٢فكأنهم عقدوا وعاهدوا {فَسِيحُوا} رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم : سيحوا أي سيروا {فِى الأرض} مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من أحد من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر. {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} يقال : ساح في الأرض يسيح سياحة وسيوحاً وسياحاً {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه} أي غير فائتين ولا سابقين {وَأَنَّ اللّه مُخْزِى الْكَافِرِينَ} أي مذلّهم ومورثهم العار في الدنيا وفي الآخرة. واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ اللّه منهم ورسوله إليكم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول اللّه من المشركين. فقال محمد بن إسحاق وغيره من العلماء : هم صنفان من المشركين : أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة اشهر فأُمهل تمام أربعة اشهر، والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه ثم (....) بحرب بعد ذلك للّه ولرسوله وللمؤمنين، يُقتل حيث ما أُدرك، ويؤسر إلى أن يتوب وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وانتهاؤه إلى عشر من ربيع الآخر. وأما من لم يكن له عهد فإنّما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوماً، وقال الزهري : هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال، وقال الكلبي : إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عهد دون أربعة أشهر، فأتمّ له الأربعة الأشهر، ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر، فهذا الذي أمر أن يتم له عهده، وقال : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم، وقال مقاتل : نزلت في ثلاثة أحياء من العرب : خزاعة وبني مذحج وبني خزيمة كان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) عاهدهم بالحديبية سنتين فجعل اللّه عز وجل أجلهم أربعة أشهر، ولم يعاهد النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بعد هذه الآية أحداً من الناس. وقال الحسن : بعث اللّه محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) وأمره أن يدعو إلى التوحيد والطاعة، وفرض عليه الشرائع، وأمره بقتال من قاتله من المشركين، فقال : {قاتلوا في سبيل اللّه الذين يقاتلوكم} وكان لا يقاتل إلاّ مَن قاتله، وكان كافّاً عن أهل العهد الذين كانوا يعاهدونه الثلاثة والأربعة الأشهر حتى ينظروا في أمرهم، فإما أن يسلموا وإما أن يؤذنوا بالحرب، ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم وأجلهم أربعة أشهر على أن يسلموا أو يؤذنوا بالحرب، ولم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر، لا مَن كان له عهد قبل البراءة، ولا مَن لم يكن له عهد، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحلّ دماء المشركين كلهم من أهل العهد وغيرهم بعد انقضاء الأجل. قال عبد الرحمن بن زيد : نقض كل عهد كان أكثر من أربعة أشهر فردّه إلى الأربعة، وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما : نزلت في أهل مكة، وذلك أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عاهد قريشاً عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، فدخلت خزاعة في عهد محمد (صلى اللّه عليه وسلم) ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان مع ذا عهود من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ومن قبائل من العرب خصائص، فعدت بنو بكر على خزاعة (فقتلوا رجلا) منها ورفدتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهودهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يارب إني ناشدٌ محمداً حلف أبينا وأبيه إلا تلدا كُنتَ لنا أباً وكنا ولداً ثمّت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك اللّه نصراً (عتدا) وادع عباد اللّه يأتوا مددا فيهم رسول اللّه قد تجرّدا أبيض مثل الشمس ينمو صعدا إن سيم خسفاً وجهه تربدا في فيلق في البحر تجري مزبداً إن قريشاً لموافوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تدعو إحدا وهم أذلّ وأقلّ عددا هم (وجدونا) بالحطيم هُجّدا وقتلونا رُكّعاً وسُجّداً فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أنصرف إن لم أنصركم) فخرج وتجهز إلى مكة، وفتح اللّه مكة وهي سنة ثمان من الهجرة، ثم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف جعل المشركون ينقضون عهودهم، وأمره اللّه بإلقاء عهودهم إليهم ليأذنوا بالحرب، وذلك قوله تعالى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ} الآية. فلمّا كانت سنة تسع أراد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) الحج فقال : إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة ولم (.........) أن حج حتى لا يكون ذلك، فبعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أبا بكر ح تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، فلمّا سار دعا (صلى اللّه عليه وسلم) علياً فقال : (اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذّن بذلك في الناس إذا اجتمعوا). فخرج علي ح على ناقة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) الجدعاء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة فأخذها منه فرجع أبا بكر ح إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يارسول اللّه بأبي أنت وأمي أنزل بشأني شيء؟ قال : (لا ولكن لا يبلّغ عني غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنّك كنت معي في الغار وأنّك صاحبي على الحوض). قال : بلى يارسول اللّه، وذلك أن العرب جرت عادتها في عقد عهودها ونقضها أن يتولى ذلك عن القبيلة رجل منهم فبعث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) علياً لئلاّ، يقولوا : هذا خلاف ما نعرفه في بعض العهود. قال جابر : كنت مع علي ح حتى أتبعه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أبا بكر، فلمّا كنا (بالعرج ثوب) بصلاة الصبح، فلمّا استوى أبو بكر ليكبّر سمع الرغاء فوقف وقال : هذه رغاء ناقة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) الجدعاء، لقد بدا لرسول اللّه في الحج، فإذا عليها عليّ، فقال أبو بكر أمير أم مأمور؟ قال : بل ارسلني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ببراءة أقرأها على الناس، فكان أبو بكر أميراً على الحج وعلياً ليؤذن ببراءة، فقدما مكة، فلمّا كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم وأقام للناس بالحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على مناسكهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب ح فأذّن في الناس بالحج بالذي أمره به، وقرأ عليهم سورة براءة. قال الشعبي : حدّثني محمد بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي ح حين بعثه النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ينادي، وكان إذا (ضحل) صوته ناديت قلت : بأيّ شيء كنتم تنادون؟ قال : بأربع لا يطف بالكعبة عريان، ومن كان له عند رسول اللّه عهد فعهده إلى مدّته، ولا تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك، قالوا : فقال المشركون : نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب، وطفقوا يقولون : اللّهم أنا قد منعنا أن نبرّك، فلمّا كان سنة عشر حج النبي (صلى اللّه عليه وسلم) حجة الوداع، ونقل إلى المدينة، فمكث بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وليالي من شهر ربيع الأول حتى لحق باللّه عز وجل. |
﴿ ٢ ﴾