١٢٩

ثم قال : {وللّه ما في السموات} إلى {أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} .

قرأ أبو جعفر وشيبة : مضعّفة.

عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول اللّه تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} هو أن الرجل كأن يكون له على الرجل مال فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول المطلوب أخّر عنّي فأزيدك على مالك فيفعلان ذلك فوعظهم اللّه تعالى.

فقال : {وَاتَّقُوا اللّه} في أمر الربا فلا تأكلوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ثم خوفهم فقال : {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وفيه دليل على أن النار مخلوقة ردّاً على الجهمية،

لأن المعدوم لا يكون معداً {وَأَطِيعُوا اللّه وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكي ترحموا فلا تعذبوا

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية.

قال عطاء : إن المسلمين قالوا للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) بنو إسرائيل كانوا أكرم على اللّه عزّ وجلّ منّا وكانوا إذا أذنبوا أصبحت كفارة ذنوبهم مكتوبة في عتبة بابهم : اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا،

فسكت عليه الصلاة والسلام،

فأنزل اللّه تعالى

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي سابقوا إلى الأعمال التي توجب المغفرة. وحذف أهل المدينة والشام الواو منه.

واختلفوا في العلة الجالبة لهذه المغفرة :

فقال ابن عباس : سارعوا إلى الإسلام،

أبو العالية وأبو روق : إلى الهجرة،

علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه : إلى أداء الفرائض،

عثمان بن عفان : الاخلاص،

أنس بن مالك : هي التكبيرة الأولى،

سعيد بن جبير : إلى أداء الطاعة،

يمان : إلى الصلاة الخمس،

الضحاك : إلى الجهاد عكرمة : إلى التوبة،

مقاتل : إلى الأعمال الصالحة،

أبو بكر الوراق : إلى اتّباع الأوامر والانتهاء عن الزواجر،

سهل بن عبد اللّه : إلى السنّة،

بعضهم : إلى الجمع والجماعات.

{وَجَنَّةٍ} يعني إلى جنة {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض} أي عرضها كعرض السماوات والأرض كقوله {مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي كبعث نفس واحدة.

قال الشاعر :

حسبت بغام راحلتي عناقاً

وما هي ويب غيرك بالعناق

يريد صوت عناق.

ودليل هذا التأويل قوله في سورة الحديد : {كَعَرْضِ السَّمَآءِ والأرض} يعني لو بسطت ووصل بعضها إلى بعض إنما أخص العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأغلب أكثر من عرضه يقول هذه صفة عرضها فكيف طولها. يدل عليه قول الزهري إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلاّ اللّه كقوله {مُتَّكِئينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئنُهَا} فوصف البطانة بحسن ما يعلم من الزينة إذ معلوم أن الظواهر يكون أحسن وأنفس من البطائن.

وقال أكثر أهل المعاني : لم يرد العرض الذي هو ضد الطول وإنما أراد سعتها وعظمها،

كقول العرب : هو أعرض من الدهنا،

أي أوسع.

وقال جرير :

لجّت أمامة في لومي وما علمت

عرض السماوة روحاتي ولا بكري

وأنشد الأصمعي :

يجبن بنا عرض الفلاة

وما لنا عليهنّ إلاّ وخدهن سقاء

وقال آخر :

كأنّ بلاد اللّه وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفه حابل

وعلى هذا التمثيل لا يريد أنها كالسماوات والأرض لا،

وغير معناه كعرض السماوات السبع والأرضين السبع عند ظنكم،

لأنهما لابد زائلتان كقوله : {خالدين فيها مادامت السماوات والأرض} لأنهما لابد زائلتان.

وقال يعلي بن مرة : لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بحمص شيخاً كبيراً قال : قدمت على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلاً عن يساره قال : قلت : مَن صاحبكم الذي يقرأ؟

قالوا : معاوية،

فإذا كتاب صاحبي : إنك كتبت إليَّ تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض (أعدّت للمتّقين) فأين النار؟

فقال رسول اللّه : (سبحان اللّه فأين الليل إذا جاء النهار).

وروى طارق بن شهاب : أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب وعنده أصحابه قالوا : أرأيت قولكم {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض} فأين النار؟

فأحجم الناس،

فقال عمر (رضي اللّه عنه) : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار،

وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟

فقالوا : إنما لمثلها في التوراة.

وسئل أنس بن مالك عن الجنة : أفي الأرض أم في السماء؟

فقال : أي أرض وأي سماء تسع الجنة؟

قيل : وأين هي؟

قال : فوق السماوات السبع تحت العرش.

وقال قتادة : كانوا يرون أن الجنة فوق السماوات السبع،

وأن جهنم تحت الأرضين السبع.

{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ثم وصفهم فقال : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ} يعني في العسر واليسر والشدة والرخاء،

فأول خُلق من أخلاقهم الموجدة هو الحب والسخاء،

ولهذا أخبرنا أحمد بن عبداللّه،

(ثنا زيد بن عبد العزيز أبو جابر ثنا جحدر ثنا بقية ثنا الأوزاعي عن الزهري عن عائشة قالت : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) : (الجنة دار الأسخياء).

وروى الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (السخي قريب من اللّه قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار،

والبخيل بعيد من اللّه بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار).

{فِيهِ ءَايَاتُ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} آية بينة على الواحد أراد مقام إبراهيم وحده،

وقال : أثر قدميه في المقام آية بينة.

وقرأ الباقون : آيات بالجمع أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر،

وقد مضى ذكر مقام إبراهيم في سورة البقرة {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا} من أن يهاج فيه،

لأنه حرم،

وذلك بدعاء إبراهيم (عليه السلام) حيث قال : {رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا ءَامِنًا} وكان في الجاهلية من دخله ولجأ إليه آمن من الغارة والقتل ولم يزده الإسلام إلاّ شدة.

وكتب أبو الخلد إلى ابن عباس : أن أول من لاذ بالحرم الحيتان الصغار والكبار هرباً من الطوفان،

وقيل : من دخله عام عمرة القضاء مع محمد (صلى اللّه عليه وسلم) كان آمناً دليله قوله : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّه ءَامِنِينَ} .

وقال أهل المعاني : صورة الآية خبر ومعناها أمر تقديرها : ومن دخلوه فأمنوه،

كقوله : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. وقيل : (ومن دخله) لقضاء النسك معظماً له عارفاً لحقه متقرباً إلى اللّه عزّ وجلّ كان آمناً يوم القيامة وهذا كقوله (صلى اللّه عليه وسلم) (من كثرت صلوته بالليل حسن وجهه بالنهار) أي في نهار يوم القيامة.

يدل عليه ما روى جويبر عن الضحاك {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا} يقول : من حجه ودخله كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.

وروى زياد بن أبي عياش عن يحيى بن جعدة في قوله تعالى : {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا} قال : من النار.

وقال جعفر الصادق (رضي اللّه عنه) : من دخله على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمناً من عذابه.

وقال أبو النجم القرشي الصوفي : كنت أطوف بالبيت فقلت : يا سيدي،

قلت : {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا} من أي شيء؟

فسمعت من ورائي (قائلا) يقول : آمناً من النار،

فالتفت فلم أر شيئاً.

ويدل على صحة هذا التأويل ما روى أبان بن عياش عن أنس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من مات في أحد الحرمين بعثه اللّه عزّ وجلّ مع الآمنين).

وروى عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة).

وروى شقيق بن سلمة عن ابن مسعود قال : وقف النبي (صلى اللّه عليه وسلم) على ثنية المقبرة وليس هما يومئذ مقبرة،

وقال : (بعث اللّه من هذه البقعة من هذا الحرم كله سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب،

يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر).

وبه عن عبد الرحمن بن زيد العمى عن أبيه عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار،

تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام،

وتقربت منه الجنة مسيرة مائة عام).

وقال وهب بن منبه : مكتوب في التوراة : إن اللّه يبعث يوم القيامة سبعمائة ألف ملك من الملائكة المقربين بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام فيقول لهم : إذهبوا إلى البيت الحرام فزموه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر فيأتونه فيزمونه بسبعمائة ألف سلسلة من ذهب ثم يمدونه وملك ينادي : يا كعبة اللّه سيري فتقول : لست بسائرة حتى أعطي سؤلي. فينادي ملك من جو السماء : سلي تعط. فتقول الكعبة : يا رب شفّعني في جيرتي الذين دفنوا حولي من المؤمنين. فيقول اللّه : قد أعطيتك سؤلك. قال : فيحشر موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمين،

فيجتمعون حول الكعبة يلبّون ثم يقول الملائكة : سيري يا كعبة اللّه،

فتقول : لست بسائرة حتى أعطي سؤلي،

فينادي ملك من جو السماء : سلي تعط،

فتقول الكعبة : يا رب عبادك المؤمنين الذين وفدوا إليَّ من كل فجّ عميق شعثاً غبراً،

تركوا الأهلين والأولاد والأحباب،

وخرجوا شوقاً إليَّ زائرين مسلمين طائعين،

حتى قضوا مناسكهم كما أمرتهم،

فأسألك أن تؤمنهم من الفزع الأكبر وتشفّعني فيهم وتجمعهم حولي،

فينادي الملك : إن منهم من ارتكب الذنوب بعدك وأصرَّ على الذنوب الكبائر حتى وجبت له النار،

فتقول الكعبة : إنما أسألك الشفاعة لأهل الذنوب العظام. فيقول اللّه : قد شفّعتك فيهم وأعطيتك سؤلك. فينادي منادي من جو السماء : ألا من زار الكعبة فليعتزل من بين الناس. فيعتزلون،

فيجمعهم اللّه حول البيت الحرام بيض الوجوه آمنين من النار يطوفون ويلبون،

ثم ينادى ملك من جو السماء : ألا يا كعبة اللّه سيري. فتقول الكعبة : لبيك لبيك والخير بيديك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك،

ثم (يمدّونها) إلى المحشر.

{وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا} .

قال عكرمة : لما نزلت {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ اسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} قالت اليهود : فنحن مسلمون فأمروا أن يحجوا إن كانوا مسلمين،

واللام في قوله للّه لام الايجاب والإلزام،

أي قد فرض وأوجب على الناس حجّ البيت. قرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي : حِج،

بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة.

وقرأ ابن أبي إسحاق جميع ما في القرآن بالكسر،

وهي لغة أهل نجد.

وقرأ الباقون : بالفتح كل القرآن،

وهي لغة أهل الحجاز.

واختيار أبي عبيد،

وأبي حاتم،

فهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد.

وقال الحسن الجعفي الفتح (المصدر) والكسر اسم الفعل،

ثم قال : {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا} إعلم أن شرائط وجوب الحج تسعة أشياء هي : البلوغ والعقل والإسلام والحرية؛ لقول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه).

ولقوله (صلى اللّه عليه وسلم) (أيّما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه حجة أخرى،

وأيّما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى).

وأراد بالهجرة هاهنا : الإسلام وتخلية الطريق،

وهي أن يكون الطريق آمناً مسلوكاً،

لا مانع فيه من عدو ونحوه،

فإن كان غير مسلوك لم يجب الحج.

والدليل عليه : أنه لو كان محرماً فحصره العدو،

فله أن يحل منه،

فإذا جاز له الخروج منه بالحصر فبان بعض الدخول فيه،

والقصد إليه مع وجود الحصر أولى وأحرى،

وإمكان المسير وهو أن يكون في الوقت سعة ممكنة فيه الحج،

فإذا وجد شرائط الحج وهو (....) وقد بلغ الحاج إلى (الكرقة) مثلا،

فلا يجب عليه،

لأنه جعل شرائطه في وقت تعذر فعله فيه،

فهو كالصبي الذي يبلغ في أثناء نهار الصيام،

فلا يجب عليه صوم ذلك اليوم،

وزاد كاف وراحلة مبلغة وقوة بدنية واختلف أقاويل الفقهاء في تفصيل هذه الشرائط الثلاثة.

فقال الشافعي (رضي اللّه عنه) : الإستطاعة وجهان : أن يكون مستطيعاً بدنه واجداً من ماله ما يبلغه الحج،

والثاني : أن يكون معضوباً في بدنه لا يثبت على مركبه،

وهو قادر على من يطعه إذا أمره أن يُحج عنه بأجرة وغير أجرة،

وأما المستطيع بالمال : فقد لزمه فرض الحج بالسنّة،

لحديث الخثعمية،

فأما المستطيع بنفسه : فهو القوي الذي لا يلحقه مشقة غير محتملة في الكون على الراحلة،

فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج،

فإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما يسقط فرض الحج عنه،

فإن كان قادراً على المشي مطبقاً له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة ونحوهما،

فالمستحب له أن يحج ماشياً،

رجلا كان أو امرأة.

قال الشافعي : والرجل أقل عذراً من المرأة،

لأنه أقوى وهذا على طريق الإستحباب لا على طريق الإيجاب،

فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج،

لأنه يصير كلاًّ على الناس،

وهذا الذي ذكرت من أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج،

وهو قول عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) وابنه عبد اللّه وعبد اللّه بن عباس ومن التابعين الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق،

دليلهم ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : جاء رجل إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : ما السبيل إلى الحج؟

قال : (الزاد والراحلة).

ومثله روى ابن مسعود وابن عباس وعائشة وجابر بن عبد اللّه وأنس بن مالك.

روى الحرث عن علي كرم اللّه وجهه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من ملك زاداً وراحلة تبلغانه إلى بيت اللّه فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً،

فإن اللّه تعالى يقول : {وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ).

قال ابن عمر : قام رجل فقال : يا رسول اللّه ما يوجب الحج؟

قال : (الزاد والراحلة) قال : فما الحاج؟

قال : (الشعث التفل) قال : فما أفضل الحج؟

قال : (العج والثج).

وقال مالك : إذا قدر على المشي ووجد الزاد والراحلة لزمه الحج بلا خلاف،

وإن لم يجد الزاد والراحلة وقدر على المشي نظر،

فإن كان مالكاً للزاد فعليه فرض الحج لكل حال،

وإن لم يكن مالكاً للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق اختلف هذا باختلاف حال الرجل،

فإن كان من أهل المروات وممّن لا يكسب بنفسه لم يجب عليه،

وإن كان ممن يكسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج،

وهكذا إذا كان عادته مسئلة الناس لزمه فرض الحج،

فأوجب مالك على المطبق للمشي الحج إذا لم يكن له زاد وراحلة،

وهذا قول عبد اللّه بن الزبير والشعبي وعكرمة.

وقال الضحاك : إن كان شاباً صحيحاً ليس له مال،

فعليه أن يؤاجر نفسه بأكله أو عقبه حتى يقضي حجته،

فقال : له قائل ما كلف اللّه الناس أن يمشوا إلى البيت. فقال : لو أن لبعضهم ميراثاً بمكة أكان تاركه بل كان ينطلق إليه ولو حبواً،

كذلك يجب عليه الحج،

واحتج هؤلاء بقوله تعالى : {وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَا} أي مُشاة.

قالوا : ولأن الحج من عبادات الأبدان من فرائض الأعيان،

فوجب أن لا يكون من فرض وجوبها الزاد والراحلة كالصلاة والصيام،

فإذا (تقرر) أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج على قول أكثر أهل العلم،

فوجب أن يبيّن كيفية اعتبار الراحلة والنفقة،

وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس.

وأما الراحلة : فهي ما لا يلحقه مشقة شديدة في الركوب عليها،

وأما النفقة : فإن كان ذا أهل وعيال يجب عليه نفقتهم،

فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه،

لأن هذا الإنفاق فرض على الفور والحج فرض على التراخي،

وكان تقديم إنفاق العيال أولى وأهم.

وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يقوت) فإذا لم يكن له أهل وعيال فلابد من نفقته لذهابه،

وهل يعتبر فيه الرجوع أم لا؟

فيه قولان للفقهاء :

قال بعضهم : لا يعتبر،

لأنه ليس عليه كثير مشقة في تركه القيام ببلده،

لأنه لا أهل له فيه ولا عيال له،

فكل البلاد له وطن.

وقال الآخرون : يعتبر،

وهو الظاهر من مذهب الشافعي،

لأنه قال في الإملاء : لا يجب عليه الحج حتى يكون له نفقته ذاهباً وجائياً. فأطلق ولم يفرّق،

وهذا أولى بالصواب،

لأن الإنسان يستوحش بفراق وطنه كما يستوحش بفراق مسكنه،

ألا ترى أن البكر إذا زنا جُلد وغرّب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن،

فإن كان له عقار يستغله أو ثياب أو أثاث ونحوها،

لزمه فرض الحج وبيع العقار ورقاب الأموال وصرفها في الحج فأما المسكن والخادم.

قال الشافعي : في الأم : فإذا كان له مسكن وخادم له نفقة أهله بقدر غيبته لزمه الحج. وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن،

لأنه قدّمه على نفقة أهله،

فكأنه قال : بعد هذا كله.

وقال أصحابه : يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويشتري مسكناً وخادماً لأهله،

فأما إذا كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام،

ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن ربحها قدر كفايته،

فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا؟

قال أبوالعباس بن شريح : لا يلزمه ذلك وتبقى البضاعة على ما هي عليه ولا يحج من أصلها،

لأن الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته.

وقال الآخرون : بل عليه أن يحج من أصل البضاعة،

وهو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور،

لأنه لا خلاف أنه لو كان له عقار يكفيه غلته لزمه بيع أصل العقار في الحج،

وكذلك البضاعة،

وجملته أن فرض الحج يتعلق بما يتعلق به فرض زكاة الفطر،

فما وجب بيعه في زكاة الفطر وجب بيعه في الحج،

فهذا القول في أحد وجهي الإستطاعة،

فأما الوجه الآخر : فهو أن يكون مغصوباً في بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب بحال،

أو يكون فضو الخلقة ابتداء،

أو يكون مريضاً مزمناً شديداً لا يرجى برؤه،

أو يكون شيخاً كبيراً ضعيفاً ولكن يكون قادراً على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه،

فهذا أيضاً مستطيع استطاعة ما. وهو على وجهين :

أحدهما : أن يكون قادراً على مال يستأجر عليه من يحج،

فإنه يلزمه فرض الحج،

وهذا قول علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) روى عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج : جهّز رجلا يحج عنك. وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وعبد اللّه بن المبارك وأحمد بن المبارك وإسحاق.

والثاني : أن يكون قادراً على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه،

فهذا أيضاً يلزمه الحج عند الشافعي وابن حنبل وابن راهوية.

وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه الحج ببذل الطاعة بحال.

وقال مالك : إذا كان مغصوباً سقط عنه فرض الحج أصلا،

سواء كان قادراً على من يحج بالمال أو بغير المال،

أو كان عاجزاً فلا يلزمه فرض الحج،

ولو وجب عليه الحج ثم عضب وزمن سقط عنه فرض الحج،

ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال بل إن أوصى أن يحج عنه حُج بعد موته عنه من الثلث وكان تطوعاً،

واحتج بقوله تعالى : {وَأَن لَّيْسَ للإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى} فأخبر أنه ليس له إلاّ ما سعى فمن قال له ما سعى غيره،

فقد خالف ظاهر الآية ويقول عزّ وجلّ : {وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا} وهذا غير مستطيع،

لأن الحج هو القصد إلى البيت بنفسه ومن طريق الاعتبار هو أنه غير متمكن من الحج بنفسه،

فوجب أن لا يلزمه الحج عن نفسه،

كما لو كان مغصوباً لا مال له،

ولأن كل عبادة لا يدخلها النيابة مع القدرة عليها،

فوجب أن لا يدخلها النيابة مع العجز عنها كالصلاة وعكسه الزكاة،

ودليل الشافعي وأصحابه ما روى الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقالت : يا رسول اللّه إن فريضة اللّه على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة،

فهل يجزي أن أحج عنه؟

فقال : (نعم)،

فقالت : فهل ينفعه ذلك؟

فقال (عليه السلام) : (أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يجزي؟)

قالت : نعم،

قال : (فدين له أحق).

فأوجب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) عليه الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها نفسها له بأن تحج عنه،

فإذا وجب ذلك بطاعة البنت له كان بأن يجب عليه بقدرته على المال الذي يستأجر به أولى،

فأما إن بذل له المال دون الطاعة،

والصحيح أن لا يلزمه قبوله والحج به عن بنفسه ولا يصير ببذل المال له مستطيعاً،

وأما من به مرض يرجى زواله كالبرسام والحمى الشديدة وغيرهما فلا يجوز له أن يحج عنه،

لأنه لم ييأس عن الحج بنفسه فلم يحج له،

كالصحيح وعكسه المغصوب.

وقال أبو حنيفة : يجوز له أن يحج عن نفسه ولو حج عنه وبرأ سقط عنه فرض الحج واللّه أعلم.

{وَمَن كَفَرَ} .

قال الحسن وابن عباس وعطاء والضحاك : جحد فرض الحج.

مجاهد : هو ما أن حج لم يره براً وإن قعد لم يره مأثماً.

وروى سفيان عن منصور عنه {وَمَن كَفَرَ} باللّه واليوم الآخر،

يدل عليه ما روى ابن عمر عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال في قوله : {وَمَن كَفَرَ} قال : (من كفر باللّه واليوم الآخر).

وقال سعيد بن المسيب : نزلت في اليهود حيث قالت : الحج إلى (...) واجب.

الضحاك : لما نزلت آية الحج جمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أهل الأديان كلهم فخطبهم،

وقال : (إن اللّه عزّ وجلّ كتب عليكم الحج فحجّوا) فآمنت إليه أهل ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل،

وقالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

عطاء بن السائب : (ومن كفر) بالبيت.

ابن زيد : (ومن كفر) بهذه الآيات التي ذكرها اللّه في قوله تعالى : {فِيهِ ءَايَاتُ بَيِّنَاتٌ} .

قال السدي : أما من كفر فهو من وجد ما يحج عنه ثم لم يحج حتى مات فهو كفره به.

فصل في إيجاب الحج

قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (صلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة مالكم وحجّوا بيت ربكم تدخلوا جنة ربكم).

وقال (صلى اللّه عليه وسلم) (حجّوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة).

وقال ابن مسعود : حجّوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلاّ نفقت.

وروى عبد الرحمن بن أبي سابط عن أبي أُمامة أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (من لم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً).

وحدثنا موسى بن جعفر عن أبيه عن جده قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من مات ولم يحج لم يقبل اللّه منه يوم القيامة عملاً...).

شعبة عن قتادة عن الحسين قال : قال عمر (رضي اللّه عنه) : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار فينظرون إلى مَن كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية.

{يا أهل الكتاب لِمَ تكفرون} إلى {تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه} أي يصرفون عن دين اللّه {مَنْ ءَامَنَ} .

وقرأ الحسن : تُصِدون،

بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان،

صدّ وأصدّ مثل صَل اللحم وأصل،

وخمّ وأخم.

ودليل قراءة العامة قوله تعالى : {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} وقوله : {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ونظائرهما.

{تَبْغُونَهَا} تطلبونها {عِوَجَا} زيغاً وميلا،

والكلام حال على الفعل،

مجازه : لِمَ تصدون عن سبيل اللّه باغين لها عوجاً.

قال أبو عبيدة : العِوج بالكسر في الدين والقول والعمل،

والعَوج بالفتح في الجدار والحائط وكل شخص قائم {وَأَنتُمْ شُهَدَآءُ} الآن في التوراة مكتوب : إن دين اللّه الذي لا يقبل غيره هو الإسلام،

وإن فيه نعت محمد (صلى اللّه عليه وسلم)

﴿ ١٢٩