١٤٤{وأنتم تنظرون وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل} الآية. قال أهل التفسير وأصحاب المغازي : خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حتى نزل الشعب في سبعمائة رجل وأمر عبد اللّه بن جبير أحد بني عمر وعمر بن عوف وهو أخو خوات بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلا. فقال : (أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنّا بالنبل لانؤتا من خلفنا وإن كان لنا أو علينا، ولا تبرحوا مكاناً لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم) فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي، جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار وكانت هند تقول : نحن بنات طارق نمشي على النمارق الدر في المخانق والمسك في المفارق إن تقبلوا نعانق ونفرّق النمارق أو تدبروا نفارق فراق غير وامق وكان أبو عامر عبد عمرو بن الصيفي أول من لقيهم بالأحابيش وعبيد أهل مكة، فقاتلهم قتالا شديداً حتى حميت الحرب. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني) فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشبة الأنصاري وكان رجلا شجاعاً يحتال عند الحرب، فلما أخذ السيف اعتمَّ بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول : أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل ألاّ أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف اللّه والرسول فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنها لمشية يبغضها اللّه إلاّ في هذا الموضع) ثم حمل النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه على المشركين فهزموهم. وقتل علي بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء قريش، فأنزل اللّه نصره على المؤمنين. قال الزبير بن العوّام : فرأيت هنداً وصواحبها هاربات مصعدات في الجبل باديات خدادهن ما دون أخدهن شيء، فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب. واختلفوا، فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) . وقال بعضهم : ما بقي من الأمر شيء، ثم انطلقوا عامتهم ولحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأوا ظهورهم خالية، صاح في خيل المشركين ثم حمل على أصحاب النبي من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبد اللّه بن قمية الحارثي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه فأثقله، وتفرّق عنه أصحابه، فأقبل عبد اللّه بن قميه يريد قتل رسول اللّه فذب مصعب بن عمير وهو صاحب راية رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يوم بدر، ويوم أُحد وكان اسم رايته العقاب عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حتى قتل مصعب دونه، قتله ابن قميه فرجع وهو يظن أنه قتل رسول اللّه، فقال : إني قتلت محمداً وصاح صارخ : ألا أن محمداً قد قتل، ويقال : إن ذلك الصارخ إبليس لعنه اللّه فانكفأ الناس وجعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يدعوا الناس ويقول : (إليَّ عباد اللّه إليَّ عباد اللّه) فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه وأصيبت يد طلحة بن عبد اللّه فيبست، وقى بها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مكانها فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أدركه أُبي بن خلف الجمحي وهو يقول : لا نجوت إن نجوت، فقال القوم : يا رسول اللّه ألا يعطف عليه رجل منّا فقال : (دعوه) حتى إذا دنا منه، وكان أُبي قبل ذلك يلقى رسول اللّه فيقول : عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها. قال رسول اللّه : (بل أنا أقتلك إن شاء اللّه) فلما كان يوم أُحد ودنا منه تناول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول : قتلني محمد، واحتمله أصحابه فقالوا : ليس عليك شيء، فقال : بلى، لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال لي : أقتلك إن شاء اللّه، فلو بزق عليَّ بعد هذه المقالة لقتلني. فما لبث إلاّ يوماً حتى مات بموضع يقال له صرف. فقال حسان بن ثابت في ذلك : لقد ورث الضلالة عن أبيه أُبي حين بارزه الرسول أتيت إليه تحمل رم عظم وتوعده وأنت به جهول يقول فكيف يحيى اللّه هذا وهذا العظم عار ومستحيل (وقد قتلت بنو النجار منكم أمية إذا يغوث : يا عقيل وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا أبا جهل لأمهما الهبول وأفلت حارث لما شغلنا بأسر القوم، أسرته فليل) وقال حسان بن ثابت أيضاً : ألا من مبلغ عني أُبيّا فقد القيت في جوف السعير تمنى بالضلالة من بعيد وقول الكفر يرجع في غرور فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ كريم الأصل ليس بذي فجور له فضل على الأحياء طرّاً إذا نابت مُلمّات الأمور قالوا : وفشا في الناس أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قد قُتل، فقال بعض المسلمين : ليت لنا رسولا إلى عبد اللّه بن أُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا والقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق : إن كان محمد قد قُتل فالحقوا بدينكم الأول. فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك وسمي أنس : يا قوم إن كان محمد قد قُتل فإن ربّ محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول اللّه وموتوا على ما مات عليه، ثم قال : اللّهم إني أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قُتل، ثم إن رسول اللّه انطلق إلى الصخرة وهو يدعوا الناس، فأول من عرف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كعب بن مالك فقال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول اللّه، فأشار إليَّ أن اسكت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي على الفرار فقالوا : يا نبي اللّه فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فأنزل اللّه تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ومحمد هو المستغرق بجميع المحامد، لأن الحمد لا يستوجبه إلاّ الكامل، والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه إلاّ المستولي على الأمد في الكمال، وأكرم اللّه عزّ وجلّ نبيّه وصفيّه بإسمين مشتقين من اسمه تعالى : محمد وأحمد، وفيه يقول حسان بن ثابت : ألم تر أن اللّه أرسل عبده ببرهانه واللّه أعلى وأمجد قد شق له من اسمه ليجله فذوا العيش محمود وهذا محمد نبي أتانا بعد يأس وفترة من الدين والأوثان في الأرض تعبد فأرسله ضوءاً منيراً وهادياً يلوح كما لاح الصقيل المهنّد روى أبو هريرة عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (ألم تروا كيف صرف اللّه عني لعن قريش وشتمهم يسبون مذمّما وأنا محمد). وروى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن جدّه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا سمّيتم الولد محمداً فأكرموه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجهاً فما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلاّ خيراً لهم وما من مائدة وضعت فحضرها من اسمه أحمد أو محمد إلاّ قدّس في كل يوم ذلك المنزل مرتين). وعن حميد الطويل قال : سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في السوق، فقال رجل : يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال الرجل : إنما أدعوا ذلك، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (تسمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي). وروى محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي أنا أبو القاسم اللّه يعطي وأنا أقسم) ثم رخص في ذلك لعلي وابنه). وروى ليث عن محمد بن بشير عن محمد بن الحنفية عن علي (رضي اللّه عنه) قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن ولدَ لك غلام نحلته اسمي وكنيتي). {وَمَا مُحَمَّدٌ} على فراشه {أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} رجعتم إلى دينكم الأول الكفر {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} فيرتد عن دينه {فَلَن يَضُرَّ اللّه شيئا} بارتداده وإنما يضر نفسه {وَسَيَجْزِى اللّه الشَّاكِرِينَ} المؤمنين. روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : لما توفي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قام عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) توفي، وأن رسول اللّه واللّه ما مات ولكنه ذهب إلى ربّه، كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات، واللّه ليرجعن رسول اللّه وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، يزعمون أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مات قال : فأقبل أبو بكر (رضي اللّه عنه) حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلّم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في بيت عائشة ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مسجّى ببردة خيبر، فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبّله ثم قال : بأبي أنت وأُمي، أما الموتة التي كتبها اللّه عزّ وجلّ عليك فقد ذقتها ثم لم تصبك بعدها موتة أبداً، ثم ردَّ الثوب على وجهه ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال : على رسلك يا عمر فأنصت قال : فأبى إلاّ أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال : أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} . فقال : فواللّه لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال : فأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم. قال أبو هريرة : قال عمر : واللّه ما هو إلاّ أن سمعت أن أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول اللّه قد مات. |
﴿ ١٤٤ ﴾