،

ومعنى شهادة ملائكة اللّه والمؤمنين إلا قرار كقوله : {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا} أي أقررنا فنسق شهادة الملائكة،

{وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} على شهادة اللّه تعالى.

والشهادتان مختلفتان معنى لا لفظاً كقوله عزَّ وجل : {إنَّ اللّه وملائكتهُ يصلَّون على النبي يا آيها الذَّين آمنوا صلَّوا عليه} والصلاة من اللّه (الرحمة) ومن الملائكة (الاستغفار والدعاء)،

وأولوا العلم : يعني الانبياء (عليهم السلام).

وقال ابن كيسان : يعني المهاجرين والأنصَّار.

مقاتل : مؤمني أهل الكتاب،

عبد اللّه بن سلام : وأصحابه : نظيره قوله : {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ،

وقوله : {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} .

وقال السدي والكلبي : يعني علماء المؤمنين كلهم. فقرّب اللّه تعالى شهادة العلماء بشهادته؛ لأن العلم صفة اللّه العليا ونعمته العظمى. والعلماء أعلام الإسلام والسابقون الى دار السلام وسرج الامكنة وحجج الأزمنة.

وروى صفوان عن سُليم عن جابر بن عبد اللّه،

قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ساعة من عالم متّكئ على فراشهِ ينظر في علمهِ خير من عبادة العابد سعبين عاماً).

المسيب بن شريك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك،

قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (تعلَّموا العلم؛ فإنَّ تعلَّمهُ للّه حسنة،

ومدارسته تسبيح،

والبحث عنهُ جهاد؛ وتعليمهُ من لا يعلمهُ صدقة،

وتذكره لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام،

ومنار سبل الجنة والنار،

والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة،

والميراث في الخلوة،

والدليل على السرَّاء والضرَّاء،

والسلاح على الأعداء،

والقرب عند الغرباء،

يرفع اللّه به أقواماً ويجعلهم في الخير قادةً يُقتدى بهم،

ويُبيّن اثارهم،

ويرموا أعمالهم،

ويُنهى الى رأيهم،

وترغب الملائكة في خلتهم،

وبأجنحتها تمسحهم،

وفي صلواتهم تستغفر لهم،

وكل رطب ويابس يستغفر لهم حتى حيتان البحر وسباع الأرض وأنعامها والسماء ونجومها،

ألا فإن العلم خير أنقاب عن الصمى،

ونور الأبصار من الظلم،

وقوة الأبدان من الضعف،

يبلغ بالعبد منازل الأحرار،

ومجالس الملوك،

والفكرُ فيه يُعدل بالصيام ومدارسته بالقيام،

به يُعرف الحلال والحرام،

وبه توصَّل الأرحام،

إمام العمل والعقل تابعهُ،

يُلهم السعد أو يُحرم إذا شقى).

{قَآمَا بِالْقِسْطِ} : أي بالعدل ونظام الآية (شهد اللّه قائماً بالقسط). وهو نصب على الحال.

وقال الفرّاء : هو نصب على القطع كأن أصله القائم،

وكذلك هو في (عبد اللّه) فلما قطعت الألف واللام نصب لقوله تعالى : {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} .

وقال أهل المعاني في قوله :

{قَآئمَا بِالْقِسْطِ} : أي مدبّر،

رازق،

مُجازي بالاعمال كما يقال : فلان قائم بأمري : أي مدبّر له متعهد لأسبابه،

وقائم بحق فلان : أي بحاله.

{لا اله إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : كرّر؛ لأنّ الأولى حلت محل الدعوى،

والشهادة الثانية حلت في محل الحكم.

وقال جعفر الصَّادق : الأُولى (وصف وتوحيد) والثانية رسمٌ وتعليم يعني قولوا : {اله إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

﴿ ١٨