١٦٩

{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتَا} الآية.

قال بعضهم : نزلت هذه الآية في شهداء بدر،

وكانوا أربعة عشر رجلاً،

ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين،

وقال آخرون : نزلت في شهداء أُحد،

وكانوا سبعين رجلاً،

أربعة من المهاجرين،

حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد اللّه بن جحش وسائرهم من الأنصار.

وروى ابن الزبير وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لما أُصيب إخوانكم يوم أُحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر تزور أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت،

وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش،

فلمّا وجدوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم،

ورأوا ما أعد اللّه تعالى لهم من الكرامة.

قالوا : يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع اللّه بنا،

كي يرغبوا في الجهاد ولا ينكلوا عنه،

فقال اللّه تعالى : أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم،

ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل اللّه تعالى {ولا تحسبن الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتَا} إلى قوله {أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} ).

قال قتادة والربيع : ذُكر لنا أنّ رجلا من أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : يا ليتنا نعلم ما فعل بإخواننا الذين قتلوا يوم أُحد،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

وقال مسروق : سألنا عبد اللّه بن مسعود عن هذه الآية فقال : جعل اللّه عزّ وجلّ أرواح شهداء أُحد في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش،

قال : فأطلع اللّه تعالى عليهم اطلاعة فقال : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟

قالوا : ربّنا ألسنا نسرح في الجنة في أيّها شئنا،

ثم اطلع عليهم الثانية فقال : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟

فقالوا : ربّنا أليس فوق ما أعطيتنا شيئاً إلاّ أن نحب أن تعيدنا أحياء،

ونرجع إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى فيك قال : لا. فقالوا : فتقرىء نبيّنا منّا السلام وتخبره بأن قد رضينا ورضي عنا،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

وقال جابر بن عبد اللّه : قتل أبي يوم أُحد وترك عليَّ بنات فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ألاّ أُبشرك يا جابر) قلت : بلى يا نبي اللّه قال : (إنّ أباك حيث أُصيب بأُحد أحياه اللّه وكلمه كلاماً فقال : يا عبد اللّه سلني ما شئت قال : أسألك أن تعيدني إلى الدنيا فأُقتل فيك ثانياً،

فقال : يا عبد اللّه إني قضيت أن لا أعيد خليقة إلى الدنيا. قال : يا ربِّ فمن يبلّغ قومي ما أنا فيه من الكرامة. قال اللّه تعالى : أنا،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية).

حميد عن أنس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما من نفس تموت لها عند اللّه خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا ولها الدنيا وما فيها إلاّ الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أُخرى).

وقال بعضهم : نزلت في شهداء بئر معونة،

وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق بن يسار عن أبيه عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام،

وعبد اللّه بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم،

وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قالوا : قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنّة وكان سيد بني عامر بن صعصعة على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المدينة وأهدى إليه هدية،

فأبى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أن يقبلها وقال : (يا أبا براء أنا لا أقبل هدية مشرك فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك) ثم عرض عليه،

وأخبره بما له فيها وما وعد اللّه المؤمنين من الثواب،

وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد وقال : يا محمد إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل،

فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إني أخشى عليهم أهل نجد) فقال أبو براء : أنا لهم جار أي هم في جواري فابعثهم ليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلاً من خيار المسلمين،

فيهم الحارث بن الضمة وحَرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهير مولى أبي بكر،

وذلك في صَفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحد،

فساروا حتى نزلوا بين معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم،

فلما نزلوها قال بعضهم لبعض : أيّكم يبلغ رسالة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أهل هذا الماء؟

فقال حَرام بن ملحان : أنا،

فخرج بكتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أبي عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء،

فلما أتاهم حَرام بن ملحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال حرام : يا أهل بئر معونة إني رسول رسول اللّه إليكم وإني أشهد أن لا اله إلاّ اللّه وأن محمداً عبده ورسوله فآمنوا باللّه ورسوله.

فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر،

فقال : اللّه أكبر فزت وربّ الكعبة. ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين،

فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا : لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقداً وجواراً. فاستصرخ قبائل من بني سليم عصبة ورعيل وذكوان فأجابوه إلى ذلك،

فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوهم في رجالهم،

فلما رأوهم أخذوا السيوف ثم قاتلوهم حتى قتلوا من آخرهم إلاّ كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق،

فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق.

وكان في سرح القوم عمرو بن أميّة الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف،

فلم ينبههما على مصاف أصحابهما إلاّ الطير يحوم على العسكر فقالا : واللّه إن لهذا الطير لشأناً،

فأقبلا لينظرا إليه فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة،

فقال الأنصاري لعمرو بن أميّة : ماذا ترى؟

قال : أرى أن نلحق برسول اللّه فنخبره الخبر،

فقال الأنصاري : لكني لا أرغب بنفسي عن موطن قُتل فيه المنذر بن عمرو،

ثم قاتل القوم حتى قُتل،

وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً،

فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمّه،

فقدم عمرو بن أمية على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأخبره الخبر،

فقال رسول اللّه : (هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً) فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بسببه وجواره،

وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة.

وروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة : أن عامر بن الطفيل كان يقول : من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه،

قالوا : هو عامر بن فهيرة.

قالوا وقال حسان بن ثابت يحرض أبي براء على عامر بن الطفيل :

فتى أم البنين ألم يرعكم

وأنتم من ذوايب أهل نجد

نهكم عامر بأبي براء

ليخفره وما خطأ كعمد

ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي

فما أحدثت في الحدثان بعدي

أبوك أبو الحروب أبو براء

وخالك ماجد حكم بن سعد

وقال كعب بن مالك في ذلك.

لقد طارت شعاعاً كل وجه

خفارة ما أجار أبو براء

بني أم البنين أما سمعتم

دعاء المستغيث مع النساء

وتنويه الصريخ بلى ولكن

عرفتم أنه صدّق اللقاء

فلما بلغ ربيعة من البراء قول حسان وقول كعب بن مالك،

حمل على عامر بن الطفيل وطعنه فخر عن فرسه فقال : هذا عمل أبي براء،

إن متُّ فدمي لعمي ولأتبعنّ به وإن أعش فسأرى فيه الرأي. وقال إسحاق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك قال : أنزل اللّه تعالى في شهداء بئر معونة قرآناً بلّغوا قومنا عنا إنا قد لقينا ربّنا فرضى عنّا ورضينا عنه،

ثم نسخت ورفعت بعد ما قرأناها زماناً وأنزل اللّه عزّ وجلّ {ولا تحسبن الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتَا} الآية.

وقال بعضهم : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سروراً تحسروا على الشهداء وقالوا : نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور،

فأنزل اللّه عزّ وجلّ تنفيساً عنهم وإخباراً عن حال قتلاهم {ولا تحسبن} ولا تظنن وروى هشام عن أهل الشام : (يحسبن) بالياء. وقرأ الحسن وابن عامر : (الذين قتّلوا) مشدداً،

(أمواتاً) كموت من لم يقتل في سبيل اللّه،

ونصب أمواتاً على المفعول الثاني،

لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين،

فإذا قلت : حسبت زيداً،

لا يكون كلاماً تاماً حتى تقول : قائماً أو قاعداً {بَلْ أَحْيَآءٌ} تقديره : بل هم أحياء.

وقرأ ابن أبي عبلة : أحياءً نصباً أي أحسبهم أحياء {عِندَ رَبِّهِمْ} .

وقال بعضهم : يعني أحياء في الدنيا حقيقة،

وقيل : (في العالم) وقيل : بالثناء والذكر،

كما قيل :

موت التقي حياة لا فناء لها

قد مات قوم وهم في الناس أحياء

وقيل : ممّا هم أحياء.

{رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ويأكلون ويتنعمون كالأحياء،

وقيل : إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة ويشتركون في فضل كل مجاهد يكون في الدنيا إلى يوم القيامة،

لأنهم سلوا أمر الجهاد،

فيرجع أجر من يقتدي بهم إليهم،

نظيره قوله : {كَتَبْنَا عَلَى بنى إسرائيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا} الآية،

وقيل : لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة،

كأرواح الأحياء من المؤمنين الذين باتوا على الوضوء. وقيل : لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض.

يقال : أربعة لا تبلى أجسادهم : الأنبياء والعلماء والشهداء وحملة القرآن.

وعن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة : أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد اللّه بن عمرو بن حرام الأنصاريين ثم السلميين،

كانا قد خرّب السيل قبرهما وكانا في قبر واحد وهما من شهداء أُحد،

وكان قبرهما ممّا يلي السيل،

فحفر عنهما ليغيّروا عن مكانهما فوجدا لم يتغيرا،

كأنهما ماتا بالأمس،

وكان قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك،

فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت،

وكان بين يوم أُحد وبين يوم حُفر عنهما ستة وأربعون سنة. وقيل : سمّوا أحياءً لأنهم لا يغسّلون كما لا يغسل الأحياء.

وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (زمّلوهم في كلومهم ودمائهم،

اللون لون الدم والريح ريح المسك).

وقال عبيد بن عمر : إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حين انصرف يوم أُحد مرَّ على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا ثم قرأ : {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} الآية،

ثم قال (صلى اللّه عليه وسلم) (إن رسول اللّه يشهد أن هؤلاء شهداء عند اللّه يوم القيامة،

فأتوهم وزوروهم وسلّموا عليهم،

فوالذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلاّ ردّوا عليه،

يرزقون من ثمار الجنة وتحفها).

﴿ ١٦٩