سورة الأنعاممكية كلها غير ست آيات منها نزلت في المدينة {وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ} إلى آخر ثلاث آيات وقوله {قل تعالوا أتل عليكم نبأكم} إلى قوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهذه الست مدنيات وباقي السورة كلها نزلت بمكة مجملة واحدة ليلاً ومعها سبعون ألف ملك وقد سدوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (سبحان اللّه العظيم) وخر ساجداً ثم دعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم. وهي مائة وخمس وستون آية وكلها حجاج على المشركين، كلماتها ثلاثة آلاف وإثنان وخمسون كلمة وحروفها إثنا عشر ألفاً وأربعمائة وعشرون حرفاً. روى ابن عباس عن أُبي بن كعب عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوماً وليلة). مسلم عن أبي صالح عن جابر بن عبد اللّه عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} وكل اللّه به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له ويوحي في قلبه شيئاً ضربه بها ضربة كان بينه وبينه سبعون حجاباً فإذا وكل يوم القيامة يقول للرب تبارك وتعالى أبشر في ظلي وكُل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السبيل وأنت عبدي فأنا ربك). قال سعيد بن جبير : لم ينزل من الوحي شيء إلاّ ومع جبرئيل أربعة من الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وهو قوله تعالى {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} إلاّ الأنعام فإنها تنزل ومعها سبعون ألف ملك. وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عبد اللّه بن خليفة قال : قال عمر (رضي اللّه عنه) : الأنعام من نواجب القرآن. بسم اللّه الرحمن الرحيم ١{الْحَمْدُ للّه الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض} الآية. قال مقاتل : قال المشركون للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) من ربك؟ قال : الذي خلق السماوات والأرض فكذبوه فأنزل اللّه عز وجل حامداً نفسه دالاّ بصفته على وجوده وتوحيده. {الحمد للّه الذي خلق السماوات في يومين} يوم الأحد ويوم الأثنين {الأرض فِى يَوْمَيْنِ} يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} قال السدي : يعني ظلمة الليل ونور النهار. وقال الواقدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان. وقال قتادة : يعني الجنة والنار وإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور يتعدى والظلمة لا تتعدى. وقال أهل المعاني : جعل هاهنا صلة والعرب تريد جعل في الكلام. وقال أبو عبيدة : وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والواحد إثنين لمّا هدَّني الكبر مجاز الآية : الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، وقيل : معناه خلق السماوات والأرض وقد جعل الظلمات والنور لأنه خلق الظلمة والنور قبل خلق السماوات والأرض. وقال قتادة : خلق اللّه السماوات قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار. وقال وهب : أول ما خلق اللّه مكاناً مظلماً ثم خلق جوهرة فصارت ذلك المكان، ثم نظر إلى الجوهرة نظر الهيئة فصارت دماً فارتفع بخارها وزبدها، فخلق من البخار السماوات ومن الزبد الأرضين. وروى عبد اللّه بن عمرو عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (إن اللّه عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه يومئذ من ذلك النور إهتدى ومن أخطأه ضلّ) {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} . قال قطرب : هو مختصر يعني الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون الأوثان أي يشركون وأصله من مساواة الشيء بالشيء يقال : عدلت هذا بهذا إذا ساويته به. وقال النضر بن شميل : الباء في قوله : {بِرَبِّهِمْ} بمعنى عن، وقوله : {يَعْدِلُونَ} من العدول. أي يكون ويعرفون. وأنشد : وسائلة بثعلبة بن سير وقد علقت بثعلبة العلوق وأنشد : شرين بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج أي من البحر قال اللّه تعالى : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّه} أي منها. محمد بن المعافى عن أبي صالح عن ابن عباس قال : فتح أول الخلق بالحمد للّه، فقال : {الْحَمْدُ للّه الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض} وختم بالحمد، فقال : {وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ} . حماد عن عبد اللّه بن الحرث عن وهب قال : فتح اللّه التوراة بالحمد فقال : الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض وختمها بالحمد فقال : {وَقُلِ الْحَمْدُ للّه الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} الآية. ٢قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} يعني آدم (عليه السلام) فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده. وقال السدي : بعث اللّه جبرئيل إلى الأرض ليأتيه بطينة منها فقالت الأرض : إني أعوذ باللّه منك أن تنقص مني فرجع ولم يأخذ، وقال : يا ربّ إنها عاذت بك، فبعث ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه باللّه فقال : أنا أعوذ باللّه أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط التربة الحمر والسودا والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والمالح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم فقال اللّه عز وجل لملك الموت رَحِمَ جبرئيل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك. وروى أبو هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إن اللّه خلق آدم من تراب جعله طيناً ثم تركه حتى كان حمأً مسنوناً خلقه وصوّره ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار (فكان ابليس يمرّ به فيقول) خلقت لأمر عظيم ثم نفخ اللّه فيه روحه) {ثُمَّ قَضَىا أَجَ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} . قال الحسن وقتادة والضحاك : الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والأجل الثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو البرزخ. وقال مجاهد وسعيد بن جبير : ثم قضى أجلاً يعني أجل الدنيا وأجل مسمىً عنده وهو الآخرة. عطية عن ابن عباس : ثم قضى أجلاً هو النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة. {أجل مسمى عنده} هو أجل موت الإنسان. ثم قضى أجلاً يعني جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها لا تجاوزونها، وأجل مسمى يعني وهو أجل مسمى عنده لا يعلمه غيره، الأجل المسمى هو الأجل الآجل. {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} تشكون في البعث ٣{وَهُوَ اللّه فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} يعني وهو إله السماوات وإله الأرض. مقاتل : يعلم سر أعمالكم وجهرها، قال : وسمعنا أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا بكر محمد بن أحمد، محمد بن أحمد البلخي يقول : هو من مقاديم الكلام وتقديره وهو اللّه يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض فلا يخفى عليه شيء {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} تعملون من الخير والشر ٤{وَمَا تَأْتِيهِم} يعنى كفار أهل مكّة {مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ} مثل انشقاق القمر وغيره {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} لها تاركين وبها مكذبين ٥{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} يعني القرآن وقيل : محمد عليه الصلاة والسلام {لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} أي أخبار استهزائهم وجزاؤه فهذا وعيد لهم فحاق بهم هذا الوعيد يوم يرونه ٦{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} يعني الأمم الماضية والقرن الجماعة من الناس وجمعه قرون، وقيل : القرن مدة من الزمان، يقال ثمانون سنة، ويقال : مائة سنة، ويكون معناه على هذا القول من أهل قرن {مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} يعني أعطيناهم ما لم نعطكم. قال ابن عباس : أمهلناهم في العمر والأجسام والأولاد مثل قوم نوح وعاد وثمود، ويقال : مكنته ومكنت له فجاء (......) جميعاً {وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ} يعني المطر {عَلَيْهِم مِّدْرَارًا} . تقول العرب : مازلنا نطأ السماء حتى آتيناكم مدراراً أي غزيرة كثيرة دائمة، وهي مفعال من الدر، مفعال من أسماء المبالغة، ويستوي فيه المذكر والمؤنث. قال الشاعر : وسقاك من نوء الثريا مزنة سعراً تحلب وابلاً مدراراً وقوله : {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} من خطاب التنوين كقوله تعالى : {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} . وقال أهل البصرة : أخبر عنهم بقوله : {أَلَمْ يَرَوْا} وفيهم محمد وأصحابه ثم خاطبهم، والعرب تقول : قلت لعبد اللّه ما أكرمه وقلت لعبد اللّه أكرمك {وجعلنا الأنهار التي تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا} وخلقنا وابتدأنا ٧{من بعدهم قرناً آخرين ولو نزلنا عليك كتابا} الآية. وقال الكلبي ومقاتل : أنزلت في النضر بن الحرث وعبداللّه بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند اللّه وأنك رسول فأنزل اللّه عز وجل فلو نزلنا عليك كتاباً {فِى قِرْطَاسٍ} في صحيفة مكتوباً من عند اللّه {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} عاينوه معاينة ومسوه بأيديهم {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} لما سبق فيهم من علمي ٨{وَقَالُوا لَوْ أُنزِلَ عَلَيْهِ} على محمد {مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ امْرُ} أي لوجب العذاب وفرغ من هلاكهم لأن الملائكة لا ينزلون إلاّ بالوحي (والحلال) {ثُمَّ يُنظَرُونَ} الكافرون ولا يمهلون. قال مجاهد : لقضي الأمر أي لقامت الساعة. وقال الضحاك : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا. وقال قتادة : لو أنزلنا المكارم ولم يؤمنوا لعجل لهم العذاب ولم يؤخروا طرفة عين ٩{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا} يعني ولو أرسلنا إليهم ملكاً {لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلا} يعني في صورة رجل آدمي لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة {وَلَلَبَسْنَا} ولشبهنا وخلطنا {عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} يخلطون ويشبهون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرى أملك هو أم آدمي. وقال الضحاك وعطية عن ابن عباس : هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وكذبوا رسلهم وهو تحريف الكلام عن مواضعه فلبس اللّه عليهم ما لبسوا على أنفسهم. وقال قتادة : ما لبس قوم على أنفسهم إلاّ لبس اللّه عليهم. وقرأ الأزهري : وللبسنا بالتشديد على التكرير يقال : ألبست العرب ألبسه لبساً وإلتبس عليهم الأمر ألبسه لبساً ١٠{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} كما استهزىء بك يا محمد يعزي نبيّه (صلى اللّه عليه وسلم) {فَحَاقَ} . قال الربيع بن أنس : ترك.عطاء : أحل. مقاتل : دار. الضحّاك : إحاطة. قال الزجاج : الحيق في اللغة ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ومنه : يحيق المكر السيّىء. وقيل : وجب. والحيق والحيوق الوجوب. {بِالَّذِينَ سَخِرُوا} هزئوا {مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} . فحاق بالذين سخروا من المرسلين العذاب وتعجيل النقمة ١١{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين {سِيرُوا} سافروا في الأرض معتبرين {ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والكذب الهلاك والعذاب، ١٢يخوّف كفار أهل مكة عذاب الأمم الماضية {قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض} فإن أجابوك وإلاّ {قُل للّه} يقول يفتنكم بعدد الأيام لا (.....) والأصنام ثم قال {كَتَبَ رَبُّكُمْ} أي قضى وأوجب فضلاً وكرماً {عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} . وذكر النفس ها هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وحد وارتفاع الوسائط دونه وهذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وإخبار بإنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة. هشام بن منبه قال : حدثنا أبو عروة عن محمد رسول (صلى اللّه عليه وسلم) قال : لما قضى اللّه الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش (إن رحمتي سبقت غضبي). وقال عمر لكعب الأحبار : ما أول شيء ابتدأه اللّه من خلقه؟ فقال كعب : كتب اللّه كتاباً لم يكتبه بقلم ولا مداد ولكنّه كتب بإصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت : إني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا سبقت رحمتي غضبي. وقال سلمان وعبداللّه بن عمر : إن للّه تعالى مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فاهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا فيها يتراحم الإنس والجان وطير السماء وحيتان الماء وما بين الهواء والحيوان وذوات الأرض وعنده مائة وسبعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة أضاف تلك الرحمة إلى ما عنده. ثم قال {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} اللام فهي لام القسم والنون نون التأكيد، مجازه : واللّه ليجمعنكم {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} يعني في يوم القيامة إلي يعني في، وقيل : معناه ليجمعنكم في (غيركم) إلى يوم القيامة {رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا} غلبوا على أنفسهم والتنوين في موضع نصب مردود على الكاف والنون من قوله {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} ويجوز أن يكون رفعاً بالإبتداء وخبره فهم لا يؤمنون، فأخبر اللّه تعالى أن الجاحد للآخرة هالك خاسر. ١٣{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الآية. قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) يا محمد إنا قد علمنا أنه ما يحملك على ما تدعونا إليه إلاّ الحاجة، فنحن نجمع ذلك من أموالنا ما نغنيك حتى تكون من أغنانا فأنزل اللّه تعالى قوله {وَلَهُ مَا سَكَنَ} أي استقر {وَلَهُ مَا سَكَنَ} من خلق. قال أبو روحى : إن من الخلق ما يستقر نهاراً وينتشر ليلاً ومنها ما يستقر ليلاً وينتشر نهاراً. وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن جرير : كلّ ما طلعت عليه الشمس وغيبت فهو من ساكن الليل والنهار والمراد جميع ما في الأرض لأنه لا شيء من خلق اللّه عز وجل إلاّ هو ساكن في الليل والنهار، وقيل : معناه وله ما يمر عليه الليل والنهار. وقال أهل المعاني : في الآية لغتان واختصار مجازها : وله ما سكن وشرك في الليل والنهار كقوله {سرابيل تقيكم الحر والبرد} وأراد في كل شيء {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأصواتهم {الْعَلِيمُ} بأسرارهم. وقال الكلبي : يعني هو السميع لمقالة قريش العليم بمن يكسب رزقهم ١٤{قُلْ} يا محمد {أَغَيْرَ اللّه أَتَّخِذُ وَلِيًّا} رباً معبوداً وناصراً ومعيناً {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرض} أي خالقها ومبدعها ومبدئها وأصل الفطر الشق ومنه فطر ناب الجمل إذا شقق وابتدأ بالخروج. قال مجاهد : سمعت ابن عباس يقول : كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني اعرابيان يختصمان في بعير. فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها، أنا أحدثتها {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} أي وهو يرزق ولا يرزق وإليه قوله عز وجل {ما أريد منهم من رزق وما أريد منهم أن يطعمون}. وقرأ عكرمة والأعمش : ولا يَطعم بفتح الياء أي وهو يرزق ولا يأكل. وقرأ أشهب العقيلي : وهو يُطعِم ولا يُطعَم كلاهما بضم الياء، وكسر العين. قال الحسن بن الفضل : معناه هو القادر على الإطعام وترك الإطعام كقوله {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} . وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا منصور الأزهري بهراة يقول : معناه وهو يطعم ولا يستطعم، يقول العرب : أطعمت غيري بمعنى استطعمت. وأنشد : إنّا لنطعم من في الصيف مطعماً وفي الشتاء إذا لم يؤنس القرع أي استطعمنا وقيل : معناه وهو يطعم يعني اللّه ولا يطعم يعني الولي {قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أخلص {وَلا تَكُونَنَّ} يعني وقيل لي : ولا تكونن {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ١٥{قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى} تعبدت غيره {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهو يوم القيامة. ١٦{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يومئذ} يعني من يُصَرف الغضبُ عنه. وقرأ أهل الكوفة : يصرف بفتح الياء وكسر الراء على معنى من صرف اللّه عنه العذاب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقوله {مِنَ اللّه} بأن قبل فيما قبله : {قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض قُل للّه} ، ولقوله فيما بعده {رَحْمَةً} ولم يقل : فقد رحم، على الفعل المجهول. (ولقراءة أُبيّ : من يصرفه اللّه عنه). يعني يوم القيامة، وهو ظرف مبني على الخبر لإضافة الوقت إلى إذ كقولك : حينئذ (وساعتئذ) {فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلك الْفَوْزُ الْمُبِينُ} يعني نجاة البينة ١٧{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍّ} بشدة وبلية وفقر ومرض {فلا كاشف} دافع وصارف {لَهُ إِلا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} عافية ورخاء ونعمة {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من الخير والشر {قَدِيرٌ} . روى شهاب بن حرش عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال : أهدي للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) بغلة أهداها له كسرى فركبها جهل بن شعر ثم أردفني خلفه وسار بي ملياً ثم احتنا لي وقال لي : يا غلام، قلت : لبيك يا رسول اللّه، قال : (إحفظ اللّه يحفظك احفظ اللّه تجده أمامك، تعرَّف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فأسأل اللّه وإذا استعنت فاستعن باللّه قد مضى القلم بما هو كائن فلو عمل الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض اللّه لك لما قدروا عليه ولو جهدوا أن ينصروك بما لم يكتب اللّه عليك ما قدروا عليه فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطيع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر فإن مع الكرب الفرج وإن مع العسر يسراً). ١٨{وَهُوَ الْقَاهِرُ} القادر الغالب {فَوْقَ عِبَادِهِ} وفي القهر معنى زائد على القدرة وهو منع غيره عن بلوغ المراد. {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في أمره {الْخَبِيرُ} بما جاء من عباده. ١٩{قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} الآية. قال الكلبي : أتى أهل مكة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالوا : ما وجد اللّه رسولاً غيرك وما نرى أحداً يصدقك فيما تقول ولو سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول اللّه كما تزعم، فأنزل اللّه {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} فإن أجابوك وإلاّ فقل {قُلِ اللّه شَهِيدُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} على ما أقول {وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم} وخوفكم يا أهل مكة {بِهِ وَمَن بَلَغَ} يعني ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم. قال الفراء : والعرب تضمر الهاء في مصطلحات التشديد (من) و (ما) فيها وإن الذي أخذت مالك، ومالي أخذته، ومن أكرمت (أبرّ به) بمعنى أكرمته. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية من كتاب اللّه فإن من بلغته آية من كتاب اللّه فقد بلغه أمر اللّه أخذه أو تركه). وقال الحسن بن صالح : سألت ليثاً : هل بقي أحد لم يبلغه الدعوة. قال : كان مجاهد يقول حيثما يأتي القرآن فهو داع وهو نذير، ثم قرأ هذه الآية. فقال مقاتل : من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له. وقال محمد بن كعب القرضي : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً (عليه السلام) وسمع منه {أَنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّه ءَالِهَةً أُخْرَى} ولم يقل آخر والآلهة جمع لأن الجمع يلحق التأنيث كقوله تعالى {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ اولَى} . {قُلْ} يا محمد إن أشهدوكم أنتم ٢٠{ولا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب} يعني التوراة والإنجيل {يَعْرِفُونَهُ} يعني محمد (صلى اللّه عليه وسلم) ونعته وصفته {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} أي من الصبيان. قال الكلبي : لما قدم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المدينة، قال عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) لعبيد اللّه بن سلام : إن اللّه قد أنزل على نبيّه {إن الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد اللّه : يا عمر قد عرفته فيكم حين رأيته بنعته وصفته كما أعرف إبني إذا رأيته مع الصبيان يلعب ولأنا أشدّ معرفة بمحمّد (صلى اللّه عليه وسلم) مني بإبني، قال : وكيف؟ قال : نعته اللّه عز وجل في كتابنا، فلا أدري ما أحدث النساء، فقال عمر : وفقك اللّه يا ابن سلام {الَّذِينَ خَسِرُوا} غبنوا {أَنفُسَهُمْ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ} وذلك إن لكل عبد منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا كان يوم القيامة جعل اللّه لأهل الجنة منازل أهل النار في الجنة وجعل لأهل النار منازل أهل الجنة في النار ٢١{وَمَنْ أَظْلَمُ} أكفر. قال الحسن : فلا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى} اختلق {عَلَى اللّه كَذِبًا} فأشرك به غيره {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ} يعني القرآن. قال الحسن : كل ما في القرآن بآياتنا وآياته يعني به الدين بما فيه {يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الكافرون ٢٢{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} العابدين والمعبودين {جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} إنما يشفع لكم عند ربكم ٢٣{ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ} يعني قولهم وجوابهم، وقيل : معذرتهم، والفتنة : الاختبار، ولمّا كان سؤالهم يخبر به لإظهار ما في قلوبهم قيل : فتنة. {إِلا أَن قَالُوا وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وذلك إنهم يوم القيامة إذا رأوا مغفرة اللّه عز وجل وتجاوزه عن أهل التوحيد. قال بعضهم لبعض : تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد {ويقولون واللّه ربنا ما كنا مشركين} فيقول اللّه تعالى لهم : {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} وتدعون أنهم شركائي ثم نختم على أفواههم وتشهد جوارحهم عليهم بالكفر وذلك قوله ٢٤{أنظركيف كذبوا على أنفسهم وضل} زال وبطل {عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من الأصنام ٢٥{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآية، قال : إجتمع أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأُبي إبنا خلف والحرث بن عامر استمعوا حديث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالوا : للنضر يا أبا فتيلة ما يقول محمد، قال : والذي جعلها بيته يعني الكعبة قال : ما أدري ما يقول إلاّ إنه يحرك لسانه ويقول : {أَسَاطِيرُ الأوَّلِين َ} ، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كتب الحديث عن القرون وأخبارها. فقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول خفياً، فقال أبو جهل : كلا فأنزل اللّه تعالى : {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وإلى كلامك {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} غشاوة وغطاء {أَن يَفْقَهُوهُ} يعلموه {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} ثقلاً وصماً {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلاّ أساطير الأولين} يعني حكاياتهم إسطورة وإسطارة. وقال بعض أهل اللغة : هي التُّرَّهّات والأباطيل والبسابس وأصلها من سطرت أي كتبت ٢٦{وهم ينهون عنه ويناؤن عنه} . قال مقاتل : نزلت في أبي طالب وإسمه عبد مناف وذلك إن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) كان عند أبي طالب يدعو إلى الإسلام فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون سوءاً بالنبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال أبو طالب : واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسّد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذلك وقر منك عيونا ودعوتني وزعمت إنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم سببا وفرضت ديناً لا محالة إنه من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذاري سبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا فأنزل اللّه تعالى {وهم ينهون عنه وَينؤنَ عنه} أي يمنعون الناس عن أذى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ويناؤن عنه أي يبتعدون عما جاء له من الهدي فلا يصدقونه وهذا قول القاسم بن محمد وعطاء ابن دينار وإحدى الروايتين عن ابن عباس وعن محمد بن الحنفية والسدي والضحّاك قالوا : نزلت في جملة كفار مكة يعني وهم ينهون الناس عن إتباع محمد والإيمان به ويتباعدون بأنفسهم عنه. قال مجاهد : وهم ينهون عنه قريشاً ينهون عن الذكر ويتباعدون عنه. وقال قتادة : وينهون عن القرآن وعن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ويتباعدون عنه {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} لأن أوزار الذين يصدونهم عليهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} إنما كذلك ٢٧{وَلَوْ تَرَىا} يا محمد {إِذْ وُقِفُوا} حبسوا {عَلَى النَّارِ} يعني في النار كقوله : {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} يعني في ملك سليمان. وقرأ السميقع {إِذْ وُقِفُوا} بفتح الواو والقاف من الوقوف والقراءة الأولى على الوقف. فقال : وقفت بنفسي وقوفاً ووقفتم وقفاً، وجواب لو محذوف معناه لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجباً {فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} قرأه العامة ويكون بالرفع على معنى يا ليتنا نرد ونحوَ لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين أردنا أم لم نرد. وقرأ ابن أبي إسحاق وحمزة : ولا نكذب وتكون نصباً على جواب التمني، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصبه بالفاء. وقرأ ابن عامر : نرد ولا نكذب : بالرفع، ونكون : بالنصب قال : لأنهم تمنوا الرد وأن يكونوا من المؤمنين واخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردّوا إلى الدنيا {بَلْ بَدَا} ظهر {لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ} يسترون في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم. وقال السدي إنهم قالوا : {وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فذلك إخفاؤهم {مِن قَبْلُ} فأنطق اللّه عز وجل جوارحهم فشهدت عليهم بما كتموا فذلك قوله عز وجل ٢٨{بَلْ بَدَا لَهُم} وهذا أعجب إلي من القول الأول لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا إلاّ أن تجعل الآية في المنافقين. قال المبرد : بدا لهم (جزاء ما كانوا يخفون من قبل). وقال النضر بن شميل : معناه بل بدا (لعنهم)، ثم قال {وَلَوْ رُدُّوا} إلى الدنيا {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} من الكفر {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم : لو ردونا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين. ٢٩{وَقَالُوا إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} فيه تقديم وتأخير، وكان عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول : هذا من قولهم : لو ردوا لقالوا {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد الموت ٣٠{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} قيل : على حكم اللّه (......) فهم (وتكلمنا اليدين) بأمر اللّه {قَالَ أَلَيْسَ هذا} العذاب {بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} إنّه حق {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} . ٣١أي بكفركم {قَدْ خَسِرَ} وكس وهلك {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللّه} بالبعث بعد الموت {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ} القيامة، {بَغْتَةً} فجأة {قالوا يا حسرتنا} ندامتنا {عَلَى مَا فَرَّطْنَا} قصرّنا {فِيهَآ} في الطامة، وقيل : تركنا في الدنيامن عمل الآخرة. وقال محمد بن جرير : الهاء راجعة إلى الصفقة، وذلك إنه لما تبين لهم خسران صفقتهم بيعهم الإيمان بالكفر والدنيا بالآخرة، قالوا : يا حسرتنا على ما فرطنا فيها، أي في الصفقة فترك ذكر الصفقة كما يقول {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللّه} لأن الخسران لا يكون إلاّ في صفقة بيع. قال السدي : يعني على ما ضيعنا من عمل الجنة، يدل عليه ما روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في هذه الآية قال : (يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون : يا حسرتنا) {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} آثامهم وأفعالهم. قال أبو عبيد : يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع : إحمل وزرك ووزرتك واشتقاقه من الوزر الذي يعتصم به ولهذا قيل : وزر لأنّه كأنّه الذي يعتصم به الملك أو النبي ومنه قوله تعالى {واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي} {عَلَى ظُهُورِهِمْ} . قال السدي وعمرو بن قيس الملائي : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيب ريحاً، يقول : هل تعرفني؟ يقول : لا، إلاّ أن اللّه عز وجل قد طيب ريحك وحسّن صورتك، فيقول : كذلك كتب في الدنيا أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني اليوم أنت. وقرأ {يوم يحشر المتقين إلى الرحمان وفداً} أي ركباناً، فإن الكافر تستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً فيقول : هل تعرفني؟ فيقول : لا إلاّ أن اللّه عز وجل قد قبح صورتك وأنتن ريحك، فيقول : لما كان عملك في الدنيا، أنا عملك السيء طالما ركبتني في المساء فأنا أركبك اليوم وذلك قوله {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} . قال الزجاج : لا يزر إليهم أوزارهم، كما يقول الضحّاك : نصب عيني وذكرك محيي قلبي {أَلا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} أي يحملون ويعملون ٣٢{وَمَا الْحياةُ الدُّنْيَآ إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطل وغرور لا يبقى، وهذا تكذيب من اللّه للكفار في قولهم {مَا هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} الآية {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ} قرأتها العامة رفعاً على نعت الواو، وإضافة أهل الشام لاختلاف اللفظين كقوله : ربيع الأول، ومسجد الجامع {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} سميت الدنيا لدنوّها، وقيل : لدناءتها وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} من الشرك {أفلا تعقلون} أي الآخرة أفضل من الدنيا ٣٣{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ} الآية. قال السدي : إلتقى الأخفش بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال الأخفش لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس ها هنا أحد يسمع. كلامك غيري؟ فقال له أبو جهل : واللّه إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش، فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية. وقال أبو يزيد المدني : لقي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أبا جهل فصافحه فلقيه بعض شياطينه فقال له : يأتيك تصافحه؟ قال : واللّه إني أعلم إنه لصادق ولكنا متى كنا تبعاً لعبد مناف، فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية. وقال ناجية بن كعب : قال أبو جهل للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) ما نتهمك ولا نكذبك ولكن نتهم الذي جئت به ونكذبه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال مقاتل : نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي كان يكذب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال : ما محمد من أهل الكذب فلا أحسبه إلاّ صادقاً، وقال للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) إنا لنعلم إن الذي له حق وإنه لا يمنعنا أن نتبع الهدى معك إلاّ مخافة أن يتخلفنا البأس من أرضنا يعني العرب فإنا (ثمن) أكلة رأس ولا طاقة لنا بهم فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ} بأنك كاذب وساحر ومجنون {فَإِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَكَ} أي لا ينسبونك إلى الكذب ولا يقولون لك : كذبت. وقرأ نافع والكسائي : يكذبونك بالتخفيف وهي قراءة علي رضي اللّه عنه يعني : ولا يجدونك كاذباً، يقول العرب : أجدبت الأرض وأخصبتها وأحييتها وأهجتها إذا وجدتها جدبة وخصبة ويعيدوا ناتجة للنبات. قال رؤبة : وأهيج الخلصاء من ذات البرق أي وجدتها ناتجة للنبات. ٣٤قال الكسائي : يقول العرب : أكذبت الرسل إذا أخبرت إنه قول الكذب فرواه وكذبته إذا أجزت إنه كاذب {ولكن الظالمين بآيات اللّه يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك} (تسلية نبيه) يقولون : كذبهم قومهم كما كذبتك قريش {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَ اهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّه} قال الكلبي : يعني القرآن. وقال عكرمة : يعني قوله {ولقد سبقت كلمتنا ولا مبدل لكلمات اللّه} إلى قوله : {الْغَالِبُونَ} وقوله : {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحياةِ الدُّنْيَا} وقوله تعالى {كَتَبَ اللّه غْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى} العدل يعني لأخلفهما لعذابه {وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ} من قبل كما يقول : أصابنا من مطر أي مطر. ٣٥{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} قال الكلبي : قال الحرث بن عامر : يا محمد إئتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي بها فإن أتيت بها آمنا بك وصدقناك، فأبى اللّه أن يأتيهم بها فأعرضوا عنه وكبر عليه (صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه عز وجل {وَإِن كَانَ كَبُرَ} عظم وضاق {عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} عنك {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ} تطلب وتتخذ {نَفَقًا} سرباً {فِى الأرض} مثل نافقا اليربوع وهو أحد حجرته فيذهب فيه {أَوْ سُلَّمًا} درجاً ومصعداً إليّ {فِى السَّمَآءِ} يصعد فيه. قال الزجاج : السلم من السلامة وهو الذي يسلمك إلى مصعدك {وَإِن كَانَ} فافعل {وَلَوْ شَآءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} فآمنوا كلّهم {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أن يؤمن بك بعضهم دون بعض وإن اللّه لو شاء لجمعهم على الهدى، وإن من يكفر إنما يكفر بسائر علمه فيه. ٣٦{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} يعني المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم اللّه على سمعه فلا يصغي إلى الحق {وَالْمَوْتَى} يعني الكفار {يَبْعَثُهُمُ اللّه} مع الموتى ٣٧{ثم إليه يرجعون وقالوا} يعني الحرث بن عامر وأصحابه. {لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن اللّه قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون} حالهم في نزولها ٣٨{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأرض ولا طائر يطير بِجَنَاحَيْهِ} على التأكيد، كما يقال : أخذت بيدي، مشيت برجلي ونظرت بعيني. {إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} يعني بعضهم من بعض والناس أمة والطير أمة والسباع أمة والدواب أمة، وقيل : إلاّ أمم أمثالكم جماعات أمثالكم. وقال عطاء : أمثالكم في التوحيد (ومعرفة اللّه) وقيل : إلاّ أمم أمثالكم في التصور والتشخيص {مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِن شَىْءٍ} يعني في اللوح المحفوظ {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} . قال ابن عباس، والضحّاك : حشرها : موتها. وقال أبو هريرة : في هذه الآية يحشر اللّه الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطيور وكل شيء فيبلغ من عذاب اللّه يومئذ أن يأخذ الجماء من القرناء ثم يقول : كوني تراباً فعند ذلك {يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} . وقال عطاء : فإذا رأوا بني آدم وما فيه من الجزية، قلت الحمد للّه الذي لم يجعلنا مثلكم فلا جنة نرجو ولا ناراً نخاف، فيقول اللّه عز وجل لهم كونوا تراباً فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراباً. وعن أبي ذر قال : بينا أنا عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إذا انتطحت عنزان فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أتدرون فيما إنتطحا) قالوا : لا ندري، قال : لكن اللّه يدري ويقضي بينهما ٣٩{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَاتِنَا } محمد والقرآن {صُمُّ} لا يسمعون الخبر {وَبُكْمٌ} لا يتكلمون، الخبر {فِى الظُّلُمَاتِ} في ظلالات الكفر {مَن يَشَإِ اللّه يُضْللّه} يموتون على كفرهم {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} قائم وهو الإسلام ٤٠{قل أرءيتكم} أي هل رأيتم والكاف فيه للتأكيد، {إِنْ أتاكم عَذَابُ اللّه} يوم بدر وأحد والأحزاب وحنين، {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ} في صرف العذاب، ٤١{إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ثم قال {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} تخلصون {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَآءَ وَتَنسَوْنَ} تتركون ٤٢{ما تشركون ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} فكفروا {فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَآءِ} الفقر والجوع {وَالضَّرَّآءِ} المرض والزمانة {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} يؤمنون ويتوبون ويخضعون ويخشعون. ٤٣{فلولا إذا جاءهم بأسنا} عذابنا {تَضَرَّعُوا} فآمنوا فكشف عنهم {وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعصية ٤٤{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي أنكروا ما عظوا وأمروا به {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ} أي بدلناهم مكان البلاء والشدة بالرخاء في العيش والصحة في الأبدان {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا} أعجبوا {بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً} فجأة امن ما كانوا بالعجب ما كانت الدنيا لهم، {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} يئسون من كل خير. قال السدي : هالكون، ابن كيسان : خاضعون، وقال الحسن : منصتون. وقرأ عبد الرحمن السلمي : مبلسون بفتح اللام مفعولا بهم أي مؤيسون. وأصل الإبلاس الإطراق من الحزن والندم. وقال مجاهد : الإبلاس الفضيحة. وقال : إبن زيد المبلس الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه. قال جعفر الصادق : فلما نسوا ما ذكروا به من التعظيم فتحنا عليهم أبواب كل شيء من النعم حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الترفيه والتنعيم جاءتهم بغتة إلى سوء الجحيم ٤٥{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ} قال السدي : أصل القوم. قال قطرب : أخذهم يعني استؤصلوا وأهلكوا {الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ} على إهلاكهم. روى عقبة بن عامر عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إذا رأيت اللّه أعطى العباد ما يشاؤن على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم). ثم تلا هذه الآية {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} الآية. ٤٦{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّه سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} فذهب بها {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم} وطبع عليها يعني لا يفقهوا قولاً ولا يبصروا حجة {مَّنْ اله غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُم بِهِ} يعني بما أخذ منكم {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ} نبين {لهم الآيات ثم هم يصدفون} يعرضون عنها مكذبين بها ٤٧{قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ اللّه بَغْتَةً} فجأة {أَوْ جَهْرَةً} معاينة ورؤية (على ما أشركوا) {هَلْ يُهْلَكُ} بالعذاب {إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} المشركون ٤٨{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ} العمل {فلا خوف عَلَيْهِمْ} حين يخاف أهل النار {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} إذا حزنوا ٤٩{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَاتِنَا } بمحمد والقرآن {يَمَسُّهُمُ} يصيبهم {الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} يرتكبون { ٥٠قُل أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآنُ اللّه} يعني رزق اللّه {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} ما يخفى عن الناس {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ} فتنكرون قولي وتجحدون أمري {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَىَّ} وذلك غير منكر ولا مستحيل في العقل مع وجود الدلائل والحجة البالغة {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى اعْمَى وَالْبَصِيرُ} الكافر والمؤمن والضال والمهتدي {أفلا تتفكرون} لا يستويان ٥١{وَأَنذِرِ} خوّف {بِهِ} بالقرآن. قال الضحّاك : به أي باللّه {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا} يبعثوا ويحيوا {إِلَى رَبِّهِمُ} وقيل : يعلمون أن يحشروا لأن خوفهم بما كان من عملهم {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ} من دون اللّه {وَلِيُّ} يعني قريب ينفعهم {وَلا شَفِيعٍ} يشفع لهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ٥٢{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ} الآية، قال سليمان، وخباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية. جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصين الفزاري وهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المسلمين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فقالوا : يا رسول اللّه لو جلست في صدر المجلس ويغيب عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكانت عليهم جباب من صوف لم يكن عليهم غيرها لجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما أنا بطارد المؤمنين) قالوا : فأنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم وإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال : نعم، قالوا : أكتب لنا بذلك كتاباً، قال : فدعانا لصحيفة ودعا علياً ليكتب. قال : ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل (عليه السلام) بقوله {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ} إلاّ بشيء فألقى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : سلام عليكم {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} الآية، قال : وكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقعد معنا بعمد وندنوا منه حتى كادت رِكبنا تمسّ ركبه فإذا بلغ الساعة التي يقوم قمنا وتركناه حتى يقوم وقال : (الحمد للّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي (معكم المحيا ومعكم) الممات). وقال الكلبي : قالوا له : إجعل لنا يوماً ولهم يوم، قال : لا أفعل، قالوا : فاجعل المجلس واحداً وأقبل إلينا وولّ ظهرك عليهم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وروى الأشعث بن سواد عن إدريس عن عبد اللّه بن مسعود قال : مرّ الملأ من قريش على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ، صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء أهؤلاء الذين قال : منّ اللّه عليهم من بيننا، أطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم إتبعناك، فأنزل اللّه تعالى {وَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} الآية، قال : بها قد قالت قريش : لولا بلال وابن أم عبد لتابعنا محمداً فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية. وقال عكرمة : جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن أمية ومطعم بن عدي والحرث بن نوفل وقرظة ابن عبد وعمرو بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا : ياأبا طالب لو أن ابن أخيك محمداً يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنهم عبيدنا كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتّباعنا إيّاه. وتصديقنا له فأتى أبو طالب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فحدثه بالذي كتموه، فقال عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) : لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون فنزلت من قولهم هذه الآية فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب واعتذر من مقالته. وقال جبير بن نفيل : إن قريشاً أتوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالت : أرسلت إلينا فاطرد هؤلاء السقاط عنك فنكون أصحابك فأنزل اللّه تعالى {وَلا تَطْرُدِ} الآية. قال ابن عباس : يدعون ربهم يعني يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة بالغداة والعشي يعني صلاة الصبح وصلاة العصر، وذلك إن ناساً من الفقراء كانوا مع النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال قوم من الأشراف : إذا صلّينا فأخّر هؤلاء وليصلوا خلفنا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ} الآية. وقال حمزة بن عيسى : دخلت على الحسن فقلت له : يا أبا سعيد أرأيت قول اللّه تعالى {ولاتطرد الذين آمنوا} ، قال : لا ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة. وقال مجاهد : صليت الصبح مع سعيد بن المسيب (رضي اللّه عنه) فلما سلم الإمام، ابتدر الناس القاص، فقال سعيد ما أسرع الناس إلى هذا المجلس. فقال مجاهد : فقلت : يتأوّلون قول اللّه عز وجل ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، فأراد في هذا هو إنما ذلك في الصلاة التي انصرفا عنها الآن، وقلنا إنهم يذكرون ربهم. وقال أبو جعفر : يعني يقرأون القرآن {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} جواب لقوله {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ} وقوله {فَتَكُونُ} جواب لقوله ولا تطرد لا أحد هو جواب نفي واللّه جواب النهي {مِنَ الظَّالِمِينَ} من الضارين لنفسك بالمعصية والنفس الطرد في غير موضعه ٥٣{وَ كذلك فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} التعريف الوضيع والعرفي بالمولى والغني الآية {لِّيَقُولُوا} يعني الأشراف الأغنياء {أَهَ اؤُءِ} يعني الفقراء والضعفاء {مَنَّ اللّه عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} قال الكلبي : كان الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد آمن قبله حمى أنفاً أن يسلم ويقول : سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم {أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} يعني المؤمنين وهذا جواب لقوله {أهؤلاء مَنَّ اللّه عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} وقيل : أليس اللّه أعلم بالشاكرين، من يشكر على الإسلام إذا هديته له. العلاء بن بشير عن أبي بكر الناجي عن أبي سعيد الخدري قال : كنت في عصابة فيها ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم يستر بعضاً من العري وقارىء يقرأ علينا ونحن نستمع إلى قراءته فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) حتى قام علينا فلما رأى القارىء سكت، فسلم وقال : ما كنتم تصنعون؟ قلنا : يا رسول اللّه كان قارىء يقرأ علينا ونحن نستمع إلى قراءته، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) الحمد للّه الذي جعل في أمتي من أمرت أن أُصبر نفسي معهم ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال هكذا بيده هكذا، فحلق القوم وبرزت وجوههم فلم يعرف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) منهم أحداً وكانوا ضعفاء المهاجرين. فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أبشروا صعاليك المهاجرين بالفوز التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء المؤمنين بنصف يوم مقداره خمس مائة سنة). هشام بن سليمان عن أبي يزيد الرقاشي عن أنس قال : قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (يا معشر الفقراء إن اللّه رضي لي أن أتأسى بمجالسكم وأن اللّه معنا فقال : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ} فإنها مجالس الأنبياء قبلكم والصالحين). معاوية بن مرّة عن عائذ بن عمرو : أن سلماناً وصهيباً وبلالا كانوا قعدوا فمر بهم أبو سفيان فقالوا له : ما أخذت سيوف اللّه من عنق عدو اللّه مأخذها بعد. فقال لهم أبو بكر (رضي اللّه عنه) : تقولون هذا لشيخ قريش وسيّدها ثم أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك) فوقع أبو بكر فيهم فقال : لعلي أغضبتكم؟ قالوا : لا يا أبا بكر يغفر اللّه لك. ٥٤{وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِايَاتِنَا } إختلفوا فيما نزلت هذه الآية. فقال عكرمة : نزلت في الذين نهى اللّه عز وجل نبيه (صلى اللّه عليه وسلم) عن طردهم وكان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال : (الحمد للّه الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام). وقال الكلبي : لما نزلت هذه الآية {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} جاء عمر (رضي اللّه عنه) للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) فاعتذر إليه من مقالته واستغفر اللّه تعالى منها، وقال : يا رسول اللّه ما أردت بهذا إلاّ الخير فنزل في عمر (رضي اللّه عنه) {وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} الآية. وقال عطاء : نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة وصهيب بن عمير وعمر وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر، والأرقم بن الأرقم وأبي سلمة بن الأسد رضي اللّه عنهم أجمعين. وقال أنس بن مالك (رضي اللّه عنه) عنه : أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) رجال فقالوا : إنا أصبنا ذنوباً كثيرة عظيمة فسكت عنهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه على الرجال الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءَا بِجَهَالَةٍ} قال مجاهد : لا يعلم حلالاً من حرام ومن جهالته ركب الأمر وكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل، وقيل : جاهل بما يورثه ذلك الذنب، يقال : جهل حين آثر المعصية على الطاعة {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} فرجع عن دينه {وَأَصْلَحَ} عمله، وقيل : أخلص توبته {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} واختلف القراء في قوله تعالى {أَنَّهُ} (الكوفيون) بفتح الألف منهما جميعاً. إبن كثير والأعمش وابن عمر وحمزة والكسائي على الإستئناف، ونصبها الحسن وعاصم ويعقوب بدلاً من رحمة، وفتح أهل المدينة الأولى على معنى وكتب إنّه وكسروا الثانية على الاستئناف لأن ما بعدها لا يخبر أبداً ٥٥{وَكَذلِكَ} أي هكذا، وقيل : معناه وفصلنا لك في هذه السورة والآية. وجاء في أعلى المشروح في المنكرين من كذلك {نُفَصِّلُ ايَاتِ} أي نميز ونبين لك حجتنا وأدلتنا في كل من ينكر أهل الباطل {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} مرّ رفع السبيل ومعناه وليظهر وليتضح طريق المجرمين. يقال بأن الشيء وأبان وتبيان وتبين إذا ظهر ووضح والسبيل يذكر ويؤنث، فتميم تذكر، وأهل الحجاز يؤنثه، ودليل المذكر قوله عزّ وجل {وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ يَتَّخِذُوهُ سبيلا} {وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سبيلا} ودليل التأنيث قوله تعالى {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} وقوله عز وجل {قل هذه سبيلي أدعوا إلى اللّه على بصيرة} ولذلك قرأ ولتستبين بالياء والتاء، وقرأ أهل المدينة ولتستبين بالتاء، سبيل بالنصب على خطاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) عناه ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين، ٥٦يقال واستبين الشيء وتبينته إذا عرفته {قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه قُل أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ} في عبادة الأوثان وطرد بلال وسلمان {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} يعني إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير الهدى. وقرأ يحيى بن وثاب (وأبو رجاء) : قد ضللت، بكسر اللام وهما لغتان ضلّ يضلّ مثل قلّ يقلّ. وضلّ يضلّ مثل ملّ يملّ، ٥٧والأولى هي الأصح والأفصح لأنها لغة أهل الحجاز {قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَةٍ} بيان وبرهان وبصيرة وحجة {مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ} أي بربي {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} يعني العذاب، نزلت في النضر بن الحرث {إِنِ الْحُكْمُ} ما القضاء {إِلا للّه يَقُصُّ الْحَقَّ} قرأ أهل الحجاز، وعاصم يقص الحق بالصاد المشددة أي يقول الحق قالوا : لأنه مكتوب في جميع المصاحف بغير ياء ولأنه قال الحق فإنما يقال قضيت بالحق. وقرأ الباقون : بالضاد أي يحكم بالحق دليله قوله {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} والفصل جلب القضاء، والقرّاء إنما حذفوا الياء للإستثقال ثم (...) كقوله {صَالِ الْجَحِيمِ} وقوله {يَمْحُوا اللّه مَا يَشَآءُ} و {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ونحوها وحذفوا الباء من الحق لأنه صفة المصدر فكأنه يقضي القضاء الحق. ٥٨{قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى} بيدي {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} هو العذاب {لَقُضِىَ امْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} أي فرغ من العذاب وأهلكتم {وَاللّه أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} . ٥٩{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يلَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ} المفاتح جمع المفتح. وقرأ ابن السميقع : بمفاتيح على جمع المفتاح، يعني ومن عنده معرفة الغيب وهو يفتح ذلك بلطفه، واختلفوافي مفاتيح الغيب. فروى عبد اللّه بن عمر إن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (مفاتح الغيب خمس....... إن اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن اللّه عليم خبير). وقال السدي : مفاتح الغيب خزائن الغيب. مقاتل، والضحّاك : يعني خزائن الأرض. وعلم نزول العذاب متى ينزل بكم. عطاء : يعني ما غاب عنكم من الثواب والعقاب وما يصير إليه أمري وأمركم، وقيل : هي الآجال ووقت انقضائها، وقيل : أحوال العباد من السعادة والشقاوة، وقيل : عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال، وقيل : هي ما لم يكن بعد إنه يكون أم لا يكون وما يكون كيف يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون. وقال ابن مسعود : أوتي نبيّكم علم كل شيء إلاّ مفاتيح الغيب {وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . قال مجاهد : البر القفار والبحر كل قرية فيها ماء {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} قال ابن عباس : ما شجرة في بر ولا بحر إلاّ وبها ملك وكّل يعلم من يأكل وما يسقط من ورقها وقل منكم عند ما بقي من الورق على الشجر وما سقط منها. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن عبدوس يقول : معناه يعلم كما تقلبت ظهراً لبطن إلى أن سقطت على الأرض {وَلا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأرض} أي في بطون الأرض، وقيل : تحت الصخرة في أسفل الأرضين {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} قال ابن عباس : الرطب الماء، واليابس البادية. وقال عطاء : يريد ما ينبت وما لا ينبت. وقال الحسن : يكتبه اللّه رطباً ويكتبه يابساً لتعلم يا بن آدم إن عملك أولى بها (من إصلاح) تلك الجنة. وقال : الرطب لسان المؤمن رطب بذكر اللّه، واليابس لسان الكافر لا يتحرك بذكر اللّه. وبما يرضي اللّه عز وجل. وقيل : هي الأشجار والنبات. وروى الأعمش عن أبي زياد عن عبد اللّه بن الحرث، فقال : ما في الأرض من شجرة ولا كمغرز إبرة إلاّ عليهاملك وكل يأتي اللّه بعلمها ويبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت. محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (ما من زرع على الأرض ولا ثمار على أشجار (ولا حبة في ظلمات الأرض) إلاّ عليها مكتوب : بسم اللّه الرحمن الرحيم، رزق فلان ابن فلان وذلك قوله تعالى في محكم كتابه {وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ولا حبة في في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس} ). ٦٠{إلاّ في كتاب مبين وهو الذي يتوفاكم بالليل} أي يقبض أرواحكم في منامكم {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} وأصله من (جارحة) اليد. ثم قيل لكل عليك جارح أي عضو من أعضائه عمل ومنه (الزرع الجيد)، ويقال لا ترك اللّه له جارحاً أي عبداً ولا أمة يكسب له {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} أي ينشركم ويوقظكم {فِيهِ} في النار {ليقضي أجلٌ مسمىًّ} يعني أجل الحياة إلى الممات حتى ينقضي أثرها ورزقها. فقرأ أبو طلحة وأبو رجاء بالنون المفتوحة أجلاً نصب، وفي هذا إقامة الحجة على منكري البعث يعني كما قدرت على هذا فكذلك أقدر على بعثكم بعد الموت. وقال : مكتوب في التوراة : يا ابن آدم كما تنام كذلك تموت وكما توقظ كذلك تبعث {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} في الآخرة {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم} يخبركم ويجازيكم ٦١{بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة} يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم وهو جمع حافظ، ونظيره قوله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} قال عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) : ومن الناس من يعيش شقيّاً جاهل القلب، غافل اليقظة، فإذا كان ذا وفاء ورأى حذر الموت واتقى الحفظة، إنما الناس راحل ومقيم الذي راح للمقيم عظة {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} يعني أعوان ملك الموت يقبضونه ثم يدفعونه إلى ملك الموت {وَهُمْ يُفَرِّطُونَ} لا يعصون ولا يضيعون. وقرأ عبيد بن عمر : لا يفرطون بالتخفيف معنى لا يجاوزون الحد ٦٢{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّه} يعني الملائكة وقيل : يعني العباد {مولاهم الْحَقِّ ألا له الْحُكْمُ} القضاء في خلقه {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} يعني لا يحتاج إلى رويّة ولا تقدير ٦٣{قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إذا ضللتم الطريق وخفتم الهلاك {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وقرأ عاصم : وخفية وهما لغتان. وقرأ الأعمش وخفية من الخوف كالذي في الأعراف {لئن أنجانا اللّه من هذه} أي ويقولون لئن أنجيتنا من هذه يعني الظلمات {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} من المؤمنين ٦٤{قُلِ اللّه يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} حزن ٦٥{ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم} يعني الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني الخسف كما فعل بقارون. وقال مجاهد : عذاباً من فوقكم السلاطين، الذين من تحت أرجلكم العبيد السوء. الضحّاك : عذاباً من فوقكم من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم من أسفل منكم {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} أو يخلقكم ويفرق ويبث فيكم الأهواء المختلفة {وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} يعني السيوف المختلفة بقتل بعضكم بعضاً كما فعل ببني إسرائيل، فلما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يا جبرئيل ما بقاء أمتي على ذلك؟ فقال له جبرائيل : إنما أنا عبد مثلك) فسل ربك؟ فقام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وتوضأ وصلى وسأل ربه فأعطى آيتين ومنع واحدة، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (سألته أن يبعد على أمتي عذاباً من فوقهم ومن تحت أرجلهم فأعطاني ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، وأخبرني جبرئيل (عليه السلام) أن فناء أمتي بالسيف). وقال الزهري : راقب خباب بن الأرث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ذات ليلة يصلي فلما فرغ، قال : وقت الصباح لقد رأيتك تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها، قال : أجل إنها صلاة رغبة ورهبة سألت ربي فيها ثلاثاً وأعطاني إثنتين، وزوى عني واحدة، سألته أن لا يسلط على أمتي عدواً من غيرهم فأعطاني، وسألته أن لا يرسل عليهم سنة فتهلكهم فأعطاني، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فزواها عني). ٦٦{أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وكذب} قرأ إبراهيم بن عبلة وكذبت بالتاء {بِهِ} أي بالقرآن وقيل : بالعذاب {قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بوكيل } أي حفيظ ورقيب وقيل : مسلط {إِنَّمَآ} أنا رسول ٦٧{لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} موضع قوله وحقيقة ومنتهى ينتهي إليه فيتبين صدقه من كذبه وحقه من باطله. قال مقاتل : لكل خبر يخبره اللّه تعالى وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير. قال الكلبي : لكل قول أو فعل حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه. وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لهم {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ذلك. وقال الحسن : لكل عمل جزاء فمن عمل عملاً من الخير جوزي به الجنة، ومن عَمِل عَمَل سوء جوزي به النار، وسوف تعلمون يا أهل مكة. وقال السدي : لكل نبأ مستقر أي ميعاد وحد تكتموه، فسيأتيكم حتى تعرفوه. وقال عطاء : لكل نبأ مستقر يؤخر عقوبته ليعمل ذنبه فإذا عمل ذنبه عاقبه. قال الثعلبي : ورأيت في بعض التفاسير إن هذه الآية نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع عليه السن. ٦٨{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَاتِنَا} يعني القرآن الإستهزاء والكذب {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} فاتركهم ولا تجالسهم {حَتَّى يَخُوضُوا} يدخلوا {فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غير القرآن، وذلك إن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فسبوا واستهزؤا بالقرآن، فنهى اللّه المؤمنين عن مجالستهم {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ} . قرأ ابن عباس وابن عامر : ينسونك بالتشديد {الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فقم من عندهم بعد ما ذكرت ثم قال ٦٩{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} الخوض {مِنْ حِسَابِهِم} من أيام الخائضين {مِن شَىْءٍ} . قال ابن عباس : قال المسلمون : فإنا نخاف الإثم حين نتركهم فلا ننهاهم فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية. وقال ابن عباس في رواية أخرى : قال المسلمون : لئن كنا كلما استهزأ المشركون في القرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزل {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ} {وَلَاكِن ذِكْرَى} أي ذكروهم وعظوهم وهي في محل النصب على المصدر أي ذكروهم ذكرى والذكر والذكرى واحد ويجوز أن يكون في موضع الرفع أي هو ذكرى {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الخوض إذا وعظتموهم، وقيل : وإذا قمتم يسعهم في ذلك من الإستهزاء والخوض. وقيل : لعلهم يستحيون ٧٠{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} باطلاً وفرحاً {وَغَرَّتْهُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا} وذلك أن اللّه تعالى جعل لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه فكان قوم إتخذوا عيدهم لهواً ولعباً إلاّ أمة محمد (صلى اللّه عليه وسلم) فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة للّه. وذكرا مثل الجمعة والفطر والنحر {وَذَكِّرْ بِهِ} وعظ بالقرآن {أَن تُبْسَلَ نَفْسُ بِمَا كَسَبَتْ} يعني أن لا تبسل كقوله تعالى بين اللّه لكم أن تضلوا. ومعنى الآية ذكرهم ليؤمنوا فلا تبسل نفس بما كسبت. قال ابن عباس : تهلك، قتادة : تحيس. الحسن، ومجاهد، وعكرمة، والسدي : تسلم للّهلكة. علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس : تفضح. الضحاك : تفضح وتحرق. المؤرخ، وابن زيد : تؤخذ. قال الشاعر : وإبسالي بني بغير جرم بعونها ولا بدم مراق العوف بن الأحوض : وكان رهن بيته وحمل عن غنى لبني قشير دم السحقية. فقالوا : لا نرضى بك، فدفعهم رهناً، وقوله بعونا أي جنيناً، والبعو الجناية. وقال الأخفش : تبسل أي تجزى. وقال الفراء : ترتهن. وأنشد النابغة الجعدي : ونحن رهناً بالأفاقة عامراً بما كان في الدرداء رهنا فأبسلا وقال عطية العوفي : يسلم في خزية جهنم. وقال أهل اللغة : أصل الإبسال التحريم، يقال : أبسلت الشيء إذا حرمته، والبسل الحرام. قال الشاعر : بكرت تلومك بعد وهن في الندى بسل عليك ملامتي وعتابي فقال : أنشدنا بسل أي شجاع لا يقدّر موته كأنه قد حرم نفسه ثم جعل ذلك نعتاً لكل شديد. يترك، ويبقى. ويقال : شراب بسل أي متروك. قال الشنفرى : هنالك لا أرجو حياة تسرني سمير الليالي مبسلاً بالجرائر وقوله تعالى {لَيْسَ لَهَا} أي لتلك الأنفس {مِن دُونِ اللّه وَلِىٌّ} حميم وصديق {وَلا شَفِيعٍ} يشفع لهم في الآخرة {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} تفد كل فداء، {لا يُؤْخَذْ مِنْهَآ} . قال أبو عبيدة : وإن يقسطه كل قسط لا يقبل منها لأن التوبة في الحياة ٧١{أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون قل أندعوا من دون اللّه} نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر حين دعا أباه إلى الكفر فأنزل اللّه تعالى قل أندعوا من دون اللّه {مَا يَنفَعُنَا} إن عبدناه {وَلا يَضُرُّنَا} إن تركناه {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} إلى الشرك {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّه} . وتقول العرب لكل راجع خائب لم يظفر بحاجته : ردّ على عقبيه ونكص على عقبيه فيكون مثله {كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} أي أضلته. وقال ابن عباس (رضي اللّه عنه) : كالذي استغوته الغيلان في المهامة وأضلوه وهو حائر بائر {فِى الأرض حَيْرَانَ} وحيران نصب على الحال. وقرأ الأعمش، وحمزة : كالذي إستهوا به، بالباء. وقرأ طلحة : إستهواه بالألف. وقرأ الحسن : إستهوته الشياطون وفي مصحف عبد اللّه وأُبي إستهواه الشيطان على الواحد {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} يعني أتوا به، وقيل : أصحاب محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} أي لأن نسلم ٧٢-٧٣{لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون} إلى قوله {يُنفَخُ فِى الصُّورِ} . قال أبو عبيدة : هو جمع صورة مثل سورة وسور. قال العجاج : ورب ذي سرادق محجور سرت إليه في أعالي السور وقال آخرون : هو فرن ينفخ فيه بلغة أهل اليمن. وأنشد العجاج : نطحناهم غداة الجمعين بالضابحات في غبار النقعين نطحاً شديداً لا كنطح الصورين يدل على هذا الخبر المروي عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) كيف أنعم صاحب القرن قد أكتم القرن (وحنى حنينه) وأصغى سمعه فنظر متى يؤمر فنفخ، ثم قال {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} . ٧٤{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ ءَازَرَ} . قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي : وآزر أبو إبراهيم وهو تارخ مثل إسرائيل ويعقوب وكان من أهل كوثى قرية من سواد الكوفة. وقال مقاتل بن حيان : لأب إبراهيم. وقال سليمان (التيمي) : هو سب وعيب. ومعناه في كلامهم المعوج وقيل : معناه الشيخ (الهنم) بالفارسية وهو على هذه الأقاويل في محل الخفض على البدل أو الصفحة ولكنه نصب لأنه لا ينصرف. وقال سعيد بن المسيب، ومجاهد، ويمان : آزر إسم صنم وهو على هذا التأويل في محل نصب. وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره أتتخذ آزر أصناماً ألهة. وقرأ الحسن وأبو يزيد المدني ويعقوب الحضرمي : آزر بالرفع على النداء بالمفرد يعني يا آزر {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً} من دون اللّه إلى قوله ٧٥{وَ كذلك نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والأرض} يعني كما أريناه البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه نريه ملكوت السماوات والأرض أي ملكهما والملكوت الملك وبدت فيه وجدت التاء للتأنيث في الجبروت والرهبوت والرحموت. وحكي عن العرب سراعاً له مليكوت اليمن والعراق. وقال الكسائي : زيدت فيه التاء للمبالغة. وأنشد : وشر الرجال الخالب الخلبوت وقال عكرمة : هو الملك غير إنها بالنبطية ملكوتاً. وقرأها بالياء المعجمة مليّاً. وقال ابن عباس : يعني خلق السماوات والأرض. مجاهد وسعيد بن جبير : يعني آيات السماوات والأرض، وذلك إنه أقيم على صخرة وكشفت له عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرض ونظر إلى مكانه في الجنة. وذلك قوله {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} يعني أريناه مكانه في الجنة. قال قتادة : إن إبراهيم (عليه السلام) حدث نفسه إنه أرحم الخلق. فرفعه اللّه عز وجل حتى أشرف على أهل الأرض وأبصر أعمالهم فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال للّه : دمرّ عليهم، وجعل يلعنهم. فقال له ربه : أنا أرحم بعبادي منك، إهبط فلعلّهم يتوبوا. قيس بن أبي حازم عن علي كرم اللّه وجهه عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لما أرى اللّه تعالى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي اللّه فدعا اللّه عليه فهلك، ثم أشرف على آخر فدعا اللّه عليه فهلك، ثم أشرف على آخر فلما أراد أن يدعو عليه أوحى اللّه عز وجل إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدعونّ على عبادي فإنهم مني على ثلاث خصال : إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه، وإما أن أُخرج منه نسمة تسبّح، وإما أن (يعود) إلي فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته). وقال الضحاك : ملكوت السماوات والأرض الشمس والقمر والنجوم. وقال قتادة : خبيء إبراهيم (عليه السلام) من جبار من الجبابرة فحول له رزق في أصابعه فإذا مص إصبعاً من أصابعه وجد فيها رزقاً فلما خرج أراه اللّه ملكوت السماوات والأرض وكان ملكوت السماوات الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار. ٧٦{وليكن من الموقنين فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً} إلى آخر الآية. قال المفسرون : إن إبراهيم (عليه السلام) ولد في زمن نمرود بن كيفان وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه وقلد التاج عليه ودعاء الناس (....) وكان له كهان ومنجمون. وقالوا : إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه. ويقال إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام. وقال السدي : رأى نمرود في منامه كأن كوكباً اطلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعاً شديداً ودعا السحرة والكهنة والجازة والقافة فسألهم عن ذلك فقالوا : مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاك ملكك وأهل بيتك على يديه. قالوا : فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشر رجلاً، فإذا حاضت إمرأة خليت بينها وبينه، فإذا طهرت عزل بينها، فرجع آزر أبو إبراهيم فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فوقع عليها في طهرها فلقفت فحملت إبراهيم (عليه السلام) . قال محمد بن إسحاق : بعث النمرود إلى كل إمرأة حبلى بقريته فحبسها عنده، إلاّ ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها وذلك إنها كانت جارية حديثة السن لم تعرف الحمل في بطنها. قال السدي : خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء خوفاً من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء اللّه ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحداً من قومه إلاّ أزر فبعث إليه ودعاه. فقال : إن لي إليك حاجة أحبّ أن أوصيك بها ولا أبعثك إلاّ لثقتي بك بما أقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ولا تواقعها، فقال آزر : أنا أشحّ على ديني من ذلك، فأوصاه بحاجته ثم بعثه فدخل المدينة وقضى حاجته، ثم قال : قد دخلت على أهلي ونظرت إليه فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يتمالك حتى وقع عليها فحملت بإبراهيم. قال ابن عباس : لما حملت أم إبراهيم، قالت الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادت أم إبراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته في نهر يابس، ثم لفته في خرقة فوضعته في حلفاء فرجعت فأخبرت بأنها ولدت وإن الولد في موضع كذا فانطلق أزر يأخذه من ذلك المكان وحفر له سرباً عند نهر فواراه فيه وسدّ عليه بابه بصخرة مخافة السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه. وقال السدي : لما أعظم بطن أم إبراهيم خشي آزر أن يذبح فانطلق بها إلى أرض بين الكوفة والبصرة يقال لها أورمة فأنزلها في سرب من الأرض وجعل عندها ماء يصلهما وجعل يتعمدها ويكتم ذلك من أصحابه فولدت في ذلك السرب وشب وكان وهو ابن سنة كابن ثلاث سنين وصار من الشباب مخافة أن (يسقط في) طمع الذباحين ثم ذكر آزر لأصحابه أن لي إبناً كبيراً فانطلق به إليهم. وقال ابن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريباً منها فولدت فيها إبراهيم فأصلحت من شأنه ما يصنع من المولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل فتجده حيّاً يمص إبهامه. وقال أبو روق : كانت أم إبراهيم كلما دخلت على إبراهيم وجدته يمص أصابعه، فقالت ذات يوم : لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع عسلاً ومن إصبع لبناً ومن إصبع تمراً ومن إصبع سمناً. قال محمد بن إسحاق : وكان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل. فقالت : ولدت غلاماً فمات، فصدقها فسكت عنها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلاّ خمسة عشر شهراً ثم رجع إلى أبيه آزر فأخبره إنه إبنه و.خبرته أم إبراهيم إنه إبنه وأخبرته بما كانت صنعت في غيابه فسر بذلك آزر وفرح فرحاً شديداً، قالوا : فإنما شب إبراهيم وهو في السرب بعد ما قال لأمه : من ربي؟ قالت : أنا، قال : فمن ربك؟ قالت : أبوك، قال : فمن ربّ أبي؟ قالت له : أسكت، فسكت، فلما رجعت إلى زوجها قالت : أرأيت الغلام الذي كنّا نتحدّث إنه بغير دين أهل الأرض فإنه إبنك ثم أخبرته بما قال لها، فأتاه أبوه آزر فقال له إبراهيم : يا أبتاه من ربي؟ قال : أمك، قال : فمن رب أمي؟ قال : أنا، قال : من ربك أنت ؟ قال نمرود، قال : فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال : أسكت وقم، قال لأبويه : أخرجاني، فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل، والخيل، والغنم، فقال : أباه ما هذه؟ قال : إبل وخيل وغنم، فقال : مالهذه بدّ من أن يكون لها رب وخالق ثم نظر وتفكر في خلق السماوات والأرض. فقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني ربي مالي إله غيره. ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ويقال الزهرة وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فرأى الكوكب قبل القمر. فقال : هذا ربي فذلك قوله عز وجل : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ} أي دخل يقال : جن الليل وأجن وجنه الليل وأجنه وجن عليه الليل يجن جنوناً وجناناً إذا أظلم ومضى كلّ شيء، وإنما سميت الجن لاجتنانها فلا ترى. قال أبو عبيدة : جنون الليل سواده، وأنشد : فلولا جنان الليل أدرك ركضنا بذي الرمث والأرطي عياض بن ناشب ورأى كوكباً ف{قَالَ هذا رَبِّى} إختلفا فيه فأجراه بعضهم على الظاهر. وقالوا : ما كان إبراهيم (عليه السلام) مسترشداً متحيراً طالباً من التوفيق حتى وفقه اللّه تعالى، وآتاه رشده، فإنما كان هذا منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجّة عليه وفي تلك يقول : لا يكون كفر ولا إيمان. يدل عليه ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : لما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فعبده حتى غاب فلما غاب ٧٧{قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي} فعبده حتى غاب فلما غاب ٧٨{فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الظالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر} فعبدها حتى غابت الشمس فلما غابت {قال : يا قوم إني بريء مما تشركون} . وأنكر الآخرون هذا القول، وقالوا : غير جائز أن يكون للّه عز وجل رسول يأتي عليه وقت من الأوقات وهو غير موحد وعارف ومن كلّ معبود سواه بريء. قالوا : وكيف قومهم هذا على عصمة اللّه وطهره في مستقره ومستودعه وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته فقال : {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وقال {وَ كذلك نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} رأى كوكباً فقال {هذا رَبِّى} على الاعتقاد والحقيقة هذا ما لا يكون أبداً. ثم قيل فيه أربعة أوجه من التأويل : الوجه الأول : أن إبراهيم (عليه السلام) أراد أن يستدرجهم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموا ويقيم عليهم الحجة ويريهم أنه معظم ما يعظموه ويلتمس الهدى من حيث التمسوا فلما أفل رأيهم النقص الداخل في النجوم ليتبينوا خطأ ما يدعون وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمونها. قالوا : ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون بدّاً لهم وهو الصنم وأظهر فعظمه فأراهم الإجتهاد (...) كرموا وصدوا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن ذمهم عدو لهم خافه الملك على ملكه فشاور الحواري في أمره. فقالوا الرأي : أن تدعوا إلهنا حتى يكشف ما قد أضلنا فإنا لمثل هذا اليوم مجتمعون فاجتمعوا حوله يجأرون ويتضرعون وأمر عدوهم يستعجل ويتوكل فلما تبين لهم أن ربّهم لا ينفع ولا يرفع فقال لهم على جهة الإستفهام والتوبيخ لفعلهم {هذا رَبِّى} ومثل هذا يكون ربّاً؟ أي ليس هذا ربي كقول اللّه تعالى {مِنَ الْخَالِدِينَ} يعني أنهم الخالدون. وكقول موسى (عليه السلام) لفرعون : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ} يعني أو تلك نعمة نعمتها. قال الهذلي : رفعوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وقال آخر : لعمرك ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر والوجه الثالث : أن إبراهيم (عليه السلام) قال هذا على وجه الاحتجاج على قومه لا على معنى الشك في ربه كأنه قال : هذا ربي عندكم فلمّا أفل قال : وكان الهلال قال : هذا أكبر منه فنظر إلى الذي عكفت عليه ها هنا يعني عندك وقوله : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} بقوله حزنه في النار لأبي جهل يعني إنك كذا عند نفسك وأما عندنا فلا عزيزاً ولا كريماً، في الآية إختصار وإضمار ومعناها قال : يقولون هذا ربي كقوله {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا} أي يقولون ربنا تقبل منا. فلما أفل غاب وزال قال : لا أحب الآفلين رباً، لا يدوم، فلما رأى القمر بازغاً طالعاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين عن الهدى فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي. قال محمد بن مقاتل الرازي : إنما قال هذا ولم يقل هذه لأنه رأى ضوء الشمس ولم ير عين الشمس. فرده إلى الشعاع. وقال الأخفش : أراد هذا الطالع ربي أو هذا الآتي أراه ربي هذا أكبر لأنه رآه أضوأ وأعظم فلما غربت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون ٧٩{إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ} الآية. وكان آزر يصنع الأصنام فلما ضم إبراهيم إلى نفسه جعل يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليصرفها فيذهب بها إبراهيم فينادي : من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد، فإذا زادت عليه ذهب بها إلى نهر فصوّب فيها رؤسها وقال : إشربي إستهزاءً بقومه وبما هم عليه من الضلالة حتى فشى عيبه إياها واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته ٨٠{وَحَآجَّهُ} أي خاصمه {قَوْمِهِ} في دينه {قَالَ} لهم {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّى فِى} عرّفني التوحيد والحق {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} وذلك إنهم قالوا له : أما تخاف أن تمسك آلهتنا بسوء من برص أو خبل لعيبك إيّاها؟ ٨١فقال لهم : ولا أخاف ما تشركون به من الأصنام {إِلا أَن يَشَآءَ رَبِّى} سواء فيكون بما شاء {وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا} يعني أحاط علمه بكل شيء {أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم} يعني الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} حجة وبرهاناً وهو القاهر القادر على كل شيء ثم قال {فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِامْنِ} أولى بالأمن (أنحن ومن اتّبع ديني) {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فقال اللّه عز وجل قاضياً وحاكماً بينهما ٨٢{الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم} ولم يخلطوا إيمانهم بشرك {أُولَاكَ لَهُمُ امْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} . قال عبد اللّه بن مسعود : لما نزلت هذه الآية طبق ذلك على أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قالوا : إننا لم نظلم نفسه، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه) {يا بني لا تشرك باللّه إن الشرك لظلم عظيم} ). (إنما هو الشرك). ٨٣{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} يعني خصمهم وغلبهم بالحجة قال هي قوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم. قال بعبادة الأوثان {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} بالعلم. وقرأ أهل الكوفة ويحيى بن يعمر وإبن (محيصن) : درجات بالتنوين يعني نرفع من نشاء درجات، مثله سورة يوسف {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} . ٨٤{وَوَهَبْنَا لَهُ} لإبراهيم {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا} وفقنا وأرشدنا {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} إبراهيم وولده {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} يعني ومن داود ونوح لأن داود لم يكن من ذرية إبراهيم وهو داود بن أيشا {داود وسليمان} يعني إبنه {وَأَيُّوبَ} وهو أيوب بن (أموص بن رانزخ بن) روح ابن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم {وَيُوسُفَ} وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الذي قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) {وَمُوسَى} وهو موسى بن عمران بن (صهر بن فاعث بن لادي) بن يعقوب. وهارون وهو أخو موسى أكبر منه بسنة {وَكَذلِكَ} أي كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولاداً أنبياء أتقياء {نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم ٨٥{وَزَكَرِيَّآ} وهو زكريا بن أزن بن بركيا {وَيَحْيَى} وهو إبنه {وَعِيسَى} وهو إبن مريم بنت عمران بن أشيم بن أمون بن حزقيا {وَإِلْيَاسَ} . واختلفوا فيه، فقال عبد اللّه بن مسعود : هو إدريس مثل يعقوب وإسرائيل. وقال غيره : هو إلياس بن بستي بن فنخاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبي اللّه (عليه السلام) وهو (النصيح) لأن اللّه تعالى نسب في هذه الآية الناس إلى نوح وجعله من ذريته ونوح هو إبن لمك بن متوشلخ بن اخنوخ وهو إدريس ومحال أن يكون جدّ أبيه منسوباً إلى أنه من ذريته و{كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} يعني الأنبياء والمؤمنين ٨٦{وَإِسْمَاعِيلَ} وهو إبن إبراهيم {وَالْيَسَعَ} وهو اليسع بن إخطوب بن العجون {وَيُونُسَ} وهو يونس بن متى {وَلُوطًا} وهو لوط بن هارون أو ابن أخي إبراهيم (عليه السلام) {وَكُ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} يعني عالمي زمانهم ٨٧{وَمِنْ ءَابَآهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} اختبرناهم واصطفيناهم {وَهَدَيْنَاهُمْ} سددناهم وأرشدناهم، ٨٨{إلى صراط مستقيم ذلك هدى اللّه يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا} يعني ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم بربهم تعالى ذكره فعبدوا معه غيره {لَحَبِطَ عَنْهُم} بطل عنهم وذهب عنهم ٨٩{ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب} يعني تلك الكتب {وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء} يعني قريشاً {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} يعني الأنصار وأهل المدينة. وقال قتادة : يعني الأنبياء الثمانية عشر الذين قال اللّه عز وجل ٩٠{أُولَاكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه فَبِهُدَ اهُمُ اقْتَدِهْ} بسنّتهم وسيرتهم اقتده الهاء فيه هاء الوقف {قُل أَسْ َلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} جعلا ورزقاً {إِنْ هُوَ} ما هو يعني محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {إِلا ذِكْرَى} عظة ٩١{للعالمين وما قدروا اللّه حق قدره} أي ما عظموا اللّه حق عظمته. وما وصفوا اللّه حق صفته {إِذْ قَالُوا مَآ أَنزَلَ اللّه عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ} . قال سعيد بن جبير : جاء رجل من يهود الأنصار يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال النبي : أتشرك باللّه الذي أنزل التوراة على موسى؟ ما تجد في التوراة إن اللّه يبغض الحبر السمين وكان حبراً سميناً فغضب وقال : ما أنزل اللّه على بشر من شيء، فقال لأصحابه الذين معه ويحك ولا موسى؟ فقال : (واللّه) ما أنزل اللّه على بشر من شيء. فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية. وقال السدي : إنها نزلت في فحاص بن عازورا، وهو قائل بهذه المقالة. محمد بن كعب القرضي : جاء ناس من اليهود إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وهو محتب وقالوا : يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى (عليه السلام) ألواحاً يحملها من عند اللّه؟ فأنزل اللّه عز وجل {يَسْ َلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلك } الآية. فجاء رجل من اليهود فقال : ما أنزل اللّه عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئاً. فأنزل اللّه هذه الآية. وقال ابن عباس : قالت اليهود : يا محمد أنزل اللّه عليك كتاباً؟ قال : نعم. قالوا : واللّه ما أنزل اللّه من السماء كتاباً فأنزل اللّه {وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ} . معلى بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت في الكفار أنكروا قدرة اللّه تعالى عليهم فمن أقرّ أن اللّه على كل شيء قدير فقد قدر اللّه حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر اللّه حق قدره. وقال مجاهد : نزلت في بشر من قريش. قالوا : ما أنزل اللّه على بشر من شيء. وقوله {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى} إلى قوله {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} قال : هم اليهود. وقوله {وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا ءَابَآؤُكُمْ} قال هذه المسلمين وهكذا. روى أيوب عنه إنه قرأ {وَعُلِّمْتُم} معشر العرب {مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا ءَابَآؤُكُمْ} وقوله {يجعلونه قراطيس} أي دفاتر كتبنا جمع قرطاس أي تفرقونها وتكتبونها في دفاتر مقطعة حتى لا تكون مجموعة لتخفوا منها ما شئتم ولا يشعر بها العوام، تبدونها وتخفون كثيراً من ذكر محمد وآية الرجم ونحوها مما كتبوها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بن العلاء : يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً كلها بالياء على الإخبار عنهم. وقرأها الباقون : بالتاء على الخطاب، ودليلهم قوله تعالى ممّا قبله من الخطاب. قل من أنزل الكتاب. وقرأ بعده {وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا ءَابَآؤُكُمْ} فإن أجابوك وقالوا : اللّه، وإلاّ ف {قُلِ اللّه} فعل ذلك {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} حال وليس بجواب تقديره ذرهم في خوضهم لاعبين. ٩٢{وَهذا كِتَابٌ} يعني القرآن {أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} أي وهذا كتاب مبارك أنزلناه {مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ} تخبر. وقرأ عاصم : بالياء أي ولينذر الكتاب {أُمَّ الْقُرَى} يعني مكة سمّاها أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها {وَمَنْ حَوْلَهَا} تحمل الأرض كلها شرقاً وغرباً {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالكتاب {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ} يعني الصلوات الخمس {يُحَافِظُونَ} يداومون ٩٣{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي أخطأ قولاً وأجهل فعلاً {مِمَّنِ افْتَرَى} اختلق {عَلَى اللّه كَذِبًا} فزعم إنه بعثه نبياً و{قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ} نزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي وكان يستمع ويتكهن ويدعي النبوة ويزعم إن اللّه أوحى إليه وكان قد أرسل إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) رجلين، فقال لهما النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أتشهدان أنّ مسيلمة نبي؟ فقالا : نعم، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما). وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يدي سوارين من ذهب فكبرا عليَّ وأهماني فأوحى اللّه إليَّ أن أنفخهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة، وكذاب صنعاء الأسود العبسي). {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللّه} نزلت في عبد اللّه بن سعيد بن أبي سرح القرشي، وكان يكتب للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) فكان إذا قال سميعاً عليماً كتب هو عليماً حكيماً، وإذا قال عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً، وأشباه ذلك فلما نزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} الآية. أملاها رسول اللّه عجب عبد اللّه من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك اللّه أحسن الخالقين. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أكتبها فهكذا نزلت) فشك عبد اللّه وقال : لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ولئن كان كاذباً لقد قلت (كما كتب) فارتدّ عن المسلمين ولحق بالمشركين، وقال لهما : عليكم بمحمد لقد كان يملي عليّ فأغيره وأكتب كما أُريد. ووشى بعمار وجبير عبد لبني الحضرمي يأخذوهما وعذبوهما حتى أعطياهما الكفر وجذع أذن عمار يومئذ فأخبر عمار النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بما لقي وبما أعطاهم من الكفر فأبى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يتولاّه هؤلاء فأنزل اللّه عز وجل فيه، وفي خبر : وابن أبي سرح {مَن كَفَرَ بِاللّه مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ} إلى قوله {بِالْكُفْرِ} . يعني عبد اللّه بن سعيد بن أبي سرح ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (بمرط هران) {وَلَوْ تَرَىا إِذِ الظَّالِمُونَ} وهم الذين ذكرهم اللّه ووصفهم قبل {فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} سكراته وهي جمع غمرة وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه وأضل الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ومنه غمرة الماء ثم استعملت في معنى الشدائد والمكاره {وَالْمَلَاكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} بالعذاب والضرب وجوههم وأدبارهم كما يقال بسط يده بالمكروه {أَخْرِجُوا} أي يقولون أخرجوا {أَنفُسَكُمْ} أرواحكم كرهاً لأنّ نفس المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه، والجواب محذوف يعني ولو تراهم في هذا الحال لرأيت عجباً. {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} تثابون {عَذَابَ الْهُونِ} أي الهوان {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَاتِهِ} يعني محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) والقرآن {تَسْتَكْبِرُونَ} تتعظمون. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (من سجد للّه سجدة فقد برىء من الكبر) ٩٤{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} هذا خبر من اللّه تعالى أنه يقول للكفار يوم القيامة : ولقد جئتمونا فرادى وجدانا لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم ولا حشم. قال الحسن : ولقد جئتمونا فرادى كل واحدة على حدة. وقال ابن كيسان : مفردين من المعبودين، وفرادى جمع فردان مثل سكران وسكارى، وكسلان وكسالى. ويقال أيضاً في واحد فرد بجزم الراء وفرِد بكسرها وفرَد بالفتح وأفرد وجمعها أفراد مثل أحاد وفريد وفردان مثل قضيب وقضبان وكثيب وكثبان. وقرأ الأعرج : فردى بغير ألف مثل كسرى (وكسلى) {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة} عراة حفاة غرلاً بهم {وَتَرَكْتُم} وخلفتم {مَّا خَوَّلْنَاكُمْ} أعطيناكم ومكنّاكم من الأموال والأولاد والخدم {وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ} خلف ظهوركم في الدنيا. روى محمد بن كعب عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (ينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملئت ما بين السماء والأرض فيقول الجبار جل جلاله : (وعزّتي) وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأجساد وإنما يدخل في الخياشم كما يدخل السم في اللديغ ثم يشق عليكم الأرض وأنا أول من يشق عنه الأرض فينسلون عنهم سراعاً إلى ربكم على سن ثلاثين مهطعين إلى الداعي فيوقفون في موقف منه سبعين عاماً حفاة عراة غرلاً بهم لا يناظر إليكم فلا يقضي بينكم فتبكي الخلائق حتى ينقطع الدمع ويجف العرق). وقال القرضي : قرأت عائشة زوج النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قول اللّه عز وجل {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، فقالت : يا رسول اللّه وأسوتاه إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لكلّ إمرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض). {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاؤُا} وذلك إن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء اللّه وشفعاؤهم عنده {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} . قرأ أهل المدينة، والحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، والكسائي : بينكم نصباً. وقرأ أهل المدينة، والحسن، ومجاهد : وهي قراءة أبي موسى الأشعري على معنى لقد تقطع ما بينكم وكذلك هو في قراءة عبد اللّه وقرأ الباقون : بالرفع على معنى لقد تقطع وصلكم فالبين من الأضداد يكفي وصلاً وهجراً وأنشد : لعمرك لولا البين لا يقطع الهوى ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} . ٩٥{إِنَّ اللّه فَالِقُ الْحَبِّ} أي فلق الحب عن النبات، ومخرج منها الزرع وشاق النوى عن الشجر والنخل ومخرجها منها. وقال مجاهد : يعني الشقين الذين عناهما. وقال الضحاك : فالق الحب والنوى، الحب جمع الحبة وهي كل ما لم يكن لها نواة مثل البر والشعير والذرة والحبوب كلها. {وَالنَّوَى} جمع النواة وهي كل ما يكون له حب مثل الخوخ والمشمش والتمر والأجاص ونحوها. {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذَالِكُمُ اللّه فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ٩٦تصدون عن الحق {فَالِقُ اصْبَاحِ} شاق عمود الصبح من ظلمة الليل وكاشفه. وقال الضحاك : خالق النهار، والأصباح مصدر كالإقبال والإدبار وهي الإضاءة. وقرأ الحسن والقيسي : فالق الأَصباح بفتح الهمزة جعله جمع مثل قرص وأقراص. {وجاعل الليل سكناً} سكن فيه خلقه. وقرأ النخعي : فلق الأصباح وجعل الليل سكناً. وقرأ أهل الكوفة : فالق الأصباح وجعل الليل سكناً على الفعل إتباعاً للمصحف. وقرأ الباقون : كلاهما بالألف على الإسم. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي جعل الشمس والقمر بحساب لا يجاوزاه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما. وقرأ (يزيد بن قعنب) : والشمس والقمر بالخفض عطفاً على اللفظ، والحسبان مصدر كالنقصان والرحمان وقد يكون جمع حساب مثل شهاب وشهبان، وركاب وركبان. ٩٧{ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم} أي خلقها ٩٨{لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم} خلقكم وابتدأكم {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم (عليه السلام) . {فَمُسْتَقَرٌّ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : فمستقر بكسر القاف على الفاعل يعني فلكم مستقر. وقرأ الباقون : بفتح على معنى فلكم مستقر. واختلف المفسرون في المستقر والمستودع. فقال عبد اللّه بن مسعود : فمستقر في الرحم إلى أن يوادع مستودع في القبر إلى أن يبعث. وقال مقسم : مستقر حيث يأوي إليه، ومستودع حيث يموت. وقال سعيد بن جبير : فمستقر في بطون الأمهات، ومستودع في أصلاب الآباء. وقال : قال لي ابن عباس (رضي اللّه عنه) أتزوجت يابن جبير؟ فقلت : لا وما أريد ذلك بوجه. قال : فضرب ظهري وقال : إنه مع ذلك ما كان مستودع في ظهرك فسيخرج. عكرمة عن ابن عباس : المستقر الذي قد خلق واستقر في الرحم، والمستودع الذي قد استودع في الصلب مما لم يخلق بعد وهو خالقه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : المستقر في الرحم، والمستودع ما استودع في أصلاب الرجال والدواب. مجاهد : فمستقر على ظهر الأرض في الدنيا. ومستودع عند اللّه تعالى في الآخرة. وقال أبو العالية : مستقرها أيام حياتها، ومستودعها حيث تموت وحيث يبعث. وقال كرب : دعاني ابن عباس (رضي اللّه عنه) فقال : اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم من عبد اللّه بن عباس إلى فلان حبر تيماء، أما بعد فحدثني عن مستقر ومستودع. قال : ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي فأعطيته إياه، فقال : مرحباً بكتاب خليلي من المسلمين فذهب إلى بيته ففتح أسفاطاً له كثيرة فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها. قال : قلت له : ما شأنك؟ قال : هذه أشياء كتبها اليهود، حتى أخرج سفر موسى فنظر إليه مرتين فقال : مستقر في الرحم ومستقر فوق الأرض ومستقر تحت الأرض ومستقر حيث يصير إلى الجنة أو إلى النار، ثم قرأ : {وَنُقِرُّ فِى ارْحَامِ مَا نَشَآءُ} . وقرأ : {وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} . فقرأ الحسن : المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وكان يقول : يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك يوشك أن تلحق، بصاحبك وأنشد قول لبيد : وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بدّ يوماً أن تردّ الودائع وقال سليمان بن يزيد العدوي في هذا المعنى : فجع الأحبة بالأحبة قبلنا فالناس مفجوع به ومفجع ومستودع أو مستقر مدخلا فالمستقر يزوره المستودع ٩٩{قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ} بالماء {نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} من الماء، وقيل : من النبات {خُضْرًا} يعني أخضر، وهو رطب البقول، يقول : هو لك خضراً مظراً أي هنيئاً مريئاً. وقال نخلة : خضيرة : إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج، وقد اختضر الرجل واغتضر إذا مات شاباً مصححاً {وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا} أي ثمرها (وكثيراً منها) وما يطلع منها {قِنْوَانٌ} جمع قنو وهو العذق مثل صنو وصنوان. قال أبو عبيدة : (ولا ظير بهذا الكلام). وقرأ الأعرج : قنوان بضم القاف، وهي لغة قيس، مثل قضبان. ولغة تميم : قنيان. وجمعه القليل أقنا مثل حنو وأحنا، {دَانِيَةٌ} قريبة ينالها القائم والقاعد. وقال مجاهد : متدلّية. وقال قتادة : متهدّلة. وقال الضحاك قصار ملتزقة بالأرض. ومعنى الآية ومن النخل قنوانها دانية ومنها ما هي بعيدة فاكتفى بالقريبة عن البعيدة كقوله تعالى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} والبرد {وَجَنَّاتٍ} يعني وأخرجنا منه جنات. وقرأ يحيى بن يعمر والأعمش وعاصم : وجنات رفعاً نسقياً على قنوان لفظاً وإن لم يكن في المعنى من جنسها {مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} يعني وشجر الزيتون والرمان، فاكتفى بالتمر عن الشجر كقوله {وَسْ َلِ الْقَرْيَةَ} {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} قتادة : متشابه ورقه يختلف بثمره، وقيل : مشتبهاً في المنظر غير متشابه في المطعم. وقال الحسن : الفعل منها ما يشبه بعضه بعضاً ومنها ما يخالف، وقيل : مشتبهاً في الخلقة من منشأه من الحكمة {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} . قرأ أهل الكوفة : بضم الثاء والميم على جمع الثمار. وقرأ الباقون بفتحهما على جمع الثمرة مثل بعر ووبر {إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} نضجه وإدراكه. وقرأ أبو رجاء ومحمد بن السميقع : ويانعه بالألف على الإسم {إِنَّ فِى ذَالِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . ١٠٠{وَجَعَلُوا} يعني الكافرين {للّه شُرَكَآءَ الْجِنَّ} يعني وجعلوا للّه الجن شركاء، وإن شئت نصبته على التفسير {وَخَلَقَهُمْ} يعني وهو خلقهم وخلق الجن. وقرأ يحيى بن معمر : وخلقهم بسكون اللام وفتح القاف أراد إفكهم وادّعاءهم ما يعبدون من الأصنام حيث جعلوها شركاء للّه عز وجل يعني وجعلوا له خلقهم. وقرأيحيى بن وثاب : وخلقهم بسكون اللام وكسر القاف، يعني جعلوا للّه شركاء ولخلقهم أشركوهم مع اللّه في خلقه إياهم. وقال الكلبي : نزلت في الزنادقة قالوا : إن اللّه وإبليس شريكان، واللّه خالق النور والناس والدواب والأنعام. وإبليس خالق الظلمة والسباع والعقارب والحيّات، وهذا كقوله {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} يعني في الجنة، وهم صنف من الملائكة خزان الجنان أشق لهم منهم صنف من الجن {وَخَرَقُوا} أي اختلفوا وخرصوا. وقرأ أهل المدينة : بكثرته وخرّقوا على التكثير {لَهُ بَنِينَ وَبَنَات بِغَيْرِ عِلْمٍ} وهم كفار مكة، قالوا : الملائكة والأصنام بنات اللّه. واليهود قالوا : عزير ابن اللّه. والنصارى قالوا : المسيح ابن اللّه ثم نزّه نفسه. وقال تعالى ١٠١-١٠٣{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ} زوجة {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} إلى قوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأبصار} أجراه بعضهم على العموم فقال : معناه لا تحيط به الأبصار بل تراه وهو يحيط بها. قال اللّه عز وجل {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} فكما تعرفه في الدنيا لا كالمعروفين فكذلك تراه في العقبى لا كالمرئيين. قالوا : وقد ترى الشيء ولا تدركه كما أخبر اللّه تعالى عن قول أصحاب موسى (عليه السلام) حين قرب منهم فرعون {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم لأن اللّه تعالى قد وعد نبيه موسى (عليه السلام) إنهم لا يدركون بقوله {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} . وكذلك قال سعيد بن المسيب : لا تحيط به الأبصار. وقال عطاء : كلّت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به. وقال الحسن : لا تقع عليه الأبصار ولا تدلّ عليه العقول ولا يدركه الإذعان. يدلّ عليه ما روى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في قوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ ابْصَارَ} . قال : لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفاً واحداً ما أحاطوا باللّه أبداً. وأجراه بعضهم على النصوص. قال ابن عباس ومقاتل : معناه لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة {وَهُوَ يُدْرِكُ ابْصَارَ} لا يخفى عليه شيء ولا يفوته. وقيل : معناه لا تدركه أبصار الكافرين، فأما المؤمنون فيرونه، واللّه أعلم {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . قال أبو العالية : لطيف باستخراج الأشياء خبير بها. وقال أكثر العلماء في معنى اللطيف. فقال الجنيد : اللطيف : من نوّر قلبك بالهدى وربي جسمك بالغدا، وجعل لك الولاية في البلوى ويحرسك من لظى ويدخلك جنة المأوى. وقيل : اللطيف الذي أنسى العباد ذنوبهم لئلاّ يخجلوا. وقيل : الذي ركّب من النطفة من ماء مهين وقيل : هو الذي يستقل الكثير من نعمه ويستكثر القليل من طاعة عباده. قتادة : وقيل : اللطيف الذي يُغِير ولا يُغَير. وقيل : اللطيف الذي إن رجوته لبّاك وأن قصدته آواك، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافاك، وإن عصيته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك، وإن أقبلت إليه عداك. وقيل : اللطيف : الذي لا يطلب من الأحباب الأحساب والأنساب. وقيل : اللطيف : الذي يغني المفتقر إليه ويعز المفتخر به. وقيل : اللطيف : من يكافي الوافي ويعفو عن الباقي. وقيل : اللطيف : من أمره تقريب ونهيه تأريب. وقيل : اللطيف : الذي يكون عطاؤه خير ومنعه ذخيرة. وأصل اللطيف دقة النظر في جميع الأشياء ١٠٤{قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} يعني الحجج البينة التي يبصرون بها الهدى من الضلال والحق من الباطل. قال الكلبي : يعني بينات القرآن. {فَمَنْ أَبْصَرَ} يعني عرفها وآمن بها {فَلِنَفْسِهِ} عمل وحظه أصاب وإياها بغى الخير {وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا} عنها فلم يعرفها ولم يصدقها. وقرأ طلحة بن مصرف : ومن عُمّي بضم العين وتشديد الميم على المفعول التي تدل عليها، يقول : فنفسه ضر وإليها أساء لا إلى غيره {وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} رقيب أحصي إليكم أعمالكم وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أفعالكم ١٠٥{وَ كذلك نُصَرِّفُ الآيَاتِ} نبينها في كل وجه لندعوكم بها {وَلِيَقُولُوا} وليلاً يقولوا إذا قرأت عليهم القرآن {دَرَسْتَ} أي تلوت وقرأت يا محمد بغير ألف قرأه جماعة منهم أبي رجاء وأبي وائل والأعرج ومعظم أهل العراق وأهل الحجاز، وكان عبد اللّه بن الزبير يقول : إن صبياناً يقرأونها دارست بالألف وإنما هي درست. وقرأ علي ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو : دارست بالألف يعني قارأت أهل الكتاب وتعلمت منهم تقرأ عليهم يقرأوا عليك. وقال ابن عباس : يعني جادلت وخاصمت، وكذلك كان يقرأها، وقرأ قتادة : درست بمعنى قرئت وتليت. وقرأ الحسن وابن عامر ويعقوب : درست بفتح الدال والراء وجزم التاء بمعنى تقادمت وانمحت وقرأ ابن مسعود وأبي طلحة والأعمش : درس بفتحها يعنون النبي درس الآيات {وَلِنُبَيِّنَهُ} يعني القول والتحريف والقرآن ١٠٦{لقوم يعلمون إتبع} يا محمد {مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} يعني القرآن إعمل به {اله إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} فلا تجادلهم ولا تعاقبهم ١٠٧{وَلَوْ شَآءَ اللّه مَآ أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} رقيباً. ويقال رباً. قال عطاء : وما جعلناك عليهم حفيظاً تمنعهم مني {وماأنت عليهم بوكيل} والإعراض منسوخ بآية السيف. وهذه الآية نزلت حين قال المشركون لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى دين آبائك. ١٠٨{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه} . قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ} . قال المشركون : يا محمد لتنتهينّ عن سبّ الهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم اللّه تعالى أن يسبوا أوثانهم. قال قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهاهم اللّه عن ذلك كيلا يسبوا اللّه فإنهم قوم جهلة. وقال السدي : لما حضرت أبا طالب الوفاة، قالت قريش : إنطلقوا فلندخل على هذا الرجل ولنأمرنّه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فيقول العرب : كان يمنعه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحرث، وأمية وأبي بن أخلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البحتري، إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمداً قد آذانا وآذى الهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر الهتنا ولندعه وإلهه، فدعاه فجاء النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما يريدون؟ قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك). قال : قد أنصف قومك، فاقبل منهم، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم). قال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشراً أمثالها فما هي ؟ قال : قولوا : لا إله إلاّ اللّه، فأبوا واشمأزّوا. وقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي، فإن قومك قد فزعوا منها. فقال : (يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها). فقالوا : لتكفّنّ عن شتمك آلهتنا أو لنشتمن من يأمرك. فأنزل اللّه تعالى {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه} من الأوثان {فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوَا} . وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة ويعقوب : عدواً بضم العين والدال وتشديد الواو أي أعداء اللّه. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} فلما نزلت هذه الآية، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لأصحابه (لا تسبوا ربهم) فأمسك المسلمون عن سبّ آلهتهم. { كذلك زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} يعني كما زيّنا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان، الحرمان والخذلان كذلك زيّنا لكل أمة عملهم من الخير والشر والطاعة والمعصية {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم} يخبرهم ويجازيهم ١٠٩{بما كانوا يعملون. وأقسموا باللّه جهد أيمانهم} . قال محمد بن كعب القرضي والكلبي : قالت قريش : يا محمد تخبرنا بأن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك. قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أي شيء تحبون أن آتيكم به؟). قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل، وأرنا الملائكة يشهدون لك أو ائتنا باللّه والملائكة قبيلاً. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لئن فعلت بعض ما تقولون تصدقوني) قالوا : نعم واللّه لئن فعلت نتبعك أجمعين. وسأل المسلمون رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فقام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يدعو اللّه أن يجعل الصفا ذهباً، فجاء جبرئيل عليه السلام فقال له : إن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم فإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (بل يتوب تائبهم) فأنزل اللّه تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} يعني أوكد ما قدروا عليه من الايمان وحدها. قال الكلبي ومقاتل : إذا حلف الرجل باللّه سبحانه فهو جهد بيمينه. {لَ ن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ} كما جاء من قبلهم من أمم {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ} يا محمد {إِنَّمَا ايَاتُ عِندَ اللّه} وهو القادر على إتيانها دوني ودون كل من خلقه. ثم قال {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} وما يدريكم فحذف المفعول وما أدريكم، واختلفوا في المخاطبين، بقوله {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} حسب اختلافهم في قراءة قوله {أَنَّهَآ} . فقال بعضهم : إن الخطاب للمشركين الذين أقسموا وتمّ الكلام عند قوله وما يشعركم، ثم إستأنف، فقال : إنها يعني الآيات {إِذَا جَآءَتْ يُؤْمِنُونَ} حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون. وقرؤا : {أَنَّهَآ} بالكسر على الإبتداء، وهو في قراءة مجاهد وقتادة وابن محيصن وابن كثير وشبل وأبي عمر والجحدري. وقال آخرون : الخطاب لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه وقرؤا : أنها بالفتح وجعلوا (لا) صلة يعني وما يدريكم يا معشر المؤمنين أنها إذا جاءت المشركين لا يؤمنون كقوله {ما منعك أن لا تسجد} يعني : أن تسجد، وقوله {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يعني إنهم يرجعون. وقيل : معنى إنها : لعلها وكذلك هي قراءة أُبيّ، تقول العرب : إذهب إلى السوق إنك تشتري شيئاً بمعنى لعلك تمر. وقال عدي بن زيد : أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد يعنى : لعلّ منيّتي. وقال دريد بن الصمة : ذرينى أطوف في البلاد لأنّني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا يعني : لعلّني. وقال أبو النجم : قلت لسينان أدن من لقائه إنا نغدي القوم من سرائه أي ثعلباً تغدي. وقرأ ابن عامر والسدي وحمزة : {يُؤْمِنُونَ} بالتاء على (حساب) الكفار وما يشعركم، واعتبر بقراءة أُبيّ : لعلكم إذا جاءكم لا يؤمنون. وقرأ الباقون : بالياء على الخبر وتصديقها قراءة الأعمش إنّها إذا جاءتهم لا يؤمنون ١١٠{وَنُقَلِّبُ أَفْدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . قال ابن عباس وابن زيد : يعني نحول بينه وبين الإيمان. ولو جئناهم بالآيات التي سألوا ما آمنوا بها كما لم يؤمنوا بالتي قبلها مثل انشقاق القمر وغيره عقوبة لهم على ذلك. وقيل : كما لم يؤمنوا به في الدنيا قبل مماتهم. نظيره قوله تعالى {ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه} {وَنَذَرُهُمْ} قرأ أبو رجاء : ويذرهم بالياء. وقرأ النخعي : ويقلب ويذرهم كلاهما بالياء ١١١{في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} فرأوهم عياناً {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا {وَحَشَرْنَا} وجمعنا {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُ} بكسر القاف وفتح الباء أي معاينة وهي قراءة أكثر القراء، قرأ أبو جعفر : التي في الأنعام قبلاً بالكسر والتي في الكهف قبلاً عياناً بالضم. أبو عمرو بالنصب وكذلك اختار أبو عبيد وأبو حاتم لأنها في قراءة أُبيّ قبيلاً بجمعها القبل. والتي في الكهف قبلاً يعني عياناً. وقرأ أهل الكوفة : بضم القاف والباء، ولها ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون جمع قبيل وهو الكفيل أي ضمناً وكفلاً. والقبالة الكفالة، يقال : قبيل وقبل مثل رغيف ورغف، وقضيب وقضب. والثاني : جمع قبيل هو القبيلة يعني فوجاً فوجاً وصنفاً صنفاً. والثالث : أن يكون بمعنى المقابلة والمواجهة من قول القائل : أتيتك قبلاً لا دبراً إذا أتاه من قبل وجهه {مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَآءَ اللّه} ذلك لهم. وقيل : الإستثناء لأهل السعادة الذين سبق لهم في علم اللّه الإيمان {وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} إن ذلك كذلك ١١٢{وَ كذلك جَعَلْنَا} يعزي نبيه (صلى اللّه عليه وسلم) يعني كما أتيناك بهؤلاء القوم وكذلك جعلنا {لِكُلِّ نَبِىٍّ} قبلك {عَدُوًّا} أعداء وفسّرهم فقال {شَيَاطِينَ انسِ وَالْجِنِّ} . عكرمة والضحاك والسدي والكلبي : معناه : شياطين الإنس التي مع الإنس وشياطين الجن التي مع الجن وليس للإنس شياطين. وذلك أن إبليس قسم جنده فريقين، بعث منهم فريقاً إلى الإنس وفريقاً إلى الجن، شياطين الإنس والجن فهم ملتقون في كل حين، فيقول شيطان الإنس لشيطان الجن أضللت صاحبي بكذا فاضل صاحبك بمثله، ويقول شيطان الجن لشيطان الإنس كذلك فذلك يوحي بعضهم إلى بعض. وقال آخرون : إنّ من الإنس شياطين ومن الجن شياطين، والشيطان : العاتي المتمرّد من كل شيء. قالوا : إن الشيطان إذا أغوى المؤمن وعجز عن إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان من الإنس فأغراه المؤمن. قال أبو طلحة ما روى عوف بن مالك عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يا أبا ذر هل تعوذت باللّه من شر شياطين الإنس والجن) قال : يا رسول اللّه فهل للإنس من شياطين؟ قال : نعم هو شر من شياطين الجن. وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (ما منكم من أحد إلاّ وقد وكّل قرينه من الجن) قيل : ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال : (ولا أنا إلاّ أن اللّه قد أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلاّ بخير). وقال مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشد من شيطان الجن وذلك إني إذا تعوذت باللّه ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يحبني فيجرني إلى المعاصي عياناً {يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي يلقي {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} وهو القول المموّه والمزّين بالباطل، ١١٣وكل شيء حسّنته وزينته فقد زخرفته ثم {ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى} أي ولكي تميل. وقال ابن عباس : ترجع يقال : صغى يصغى صغاً وصغى يصغى ويصغو صغواً وصغواً إذا مال. قال الفطامي : أصغت إليه هجائن بنحدودها آذانهن تلى الحداة السوق ترى عينها صغواء في جنب ماقها تراقب كفي والقطيع المحرما {إِلَيْهِ} يعني إلى الزخرف والغرور، ويقال : صغو فلان معك، وصغاه معك أي ميله وهواه. وقرأ النجعي : ولتصغي بضم التاء وكسر الغين أي تميل، والإصغاء الإمالة. ومنه الحديث إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كان يصغي الإناء للّهرة. {أَفْدَةُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} الأفئدة جمع الفؤاد مثل غراب وأغربة {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} أي وليكتسبوا ما هم مكتسبون. وقال ابن زيد : وليعملوا ما هم عاملون. يقال : إقترف فلان مالاً أي اكتسبه، وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله، قال اللّه تعالى {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} . قال لبيد : وإني لآتي ما أتيت وإنني لما اقترفت نفسي عليَّ لراهب وقيل : هو من التهمة يقال : قرفه بسوء إذا اتهمه به. قال رؤبة : أعيا اقتراف الكذب المقروف تقوى التقيّ وعفّة العفيف ١١٤قوله تعالى {أَفَغَيْرَ اللّه} فيه إضمار أي قل لهم يا محمد أفغير اللّه {أَبْتَغِى حَكَمًا} قاضياً بيني وبينكم، {وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّ} مبيّناً يعني {أَفَغَيْرَ اللّه أَبْتَغِى} يعني التوراة والإنجيل وهم مؤمنو أهل الكتاب. قال عطاء : هم أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أبو بكر، وعمر وعثمان وعلي وأتباعهم رضي اللّه عنهم والكتاب هو القرآن. {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} يعني القرآن {مُنَزَّلٌ} . قرأ الحسن والأعمش وأبي عامر : وخص بالتشديد من التنزيل لأنه أنزل نجوماً مرة بعد مرة. ١١٥وقرأ الباقون : بالتخفيف من الإنزال لقوله عز وجل يعني أنزل إليكم الكتاب {من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك} قرأ أهل الكوفة كلمة : على الواحد والباقون : كلمات على الجمع، واختلفوا في الكلمات. فقال قتادة : هي القرآن لا مبدل له لا يزيد المفترون ولا ينقصون. وقال بعضهم : هي أقضيته وعدالته {مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} لا مغير لها ١١٦{وهو السميع العليم وإن تطع أكثر من في الأرض} يعني الكفار {يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّه} عن دين اللّه ثم قال {إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} يكذبون ١١٧{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} . قال بعضهم : موضع من نصب لأنّه ينزع الخافض وهو حرف الصفة أي بمن. وقيل : موضعه رفع لأنه بمعنى أي والرافع ليضل. وقيل : محله نصب لوقوع العلم عليه وأعلم بمعنى يعلم كقول حاتم الطائي : فحالفت طيء من دوننا حلفا واللّه أعلم ما كنا لهم خذلا وقالت الخنساء : القوم أعلم أن جفنته تغدو غداة الريح أو تسري ١١٨{وهو أعلم بالمهتدين فكلوا مما ذكر إسم اللّه عليه} . قال ابن عباس : قال المشركون للمؤمنين : أنكم تعبدون اللّه فما قبل اللّه لكم الحق الحق أن تأكلوا مما قتلتم بسكاكينكم فنزل اللّه {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ} وقت الذبح يعني المذكاة بسم اللّه ١١٩{إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا} وما يمنعكم أن لا تأكلوا {مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ} من الذبائح {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} . قرأ الحسن وأبو رجاء (الأعرج) وقتادة والجبائي وطلحة ومجاهد وحميد وأهل المدينة : بالفتح فهما على معنى فصل اللّه ما حرمه عليكم لقوله إسم اللّه جرى ذكره تعالى. وقرأ محمد بن عامر وأبو عمرو : بضمهما على غير تسمية الفاعل لقوله ذكر. وقرأ أصحاب عبد اللّه وأهل الكوفة : فصل بالفتح يحرم بالضم. وقرأ عطية العوفي فصل مفتوحاً خفيفاً بمعنى قطع الحكم فيما حرم عليكم وهو ما ذكر في سورة المائدة قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} الآية {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} من هذه الأشياء فإنه حلال لكم عند الإضطرار ثم قال {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ} قرأ الحسن وأهل الكوفة : بضم الياء كقوله : يضلوك. وقرأ الباقون : بالفتح كقوله : من يضل ومن ضل {بِأَهْوَآئِهِم} بمرادهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حين دعوا إلى أكل الميتة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} المتجاوزين من الحلال إلى الحرام. ١٢٠{وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ} يعني الذنوب كلها لا يخلو من هذين الوجهين. واختلفوا فيها فقال قتادة : سرّه وعلانيته، عطاء : قليله وكثيره. ومجاهد : ما ينوي وما هو عامله. الكلبي : ظاهر الإثم الزنا وباطنه المخالة. السدي : الزواني الذي في الحوانيت وهو بيت أصحاب الرايات وباطنه الصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرّاً. وقال مرّة الهمذاني : كانت العرب تجوز الزنا وكان الشريف إن يزني يستر ذلك وغيره لا يبالي إذا زنا ومتى زنا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال الضحاك : كان أهل الجاهلية يسترون الزنا ويرون ذلك حلالا ما كان سرّاً، فحرم اللّه تعالى لهذه الأمة السرّ منه والعلانية. وروى حيان عن الكلبي : ظاهر الإثم طواف الرجال بالنهار عراة وباطنه طواف النساء بالليل عراة. وقال سعيد بن جبير : الظاهر ما حرم اللّه تعالى بقوله {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ} وقوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية والباطن منه الزنا. وقال ابن زيد : ظاهر الإثم التعرّي والتجرّد من الثياب في الطواف والباطن الزنا. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ اثْمَ سَيُجْزَوْنَ} في الآخرة {بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} بما يكسبون في الآخرة ١٢١{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ} فاقد (التسمية) ولم يدرك ذكاته أو ذبح لغير اللّه {وَأَنَّهُ} يعني الأكل {لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} ليوسوسون {إِلَىا أَوْلِيَآهِمْ} من المشركين . وذلك إن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ قال : اللّه قتلها. قالوا : فتزعم إن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر والكلب حلال وما قتله اللّه حرام؟ فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية. وقال عكرمة : معناه ولي الشياطين يعني مردة المجوس ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وذلك أن المجوس من أهل فارس لما أنزل اللّه تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانت بينهم مكاتبة إن محمداً وأصحابه يزعمون إنهم يتبعون أمر اللّه ثم يزعمون إن ما ذبحوا فهو حلال، وما ذبحه اللّه فهو حرام ولا يأكلونه، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل اللّه تعالى هذه الآية {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في أكل الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ١٢٢قوله تعالى {أومن كان ميتاً فأحييناه} هو ألف الإستفهام والتقدير دخلت على واو النسق فبقيت على فتحها يعني أومن كان كافراً ميتاً بالضلالة فهديناه واجتبيناه بالإيمان {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} يستضيء به و{يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ} على قصد السبيل ومنهج الطريق. قال ابن زيد : يعني بهذا النور الإسلام نيابة قوله {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . وقال قتادة : هذا المؤمن معه من اللّه نوراً وبينة يعمل بها ويأخذ وإليها ينتهي كتاب اللّه {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} . قال بعضهم : المثل زائد تقديره كمن في الظلمات. وقال بعضهم : معناه كن أو شبه بشيء كان يشبهه من في الظلمات من ظلمة الكفر والجهل والضلالة والمسير. {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} لا يبصر شيئاً ولا يعرف طريقاً كالذي ضل طريقه في ظلمة الليل فهو لا يجد مخرجاً ولا يهتدي طريقاً. وقيل : إن هذه الآية نزلت في رجلين بأعيانهما، ثم اختلفوا فيهما. فقال ابن عباس : أومن كان (ميتاً) فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس. يريد حمزة بن عبد المطلب كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها. أبو جهل، وذلك إن أبا جهل رمى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بالحجارة وحمزة لم يؤمن بعد فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع كعبد مسكين يقول : يابا يعلى أما ترى ما جاء به سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف أبانا. فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون اللّه، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال الضحاك (ويمان) : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل. قال عكرمة والكلبي : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل. {كذلك زيّنا للكافرين ما كانوا يعملون} من الكفر والمعصية ١٢٣{وَكَذلِكَ} أي وكما زيّنا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا. وقيل : وكما جعلنا فسّاق مكة أكابرها كذلك {جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ} يعني عظماء، جمع أكبر مثل أفضل وأحمر وأحامر وأسود وأساود {مُجْرِمِيهَا} إن شئت نصبته على التقديم تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، كما تقول : جعلت زيداً رئيسها وإن شئت خفضته على الإضافة {ليمكروا فيهاوما يمكرون إلاّ بأنفسهم} لأن وبال مكرهم وجزاءه راجع إليهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} إنه كذلك ١٢٤{وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللّه} من النبوة، وذلك إن الوليد بن المغيرة قال : واللّه لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال : زاحمنا عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا : منا نبي يوحى إليه، واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه وأنزل اللّه تعالى {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ} آية حجة على صدق محمد (صلى اللّه عليه وسلم) وصحت نبوته. {قَالُوا} : يعني أبو جهل. قالوا : {لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللّه} يعني محمداً رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثم قال {اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فخص بها محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ} ذل وهوان {عِندَ اللّه} أي من عند اللّه نصب بنزع حرف الصفة. قال النحاس : سيصيب الذين أجرموا صغار عند اللّه على التقديم والتأخير {وَعَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} . وقال أبو روق : صَغَار في الدنيا وهذا العذاب في الآخرة. ١٢٥{فَمَن يُرِدِ اللّه أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِسْلَامِ} أي يوسّع عقله أو ينوّره ليقبل الإسلام فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. سئل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن شرح الصدر ما هو؟ قال : (نور يقذفه اللّه تعالى في قلب المؤمن فينشرح له صدره وينفسح) قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت. {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} قرأ ابن كثير : ضيقاً بالتخفيف. والباقون : بالتشديد وهي لغتان مثل هين وهيّن، ولين وليّن، حرجاً كسر أهل المدينة، راءه وفتحها الباقون وهما لغتان مثل الأنف والأنف، والفرد والفرد، والوعد والوعد. وقال سيبويه : الحرج بالفتح المصدر كالصلب والحلب ومعناه ذا حرج، والحرج بالكسر الإسم وهو أشد الضيق، يعني قلبه ضيقاً لا يدخله الإيمان. وقيل : أثيماً لقول العرب : حرج عليك ضلمي أي ضيق وأثم. وقال السدي : حرجها شاكاً. وقال قتادة : ملتبساً. وقال النضر بن شميل : ملقاً. وقال ليس للخير فيه منفذ. وقال عبيد بن عمير. قرأ ابن عباس : هذه الآية، فقال : هل هاهنا أحد من بني بكر؟ فقال رجل : نعم، قال : ما الحرج فيكم؟ قال : الوادي الكثير الشجر المتمسك الذي لا طريق فيه. قال ابن عباس : كذلك قلب الكافر. وقال أبو الصلت الثقفي وعمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) : هذه الآية ضيقاً حرجاً بنصب الراء. وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حرجاً بالكسر. فقال عمر : ابعثوا إلى رجل من كنانة وجعلوه راعياً فأتوه به فقال له عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة التي تكون بين الأشجار التي لا يصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء. فقال عمر (رضي اللّه عنه) : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ} يعني يشق عليه الإيمان، ويمتنع ويعجز عنه كما يشق عليه صعود السماء. واختلف القراء في ذلك، فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وحمزة والكسائي : يصعّد بتشديد الصاد والعين بغير ألف أي يصعد فأدغمت التاء في الصاد. فاختاره أبو حاتم وأبو عبيد (إعتزازاً) بقراءة عبد اللّه كأنما يتصعد في السماء. وقرأ طلحة وعاصم وأبو عبيد والنخعي ومجاهد : بالألف مشدداً بمعنى تصاعد. وقرأ ابن كيسان وابن (محيصن)، والأعرج وأبو رجاء : يصعد حقيقة. { كذلك يَجْعَلُ اللّه الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} قال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه. ابن زيد : الرجس العذاب مثل الرجز. وقال ابن عباس : هو الشيطان الذي يسلطه عليه. وقال الكلبي : هو المأثم، وقيل : هو النجس. ويقال : رجس رجاسة ونجس نجاسة. وكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إذا دخل الخلاء قال : (اللّهم إني أعوذ بك من نجس منجس الخبث المخبث الشيطان الرجيم). ١٢٦{وَهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} أي هذا الذي بيّنا طريق ربّك والذي ارتضاه لنفسه ديناً وجعله مستقيماً لا عوج فيه وهو الإسلام. وقال ابن مسعود : هو القرآن. وقال : إن الصراط محتضر يحضره الشياطين ينادون : يا عبد اللّه هلم هذا الطريق ليصدوا عن سبيل اللّه فاعتصموا بحبل اللّه وهو كتاب اللّه {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} . ١٢٧{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ} يعني الجنة في الآخرة. قال أكثر المفسرين : السلام هو اللّه عز وجل وداره الجنة. وقيل : سميت الجنة دار السلام لسلامتها من الآفات والعاهات. وقيل : لأن من دخلها سلم من البلايا والرزايا أجمع. وقيل : لأنها سلمت من دخول أعداء اللّه كيلا ينتغص أولياء اللّه فيها كما يُنغّص مجاورتهم في الدنيا. وقيل : سميت بذلك لأن كل حالة من حالات أهلها مقرونة بالسلام فاما إبتداء دخولها فقوله {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ءَامِنِينَ} وبعد ذلك قوله {وَالْمَلَاكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ} الآية. وبعده قوله {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} وبعده قوله {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلَامًا} وقوله {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلاً سلاماً سلاما} وبعده قوله {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} وبعد ذلك {سَلَامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} . فلما كان حالات أهل الجنة مقرونة بالسلام إما من الخلق وإما من الحق سمّاها اللّه دار السلام {وَهُوَ وَلِيُّهُم} ناصرهم ومعينهم {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال الحسن بن الفضل : يعني يتولاهم في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء. ١٢٨{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} الجن والإنس يجمعهم في يوم القيامة فيقول : {يا معشر الجن والإنس قد استكثرتم من الإنس} أي من إضلال الناس وإغوائهم {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ انسِ} الذين أطاعوهم {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} . قال الكلبي : إستمتاع الإنس بالجن. هو أن الرجل إذا سافر أو خرج فمشى بأرض قفر أو أصاب صيداً من صيدهم فخاف على نفسه منهم. فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فيثبت جواز منهم، واستمتاع الجن بالإنس هو أن قالوا : قد سدنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفاً في قومهم وعظماً في قومهم وهذا معنى قوله تعالى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ انسِ} . الآية. وقال محمد بن كعب وعبد العزيز بن يحيى : هو طاعة بعضهم بعضاً وموافقة بعضهم بعضاً وقيل : إستمتاع الإنس بالجن بما كانوا يأتون إليهم. من الأراجيف والسحر والكهانة، فاستمتاع الجن بالإنس إغراء الجن الإنس واتباع الإنس إياهم {وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} يعني الموت والبعث. قال اللّه تعالى {قَالَ النَّارُ مَثْوَ اكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلا مَا شَآءَ اللّه} يعني قدّر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم. قال ابن عباس : هذا الإستثناء هو أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللّه في خلقه لا يولهم جنة ولا ناراً. وقال الكلبي : إلا ما شاء اللّه وكان ما شاء اللّه أبداً. وقيل : معناه النار مثواكم خالدين فيها سوى ما شاء اللّه من أنواع العذاب وقيل : إلا ما شاء اللّه من إخراج أهل التوحيد من النار. وقيل : إلا ما شاء اللّه أن يزيدهم من العذاب فيها. وقيل : إلا ما شاء اللّه من كونهم في الدنيا بغير عذاب. وقال عطاء : إلا ما شاء اللّه من الحق في عمله أن يؤمن فمنهم من آمن من قبل الفتح ومنهم من آمن من بعد الفتح. ١٢٩{إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون}. روي عن قتادة : يجعل بعضهم أولياء بعض. والمؤمن ولي المؤمن والكافر ولي الكافر حيث كان. وروى معمر عن قتادة : تبع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة. وقيل : معناه نولي ظلمة الإنس ظلمة الجن ونولي ظلمة الجن ظلمة الإنس، يعني نَكِلُ بعضهم إلى بعض كقوله {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} . قال ابن زيد : نسلط بعضهم على بعض. يدل عليه قوله (صلى اللّه عليه وسلم) (من أعان ظالماً سلّطه اللّه عليه). وقال مالك بن دينار : قرأت في كتب اللّه المنزلة : إن اللّه تعالى قال : أُفني أعدائي بأعدائي ثم أُفنيهم بأوليائي. وروى حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : تفسيرها : هو أن اللّه تعالى إذا أراد بقوم خيراً ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شراً ولى أمرهم شرارهم. وفي الخبر : يقول اللّه : إني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا مالك الملوك قلوبهم ونواصيهم فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسبّ الملوك ولكن توبوا إلى اللّه تعالى بعطفهم عليكم. ١٣٠{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} . قال الأعرج وابن أبي إسحاق : تأتكم بالتاء كقوله : {لقد بعث رسل ربنا بالحق} . قرأ الباقون : بالياء كقوله تعالى {مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللّه} {يَقُصُّونَ} يقرأون {عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} وهو يوم القيامة. واختلف العلماء في الجن هل أُرسل إليهم رسول أم لا؟ فقال عبيد بن سليمان : سئل الضحاك عن الجن هل كان فيهم مؤمن قبل أن يبعث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : ألم تسمع قوله تعالى : {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} يعني بذلك رسلاً من الإنس ورسلاً من الجن. قال الكلبي : كانت الرسل قبل أن يبعث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) يبعثون إلى الجن والإنس جميعاً. قال مجاهد : الرسل من الإنس. والنذير من الجن ثم قرأ {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} . قال ابن عباس : هم الذين استمعوا القرآن وأبلغوه قومهم. وقال أهل المعاني : لم يكن من الجن رسول وإنما الرسل من الإنس خاصة وهذا كقوله تعالى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج من المالح دون العذب. وقوله {يذكروا اسم اللّه في أيام معلومات} وهي أيام العشر وإنما الذبح في يوم واحد من العشر فهو يوم النحر. وقوله {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} وإنما هو في سماء واحدة {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا} أقروا ١٣١{على أنفسهم إنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم} أي بشرك من أشرك {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} حتى يبعث إليهم رسلاً ينذرونهم. وقيل : معناه : لم يكن ليهلكهم دون البينة والتذكير بالرسل والآيات فيكون قد ظلمهم ١٣٢{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} يعني بالثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا منهم من هو أشد عذاباً ومنهم من هو أجزل ثواباً {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} . ١٣٣{وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ} بعلمه {ذُو الرَّحْمَةِ} بهم {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} ثم يميتكم ويهلككم {وَيَسْتَخْلِفُ} يخلق {مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ} خلقاً غيركم أمثل وأطوع منكم. وقال عطاء : يريد الصحابة والتابعين {كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ} قرناً بعد قرن، وقال مقاتل : يعني أهل سفينة نوح. وقرأ زيد بن ثابت : ذرية بكسر الذال مشدّدة. وقال أبان بن عثمان : ذرية بفتح الذال وكسر الراء خفيفة على قدر فعله، الباقون : بضم الذال مشددة، وهي لغات صحيحة. وقال ثعلب : الذرية بالكسر الأصل، ١٣٤والذرية بالضم الولد {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} لجائي كائن {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين سابقين أي حيث كنتم يدرككم. والإعجاز أن يأتي بالشيء يعجز عنه خصمه ويقصر دونه فيكون قد قهره وجعله عاجزاً عنه ١٣٥{قُلْ} يا محمد لهم {يا قوم أعملوا على مكانتكم} . قال ابن عباس : على ناحيتكم. قال ابن زيد : على حيالكم. يمان : على مذاهبكم. عطاء : على حالتكم التي أنتم عليها. مقاتل : على جديلتكم. مجاهد : على وتيرتكم. الكلبي : على منازلكم. وقيل : إعملوا ما أمكنكم. قرأ السلمي وعاصم : مكاناً لكم على الجمع في كل القرآن. {إِنِّى عَامِلٌ} يقول إعملوا ما أنتم عاملون فإني عامل ما أمرني ربي، وهذا أمر وعيد وتهديد لا أمر إباحة وإطلاق كقوله {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} . وقال الكلبي : معناه إعملوا ما أمكنكم من أمري فإني عامل في أموركم بإهلاك. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ} قرأ مجاهد وأهل الكوفة : يكون بالياء، الباقون : بالتاء، {لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} يعني الجنة { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي لا يأمن الكافرون. قال عطاء : لا يبعد. وقال الضحاك : لا يفوز. وقال عكرمة : لا يبقى في الثواب. ١٣٦{وَجَعَلُوا للّه مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والأنعام نَصِيبًا} . قال المفسرون : كانوا يجعلون للّه من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً وللأوثان نصيباً فما كان للصنم أنفق عليه، وما كان للّه أطعم الضيفان والمساكين ولا يأكلون من ذلك كله شيئاً فما سقط مما جعلوا للّه في نصيب الأوثان تركوه. وقالوا : إن اللّه غني عن هذا، وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب اللّه التقطوه فردوه إلى نصيب الصنم وقالوا : إنه فقير. وكانوا إذا بذروا ما وقع من بذر اللّه في حصة الصنم تركوه، وما وقع من حصّة الصنم في حصّة اللّه تعالى ردوه وان انفجر من سقي ماء جعلوه للشيطان في نصيب اللّه، شدّوه، وإن انفجر من سقي ماء جعلوه للّه في نصيب الشيطان تركوه. فإذا هلك الذي سموا لشركائهم أو أجدب وكثر الذي للّه، قالوا : ليس لآلهتنا بدّ من نفقة فأخذوا الذي للّه وأنفقوا على الهتهم فإذا أجدب الذي للّه وكثر الذي لآلهتهم قالوا : لو شاء اللّه لأزكى الذي له فلا يردون عليه شيئاً مما للآلهة فإذا أصابتهم السنة استعانوا بما جزوا منه ووفروا ما يجزون لشركائهم وذلك قوله تعالى مما {ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والأنعام نَصِيبًا} أي مما خلف من الحرث والأنعام نصيباً، وفيه إضمار واختصار مجازه : وجعلوا للّه نصيباً ولشركائهم نصيباً {فَقَالُوا هذا للّه بِزَعْمِهِمْ} . يحيى بن رئاب والسلمي والأعمش والكسائي : بالضم. وقرأ الباقون : بالفتح. وهما لغتان وهوالقول من غير حقيقة. سمعت الحسين يقول : سمعت العنبري عن أبي العباس الأزهري عن أبي حاتم إنه قال : قال شريح القاضي : إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا، والزعم أيضاً في الطمع {وَهذا لِشُرَكَآنَا} يعني الأوثان {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّه وَمَا كَانَ للّه فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس ما كانوا يقضون ١٣٧{وَ كذلك زُيِّنَ} أي كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين {لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ} (ساء) موضع فرفع والمعنى : ساء الحكم حكمهم {شُرَكَآؤُهُمْ} يعني شياطينهم زيّنوا وحسّنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة. وقال الكلبي : شركاؤهم سدنة الهتهم هم الذين كانوا يزينوّن للكفار قتل أولادهم. وكان الرجل في الجاهلية يحلف باللّه لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنَّ أحدهم كما حلف عبد المطلب على إبنه عبد اللّه. وقرأ أهل الشام : {زُيِّنَ} بالضم، {قَتْلَ} : رفع، {أَوْلَادُهُمْ} نصب، {شُرَكَآهِمْ} بالخفض على التقديم، كأنه قال : زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم. ففرّقوا بين الفعل وفاعله. يقول الشاعر : يمر على ما يستمر وقد شقت غلائل غير نفس صدورها يريد شقت. عبد القيس : غلايل صدورها. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : زين بضم الزاي قتلُ رفعاً، أولادِهم خفضاً، شركاؤهم رفعاً على (التوضيم) والتكرير. كأنه لما قال : زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم. تم الكلام. ثم قال : من زيّنه؟ فقال : شركاؤهم أي زيّنه شركاؤهم فارتفع الشركاء بفعل ضمير دلّ عليه زُين، كما تقول : أكل اللحم زيد : كأنه قيل : من الآكل فتقول زيد. قال الشاعر : ليبك لزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح فزيد مفعول مستقل بنفسه غير مسمّى فاعله، ثم بيّن فقال : ضارع. أي ليبكيه ضارع، وقوله تعالى {لِيُرْدُوهُمْ} ليهلكوهم {وَلِيَلْبِسُوا} أي ليخلطوا ويشبهوا {عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه {وَلَوْ شَآءَ اللّه} هداهم ووفقهم وعصمهم عن {مَّا فَعَلُوهُ} ذلك من تحريم الأنعام والحرث، وقيل : الأولاد {فَذَرْهُمْ} يا محمد {وَمَا يَفْتَرُونَ} يختلقون على اللّه الكذب فإن اللّه لهم بالمرصاد ولا يخلف الميعاد ١٣٨{وَقَالُوا} يعني المشركين {هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} يعني ما كانوا جعلوه للّه ولآلهتهم التي قد مضى ذكرها. وقال مجاهد : يعني بالأنعام، البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، والحجر : الحرام. قال اللّه تعالى ويقولون {حِجْرًا مَّحْجُورًا} أي حراماً حرماً. قال الليث : حنّت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس وأصله من الحجر وهو المنع والحظر، ومنه : حجر القاضي على المفسد. وقرأ الحسن وقتادة : وحرث حجر بضم الحاء وهما لغتان. وقرأ أُبي بن كعب وابن عباس وابن الزبير وأبي طلحة والأعمش : وحرث حرج بكسر الحاء والراء قبل الجيم وهي لغة أيضاً مثل جذب وجبذ. وأنشد أبو عمرو : ألم تقتلوا الحرجين إذ أعرضا لكم يمران بالأيدي اللحاء المضفرا {لا يَطْعَمُهَآ إِلا مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ} يعنون الرجال دون النساء {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} يعني الحامي إذا ركب ولد ولده. قالوا : حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه {وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّه عَلَيْهَا} . قال مجاهد : كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يذكرون اسم اللّه عليها ولا في شيء من شأنها لا أن ركبوا ولا أن حلبوا ولا أن نتجوا ولا أن باعوا ولا أن حملوا. وقال أبو عاصم : قال لي أبو وائل : أتدري ما أنعامٌ حرمت ظهورها؟ قلت : لا. قال : لا يحجّون عليها. وقال الضحاك : هي التي إذا ذكوها أهلوا عليها بأصنامهم ولا يذكرون إسم اللّه عليها {افْتِرَآءً عَلَيْهِ} يعني إنهم كانوا يفعلون ذلك ويزعمون إن اللّه أمرهم به ١٣٩{سيجزيهم بما كانوا يفترون وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا}. قال ابن عباس والشعبي وقتادة : يعني ألبان النحائر كانت للذكور دون النساء فإذا ماتت اشترك في لحمها ذكورهم وإناثهم. وقال السدي : يعني أخذ النحائر ما ولد منها أُخذ خالص للرجل دون النساء (وأما ما ولد ميت فيأكله) الرجال والنساء، ودخل الهاء في (خالصة) على التأكيد والمبالغة، كما فعل ذلك بالراوية والنسابة والعلامة. قال الفراء : أُهلت الهاء لتأنيث الأنعام، لأن مافي بطنها مثلها، فأنث لتأنيثها قال : وقد يكون الخالصة كالعاقبة ومنه قوله {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} ، وقرأ عبد اللّه والأعمش : خالص لذكورنا بغير الهاء ردّاً إلى ما، وقرأ ابن عبّاس : خالصة بالإضافة (ويخلص) والخالصة والخليصة والخلصان واحد. قال الشاعر : كنت أميني وكنت خالصتي وليس كل إمرىء بمؤتمن {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} يعني النساء {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} قرأ أهل المدينة : تكن بالتاء، ميتةٌ بالرفع على معنى : وإن تقع الأنعام ميتة، وقرأ أهل مكّة : يكن بالياء، ميتة بالرفع على معنى : وإن يقع ما في بطون الأنعام ميتةً، وقرأ الأعمش : تكن بالتاء، ميتة نصباً على معنى : وإن يكن (ما في بطون الأنعام ميتة) وقرأ الباقون : يكن بالياء، ميتة بالنصب، ردّوه إلى ما يؤيّد ذلك قوله : {فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ} ولم يقل : فيها. {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي بوصفهم وعلى وصفهم الكذب على اللّه كقوله {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} والوصف والصفة واحد كالوزن والزنة والوعد والعدة، ١٤٠{إنّه حكيم عليم قد خسروا الذين قتلوا أولادهم سفهاً} الآية نزلت في ربيعة ومضر وفي العرب الذين يدفنون بناتهم أحياء مخافة السبي والفقر، إلاّ ما كان من بني كنانة فإنّهم كانوا لا يفعلون ذلك. وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وأهل مكّة والشام : قتّلوا، مشدداً على التكثير والباقون بالتخفيف {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللّه} يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام افتراءً على اللّه حين قالوا : إنّ اللّه أمرهم بها {وقد ضلّوا وما كانوا مهتدين وهو الذي أنشأ} اخترع وابتدع {جَنَّاتُ} بساتين. ١٤١{مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات قال ابن عباس : معروشات ما انبسط على وجه الأرض وأنتثر ممّا يعرش مثل الكرم والقرع والبطيخ وغيرها، وغير معروشات ما كان على ساق مثل النخيل وسائر الأشجار وما كان على نسق، ومثل (البروج)، وقال الضحاك : معروشات وغير معروشات الكرم خاصة منها ما عرش ومنها ما لم يعرش. وروي عن ابن عباس إيضاً أنَّ المعروشات ما عرش الناس، وغير معروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار. يدلّ عليه قراءة علي (معروشات وغير معروشات) بالغين والسين. (والنخل) يعني وأنشأ {النخل والزرع مختلفاً أُكله} ثمره وطعمه الحامض والمرّ والحلو والجيّد والرديء وارتفع معنى الأكل (ومختلفاً نعته) إلاّ أنّه لمّا تقدّم النعت على الاسم وولي منصوباً نصب، كما تقول : عندي طبّاخاً غلام وأنشد : الشر منتشر لقاك (من مرض) والصالحات عليها مغلقاً باب {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا} في المنظر {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} في الطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف، إحداهما حلوة والأخرى حامضة وقد مرّ القول فيه {كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} ولا تحرّموه كفعل أهل الجاهلية {وآتو حقّه يوم حصاده} قرأ أهل مكّة والمدينة والكوفة حِصاده بكسر الحاء والباقون بالفتح، وهما واحدة كالجَداد والجِداد (والصَرام والصِرام) واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال ابن عباس وطاووس والحسن وجابر بن زيد ومحمد ابن الحنفية وسعيد بن المسيب والضحاك وابن زيد : (هي الزكاة) المفروضة العُشْر ونصف العشر. وقال عليّ بن الحسين وعطاء وحمّاد والحكم : هو حق في المال سوى الزكاة. قال مجاهد : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، وإذا جذذت فألف لهم من الشماريخ، وإذا درسته ودسته وذرّيته فاطرح لهم منه، وإذا كدسته ونقيته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته. وقال إبراهيم : هو الضغث، قال الربيع : لقاط السنبل. قال مجاهد : كانوا يعلّقون العذق عند الصرام فيأكل منه الضيف (ومن مرَّ به). قال زيد بن الأصم : كان أهل (الجاهليّة) إذا صرموا يجيئون بالعذق فيُعلّقونه في جانب المسجد فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه ويأخذه. وقال سعيد بن جبير وعطيّة : كان هذا قبل الزكاة فلمّا فرض الزكاة نسخ هذا. وقال سفيان والسدي : سألت عن هذه الآية فقال : نسخها العشر ونصف العشر، قلت : ممّن؟ فقال : من العلماء مقسّم عن ابن عباس : نسخت الزكاة كلّ (صدقة) في القرآن. {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} كان رجال (ينفقونها بالحرام) فيقول الرجل لا أمنع سائلا حتّى (أمسي) فعمد ثابت بن قيس بن شمّاس إلى خمس مائة نخلة فجذها ثمّ قسّمها في يوم واحدولم يترك لأهله شيّئاً فنزلت (ولا تُسرفوا) أي لا تعطوا كلّه، وقال السدي : لا تُسرفوا لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء، وقال سعيد بن المسيّب : لا تمنعوا الصدقة، وقال (يمان بن رئاب) : ولا تُبذّروا تبذيراً، مجاهد وعطية العوفي : ولا تتركوا الأصنام في الحرث والأنعام. وقال الزهري : (فوقعوا في) المعصية، وقال مجاهد : لو كان أبو قبيس ذهباً لرجل فأنفقه في طاعة اللّه لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً أو مدّاً في معصية اللّه (كان) مسرفاً، وفي هذا المعنى قيل لحاتم الطائي : لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير. وقال محمد بن كعب : السرف أن لا يعطي في حق، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الإسراف ما لا يقدر على ردّه إلى الصلاح، والفساد ما يقدر على ردّه إلى الصلاح. قال النضر بن شميل : الإسراف التبذير والإفراط، والسرف الغفلة والجهل. قال الشاعر : أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية مافي عطائهم منٌ ولا سرف قال إياس بن معاوية : ما تجاوز أمر اللّه فهو سرف، وروى ابن وهب عن ابن زيد قال : الخطاب (للمساكين) يقول : لا تأخذوا فوق حقّكم. ١٤٢{وَمِنَ الأنْعَامِ} يعني أنشأ من الأنعام {حَمُولَةً} بمعنى كلّ ما محمّل عليها ويركب مثل كبار الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، سمّيت بذلك لأنّها تحمل أثقالهم، قال عنترة : ما دعاني إلا حمولة أهلها وسط الديار (تسف) حب الخمخم والحمولة الأحمال. وقال أهل اللغة : الفعولة بفتح الفاء إذا كانت (يعني) الفاعل استوى فيه المذكّر والمؤنّث نحو قولك : رجل فروقة وامرأة فروقة للجبان والخائف، ورجل صرورة وامرأة صرورة إذا لم يحجا، وإذا كانت بمعنى المفعول فرّق بين الذكر والأُنثى بالهاء كالخلويّة والزكويّة {وَفَرْشًا} والفرش ما يؤكل ويجلب ولا يحمل عليه مثل الغنم والفصلان والعجاجيل، سمّيت فرشاً للطافة أجسامها وقربها من الفرش. هي الأرض المستوية، وأصل الفرش الخفة واللطافة ومنه فراشة العقل وفراش العظام، والفرش أيضاً نبت ملتصق بالأرض (تأكله) الإبل قال الراجز : كمفشر الناب تلوك الفرشا والفرش : صغار الأولاد من الأنعام وقال الراجز : أورثني حمولة وفرشاً أمشها في كلّ يوم مشاً {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ما حرم الحرث الأنعام {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ثمّ بيّن الحمولة والفرش فقال : ١٤٣{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} نصبها على البدل من الحمولة (بالفرض) يعني (واحد من) الأنعام ثمانية أزواج أي أصناف {مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} فالذكر زوج والأُنثى زوج والضأن والنعاج جمعه، واحده : ضائن، والأُنثى : ضائنة، والجمع : ضوائن. قرأ الحسن وطلحة بن مصرف : الضأن مفتوحة الهمزة، والباقون ساكنة الهمزة، تميم بهمزة وسائر لا بهمزة {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} والمعز المعزى لا واحد له من لفظه، وأمّا الماعز فجمعه معيزة وجمع الماعزة مواعز، وقرأ أهل المدينة والكوفة : من المعز ساكنة العين والباقون بالفتح، وفي مصحف أُبيّ : من المعزى، وقرأ أبان بن عثمان : من الضأن اثنان ومن المعز اثنين، قل يا محمد : حرّم اللّه عليكم؟ ذكر الضأن {حَرَّمَ أَمِ انثَيَيْنِ} والمعز؟ أم أُنثييهما (والنصب) قوله {ألذكرين حرم أم الأنثيين أمّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين} منهما {نَبِّ ُونِى بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ١٤٤{وَمِنَ ابِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ انثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ انثَيَيْنِ} . وذلك أنّهم كانوا يقولون هذه أنعام (وحرث حجر)، وقالوا : أمّا في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا، فحرّموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وكان خطيبهم يومئذ مالك بن عوف وأبو النضر (النصري) فقال : يا محمد (رأينا) أنّك تحرّم ما كان أباؤنا يفعلونه؟ فقال لهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنكم قد حرّمتم أصنافاً من النعم على (غير........) إن اللّه خلق اللّه هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين حرمت ذكران هذه النعم على نسائكم دون رجالكم؟ فإن زعمتم أن تحريمه من أجل الذكران وجب أن تحرموا كل ذكر، لأن للذكر فيها حظاً، وإن زعمتم أنّ تحريمه من جهة الأنثى وجب أن تحرموا كل انثى لأن للأناث فيها حظّاً، وإن زعمتم أن تحريمه لإجتماع الذكر والأنثى فيه وما اشتمل الرحم عليه وجب أن تحرّموا الذكر والأنثى والحي والميّت، لأنَّه لا يكون ولد إلاّ من ذكر وأنثى ولا يشتمل الرحم إلاّ على ذكر وأنثى، فَلِم تحرمون بعضاً وتحّلون بعضاً؟ فسكت. فلما لزمته الحجّة أخذ بالإفتراء على اللّه فقال : كذا أمرنا اللّه فقال اللّه تعالى {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} (حضوراً) {إِذْ وَصَّاكُمُ اللّه بِهذا} . {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . ١٤٥(ثمّ بيّن) المحرمات فقال {قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} أي شيئاً محرّماً {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} آكل يأكله. وقرأ علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه : يطعمه مثقلة بالطاء أراد يتطعّمه فأدغم، وقرأت عائشة على طاعم طعمه {إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} (مهراقاً) سائلاً. قال عمران بن جرير : سألت أبا مجلز عمّا يتلطخ من اللحم بالدم وعن القدر تعلوها حمرة الدم. قال : لا بأس به إنّما نهى اللّه سبحانه عن الدم المسفوح. وقال إبراهيم : لا بأس الدم في عروق أو مخ إلاّ المسفوح الذي تعمّد ذلك، قال عكرمة : لولا هذه الآية لأتّبع المسلمون من العروق ما تتبّع اليهود {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} خبيث {أَوْ فِسْقًا} معصية {أَهْلُ} ذبُح {لِغَيْرِ اللّه بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . ١٤٦-١٤٧{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} يعني اليهود {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} ، وهو مالم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير. مثل الإبل والنعّام والأوزة والبط. قال ابن زيد : هو الإبل فقط. وقال القتيبي : هو كلّ ذي مخلب من الطيور وكل ذي حافر من الدواب، وقد حكاه عن بعض المفسّرين، وقيل : سمّي الحافر ظفراً على الاستعارة وأنشد قول طرفة : فما رقد الولدان حتّى رأيته على البكر يمريه بساق وحافر فجعل الحافر موضع القدم. وقرأ الحسن كل ذي ظفر مكسورة الظاء مسكنة الفاء. وقرأ (أبو سماك) ظِفِر بكسر الظاء والفاء وهي لغة. {ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومها} يعني (الشروب) وشحم الكليتين {إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ} أي ما علق بالظهر والجانب إلاّ منْ داخل بطونها {أَوِ الْحَوَايَآ} يعني الماعز {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} مثل لحم الإلية { ذلك } التحريم {جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ} بظلمهم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل اللّه وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في أخبارنا عن هؤلاء اليهود وعمّا حرّمنا عليهم من اللحوم والشحوم. ١٤٨{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} (لمّا الزمنا بينهم) الحجّة وتبيّنوا وتيقنوا باطل ما كانوا عليه {لو شاء اللّه ما أشركنا ولا أباؤنا من قبل ولا حرّمنا}ما حرّمنا من التغاير والسوايب وغير ذلك لأنَّه قادر على أن يحمل بيننا وبين ذلك حتّى لا نفعله ولكنّه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأصنام وتحريم الحرث والأنعام وأراد منّا وأمرنا به فلم يحل بيننا وبين ذلك فقال اللّه تعالى تكذيباً لهم وردّاً عليهم { كذلك كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ولو كان كذلك خيراً من اللّه تعالى عن مَنْ كذّبهم في قولهم {لَوْ شَآءَ اللّه مَآ أَشْرَكْنَا وَلا ءَابَآؤُنَا} لقال كذلك (كذّب الذين من قبلهم) بتخفيف الذال وكان نسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب. وقال الحسن بن الفضل : (لمّا خبّروا بهذه المقالة) تعظيماً وإجلالا للّه سبحانه وتعالى وصفة منهم به لمّا عابهم ذلك، لأن اللّه قال {وَلَوْ شَآءَ اللّه مَآ أَشْرَكُوا} وقال سبحانه : {مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَآءَ اللّه} وقال {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَ اكُمْ أَجْمَعِينَ} والمؤمنون يقولون هذا ولكنّهم قالوا ذلك تكذيباً وتخرصاً وبدلاً من غير معرفة باللّه تعالى وبما (يقولون) نظيره قوله {وَقَالُوا لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} ، قال اللّه تعالى {مالهم بذلك من علم إنّ هم إلاّ يخرصون} بقولهم هذا من غير علم بيّنهم بآية {وَالْمُؤْمِنُونَ} وبقوله و {عِلْمٍ} منهم باللّه عزّ وجلّ ثمّ قال {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} من حظ وحجّة على ما يقولون من غير علم ويقين {وَإِنْ أَنتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} تكذّبون ١٤٩{قُلْ فَللّه الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} التامة الكافية على خلقه {فَلَوْ شَآءَ لَهَدَ اكُمْ أَجْمَعِينَ} ١٥٠{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّه حَرَّمَ هذا} أي احضروهم وأتوا بهم فقالوا : نحن نشهد، فقال اللّه تعالى : {فَإِن شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} إلى قوله {يَعْدِلُونَ} يشركون. ١٥١ثمّ قال {قل يامحمد تعالوا أتلُ} أقرأ {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حقّاً يقينا كما أوحى إليّ ربّي وأمرني به لاظنّاً ولا تكذيباً كما يزعمون {لا تشركوا به شيئاً} اختلفوا في محل أن فقال بعضهم : (محلّه) نصب، ثمّ اختلفوا في وجه انتصابه فقيل معناه : حرّم أن تشركوا ولا صلة كقولهم : (ما منعك ألا تسجد). وقيل : إنّك ألاّ تشركوا، وقيل : أوحى ألا تشركوا، وقيل : (ما) بدل (من) ما حرّم، وقيل : الكلام عند قوله {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} ثمّ قال : عليكم أن لا تشركوا على الكفر، وقال بعضهم : موضع (من) معناه : وهو أن لا تشركوا جهراً بكفركم، وأما بعده فيجوز أن يكون في محل النصب عطفاً على قوله أن لا تشركوا) وأن (.......) لأنّه يجوز أن يكون جزم على الأقوى كقوله {قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} . {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} عطف بالنهي على الخبر قال الشاعر : حج وأوصي بسليمى إلا عبدا أن لاترى ولا تكلم أحداً ولا يزال شرابها مبردا {وبالوالدين إحساناً فلا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} ولاتئدوا بناتكم خشية العيش فإني أرزقكم وإياهم والإملاق الفقر ونفاد الزاد. ١٥٢{ولاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني علانية {وَمَا بَطَنَ} يعني السرّ قال المفسّرون : كانوا في الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السرّ فحرّم اللّه تعالى الزنا في العلانيّة والسر وقال الضحاك : ما ظهر الخمر وما بطن {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللّه} (نهى وهي) نفس مؤمن أو معاهد {إِلا بِالْحَقِّ} يعني بما أباح قبلها وهي الارتداد والقصاص والرجم. وروى مطر الوراق عن نافع بن عمر عن عثمان رضي اللّه عنه أشرف على أصحابه وقال : علام يقتلونني فإنّي سمعتُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (لا يحل دم أمرىء مُسلم إلاّ بإحدى ثلاث : رجل زنا بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عامداً فعليه القود، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل، فواللّه ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا قتلت أحداً فاقيد نفسي، ولا ارتدت منذ أسلمت، إنّي أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأن محمداً عبده ورسوله) {ذالِكُمْ} النبيّ الذي ذكرت {وصّاكم به لعلّكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن} يعني بما فيه صلاحه وتثميره، وقال مجاهد : هو التجارة فيه، وقال الضحاك : أموال يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئاً. وقال ابن زيد : وأن يأكل بالمعروف إن افتقر، وإن استغنى لم يأكل، وقال الشعبي : مَنْ خالط مال اليتيم حتّى يفصل عليه فليخالطه، ومَنْ خالطه ليأكل منه وليدعه حتّى يبلغ أشده. وقال يحيى بن يعمر : بلوغ الحلم، وقال الشعبي : الأشد الحلم حيث يكتب له الحسنات وعليه السيئات، وقال أبو العاليّة : حتّى يعقل ويجتمع قوّته. وقال الكلبي : الأشد مابين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة. وقال السدّي : هو ثلاثون سنة ثمّ جاء بعدها حتّى بلغوا النكاح. والأشد جمع شدّ، مثل قدّ وأقدّ، وهو استحكام قوماً لفتى وشبابه وسنه، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه، يقال : أتيته شدّ النهار ومد النهار وقال الفضل بن محمد في شد بيت عنترة : (عهدي به) شدّ النهار كأنّما خضب اللبان ورأسه بالعظلم وقال آخر : تطيف به شد النهار ضعينة طويلة أنقاء اليدين سحوق وليس بلوغ الأشد ممّايدع قرب ماله بغير الأحسن وقد تمّ الكلام. {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (على الأبد) {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فادفعوا إليه ماله إن كان رشيداً {وأُفوا الكيل والميزان بالقسط} بالعدل {نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن، وقال أهل المعاني : معناه : إلاّ يسعها ويحلّ لها ولا يخرج عليه ولا يضيق عنه وذلك أنّ للّه تعالى من عباده أنّ كثيراً منهم ضيق نفسه عن أن يطيّب لغيره بما لا يجب عليها له فأمر المعطي بإيفاء الحق ربّه الذي هو له ويكلّفه الزيادة لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها، وأمر صاحب الحق بأخذ حقّه ولم يكلفه الرضا بأقل منه لمّا فيه في النقصان عليه من ضيق نفسه، فلم يكلّف نفساً منهما إلاّ ما لا حرج فيه ولا يضيق عليه. قال ابن عباس : إنكم معشر الأعاجم فقد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} أي فاصدقوا في الحكم والشهادة {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} محذوف الاسم يعني ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قربة {وَبِعَهْدِ اللّه أَوْفُوا ذَالِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يتّعظون. قال ابن عباس : هذا الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء في جميع الكتب وهنَّ محرّمات على بني آدم كلّهم وهنّ أُمّ الكتاب مَنْ عمل بهن دخل الجنّة ومَنْ تركهن دخل النار. قال كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إنَّ هذا لأوّل شيء في التوراة {بسم اللّه الرحمن الرحيم قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربّكم عليكم} الآيات. وقال الربيع بن خيثم لأصحابه : ألا أقرأ عليكم صحيفة عليها خاتم محمد (صلى اللّه عليه وسلم) لم يُفك فقرأ هذه الآية {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} ١٥٣{وَأَنَّ هذا} يعني وصّاكم به في هاتين الآيتين {صِرَاطِي} طريقي وديني {مُّسْتَقِيمًا} مستوياً قويماً {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} يعني الطرق المختلفة التي عداها مثل اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات {فَتَفَرَّقَ} فيمتدّ وتخالف (وتشتت) {بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} عن طريقه ودين النبيّ الذي ارتضى وبها وصّى {ذلكم الذي} ذكرت {وَصَّ اكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ١٥٤{ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني ثمّ قل يا محمد لهم آتينا موسى الكتاب، لأنّ موسى أوتي الكتاب قبل محمد عليهما الصلاة والسلام. وقيل : ثمّ بمعنى الواو لأنّهما حرفا عطف قال الشاعر : قل لمن ساد ثمّ ساد أبوه ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه {تَمَامًا} نصب على القطع، وقيل : على التفسير {عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ} قال بعضهم : معناه تماماً على المحسنين. ويكون (الذي) بمعنى (من) وتقديره على الذين أحسنوا، لفظه واحد ومعناه جمع كما تقول : أُوصي بمالي للذي غزا وحجَّ يريد الغازين والحاجين. وقال الشاعر : شبّوا عليَّ المجد وشابوا واكتهل يريد : واكتهلوا. يدلّ عليه قراءة عبد اللّه بن مسعود (على الذين أحسنوا). وقال أبو عبيد : معناه على كل مَنْ أحسن، ومعنى هذا القول أتممنا (طلب) موسى بهذا الكتاب، على المحسنين يعني أظهرنا فضله عليهم، والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون. وقيل : معناه : ثمّ آتينا موسى الكتاب متماً للمحسنين يعني تتميماً منّا للأنبياء والمؤمنين الكتب {عَلَى} بمعنى (اللام) كما تقول أتم اللّه عليه فأتم له. قال الشاعر : رعته أشهراً وخلا عليها فطار التي فيها واستعاراً أراد : وخلا لها. وقيل : (الذي) بمعنى (ما)، يعني آتينا موسى الكتاب تماماً على ما أحسن موسى من العلم والحكمة أي زيادة على ذلك. وقال عبد اللّه بن بريدة : معناه تماماً مِنّي على مَنّي وإحساني إلى موسى، وقال ابن زيد : معناه تماماً على إحسان اللّه إلى أنبيائه وأياديه عندهم، وقال الحسن : فمنهم المحسن ومنهم المسيء فنزل الكتاب تماماً على المحسنين، وقرأ يحيى بن يعمر : على الذي أحسن، بالرفع أي على {الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِي} بياناً {لِّكُلِّ شَىْءٍ} يحتاج إليه من شرائع الدين {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} ١٥٥هذا يعني وهذا القرآن {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} واعملوا بما فيه {وَاتَّقَوْا} وأطيعوا {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فلا تعذبون. ١٥٦{أَن تَقُولُوا} يعني (لئلاّ) تقولوا كقوله {يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ أَن تَضِلُّوا} وقوله : {قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا} يعني أي لا تقولوا يعني لئلاّ تقولوا. وقيل : معناه أنزلناه كراهة أن يقول، وقال الكسائي : معناه : اتقوا أن تقولوا : يا أهل مكّة، وقرأ ابن محيصن والأعمش كلاهما والقراءة بالياء بقوله تعالى فقد جاءكم {إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} يعني اليهود والنصارى {وَإِن كُنَّا} وقد كنّا {عَن دِرَاسَتِهِمْ} قرأتهم {لَغَافِلِينَ} لا نعلم ما هي وإنَّما قال : دراستهم، ولم يقل : دراستهما، لأن كل طائفة جماعة، كقوله تعالى {هذانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} وأن ما يقال من المؤمنين اقتتلوا. ١٥٧{أو تقولوا لو أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} يعني أصوب من اليهود والنصارى ديناً {فَقَدْ جَآءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} حجّة واضحة لمن يعرفونها {وَهَدَى} وبيان {وَرَحْمَةً} ونعمة لمن اتبعه وعمل به {فمن أظلم ممن كذب بآيات اللّه وصَدَّق} وأعرض عنها {سنجزي الذين يصدّون عن آياتنا سوء العذاب} شدة العذاب {بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} يعرضون ١٥٨{هَلْ يَنظُرُونَ} وينتظرون {إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَاكَةُ} لقبض أرواحهم {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} بلا كيف لفصل القضاء من خلقه في موقف القيامة، وقال الضحاك : يأتي أمره وقضاؤه {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ} يعني طلوع الشمس من مغربها {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} وقرأ ابن عمر وابن الزبير : يوم تأتي بعض آيات ربّك بالتاء، قال المبرّد : على التأنيث على المجاورة لا على الأصل، كقولهم : ذهبت بعض أصابعه. قال جرير : لمّا أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع فأتت فعل السور، وهو مذكّر لاتصاله بمؤنّث. روى عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا تقوم الساعة حتّى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورأها الناس آمنوا أجمعين وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها {لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ} ) الآية. وروى مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عباس : قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا غربت الشمس رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع إلى مغربها أو من مطلعها (فكسى) ضوؤها، وإن كان القمر منوّر على مقادير ساعات الليل والنهار ثمّ ينطلق بها ما بين السماء السابعة العليا وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر (جبال) المشرق من سماء إلى سماء، فإذا ما وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح ويضيء النهار فلا يظل الشمس والقمر، كذلك حتّى يأتي الوقت الذي وقت اللّه التوبة لعباد وتكثر المعاصي في الأرض، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد ويفشو المنكر فلا ينهى عنه أحد، فإذا فعلوا ذلك حبست الشمس مقدار ليلة تحت العرش كلما سجدت وأستأذنت من أن تطلع لم يجىء لها جواب حتّى يراقبها القمر (فيجيء معها) ويستأذن من أن تطلع فلا يجاب لهما بجواب حتّى تحبسا مقدار ثلاث ليالي للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف طول تلك الليالي إلاّ المتهجّدون في الأرض، وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين في هوان من الناس وذلّة من أنفسهم، فينام أحدهم تلك الليلة قدر ما كان ينام قبلها من الليالي، ثمّ يقوم ويتوضّأ ويدخل مصلاّه فيصلّي ورده، فلا يصبح نحو ما كان يصبح كلّ ليلة فينكر ذلك فيخرج فينظر إلى السماء فإذا هو بالليل فكأنه والنجوم قد استدارت مع السماء فصارت إلى أماكنها من أول الليل، فينكر ذلك ويظن فيها الظنون فيقول : قد خففت قراءتي وقصرت صلواتي أم قمت قبل حيني. قال : ثمّ يقوم فيعود إلى مصلاّة فيصلّي نحو صلاته الليلة الثانية ثمّ ينظر فلا يرى الصبح فيخرج أيضاً فإذا بالليل مكانه فيزيده ذلك إنكاراً ويخالطه الخوف ويظن في ذلك الظنون من السوء، ثمّ يقول فلعلّي قصّرت صلواتي ثمّ خفّفت قراءتي (أم قمت) في أوّل الليل ثمّ يعود وهو وجل مشتت خائف لما توقّع من هول تلك الليلة فيقوم فيصلّي أيضاً مثل (ورده) كلّ ليلة قبل ذلك، ثمّ ينظر فلا يرى الصبح فيخرج الثالثة فينظر إلى السماء فإذا بالنجوم قد استدارت مع السماء فصارت في أماكنها عند أوّل الليل فيشفقه عند ذلك شفقة المؤمن العارف لما كان يحذر فيستحييه الخفّة ويستخفّه الندامة، ثمّ ينادي بعضهم بعضاً وهم كانوا قبل ذلك يتعارفون ويتواصلون فيجتمع المتهجدون من كل بلدة في تلك الليلة في مسجد من مساجدهم ويجأرون إلى اللّه تعالى بالبكاء ويصلّوا بقيّة تلك الليلة. فإذا ما تمّ لهما مقدار ثلاث ليال أرسل اللّه إليهما جبرائيل فيقول : إنّ الرب تبارك وتعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه وإنّه لا ضوء لكما عندنا ولا نور فيبكيان عند ذلك وَجَلا من اللّه عزّ وجلّ وخوف يوم القيامة بكاءً يسمعه أهل سبع سماوات ومن دونها وأهل سرادقات العرش وحملته ومن فوقهما، فيبكون جميعاً لبكائهما من خوف الموت والقيامة، فيرجع الشمس والقمر فيطلعان من مغربهما فبينما المتهجّدون يبكون ويتضرّعون إلى اللّه عزّ وجلّ، والغافلون في غفلاتهم إذ نادى مناد : ألا إن الشمس والقمر قد طلعا من المغرب فينظر الناس فإذا هم بهما أسودان لا ضوء للشمس ولا نور للقمر مثلهما في كسوفهما قبل ذلك. فذلك قوله {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وقوله {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} فيرتفعان كذلك مثل البعيرين القرنين يُنازع كلّ واحد منهما صاحبه اشتياقاً، ويتصايح أهل الدنيا وتدخل الأُمّهات على أولادها والأحبّة عن غمرات قلوبها، فتشتغل كلُّ نفس بما ألّمها، فأمّا الصالحون والأبرار فإنّه ينفعهم بكاؤهم يومئذ فيكتب لهم ذلك عبادة، وأمّا الفاسقون والفُجّار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب ذلك حسرة عليهم فإذا ما بلغ الشمس والقمر سرّت السماء وهي منصفها جاءهما جبرائيل (عليه السلام) فأخذ بقرونهما فردّهما إلى المغرب فلا يغربهما من مغاربهما ولكن يغربهما من باب التوبة). فقال له عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) : بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه وما باب التوبة؟ فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (يا عمر خلق اللّه تعالى باباً للتوبة خلف المغرب له مصراعان من ذهب مكلّلان بالدرّ والجوهر ما بين المصراع إلى المصراع الآخر أربعون سنة للراكب المسرع فذلك الباب مفتوح منذ خلق اللّه خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما ولم يتب عبد من عباد اللّه توبة نصوحاً منذ خلق اللّه آدم إلى ذلك اليوم إلاّ ولجت تلك التوبة في ذلك الباب. لم يرفع إلى اللّه تعالى). فقال له معاذ بن جبل : بأبي أنت وأُمي يا رسول اللّه وما التوبة النصوح؟ قال : (أن يندم المذنب على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى اللّه عزّ وجلّ ثمّ لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع. قال : فيغربهما جبريل في ذلك الباب ثمّ يرد المصراعين ثمّ يلتئم ما بينهما فيصير كأنّه لم يكن بينهما صدع قط، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل من العبد بعد ذلك توبة ولم ينفعه حسنة يعملها في الإسلام، إلاّ مَنْ كان قبل ذلك مُحسناً فإنّه يجري عليه ما كان يجري عليه قبل ذلك اليوم فذلك قوله عزّ وجلّ {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا} . فقال أُبي بن كعب : بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه فكيف بالشمس والقمر يومئذ بعد ذلك وكيف بالناس والدنيا. فقال : (يا أُبي إنّ الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثمّ يطلعان على الناس ويغربان، كما كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان، فإنّ الناس رأوا ما رأوا في فظاعة تلك الآية يلحون على الدنيا حتّى يجروا فيها الأنهار ويغرسوا فيها الأشجار ويبنوا البنيان. وأمّا الدنيا فلو نتج لرجل مُهْراً لم يركبه حتّى تقوم الساعة من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى أن يُنفخ في الصور). قال حذيفة بن أسيد والبراء بن عازب : كنّا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (ما تذاكرون؟) (قلنا : ) نتذاكر الساعة. قال : (إنها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات : الدخان، ودابة الأرض، وخسفاً بالمشرق، وخسفاً بالمغرب، وخسفاً بجزيرة العرب، ويأجوج ومأجوج، وناراً تخرج من قعر عدن، ونزول عيسى، وطلوع الشمس من مغربها). ويقال : إنّ الآيات تتابع كالنظم في الخيط عاماً فعاماً. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : والحكمة في طلوع الشمس من مغربها إنّ إبراهيم (عليه السلام) قال لنمرود : {ربّي اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبُهت الذي كفر} . وأن الملحدة والمنجّمة عن آخرهم ينكرون ذلك ويقولون هو غير (كائن) فيطلعها اللّه تعالى يوماً من المغرب ليري المنكرين قدرته فإنّ الشمس من ملكه إن شاء أطلعها من المطلع وإن شاء من المغرب. وقال عبد اللّه بن عمر : يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة حتّى يغرسوا النخل. ١٥٩قال اللّه : {قال انتظروا إنّا منتظرون} العذاب {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} قرأ حمزة والكسائي : فارقوا بالألف أي خرجوا من دينهم وتركوه وهي قراءة عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه ، ورواه معاذ عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وقرأ الباقون مشدّداً بغير ألف وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأُبي بن كعب أي جعلوا دين اللّه وهو واحد دين الحنيفيّة أدياناً مختلفة فتهوّد قوم وتنصّر آخرون يدلّ عليه قوله {وَكَانُوا شِيَعًا} أي صاروا فرقاً مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك. وروى ليث عن طاوس عن أبي هريرة : قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ) هذه الآية {إنَّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء وليسوا منك}، هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل من هذه الأُمّة لست منهم في شيء)، أي (نفر) منهم ورسول اللّه. قالوا : وهذه اللفظة منسوخة بآية القتال. وقال زادان أبو عمر قال لي علي (عليه السلام) : (يا أبا عمر أتدري كم افترقت اليهود؟ قلت : اللّه ورسوله أعلم. قال : (افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلاّ واحدة وهي الناجية. أتدري على كم افترقت النصارى)؟ قلت : اللّه ورسوله أعلم. قال : (افترقت على ثنتين وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلاّ واحدة هي (الناجية). أتدري على كم تفترق هذه الأُمّة)؟ قلت : اللّه ورسوله أعلم. قال : (تفترّق على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلاّ واحدة فهي الناجية. ثمّ قال علي رضي اللّه عنه أتدري على كم تفترق فيّ؟ قلت : وإنّه لتفترق فيك يا أمير المؤمنين؟ قال : نعم تفترق فيَّ اثنا عشر فرقة كلّها في الهاوية إلاّ واحدة وهي الناجية وأنت منهم يا أبا عمر). (ومنهم فرق الروافض والخوارج). ١٦٠{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ} يعني التوحيد : لا إله إلاّ أنت {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} قرأ الحسن وسعيد بن جبير. ويعقوب عشر (منون) أمثالها رفع على معنى فله حسنات عشر أمثالها، وقرأ الباقون بالإضافة على معنى : فله عشر حسنات أمثالها، وإنما لم يقل عشرة والمثل مذكر فأنث العدد لأنه مضاف إلى مؤنث فرده إلى الحسنة والدرجة {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ} في الشرك {فلا يجزى إِلا مِثْلَهَا} النار {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وقيل : هو عام في جميع الحسنات والسيّئات. روى (المقدوس) بن يزيد عن أبي ذر : قال : حدّثني الصادق المصدّق أنَّ اللّه عزّ وجلّ قال : (الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفرها فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة ثمّ لا يشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة). قال ابن عمر وابن عباس : هذه الآية في الأحزاب وأهل البدو، قيل : فما لأهل القرى قال : {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} وأقلها سبعمائة ضعف، وقال قتادة : في هذه الآية ذكر لنا أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (الأعمال ستة فموجبة وموجبة مضاعفة ومثل وبمثل فأمّا الموجبتان فمن لقى اللّه لا يشرك به شيئاً دخل الجنّة ومَنْ لقى اللّه يُشرك به دخل النار، فأمّا المضاعفتان فنفقة الرجل على أهله عشر بعشر أمثالها ونفقة الرجل في سبيل اللّه سبعمائة ضعف، وأمّا مثل بمثل فإنّ العبد إذا همَّ بحسنة ثمّ لم يعملها كُتبت واحدة وإذا عملها كُتبت (عشرة)). وعن سفيان الثوري لمّا نزلت {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} قال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (ربّي زدني) فنزلت {مثل الذين يُنفقون أموالهم في سبيل اللّه مثل حبّة} الآية قال : يا رب زدني فنزلت {مَنْ ذا الذي يُقرض اللّه قرضاً حسناً فيُضاعفه له أضعافاً كثيرة، قال : ربّ زدني؟ فنزلت : إنّما يوفّى الصابرون أجورهم بغير حساب}. ١٦١{قُلْ} يا محمد {إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} ) قرأ أهل الكوفة والشام : قِيَمَاً بكسر القاف وفتح الياء مخففاً. وقرأ الباقون : قَيّماً بفتح القاف وكسر الياء مشدداً وهما لغتان وتصديق التشديد قوله تعالى { ذلك الدِّينُ الْقَيِّمُ} . و {دِينًا قِيَمًا} معناهما : ذلك الدين القويم المستقيم. واختلف النحّاة في وجه انتصابه فقال الأخفش : معناه هداني ديناً قيّماً، وقيل : عرفت ديناً قيّماً، وقيل : أعني ديناً قيّماً، وقيل : نصب على الآخر يعني ابتغوا ديناً قيّماً. وقال قطرب : نصب على الحال (وضع) {مِّلَّةِ إِبْرَاهِمَ} بدل من الدين {حَنِيفًا} نصب على الحال {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ١٦٢{قُلْ إِنَّ صَ تِى وَنُسُكِى} قال أهل التفسير يعني ذبيحتي في الحج والعمرة. وقيل : ديني {وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى} يعني حياتي ووفاتي قال : يمان : محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان. وقرأ أهل المدينة ومحياي بسكون الياء. وقرأت العامة بفتح الياء لئلاّ يجتمع ساكنان. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى : ومحييّ بتشديد الياء الثانية من غير ألف وهي (لغة عليا مضر) يقولون : (قفي وعصي) وقرأ السلمي نسكي بجزم السين والباقون بضمّتين ١٦٣{للّه ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا أوّل المسلمين} قال قتادة أوّل المسلمين من هذه الأُمّة، قال الكلبي : أوّل مَنْ أطاع اللّه من أهل زمانه. وروى سعيد بن جبير عن عمران بن (حصين) قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يا فاطمة قومي واشهدي أُضحيّتك فإنّه يغفر لكِ في أوّل قطرة من دمها كل ذنب عملته ثمّ قولي : إنّ صلاتي ونُسكي إلى قوله المسلمين). قال عمران : يا رسول اللّه هذه الآية لأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال : (بل للمسلمين عامّة). ١٦٤{قُلْ أَغَيْرَ اللّه أَبْغِى رَبًّا} سوى اللّه أطلب سيّداً {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} لا تؤخذ مما أتت من المعصية وارتكبت من الذنوب سواها. {ولا تزروا وازرة وزر أُخرى} يعني ولا تحمل نفس حمل طبق محل اُخرى ما عليها من الذنوب ولاتأثم نفس آثمة بأثمّ أُخرى، ١٦٥بل كل نفس مأخوذ بجرمها ومعاقبة بإثمها {ثمّ إلى ربّكم مرجعكم فيُنبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} يعني أهل القرون الماضية والأُمم الخالية وأورثكم الأرض من بعدهم ثمّ جعلكم خلايف منهم فيما يخلفونهم فيها ويعمرونها بعدهم والخلاف جمع خليفة، كالوصيف يجمع وصيفة فكل مَنْ جاء من بعد مَنْ مضى فهو خليفة يقال : خلف فلان فلاناً في داره يخلفه خلافةً فهو خليفة كما قال الشماخ : تصيبهم وتخطئني المنايا وأخلف في ربوع عن ربوع {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} يعني وخالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والقوّة والبسطة والعلم والفضل والمعاش والمعاد {ليبلوكم فيما أتاكم} يعني الغنى والفقر والشريف والوضيع والحر والعبد {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} يعني ماهو آت قريب، وقيل : الهلاك في الدنيا. وقال الكلبي : إذا عاقب فعقابه سريع، وقال عطاء : سريع العقاب لأعدائه {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ} لأوليائه. |
﴿ ٠ ﴾