سورة يونس(عليه السلام) مكية، وهي عشرة آلاف وثمانمائة وتسع وثمانون حرفاً، وألفان وخمسمائة كلمة غير واحدة، ومائة وتسع آيات حدثنا حامد بن أحمد وسعيد بن محمد، ومحمد بن القاسم. قالوا : أخبرنا محمد بن مطر. إبراهيم بن شريك. أحمد بن يونس. سلام بن سليم. هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة يونس أُعطي من الأجر ومن الحسنات بعدد من صدّق بيونس وكذّب به، وبعدد من غرق مع فرعون) صدق رسول اللّه {بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . ١{الر} قُرِئ بالتفخيم والإمالة وبين اللفظين، وكلها لغات صحيحة فصيحة. ابن عباس والضحاك : أنا اللّه أرى، وقيل : أنا الرب لا رب غيري. عكرمة والأعمش والشعبي. الر وحم ون حروف الرحمن مقطعة. فاذا وصلت كان الرحمن. قتادة : اسم من أسماء القرآن. أبو روق : فاتحة السورة، وقيل : عزائم اللّه، وقيل : هو قسم كأنّه قال : واللّه إنّ {تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ} . قال مجاهد وقتادة : أراد به التوراة والإنجيل والكتب المقدسة، وتلك إشارة إلى غائب مؤنث. وقال الآخرون : أراد به القرآن وهو أولى بالصواب لأنه لم يخص الكتب المقدمة قبل ذكره ولأن الحكيم من بعث القرآن، دليله قوله : {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ} ونحوها فيكون على هذا التأويل تلك يعني هذه وقد مضى القول في هذه المسألة في أول سورة البقرة {الْحَكِيمِ} المحكوم بالحلال والحرام والحدود والأحكام. وقال مقاتل : المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف وهو فعيل بمعنى فاعل كقول الأعمش في قصيدته : وعزيمة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها وقيل : هو الحاكم فعيل بمعنى فاعل بأنه قرأ : نزل فيهم الكتاب بالحق {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وقيل : بمعنى المحكوم فيه فعيل بمعنى المفعول. قال الحسن : حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه. وقال عطاء : حكيم بما حكم فيه من الأرزاق والآجال بما شاء. ٢{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} الآية، قال ابن عباس : لما بعث اللّه محمداً رسولاً أنكرت الكفار وقالوا : اللّه أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد فأنزل اللّه تعالى : {أَكَانَ لِلنَّاسِ} أهل مكة والألف للتوبيخ {عَجَبًا} {أَنْ أَوْحَيْنَآ} أن في محل الرفع وأوحينا صلة له تقديره أكان للناس عجباً لإيحائنا {إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} محمد، وفي حرف عبد اللّه : عجيبٌ، بالرفع على اسم كان، وأن في محل نصب على خبره {أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} أن على محل نصب بقصد الخافض وكذلك الثانية. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} . قال ابن عباس : أجراً حسناً بما قدموا من أعمالهم. قال الضحاك : ثواب صدق. مجاهد : الأعمال الصالحة، علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : سبقت لهم السعادة في الذكر الأول. سلف صدق، زيد بن أسلم : محمد (صلى اللّه عليه وسلم) شفيع لهم. يمان : إيمانهم، عطاء : مقام صدق لا زوال فيه ولا بؤس، نعيم مقيم وخلود وخلود لا موت فيه، الحسن : عمل صالح أسلفوه (فأثابهم) عليه، الأعمش : سابقة صدق. أبو حاتم : منزل صدق نظيره {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ} عبد العزيز بن يحيى : قدم صدق. قوله عزّ وجلّ : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} . الزجاج : منزلة رفيعة، وقيل : هو بعثهم وتقديم اللّه تعالى هذه الأمة في البعث يوم القيامة، بيانه قوله (صلى اللّه عليه وسلم) نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، وقيل : عِدَة اللّه تعالى لهم، والقدم : القدم كالنقص والقبض وأُضيف القدم إلى الصدق وهو (علة) كما قيل : مسجد الجامع، وحقّ اليقين. قال ابن الأعرابي : القدم المتقدم في الشرف. قال العجاج : زل بنو العوام عن آل الحكم وتركوا الملك لملك ذي قدم أي متقدم. قال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم. يقال : لفلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق، وقدم سوء، وهو مؤنث يقال : قدم حسنة وقدم صالحة. قال حسان بن ثابت : لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأوّلنا في طاعة اللّه تابع قال ذو الرمّة : لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العاديّ طمت على البحر وقال آخر : قعدت بهم قدم الفجار وذكرت أنسابهم من فضة من مالق أي ما يقدّم لهم من الفجّار. {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} قال المفسرون : القرآن، وقرأ أهل الكوفة : لساحر يعني محمد ( (صلى اللّه عليه وسلم) ). ٣{إن ربكم اللّه الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبّر الأمر} قال مجاهد : يقضيه وحده {مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} أمره {ذَالِكُمُ اللّه} الذي فعل هذه الأشياء {رَبُّكُمُ} لا ربّ لكم سواه ٤{فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم} معادكم {جَمِيعًا} نصب على الحال {وَعْدَ اللّه حَقًّا} صدقاً لا خُلف فيه، وهو نصب على المصدر، أي وعد اللّه وعداً حقّاً فجاء به حقّاً، وقيل : على القطع، وقرأ ابن أبي عبلة : وعد اللّه حق على الاستئناف، ثم قال : {إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده} أي يحميهم ابتداءً ثم يميتهم ثم يحييهم، وقرأ العامة : إنّه، (بكسر الألف على الاستئناف. وقرأ أبو جعفر : أنه، بالفتح على معنى : لأنه وبأنه، كقول الشاعر : أحقاً عباد اللّه أن لست زائراً بثينة أو يلقى الثريا رقيبها {لِيَجْزِىَ} ليثيب {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّه} بالعدل ثم قال : مبتدئاً {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ} ماء حار قد انتهى حرّه {حَمِيمٍ} وهو بمعنى محموم فعيل بمعنى مفعول، وكل مسخن مُغلي عند العرب فهو حميم. قال المرقش : وكل يوم لها مقطرة فيها كباء معدّ وحميم {وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} . ٥{هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً} بالنهار {وَالْقَمَرَ نُورًا} بالليل. قال الكلبي : تضي وجوههما لأهل السموات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع. (قرأ الأكثرون : ضياءً بهمزة واحدة) وروي عن ابن كثير : ضياء بهمزت الياء، ولا وجه لها لأن ياءه كانت واواً مفتوحة، وهي عين الفعل أصله ضواء فسكنت وجعلت ياءً كما جعلت في الصيام والقيام {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي قدر له بمعنى هيأ له وسوى له منازل لا يجاوزها ولا يقصر دونها. وقيل : جعل قدر مما يتعدى لمفعولين ولم يقل قدرهما، وقد ذكر الشمس والقمر وفيه وجهان : أحدهما أن يكون الهاء للقمر خاصة بالأهلة يعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس، والآخر أن يكون قد اكتفى بذكر أحدهما من الآخر، كما قال : {اللّه ورسوله أحق أن يرضوه} وقد مضت هذه المسألة {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ} دخولها وانقضائها {وَالْحِسَابَ} يعني وحساب الشهور والأيام والساعات {مَا خَلَقَ اللّه ذلك } مثل ما في الفصل والخلق والتقدير، ولولا (وجود) الأعيان المذكور لقال : تلك {إِلا بِالْحَقِّ} لم يخلقه باطلا بل إظهاراً لصنعه ودلالة على قدرته وحكمته، ولتجزى كل نفس بما كسبت فهذا الحق {يُفَصِّلُ ايَاتِ} يبيّنها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . قال ابن كثير وأبو عمرو، وحفص عن عاصم : {يُفَصِّلُ} بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله قبله {مَا خَلَقَ اللّه} وبعده {وَمَا خَلَقَ اللّه} فيكون متبعاً له، وقرأ ابن السميقع بضم الياء وفتح الصاد ورفع التاء من الآيات على مجهول الفعل، وقرأ الباقون بالنون على التعظيم. ٦{إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّه فِى السَّمَاوَاتِ والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} يوقنون فيعلمون ويقرّون. قال ابن عباس : قال أهل مكة : آتينا بآية حتى نؤمن بك فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. ٧{إِنَّ الَّذِينَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} يعني لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا، والرجاء يكون بمعنى الهلع والخوف {وَرَضُوا بِالْحياةِ الدُّنْيَا} فاختاروها داراً لهم {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} وسكنوا إليها. قال قتادة في هذه الآية : إذا شئت رأيت صاحب دنيا لها يفرح ولها يحزن ولها يرضى ولها يسخط. {إِنَّ الَّذِينَ يَرْجُونَ} أدلتنا {غَافِلُونَ} لا يعتبرون. قال ابن عباس {عَنْ ءَايَاتِنَا} محمد والقرآن غافلون معرضون تاركون مكذبون ٨{أُولَاكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الكفر والتكذيب ٩{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ} فيه إضمار واختصار أي يهديهم ربهم بإيمانهم إلى مكان {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} قال أبو روق : يهديهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة، قال عطية : يهديهم ويثيبهم ويجزيهم، وقيل ينجيهم. مجاهد ومقاتل : يهديهم بالنور على الصراط إلى الجنة يجعل لهم نوراً يمشون به. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة (حسنة وبشارة حسنة) فيقول له. من أنت فو اللّه أني لأراك أمرء صدق؟ فيقول له : أنا عملك، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيقول : من أنت فواللّه إني لأراك امرء سوء؟ فيقول : أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار. وقيل : معنى الآية : بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه أي بتصديقهم هداهم تجري من تحتهم الأنهار لم يرد أنها تجري تحتهم وهم فوقها، لأن أنهار الجنة تجري من غير أخاديد. وإنما معناه أنها تجري من دونهم وبين أيديهم وتحت أمرهم كقوله تعالى : {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} ومعلوم أنه لم يجعل السري تحتها وهي عليه قاعدة وإنما أراد به بين يديها، وكقوله تعالى مخبراً عن فرعون : {أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهذه الأنهار تَجْرِى مِن تَحْتِى} ، ١٠أو من دوني وتحت أمري {في جنات النعيم دعواهم} قولهم وكلامهم {فِيهَا سُبْحَانَكَ اللّهمَّ} . قال طلحة بن عبد اللّه سئل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن سبحان اللّه، فقال : هو تنزيه اللّه من كل سوء، وسأل ابن الكوّا علياً عن ذلك فقال : كلمة رضيها اللّه لنفسه. قال المفسرون : (هذه نعمة علم بين له وعين الخدام في) الطعام فإذا اشتهوا شيئاً من الطعام والشراب قالوا : سبحانك اللّهم. فيأتوهم في الوقت بما يشتهون على مائدة، فإذا فرغوا من الطعام والشراب حمدوا اللّه على ما أعطاهم فذلك قوله تعالى : {وَءَاخِرُ دَعْوَ اهُمْ} قولهم {أَنِ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ} وما يريد آخر كلام يتكلّمون به ولكن أراد ما قبله. قال الحسن : بلغني بأن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال حين قرأ هذه الآية : (إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس). وذلك قوله تعالى : {دَعْوَ اهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللّهمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا} في الجنة {سَلَامٌ} يحيّي بعضهم بعضاً بالسلام وتأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام. قال ابن كيسان : يفتحون كلامهم بالتوحيد ويختمون بالتحميد. وقرأ العامة : {أَنِ الْحَمْدُ للّه} بالتخفيف والرفع، وقرأ بلال بن أبي بردة وابن محيصن أنّ مثقلا الحمد نصباً. ١١{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّه لِلنَّاسِ الشَّرَّ} فيه اختصار ومعناه : {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّه لِلنَّاسِ} الآية ذهابهم في الشرك استعجالهم بالإجابة في الخير {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي لفرض من هلاكهم ولماتوا جميعاً. قال مجاهد : هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب : (اللّهم أهلكه، اللّهم لا تبارك له فيه والعنه) يتخذها الرجل على نفسه وولده وأهله وماله بما يكره أن يُستجاب له. شهر بن حوشب. قرأت في بعض الكتب أن اللّه تعالى يقول للملكين الموكلين : لا تكتبا على عبدي في حال ضجره شيئاً. وقرأ العامة : لقضي إليهم آجالهم برفع القاف واللام على خبر تسمية الفاعل، وقرأ عوف وعيسى وابن عامر ويعقوب : بفتح القاف واللام، وقرأ الأعمش : لقضينا، وكذلك هو في مصحف عبد اللّه، وقيل : أنها نزلت في النضر بن الحرث حين قال : {اللّهمَّ إِن كَانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} الآية يدل عليه قوله تعالى : {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} لا يخافون البعث والحساب ولا يأملون الثواب ١٢{في طغيانهم يعمهون وإذا مس} أصاب {الإنسان الضُّرُّ} الشدة والجهد {دَعَانَا لِجَنبِهِ} على جنبه مضطجعاً {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا} فإنما يريد جميع حالاته لأن الإنسان لا يعدو أحد هذه الخلال {فَلَمَّا كَشَفْنَا} رفعنا وفرجنا {عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} أي استمر على طريقته الأولى، قيل : أن يصيبه الضرّ ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء وترك الشكر والدعاء، قال الأخفش : كأن لم يدعُنا وكأن لم يلبثوا وأمثالها، كأن الثقيلة والشديدة كأنه لم يدعنا { كذلك } أي كما زيّن لهذا الإنسان الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء كذلك {زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} الآية زين الجد في الكفر والمعصية {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعصية والإسراف يكون في النفس، وفي قراءة : ضيّع نفسه وجعلها عابد وثن وضيع ماله إذ جعله (سائباً بلا خير)، ومعنى الكلام أسرفوا في عبادتهم وأسرفوا في نفقاتهم. ١٣{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ} يعني الأمم الماضية. قال ابن عباس : بين القرنين ثمان وعشرون سنة. {لَمَّا ظَلَمُوا} أشركوا {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كذلك } أي كما أهلكناهم بكفرهم وتكذيبهم رسلهم {نَجْزِي} نهلك {الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} المشركين تكذيبهم محمد (صلى اللّه عليه وسلم) يخوّف كفّار مكة عذاب الأمم الخالية المكذبة ١٤{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَافَ فِى الأرض مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد القرون التي أهلكناهم {لِنَنظُرَ} لنرى {كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وهو أعلم بهم. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إن الدنيا خضرة حلوة وأن اللّه استخلفكم فيها فانظر كيف تعملون). قتادة : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب (ح) قال : صدق اللّه ربنا ما جعلنا خلفاء إلاّ لينظر إلى أعمالنا فأروا اللّه من أعمالكم خيراً بالليل والنهار والسرّ والعلانية. وروى ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر : رأيت فيما يرى النائم كأنّ شيئاً دُلّي من السماء فانتشط رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثم أُعيد فانتشط أبو بكر (ح) ثم ذرع الناس حول المنبر ففصّل عمر بثلاثة أذرع إلى المنبر، فقال عمر : دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها، فلما استخلف عمر قال : قل يا عوف رؤياك، قال : هل لك في رؤياي من حاجة؟ أو لم تنهوني؟ فقال : ويحك إني كرهت أن تنعى لخليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) نفسه. فقصّ عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس المنبر بهذه الثلاثة الأذرع. قال : أما إحداهن فأنّه كائن خليفة وأما الثانية فإنه لا يخاف في اللّه لومة لائم، وأما الثالثة فإنّه شهيد، ثم قال : يقول اللّه تعالى : {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَافَ فِى الأرض} إلى قوله {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فقد استخلفت يا ابن أم عمر فانظر كيف تعمل، وأما قوله : فإني لا أخاف في اللّه لومة لائم فيما شاء اللّه، وأما قوله : إني شهيد فأنّى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به، ثم قال : إن اللّه على ما يشاء لقدير. ١٥{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} قتادة : يعني مشركي مكة، مقاتل : هم خمسة نفر : عبد اللّه بن أُمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد اللّه بن أبي قيس العامري، والعاص بن عامر بن هاشم. قالوا للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) {ائْتِ بِقُرْءَانٍ} ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وليس فيه عنهما أي {بَدِّلْهُ} تكلم به من تلقاء نفسك. وقال الكلبي : نزلت في المستهزئين، قالوا : يا محمد ائت بقرآن غيره (ليس فيه ما يغيظنا، أو بدّله) فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة أو آية رحمة آية عذاب أو حرام حلالا أو حلال حراماً {قُلْ} لهم يا محمد {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآىِ نَفْسِى} من قبل نفسي ومن عندي {إِنْ أَتَّبِعُ} ما أطيع فيما آمركم وأنهاكم ١٦{إلاّ ما يُوحى إليَّ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء اللّه ما تلوته عليكم ولا أدراكم} أعلمكم {بِهِ} وقرأ الحسن : ولا أدراتكم به، وهي لغة بني عقيل يحولون الياء ألفاً فيقولون : أعطأت بمعنى أعطيت، ولبأت بمعنى لبّيت وجاراة وناصاة للجارية والناصية. فأنشد المفضل : لقد أذنت أهل اليمامة طيّ بحرب كناصاة الأغر المشهر وقال زيد الخيل : لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقا على الأرض قيسيّ يسوق الأباعرا أي ما بقي، وقال آخر : زجرت فقلنا لا نريع لزاجر إن الغويّ إذا نَها لم يعتب أي نهى. وروى البري عن ابن كثير ولادراكم بالقصر على الإيجاب يريد : ولا عملكم به من غير قراءتي عليكم. وقرأ ابن عباس : ولا أدراتكم من الإنذار، وهي قراءة الحسن {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا} حيناً وهو أربعون سنة {مِّن قَبْلِهِ} من قبل نزول القرآن ولم آتكم بشيء {أفلا تعقلون} انه ليس من قبلي. قال ابن عباس : نبّيء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهو ابن أربعون سنة وأقام بمكة ثلاثة عشرة وبالمدينة عشرة وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة ١٧{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا} فزعم أنه له شريكاً أو صاحبة أو ولداً {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ} محمد والقرآن { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ المجرمون } لا يأمن ولا ينجو المشركون ١٨{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه مَا لا يَضُرُّهُمْ} إن عصوه {وَلا يَنفَعُهُمْ} أن أطاعوه يعني الأصنام {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه قُلْ أَتُنَبِّئُونَ} تخبرون {اللّه} قرأه العامة : بالتشديد، وقرأ أبو الشمال العدوي : أتُنبئون بالتخفيف وهما لغتان. نبأ ينبئ بنية، وأنبأني إنباءً بمعنى فاعل جمعها. قوله تعالى : {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} {بِمَا يَعْلَمُ} بما لا يعلم اللّه تعالى صحته وحقيقته ولا يكون {في السموات ولا في الأرض} ومعنى الآية : أتخبرون اللّه أنّ له شريكاً أو عنده شفيعاً بغير إذنه ولا يعلم اللّه أنّ له شريكاً في السماوات {وَلا فِى الأرض} لأنه لا شريك له فلذلك لا يعلمه نظيره قوله عزّ وجلّ : {أَمْ تُنَبِّئونَهُ بِمَا يَعْلَمُ فِى الأرض} . ثم نزّه نفسه فقال : {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} قرأ يحيى بن ثابت والأعمش وأبو حمزة والكسائي وخلف : تشركون بالتاء هاهنا وفي سورة النحل والروم، وهو اختيار أبي عبيد للمخاطبة التي قبلها، وقرأ الباقون كلها بالياء، واختارها أبو حاتم، وقال : كذلك تعلمناها. ١٩{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً} على ملة واحدة الإسلام دين آدم (عليه السلام) إلى أن قتل أحد ابني آدم أخاه فاختلفوا. قاله مجاهد والسدي. قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا على عهد نوح فبعث اللّه إليهم نوحاً، وقيل : كانوا أمة واحدة مجتمعة على التوحيد يوم الميثاق. وقيل : أهل سفينة نوح، وقال أبو روق : كانوا أمة واحدة على ملّة الإسلام زمن نوح (عليه السلام) بعد الغرق، وقال عطاء : كانوا على دين واحد الإسلام من لدن إبراهيم (عليه السلام) إلى أن غيّره عمرو بن يحيى، عطاء : يدلّ على صحة هذه التأويلات قراءة عبد اللّه : {وما كان الناس إلاّ أمة واحدة على هدى فاختلفوا عنه}، وقال الكلبي : وما كان الناس إلاّ أمة واحدة كافرة على عهد إبراهيم فاختلفوا فتفرقوا، مؤمن وكافر. {وَلَوْ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بأن جعل للدنيا مدة لكل أمة أجلا لا تتعدى ذلك، قال أبو روق وقال الكلبي : هي أن اللّه أخّر هذه الأمة ولا يهلكهم بالعذاب في الدنيا، وقيل : هي أنه لا يأخذ إلاّ بعد إقامة الحجة. وقال الحسن، ولولا كلمة سبقت من ربك مضت في حكمه أنه لا يقضي فيهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في الدنيا فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين في النار بكفرهم ولكنه سبق من اللّه الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة. وقال أبو روق : لقضي بينهم، لأقام عليهم الساعة، وقيل : الفزع من هلاكهم، وقال عيسى ابن عمر : لقضى بينهم بالفتح لقوله : {مِن رَّبِّكَ} {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الذين ٢٠{وَيَقُولُونَ} يعني أهل مكة {لَوْ أُنزِلَ عَلَيْهِ} أي على محمد {مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا} لهم يا محمد ما سألتموني الغيب {إِنَّمَا الْغَيْبُ للّه} ما يعلم أحدكم بفعل ذلك إلاّ هو، وقيل : الغيب، نزول الآية متى تنزل نزل {فَانتَظِرُوا} نزول الآية {إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} لنزولها، وقيل : فانتظروا قضاء اللّه بيننا بإظهار الحق على الباطل. وقال الحسن : فانتظروا مواعيد الشيطان وكانوا مع إبليس على موعد فيما يعدهم ويمنيهم أني معكم من المنتظرين. فأنجز اللّه وعده ونصر عبده. ٢١{وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ} يعني الكفار {رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} أي راحة ورخاء بعد شدة وبلاء، وقيل : عنى به القطر بعد القحط {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن} قال مجاهد : استهزاء وتكذيب. مقاتل بن حسان : لا يقولون هذا رزق اللّه فإنما يقولون : سقينا بنوء كذا وهو قوله : {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} {قُلِ اللّه أَسْرَعُ مَكْرًا} أعجل عقوبة وأشد أخذاً وأقدر على الجزاء، وقال مقاتل صنيعاً. {إِنَّ رُسُلَنَا} حفظتنا {يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} قرأ العامة بالتاء لقوله، وقراءة الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب : يمكرون بالياء لقوله : {إِذَا لَهُم} وهي رواية هارون عن أبي عمرو. ٢٢{هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يبحر بكم ويحملكم على التسيير، وقرأ أبو جعفر وابن عامر : ينشركم بالنون من النشر، وهو (البسط) في البر على الظهر وفي البحر على الفلك {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ} أي في السفن يكون واحد أو جمعاً، وقرأ عيسى الفلك بضم اللام. {وَجَرَيْنَ بِهِم} يعني جرت السفن بالناس وهذا خطاب تكوين رجع من الخطاب إلى الخبر {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} أي الريح {جَآءَتْهَا} يعني الفلك وهو جواب لقوله حتى إذا جاءتها {رِيحٌ عَاصِفٌ} شديد يقال : عصفت الريح وأعصفت والريح، مذكر ومؤنث، وقيل : لم يقل : عاصفة لاختصاص الريح بالعصوف، وقيل : للنسب أي ذات عصوف {وَجَآءَهُمُ} يعني سكان السفينة {الْمَوْجُ} وهو حركة الماء وأخلاطه {مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا} وأيقنوا {أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} إذا أحاط بهم الهلاك {دَعَوُا اللّه} هنالك {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} للدعاء دون أوثانهم وكان مفزعهم إلى اللّه دونها. روى (الثوري) عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيد في قوله تعالى : {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال : قالوا في دعائهم : أهيا شراهيا وتفسيره : يا حيُّ يا قيوم {لَ نْ أَنجَيْتَنَا} خلصتنا يا ربنا {مِنْ هذه} الريح العاصف {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لك بالإيمان والطاعة ٢٣{فَلَمَّآ أَنجَ اهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ} يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر اللّه {في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} الآن وباله راجع إليها وجزاؤه لاحق، وأتم الكلام هاهنا كقوله تعالى : {لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَار بَلَاغٌ} أي هذا بلاغ وقيل هو كلام متصل، والبغي ابتداء ومتاع خبره، وقوله على أنفسكم صلة المتاع ومعناه {فَلَمَّآ أَنجَ اهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأرض} ولا يصلح لزاد المعاد لأنّكم استوجبتم غضب اللّه. وقرأ ابن اسحاق وحفص : متاعاً بالنصب على الحال ٢٤{ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون إنما مثل الحياة الدنيا} في فنائها وزوالها {كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} من الحبوب والبقول والثمار {وَانْعَامُ} من الحشيش والمراعي. {حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} حسنها وبهجتها {وَازَّيَّنَتْ} هذا قراءة العامة، وتصديقها قراءة عبد اللّه بن مسعود : وتزينت، وقرأ أبو عثمان النهدي والضحاك : وأزّانت على وزن اجّازت قال عوف بن أبي جميلة : كان أشياخنا يقرأونها كذلك وازيانت نحو اسوادّت، وقرأ أبو رجاء وأبو العالية والشعبي والحسن والأعرج : وأزينت على وزن أفعلت مقطوعة الألف (بالتخفيف)، قال قطرب : معناه : أتت بالزينة عليها، كقولهم : أحبّ فأذمّ واذكرت المرأة فأنثت {وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} أخبر عن الأرض ويعني للنبات إذ كان مفهوماً وقيل : ردّه إلى الغلّة وقيل : إلى الزينة {أَتَ اهَآ أَمْرُنَا} قضاؤنا بهلاكها {لَيْ أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} مقطوعة مقلوعة وهي محصورة صرفت إلى حصيد {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} تكن، وأصلة من غني المكان إذا أقام فيه وعمّره، وقال مقاتل : تغم، وقرأها العامة : تغن بالتاء لتأنيث الأرض، ٢٥وقرأها قتادة بالياء يذهب به إلى الزخرف {كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون واللّه يدعوا إلى دار السلام} قال قتادة : السلام اللّه وداره الجنة، وقيل : السلام والسلامة واحد كاللذاذ واللذاذة والرضاع والرضاعة. قال الشاعر : تُحيّى بالسلامة أم بكر وهل لك بعد رهطك من سلام فسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات. قال اللّه تعالى : {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ءَامِنِينَ} ، وقال ذو النون المصري : سميت بذلك لأن من دخلها سلم من القطيعة والفراق، وقيل : أراد به التحية يقال : سلم تسليماً وسلاماً كما يقال : كلم تكليماً وكلاماً فسميت الجنة دار السلام لأن أهلها يحيي بعضهم بعضاً والملائكة يسلمون عليهم، وقال الحسن : السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم. وقال أبو بكر الوراق : سميت بذلك لأن من دخلها سلم عليه المولى وذلك أن اللّه يعلم ما فيه أهل الجنة من ذكر الذنوب والهيبة لعلاّم الغيوب فيبدأهم بالسلام والتحية لهم تقريباً وإيناساً وترحيباً. قال جابر بن عبد اللّه خرج علينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يوماً فقال : (إني رأيت في المنام كأن جبرائيل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا فقال : اسمع سمعت اذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعوهم إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فاللّه هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول، من أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها). قال يحيى بن معاذ : يا ابن آدم دعاك اللّه إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه فإن أجبته من دنياك دخلتها وإن أجبته من قبرك منعتها ثم قال : {وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} عمّ بالدعوة إظهاراً لحجته وخصّ بالهداية استغناءً عن خلقه، وقيل : الدعوة إلى الدار عامة لأنها الطريق إلى النعمة وهداية الصراط خاصة لأنها الطريق إلى المنعم. ٢٦{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف بن يعقوب الفقيه في آخرين قالوا : حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار. الحسين بن عرفة العبدي حدثني سلم بن سالم البلخي عن نوح عن أُبيّ عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : سئل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن هذه الآية {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فقال : (الذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنّة والزيادة النظر إلى وجه اللّه الكريم). وهو قول أبي بكر الصديق (ح) وحذيفة وأبي موسى وصهيب وعبادة بن الصامت وكعب ابن عجرة وعامر بن سعد وعبد الرحمن بن سابط والحسن وعكرمة وأبي الجوزاء والضحاك والسدي وعطاء ومقاتل، يدلّ عليه : ما أخبرنا أبو إسحاق بن الفضل القهندري أخبرنا أبو علي الصفار. الحسن بن عرفة. يزيد ابن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال : قال : رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن : يا أهل الجنة إن لكم عند اللّه موعداً لم تروه، قال : فيقولون وما هو؟ ألم تبيّض وجوهنا وتزحزحنا عن النار وتدخلنا الجنة. قال : فيكشف الحجاب تبارك وتعالى فينظرون إليه قال : فواللّه ما أعطاهم اللّه شيئاً أحب إليهم منه. قال ابن عباس : الذين أحسنوا الحسنى يعني الذين شهدوا أن لا إله إلاّ اللّه الجنة. وروى عطية عنه هي أن واحدة من الحسنات واحدة والزيادة التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وروى جويبر عن الليث عن عبد الرحمن بن سابط قال : الحسنى : النظرة، والزيادة : النظر. قال اللّه تعالى : {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} . وروى الحكم عن علي بن أبي طالب (ح) قال : الزيادة غرفة من لؤلؤ واحدة لها أربعة ألف باب. مجاهد : الحسنى : حسنة مثل حسنة والزيادة مغفرة من اللّه ورضوان، ابن زيد : الحسنى : الجنة والزيادة ما أعطاهم في الدعاء لا يحاسبهم به يوم القيامة. حكى منصور بن عمار عن يزيد بن شجرة قال : الزيادة : هي أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتمطرهم من كل النوادر، وتقول لهم : ما تريدون ان أُمطركم؟ فلا يريدون شيئاً إلاّ مطرتهم. {وَلا يَرْهَقُ} يغشى ويلحق {وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} غبار وهو جمع قترة. قال الشاعر : متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقترا وقال ابن عباس وقتادة : سواد الوجوه، وقرأ الحسن : قتر بسكون التاء وهما لغتان كالقدْر والقدَر {وَلا ذِلَّةٌ} هوان، وقال قتادة : كآبة وكسوف. قال ابن أبي ليلى : هذا بعد نظرهم إلى ربهم ٢٧{أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاءُ سيئة بمثلها} يجوز أن يكون الجزاء مرفوعاً بإضمار أي : لهم جزاء، ويجوز أن يكون مرفوعاً بالياء، فيجوز أن يكون إبتداء وخبره بمثلها أي : مثلها بزيادة الباء فيها كقولهم : بحسبك قول السوء. {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّه} من عذاب اللّه {مِنْ عَاصِمٍ} أي من مانع، ومن صلة {كَأَنَّمَآ أُغْشِيَتْ} أُلبست {وُجُوهُهُمْ قِطَعًا} أكثر القراء على فتح الطاء وهو جمع قطعة ويكون (مظلماً) على هذه القراءة نصباً على الحال والقطع دون النعت كأنه أراد قطع من الليل المظلم فلما حذف الألف واللام نصب. يجوز أن يكون مظلماً صفة لقطع وسط الكلام كقول الشاعر : لو أن مدحة حي منشر أحداً وقرأ أبو جعفر والكسائي وابن كثير {قِطَعًا} بإسكان الطاء وتكون {مُظْلِمًا} على هذا نعت كقوله : بقطع من الليل، إعتباراً بقراءة أُبيّ : كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم ٢٨{أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم} اثبتوا وقِفوا في موضعكم ولا تبرحوا {أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ} يعني الأوثان {فَزَيَّلْنَا} ميّزنا وفرقنا بين المشركين وشركائهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا بذلك حين (اتخذوا) كل معبود من دون اللّه من خلقه {وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} يقولون بلى كنا نعبدكم فيقول الأصنام : ٢٩{فَكَفَى بِاللّه شَهِيدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ} أي ما كنا عن عبادتكم إيّانا إلاّ غافلين، ٣٠ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل. قال اللّه تعالى : {هُنَالِكَ تَبْلُوا} أي تخبر وقيل : تعلم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى وحمزة والكسائي (تبلوا) بالتاء، وهي قراءة ابن مسعود في معنى : وتقرأ. {كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} صحيفتها، وقيل : معناه تتبع ما قدمت من خير وشرّ، وقال ابن زيد (تعاون) {وَرُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ} (بطل) {عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (من الآلهة) ٣١{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ} المطر {والأرض} النبات {أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَابْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ اللّه} الذي فعل هذه الأشياء {فَقُلْ أفلا تتقون} أفلا تخافون عقابه في شرككم ٣٢{فَذَالِكُمُ اللّه} الذي يفعل هذه الأشياء {رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} فمن أين تصرفون عن عبادته وأنتم مقرّون ٣٣{ كذلك } فسرها الكلبي هكذا في جميع القرآن {حَقَّتْ} وجبت {كَلِمَتُ رَبِّكَ} حكمه وعلمه السابق. وقرأ الأعرج : كلمات {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} كفروا ٣٤{أنهم لا يؤمنون قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق} ينشىء من غير أصل ولا (مثال) {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يحييه بهيئته بعد الموت (أي قل لهم يا محمد ذلك على وجهة التوبيخ والتقرير) فإن أجابوك وإلاّ {قُلِ اللّه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} تصرفون عن قصد السبيل ٣٥{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآكُم} أوثانكم {مَّن يَهْدِى} يرشد {إِلَى الْحَقِّ} فإذا قالوا : لا، فلابدّ لهم منه {قُلِ اللّه يَهْدِى لِلْحَقِّ} أي إلى الحق {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّى} . اختلف القراء فيه، فقرأ أهل المدينة : مجزومة الهاء مشدّدة الدال لأن أصله يهتدي فأُدغمت التاء في الدال وتركت الهاء على (السكون) في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله : (تعدّوا وتخصّمون). وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الهاء وتشديد الدال وقلبت الياء المدغمة الى الهاء، فاختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ عاصم وورش بكسر الهاء وتشديد الدال فراراً من إلتقاء الساكنين. (لأن الجزم إذا اضطر إلى حركته) تحول إلى الكسر. قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر. وروى يحيى ابن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الهاء والياء وتشديد الدال (لإتباع) الكسر الكسر وقيل : هو على لغة من يقرأ نعبد ونستعين ولن تمسّنا النار ونحوها، وقرأ أبو عمرو بين الفتح والجزم على مذهبه في الإخفاء، وقرأ حمزة والكسائي وخلف : بجزم الهاء وتخفيف الدال على معنى يهتدي، يقال : هديته فهدى أي اهتدى فقال : خبرته فخبر ونقصته فنقص. {إِلا أَن يُهْدَى} في معنى الآية وجهان : فصرفها قوم إلى الرؤساء والمظلين. أراد لا يرشدون إلاّ أن يرشدوا وحملها الآخرون على الأصنام، قالوا : وجه الكلام والمعنى لا يمشي إلاّ أن يحمل وينتقل عن مكانه إلاّ أن ينقل كقول الشاعر : للفتى عقل يعيش به حيث تهدي ساقه قدمه يريد حيث يحمل {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} تقضون لأنفسكم ٣٦{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا} منهم إنها آلهة وأنها تشفع لهم في الآخرة وأراد بالأكثر الكل {إِنَّ الظَّنَّ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شيئا إِنَّ اللّه عَلِيمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} . ٣٧{وَمَا كَانَ هذا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّه} قال الفراء : معناه وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَغُلَّ} وقوله : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً} ، وقال الكسائي : أن في محل نصب الخبر ويفترى صلة له وتقديره : وما كان هذا القرآن مفترى، وقيل : أن بمعنى اللام أي وما كان القرآن ليفترى من دون اللّه {وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} تمييز الحلال من الحرام والحق من الباطل ٣٨{رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي يقولون. قال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه، اختلق محمّد القرآن من قبل نفسه. {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} شبيه القرآن وقرأ ابن السميقع : بسورة مثله مضافة، فتحتمل أن تكون الهاء كناية عن القرآن وعن الرسول {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم} ممن تعبدون {مِّن دُونِ اللّه} ليعينوكم على ذلك، وقال ابن كيسان : وادعوا من استطعتم على المخالفة ليعينوكم، وقال مجاهد : شهداءكم بمعنى ناساً يشهدون لكم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} إنَّ محمداً افتراه. ٣٩ثم قال : {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} يعني القرآن {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} تفسيره. وقال الضحاك : يعني عاقبته وما وعد اللّه في القرآن انه كائن من الوعيد والتأويل ما يؤول إليه الأمر. وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد في القرآن (من جهل شيئاً عاداه؟) فقال : نعم في موضعين {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} ، وقوله : {وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} { كذلك كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من كفار الأمم الخالية {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي كما كذب هؤلاء المشركون بالقرآن كذلك كذب في هذا وبشّر المشركون بالهلاك والعذاب ٤٠{وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} أي ومن قومك من سيؤمن بالقرآن {وَمِنْهُم مَّن لا يُؤْمِنُ بِهِ} لعلم اللّه السابق فيهم {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} الذين لا يؤمنون ٤١{وَإِن كَذَّبُوكَ} يامحمد {فَقُل لِّى عَمَلِى} الإيمان {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} الشرك {أَنتُم بَرِي ُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} . قال مقاتل والكلبي : هذه الآية منسوخة بآية الجهاد، ثم أخبر أن التوفيق للإيمان به لا بغيره، وأن أحداً لا يؤمن إلاّ بتوفيقه وهدايته، وذكر أن الكفار يستمعون القرآن وقول محمد (صلى اللّه عليه وسلم) فينظرون إليه ويرون أعلامه وأدلته على نبوته ولا ينفعهم ذلك ولا يهتدون لإرادة اللّه وعلمه فيهم فقال : ٤٢{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بأسماعهم الظاهرة {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ} بأبصارهم الظاهرة ٤٣{أَفَأَنتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُوا يُبْصِرُونَ} وهذا تسلية من اللّه تعالى لنبيّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول ما لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع، ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصراً يهتدي به فكذلك لا تقدر أن توفقهم للإيمان وقد حكمت عليهم أن لا يؤمنوا ٤٤{إِنَّ اللّه يَظْلِمُ النَّاسَ شيئا} لأنه في جميع أفعاله عادل. {وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والمعصية وفعلهم ما ليس لهم أن يفعلوا (وألزمهم) ما ليس للفاعل أن يفعله. ٤٥{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا} قال الضحاك : كأن لم يلبثوا في الدنيا {إِلا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ} قصرت الدنيا في أعينهم من هول ما استقبلوا، وقال ابن عباس : كأن لم يلبثوا في قبورهم إلاّ قدر ساعة من النهار {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} حين بعثوا من القبور يعرف بعضهم بعضاً كمعرفتهم في الدنيا ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة ٤٦{قد خسر الذين كذّبوا بلقاء اللّه وما كانوا مهتدين وإما نرينك} يا محمد في حياتك {بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ} من العذاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل ذلك {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} في الآخرة {ثُمَّ اللّه شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} مجزيهم به. قال المفسرون : فكان البعض الذي أراهُ قبلهم ببدر وسائر العذاب بعد موتهم ٤٧{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} خلت {رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ} فكذبوه {قُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} أي عذبوا في الدنيا واهلكوا بالحق والعدل. وقال مجاهد ومقاتل : فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضى بينه وبينهم بالقسط {وَهُمْ يُظْلَمُونَ} لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقصون من حسناتهم ويزادوا على سيئاتهم ٤٨{وَيَقُولُونَ} أي المشركون {مَتَى هذا الْوَعْدُ} الذي وعدتنا يا محمد من العذاب. وقيل : قيام الساعة {إِن كُنتُمْ} أنت يا محمد وأتباعك ٤٩{صادقين قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً} لا أقدر لها على ضرّ ولا نفع {إِلا مَا شَآءَ اللّه} أن أملكه {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} مدة (وأجل) {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} وقت (انتهاء) أعمارهم {فَلا يَسْتَأْخِرُونَ} يتأخرون ساعة ٥٠{ولا يستقدمون قل} لهم {إِنْ أتاكم عَذَابُهُ} اللّه {بَيَاتًا} ليلا {أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} المشركون وقد وقعوا فيه ٥١{أَثُمَّ} هنالك وحينئذ، وليس بحرف عطف {إِذَا مَا وَقَعَ} نزل العذاب {بِهِ ءَآلَ انَ} صدقتم بالعذاب في وقت نزوله. وقيل : بأنه في وقت البأس {ءَآلَْ انَ} فيه إضمار أي، وقيل : أنّهم الآن يؤمنون {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} وتكذبون ٥٢{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ} اليوم {إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} في الدنيا. ٥٣{وَيَسْتَنبِئُونَكَ} ويستخبرونك يا محمد {أَحَقٌّ هُوَ} ما تعدنا من العذاب وقيام الساعة {قُلْ إِى} كلمة تحقيق {وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ} لا شك فيه {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} فأتيقن ٥٤{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أشركت {مَا فِى الأرض فْتَدَتْ بِهِ} يوم القيامة {وَأَسَرُّوا} وأخفوا {النَّدَامَةَ} على كفرهم {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} وفرغ من عذابهم ٥٥-٥٧{وهم لا يظلمون ألا إن للّه ما في السموات والأرض ألا إن وعد اللّه حق} إلى قوله {قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ} تذكرة {مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ} ودواء {لِّمَا فِى الصُّدُورِ} إلى قوله تعالى : ٥٨{قُلْ بِفَضْلِ اللّه وَبِرَحْمَتِهِ} . قال أبو سعيد الخدري : فضل اللّه القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله. وقال ابن عمر : فضل اللّه الإسلام وبرحمته تزيينه في القلب. خالد بن معدان : فضل اللّه الإسلام وبرحمته السنّة. الكسائي : فضل اللّه النعم الظاهرة، ورحمته النعم الباطنة. بيانه : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة. أبو بكر الوراق : فضل اللّه النعماء وهو ما أعطى وجنى ورحمته الآلاء وهي ما صرف. وروى ابن عيينة فضل اللّه التوفيق ورحمته العصمة. سهل بن عبد اللّه : فضل اللّه الإسلام ورحمته السنّة. الحسين بن الفضل : فضل اللّه الإيمان ورحمته الجنة. ذو النون المصري : فضل اللّه دخول الجنان ورحمته النجاة من النيران. عمر بن عثمان الصدفي : فضل اللّه كشف الغطاء ورحمته الرؤية واللقاء. وقال هلال بن يساف ومجاهد وقتادة : فضل اللّه الإيمان ورحمته القرآن {فَ بذلك فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} من الأموال قرأ العامة كلاهما بالياء على الخبر، وقرأهما أبو جعفر : بالتاء وذكر ذلك عن أبي بن كعب، وقرأ الحسين ويعقوب : فلتفرحوا بالتاء خطاباً للمؤمنين يدل عليه قول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في بعض مغازيه (لتأخذوا (مصافكم) ويجمعون) بالياء خبراً عن الكافرين ٥٩{قُلْ} يا محمد لكفار مكة {أَرَءَيْتُم مَّآ أَنزَلَ اللّه} خلق اللّه {لَكُمُ} عبّر عن الخلق بالإنزال لأن ما في الأرض من خيراتها أنزل من السماء {مِّن رِّزْقٍ} زرع أو ضرع {فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالا} وهو ما حرموا من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. قال الضحاك : هو قوله تعالى : {وجعلوا مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً} الآية {قل آللّه أذن لكم} في هذا التحريم والتحليل {أَمْ} بل {عَلَى اللّه تَفْتَرُونَ} وهو قولهم : اللّه أمرنا بها ٦٠{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أيحسبون أن اللّه لا يؤاخذهم ولا يعاتبهم عليه {إِنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} منّ على الناس حين لا يعجل عليهم بالعذاب بافترائهم ٦١{ولكن أكثرهم لا يشكرون وما تكون في شأن} عمل من الأعمال، وجمعه : شؤون، قال الأخفش : يقول العرب ما شأنك شأنه، أي لمّا عملت على عمل {وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ} من اللّه {مِنَ الْقُرْءَانِ} ثم خاطبه وأمته جميعاً فقال : {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تأخذون وتدخلون فيه، والهاء عائدة على العمل، يقال : أفاض فلان في الحديث وفي القول إذا أبدع فيه. قال الراعي : وأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الأبارق إذ رعين حقيلا قال ابن عباس : تفيضون تفعلون، الحسن : تعملون، الأخفش : تكلمون، المؤرّخ : تكثرون، ابن زيد : تخرصون. ابن كيسان : تنشرون. يقال : حديث مستفيض، وقيل : تسعون. وقال الضحاك : الهاء عائدة إلى القرآن أي تستمعون في القرآن من الكذب. قيل : من شهد شهود الحق قطعاً ذلك عن مشاهدة الأغيار أجمع {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} قال ابن عباس : فلا يغيب، أبو روق : يبعد، وقال ابن كيسان يذهب. وقرأ يحيى والأعمش والكسائي : يعزب بكسر الزاء وقرأ الباقون : بالضم وهما لغتان (صحيحتان) {مِن مِّثْقَالِ} من صلة معناه وما يعزب عن ربك مثقال ذرة أو وزن ذرة (وهي النملة الحمراء الصغيرة)، يقول العرب : (خذ) هذا، فإنهما أثقل مثقالا وأخفها مثقالا أي وزناً {فِي الأرض وَلا فِى السَّمَآءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ} قرأ الحسن وابن أبي يحيى وحمزة برفع الراء فيهما عطفاً على موضع المثقال فبرّر دخول من، وقرأ الباقون بفتح الراء عطفاً على الذرة ولا مثقال أصغر وأكبر {إِلا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} بمعنى اللوح المحفوظ. قال الضحاك : هو قوله تعالى : {وجعلوا مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً} الآية {قل آللّه أذن لكم} في هذا التحريم والتحليل {أَمْ} بل {عَلَى اللّه تَفْتَرُونَ} وهو قولهم : اللّه أمرنا بها {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أيحسبون أن اللّه لا يؤاخذهم ولا يعاتبهم عليه {إِنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} منّ على الناس حين لا يعجل عليهم بالعذاب بافترائهم {ولكن أكثرهم لا يشكرون وما تكون في شأن} عمل من الأعمال، وجمعه : شؤون، قال الأخفش : يقول العرب ما شأنك شأنه، أي لمّا عملت على عمل {وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ} من اللّه {مِنَ الْقُرْءَانِ} ثم خاطبه وأمته جميعاً فقال : {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تأخذون وتدخلون فيه، والهاء عائدة على العمل، يقال : أفاض فلان في الحديث وفي القول إذا أبدع فيه. قال الراعي : وأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الأبارق إذ رعين حقيلا قال ابن عباس : تفيضون تفعلون، الحسن : تعملون، الأخفش : تكلمون، المؤرّخ : تكثرون، ابن زيد : تخرصون. ابن كيسان : تنشرون. يقال : حديث مستفيض، وقيل : تسعون. وقال الضحاك : الهاء عائدة إلى القرآن أي تستمعون في القرآن من الكذب. قيل : من شهد شهود الحق قطعاً ذلك عن مشاهدة الأغيار أجمع {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} قال ابن عباس : فلا يغيب، أبو روق : يبعد، وقال ابن كيسان يذهب. وقرأ يحيى والأعمش والكسائي : يعزب بكسر الزاء وقرأ الباقون : بالضم وهما لغتان (صحيحتان) {مِن مِّثْقَالِ} من صلة معناه وما يعزب عن ربك مثقال ذرة أو وزن ذرة (وهي النملة الحمراء الصغيرة)، يقول العرب : (خذ) هذا، فإنهما أثقل مثقالا وأخفها مثقالا أي وزناً {فِي الأرض وَلا فِى السَّمَآءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ} قرأ الحسن وابن أبي يحيى وحمزة برفع الراء فيهما عطفاً على موضع المثقال فبرّر دخول من، وقرأ الباقون بفتح الراء عطفاً على الذرة ولا مثقال أصغر وأكبر {إِلا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} بمعنى اللوح المحفوظ. ٦٢-٦٤{أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللّه خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ثم وصفهم فقال {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} قال ابن زيد : فلن يقبل الإيمان إلاّ بالتقوى، واختلفوا فيمن يستحق هذا الاسم. فروى سعيد بن جبير عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنّه سئل عن أولياء اللّه تعالى فقال : (هم الذين يذكر اللّه لرؤيتهم). وقال عمر (ح) في هذه الآية : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : إن من عباد اللّه عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بإيمانهم عند اللّه تعالى، قالوا : يا رسول اللّه خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبّهم؟ قال : هم قوم تحابوا في اللّه على غير أرحام منهم ولا أموال يتعاطونها، واللّه ان وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ {ألا إن أَوْلِيَآءَ اللّه خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} . قال علي بن أبي طالب (ح) : أولياء اللّه قوم صفر الوجوه من السهر (عُمش) العيون من العبر خمص البطون من الخواء يبس الشفاه من الذوي. وقال ابن كيسان : (هم الذين) تولى اللّه هداهم بالبرهان الذي أتاهم وتولّوا القيام بحقّه والدعاء إليه. {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَ فى الآخرة} . عن عبادة بن الصامت قال : سألت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) عن قول اللّه عزّ وجلّ : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَفى الآخرة} . قال : (هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له). وعن عطاء بن يسار عن أبي الدرداء أنه سئل عن هذه الآية {لَهُمُ الْبُشْرَى} قال : لقد سألت عن (شيء) ما سمعت أحداً سأل عنه بعد أن سألت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما سألني عنها أحد قبلك منذ نزل الوحي، هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وفي الآخرة الجنة). وعن يمان بن عبيد الراسبي قال : حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا نبوة بعدي إلاّ المبشرات). قيل : يا رسول اللّه وما المبشرات؟ . قال : (الرؤيا الصالحة). محمد بن سيرين عن أبي هريرة (ح) قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً قال : والرؤيا ثلاثة : فرؤيا بشرى من اللّه ورؤيا من الشيء يحدث الرجل به نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان، والرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. فإذا رأى أحدكم ما يكره فلا يقصّه فليقم وليصل، قال : وأحبّ القيد في النوم وأكره الغل، القيد ثبات في الدين). وقال عبادة بن الصامت : قلت : يا رسول اللّه الرجل يحبّه القوم لعمله ولا يعمل مثل عمله. قال (صلى اللّه عليه وسلم) (تلك عاجل بشرى المؤمن). وقال الزهري وقتادة : هي البشارة التي يبشر بها المؤمن بالدنيا عند الموت، وقال الضحاك : هي أن المؤمن يعلم أين هو قبل أن يموت، وقال الحسن : هي ما بشرهم اللّه به في كتابه، جنته وكرم ثوابه لقوله تعالى : {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا} {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} . وقال عطاء : لهم البشرى في الحياة الدنيا عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة والبشارة من اللّه وتأتي أعداء اللّه بالغلظة والفظاظة في الآخرة ساعة خروج نفس المؤمن تعرج بها إلى اللّه كما تزف العروس تبشر برضوان من اللّه، قال اللّه تعالى : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَاكَةُ طَيِّبِينَ} الآية قال ابن كيسان : هي ما بشرهم اللّه في الدنيا بالكتاب والرسول بأنّهم أولياء اللّه وتبشرهم في قبورهم وفي كتابهم الذي فيه أعمالهم بالجنة. وسمعت أبا بكر محمد بن عبد اللّه الجوزقي يقول : رأيت أبا أحمد الحافظ في المنام راكباً برذوناً وعليه طيلسان وعمامة فسلمت عليه وسلم عليَّ فقلت له : أيها الحاكم نحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، فعطف عليَّ وقال لي : ونحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، قال اللّه تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَفى الآخرة} الثناء الحسن، وأشار بيده {تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّه} لا تغيير لقوله ولا خلف لوعده. روى ابن عليَّة عن أيوب عن نافع. قال : أطال الحجاج الخطبة فوضع ابن عمر رأسه في حجري. فقال الحجاج : إن ابن الزبير بدّل كتاب اللّه، فقعد ابن عمر فقال : لا تستطيع أنت ذلك ولا ابن الزبير. {تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّه} . فقال الحجاج : لقد رأيت حلماً وسكت (لقد أُوتيت علماً أن تفعل، قال أيوب : فلما أقبل عليه في خاصة نفسه سكت). ٦٥{ ذلك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ} يعني قول المشركين، تمّ الكلام ها هنا. ثم قال مبتدئاً : {إِنَّ الْعِزَّةَ} القدرة {للّه جَمِيعًا} وهو المنتقم منهم. قال سعيد بن المسيب : أنَّ العزة للّه جميعاً يعني أن اللّه يعز من يشاء كما قال في آية أخرى : {للّه العزة ولرسوله وللمؤمنين} ، وعزة الرسول والمؤمنين منّاً للّه فهي كلها للّه قال اللّه : {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} ٦٦{هو السميع العليم ألا إن للّه من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء} هو ما الاستفهام يقول وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء يعني أنهم ليسوا على شيء، وقراءة السلمي : يدعون بالتاء أي ما تصنع شركاؤكم في الآخرة {إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} يعني ظنوا أنها تشفع لهم يوم القيامة، ويقربهم إلى اللّه زلفى ٦٧{وإن هم إلاّ يخرصون هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا} لتهدأوا وتقروا وتستريحوا {فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} مضيئاً يبصر فيه كقولهم : ليل نائم وسرّ كاتم وماء دافق وعيشة راضية، وقال جرير : لقد لمتنا يا أُمّ غيلان في السرى ونمت وما ليل المطيّ بنائم وقال قطرب : يقول العرب : أظلم الليل وأضاء النهار فأبصر، أي صار ذا ظلّة وضياء وبصر. {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} المواعظ فيعتبرون ٦٨{قَالُوا} يعني المشركين {اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا} هو قولهم : الملائكة بنات اللّه {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} عن خلقهما {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَان بهذا } (ما عندكم من حجة) وبرهان بهذا، إنما سميتموها جهلاً بها سلطاناً (ولا يمكن) التمسك بها ٦٩{أتقولون على اللّه ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون} . قال الكلبي : لا يؤمنون، وقيل : لا ينجون، وقيل : لا يفوزون، وقيل : لا يبقون في الدنيا ولكن ٧٠{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} يتمتعون به متاعاً وينتفعون به إلى وقت انقضاء أجلهم، ومتاع رفع بإضمار أي لهم متاع، قاله الأخفش، وقال الكسائي : متاع في الدنيا. {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} . ٧١{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} اقرأ يا محمد على أهل مكة {نَبَأَ} خبر {نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ولد وأهل {يا قوم إن كان كبُر} عظُم وثقل وشق {عَلَيْكُم مَّقَامِى} فلو شق مكثي بين أظهركم {وَتَذْكِيرِى} ووعظي إياكم {وَلا تَكُونَنَّ} بحججه وبيناته فعزمتم على قتلي أو طردي {فَعَلَى اللّه تَوَكَّلْتُ} فباللّه وثقت {فَأَجْمِعُوا} قرأه العامة بقطع الألف وكسر الميم أي فأعدوا وأبرموا وأحكموا {أَمْرَكُمْ} فاعزموا عليه. قال المؤرخ : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه، وأنشد : يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوماً وأمري مجمع وقرأ الأعرج والجحدري موصولة مفتوحة الميم من الجمع اعتباراً بقوله فجمع كيده، وقال أبو معاذ : ويجوز أن يكون بمعنى وأجمعوا أي فأجمعوا واحد يقال : جمعت وأجمعت بمعنى واحد. قال أبو ذؤيب : (عزم عليه كأنه جمع نفسه له، والأمر مجمع) {شُرَكَآكُم} فيه إضمار أي : وادعوا شركاءكم أي آلهتكم فاستعينوا، وكذلك في مصحف أُبي؛ وادعوا شركاءكم، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب : وشركاؤكم رفعاً على معنى : فأجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم، أي وليجمع معكم شركاؤكم، واختار أبو عبيد وأبو حاتم النصب لموافقة الكتاب وذلك أنه ليس فيه واو. {ثُمَّ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي خفياً مظلماً ملتبساً مبهماً من قولهم : غمّ الهلال على الناس إذا أشكل عليهم فلم يتبيّنوه، قال طرفة : لعمرك ما أمري عليّ بغمّة نهاري وما ليلي عليَّ بسرمد وقيل : هو من الغمّ لأن الصدر يضيق فلا يتبين صاحبه لأمره مصدراً ينفرج عنه ما بقلبه، قالت الخنساء : وذي كربة راخى ابن عمرو خناقه وغمته عن وجهه فتجلت {ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ} أي آمنوا إلى ما في أنفسكم أو افرغوا منه، يقال : قضى فلان إذا مات ومضى وقضى منه إذا فرغ منه. وقال الضحاك : يعني انهضوا إليَّ، وحكى الفراء عن بعض القرّاء : افضوا إليَّ بالفاء، أي توجهوا حتى تصلوا إليَّ، كما يقال أنصت (الخلائق) إلى فلان وأفضى إلى الوجه {وَلا تُنظِرُونِ} ولا تؤمرون، وهذا إخبار من اللّه تعالى عن نبيه نوح (عليه السلام) أنه كان من نصر اللّه واثقاً ومن كيد قومه وبوائقهم غير خائف علماً منه بأنهم وآلهتهم لا تنفع ولا تضر شيئاً إلاّ أن يشاء اللّه، وتعزية لنبيه محمد (صلى اللّه عليه وسلم) وتقوية لقلبه ٧٢{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن قولي وأبيتم أن تقبلوا نصحي {فَمَا سَأَلْتُكُم} على الدعوة وتبليغ الرسالة من أجل جعل وعوض {إِنْ أَجْرِىَ} ما جزائي وثوابي ٧٣{إلاّ على اللّه وأُمرت أن أكون من المسلمين فكذبوه} يعني نوحاً {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَل افَ} سكان الأرض خلفاً عن الهالكين {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَل افَ وَأَغْرَقْنَا} يعني (أخزى) من الذين أنذرتهم الرسل ولم يؤمنوا ٧٤{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} أي من بعد نوح {رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات} بالآيات والأمر والنهي {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} ليصدقوا {بِمَا كَذَّبُوا} بما كذبت {بِهِ} وأنّهم {مِن قَبْلُ كذلك نَطْبَعُ} نختم {عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} المجاوزين الحلال إلى الحرام ٧٥{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} أي من بعد نوح {وَهَارُونَ إِلَى فرعون وملأه } يعني أفراد قومه ٧٦{بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين فلما جاءهم} يعني فرعون وقومه ٧٧{الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لمّا جاءكم أسحر هذا} تقدير الكلام : أتقولون للحق لما جاءكم سحراً سحر هذا الحذف السحر الأول، فدلالة الكلام عليه كقوله : {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُئُوا وُجُوهَكُمْ} المعنى : يغشاكم ليسوؤا وجوهكم. وقال ذو الرمّة : فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح أي : أو حين أقبل ٧٨{ولا يفلح الساحرون قالوا} يعني فرعون وقومه {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} لتلوينا وتصرفنا {عما وجدنا عليه آبائنا} من الدين {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ} الملك والسلطان {فِى الأرض} أرض (مصر) ٧٩-٨١{وما نحن لكما بمؤمنين وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر} أي الذي جئتم به السحر. وقراءة مجاهد وأبو عمر وأبو جعفر : السحر بالمد على الإستفهام، ودليل قراءة العامة قراءة ابن مسعود : ما جئتم به السحر وقراءة أُبيّ : ما أتيتم به سحر ٨٢-٨٣{إنَّ اللّه سيبطله إن اللّه لا يصلح عمل المفسدين ويحق اللّه الحق بكلماته ولو كره المجرمون فما آمن لموسى} لم يصدق موسى مهما آتاهم من الحجج {إِلا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} فقال قوم : هي راجعة إلى موسى وأراد بهم مؤمني بني إسرائيل. قال ابن عباس : كانوا ستمائة ألف وذلك أن يعقوب (عليه السلام) دخل مصر في اثني وسبعين إنساناً فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف. وقال مجاهد : أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى إلى بني إسرائيل لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء، وقال آخرون : الهاء راجعة إلى فرعون. روى عطية عن ابن عباس : هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته. وروي عن ابن عباس من وجه آخر : أنهم سبعون أهل بيت من القبط من آل فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله. قال الفراء : وإنما سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل، كما يقال لأولاد أهل فارس الذين انتقلوا إلى اليمن الأبناء، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم والذرية العقب من الصغار والكبار {على خوف من فرعون وملائهم} يريد الكناية في قومه إلى فرعون، ردّ الكناية في قوله : وملائهم، إلى الذرية، ومن رد الكناية إلى موسى يكون : إلى ملأ فرعون. قال الفراء : وإنما قال : بالجمع وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى أصحابه. (فيكون من باب حذف المضاف) وذكر وهب بن منبه، (أنه) إليه وإلى عصابته كما يقال : قدم الخليفة تريد والذين معه، ويجوز أن يكون أراد بفرعون آل فرعون (كقوله تعالى) : {اسأل القرية} و {يا أيّها النبي إذا طلّقتم} {أَن يَفْتِنَهُمْ} بصرفهم عن دينهم، ولم يقل : يفتنوهم؛ لأنّه أخبر أنّ فرعون وقومه كانوا على (الضلال). {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} (من المجاوزين الحدّ في العصيان والكفر) لأنّه كان قد ادّعى الربوبية ٨٤{وَقَالَ مُوسَى} لمؤمني قومه : {يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكّلوا إن كنتم مسلمين} ٨٥{فَقَالُوا عَلَى اللّه تَوَكَّلْنَا} . ثم دعوا فقالوا : {رَبَّنَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال أبو مجلز : (ربّنا لا تظهر فرعون وقومه) علينا فيروا أنّهم خير منا فيزدادوا طغياناً. وقال عطية : لا تسلّطهم علينا فيسيئون ويقتلون. وقال مجاهد : لا تعذّبنا بأيدي قوم (ظالمين ولا تعذّبنا) بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون : لو كانوا على حق لما عُذّبوا، ولا تسلّطنا عليهم فيفتتنوا ٨٦-٨٧{ونجّنا برحمتك من القوم الكافرين وأوحينا إلى موسى وأخيه} (أمرناهما) {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} يقال : تبوّأ فلان لنفسه بيتاً (والمبوأ المنزل ومنه بوّأه اللّه منزلا) إذا اتخذه له. {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال أكثر المفسّرين : كانت بنو إسرائيل لا يصلّون إلاّ في كنائسهم وبيعهم، وكانت ظاهرة، فلما أُرسل موسى أَمرَ فرعون بمساجد بني إسرائيل فخرّبت، ومنعهم من الصلاة، فأُمروا أن يتّخذوا مساجد لهم يصلّون فيها خوفاً من فرعون، وهذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وهي كذلك، ورواية عكرمة عن ابن عباس. قال مجاهد وخلف : (قال موسى) لمن معه من قوم فرعون أن صلّوا إلى الكنائس الجامعة، فأُمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة للكعبة فيصلّون فيها سرّاً. ومعنى البيوت هنا (يكون) المساجد. وتقدير الآية : واجعلوا بيوتكم إلى القبلة. وهذا رواية ابن جريج عن ابن عباس، قال : كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه. قال سعيد بن جبير : معناه : واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً، والقبلة الوجهة. {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ} يا محمد. ٨٨{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَهُ زِينَةً} من متاع الدنيا وأثاثها. مقاتل : شارة حسنة، لقوله : {فخرج على قومه بزينته} {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَهُ زِينَةً} . اختلفوا في هذه اللام فقال بعضهم هي لام (كي) ومعناه (أعطيتهم لكي يضلّوا ويبطروا ويتكبّروا) لتفتنهم بها فيضلّوا ويُضلّوا إملاءً منك، وهذا كقوله تعالى : {فأسقيناهم ماءاً غدقاً لنفتنهم فيه} ، وقيل : هي لام العاقبة ولام الصيرورة يعني أعطاهم ليضلّوا (......) آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً، وقيل : هي لام أي آتيتهم لأجل ضلالهم عقوبة لهم كقوله : {سَيَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} أي لأجل إعراضكم عنهم، ولم يحلفوا لتعرض عنهم. {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} ، قال عطية ومجاهد : أعفها، فالطمس : المحو والتعفية، وقال أكثر المفسرين : امسخها وغيّرها عن هيئتها، قال محمد بن كعب القرضي : جعل سكّتهم حجارة، وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم صارت حجارة، وقال ابن عباس : إن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأثلاثاً وأنصافاً. قال ابن زيد : صارت حجارة ذهبهم، ودراهمهم وعدسهم وكل شيء، وقال السدّي : مسخ اللّه أموالهم حجارة، النخل والثمار والدقيق والأطعمة، وكانت احدى الآيات التسع. {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} يعني : واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان. {فَلا يُؤْمِنُوا} قيل : هو نصب جواب الدعاء بالفاء، وقيل : عطف على قوله : (ليُضلوا). قال الفراء : هو دعاء ومحله جزم كأنه : اللّهم فلا يؤمنوا وقيل : معناه فلا آمنوا. ٨٩{قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} (وقرأ علي والسملي : (دعواتكما) بالجمع وقرأ ابن السميقع : قد أجبت دعوتكما) خبراً عن اللّه تعالى. كقول الأعشى : فقلت لصاحبي لا تعجلانا بنزع أصوله واجتز شيحاً {فَاسْتَقِيمَا} على الرسالة والدعوة، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم عقاب اللّه. قال ابن جريج : مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة. {وَلا تَتَّبِعَآنِّ} نهي بالنون الثقيلة ومحله جزم ويقال في الواحد لا تتبعَنْ، فيفتح النون لالتقاء الساكنين، وتكسر في التثنية لهذه العلة. وقرأ ابن عامر بتخفيف النون لأن نون التوكيد تُثقّل وتخفف. {سَبِيلَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} يعني : ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلان قضائي؛ فإن قضائي ووعدي لا خلف لهما، ووعيدي نازل بفرعون وقومه. ٩٠{وَجَاوَزْنَا بِبنى إسرائيل الْبَحْرَ} الآية، وذلك أنّ اللّه تعالى أمر موسى (عليه السلام) أن يخرج ببني إسرائيل من مصر و (تَبَعا) بنو إسرائيل من القبط (فأخرجهم) بعلة عرس لهم وسرى بهم موسى وهم ستمائة ألف وعشرون ألفاً لا يُعدّ فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة، (إلى البحر وقال لكما) القبط تلك الليلة، فتتبعوا بني إسرائيل حتى أصبحوا وهو قوله : {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} بعدما دفنوا أولادهم، فلمّا بلغ فرعون ركب (البحر) ومعه ألف ألف وستمائة ألف. قال محمد بن كعب : كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشهبان، وكان (........) وكان هارون على مقدمة بني إسرائيل وموسى في الساقة، فلمّا انتهوا إلى البحر وقربت منهم مقدمة فرعون مائة ألف رجل، كلٌ قد غطّى أعلى رأسه ببيضة وبيده حربة، وفرعون خلفهم في الدميم، فقالت بنو إسرائيل لموسى : أين ما وعدتنا؟ هذا البحر أمامنا (إن عبرناه) غَرِقنا وفرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا، ولقد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا. فقال موسى : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون، وقال : كلا إنّ معي ربي سيهدين، فأوحى اللّه إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم ينفلق وقال : أنا أقدم منك وأشد خلقاً، فأوحى اللّه تعالى إلى موسى أن كنه وقل : انفلق أبا خالد بإذن اللّه عزّ وجل، ففعل ذلك فانفلق البحر وصار اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق. وكشف اللّه عن وجه الأرض فصارت يابسة وارتفع بين كل طريقين جبل. وكانوا بني عمّ لا يرى بعضهم بعضاً ولا يسمع بعضهم كلام بعض، فقال كل فريق : قد غرق أصحابنا فأوحى اللّه تعالى إلى الجبال من الماء تشبّكي فتشبكت وصارت فيه شبه الخروق فجعل ينظر بعضهم إلى بعض. فلمّا وصل فرعون بجنوده إلى البحر ورأوا البحر بتلك الهيئة قال فرعون : هابني البحر، وهابوا دخول البحر، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، فجاء جبرئيل على فرس وديق وخاض البحر وميكائيل يسوقهم، لا يشذ رجل منهم إلاّ ضمّه إليهم. فلما شمّ أدهم فرعون ريح فرس جبرئيل، وفرعون لا يراه انْسَلّ خلف فرس جبريل ولم يملك فرعون من أمره شيئاً واقتضمت الخيول في الماء، فلما دخل آخرهم البحر وهمّ أولهم أن يخرج انطبق الماء عليهم، فلمّا أدرك فرعون الغرق : {قال آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل} فدسّ جبرئيل في فيه من حمأة البحر، ٩١وقال : {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} . آلْآنَ قال أبو بكر الوراق : قال اللّه لموسى وهارون : {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} حين لم ينفعْه تذكّره وخشيته. قال كعب : لمّا أمسك نيل مصر عن الجري قالت القبط لفرعون : (إن كنت ربّنا فأجرِ لنا الماء)، فركب وأمر جنوده بالركوب وكان مناديه ينادي كل ساعة : ليقف فلان بجنوده قائداً قائداً فجعلوا يقفون على درجاتهم (وقفز) حتى بقي هو وخاصته، فأمرهم بالوقوف حتى بقي في حُجّابه وخُدّامه، فأمرهم بالوقوف وتقدّم وحده بحيث لا يرونه (ونزل عن دابته) ولبس ثياباً أُخر وسجد وتضرع إلى اللّه، فأجرى اللّه تعالى له الماء فأتاه جبرئيل وحده في هيئة مستفت وقال : ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سيد له غيره، فكفر نعمته وجحد حقّه وادعى السيادة دونه؟ (فكتب فرعون : جزاؤه أن يغرق في البحر). فلمّا أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل : ما مات فرعون ولا يموت أبداً، فأمر اللّه تعالى بالبحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصير كأنه ثور فتراءاه بنو إسرائيل، فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتاً أبداً، فذلك قوله تعالى : {وَجَاوَزْنَا} أي قطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جازوه، وقرأ الحسن (وجوزنا، وهما لغتان). {فَأَتْبَعَهُمْ} فأدركهم، يقال : تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه، واتّبعه بالتشديد إذا سار خلفه (واقتدى به) {فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} . {بَغْيًا وَعَدْوًا} ظلماً واعتداءً، يقال : عدا يعدو عدواً مثل : غزا يغزو غزواً، وقرأ الحسن (عُدوّاً) بضم العين وتشديد الواو مثل : علا يعلو عُلوّاً. قال المفسرون : بغياً في القول وعدواً في الفعل. {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} أي أحاط به {قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ} قرأ حمزة والكسائي وخلف إنّه بالكسر أي آمنت وقلت : إنّه، وهي قراءة عبد اللّه. وقرأ الآخرون : أنّ بالفتح لوقوع آمنت عليها، وهي اختيار أبو عبيد وأبي حاتم. {لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} قال جبرئيل {ءَآلَْ انَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (قال لي جبرئيل : ما أبغضت أحداً من عباد اللّه إلاّ أنا أبغضت عبدين أحدهما من الجنّ والآخر من الأنس، فأما من الجنّ فإبليس حين أبى بالسجود لآدم وأما من الإنس ففرعون حين قال : أنا ربكم الأعلى، ولو رأيتني يا محمد وأنا أدسّ الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة). ٩٢{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي نجعلك على نجوة من الأرض وهي النجو : المكان المرتفع، قال أوس بن حجر : فمن بعقوته كمن بنجوته والمستكنّ كمن يمشي بقرواح {بِبَدَنِكَ} بجسدك لا روح فيك. وقال مجاهد والكسائي : البدن هاهنا الدرع وكان دارعاً. قال الأعشى : وبيضاء كالنهى موضونة لها قونس فوق جيب البدى وقرأ عبد اللّه : فاليوم ننجيك ببدنك، أي نلقيك على ناحية البحر. وقيل : شعرك. {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً} عبرة وعظة. وقرأ علي بن أبي طالب (ح) : لمن خلقك (بالقاف)، أي تكون آية لخالقك. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} قال مقاتل : يعني أهل مكة، قال الحسن : هي عامة. {عَنْ ءَايَاتِنَا} عن الإيمان بآياتنا {لَغَافِلُونَ} . ٩٣{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا} أنزلنا {بنى إسرائيل} بعد هلاك فرعون {مُبَوَّأَ} منزل {صِدْقٍ} يعني خير، وقيل الأردن وفلسطين وهي : الأرض المقدسة التي بارك اللّه فيها لإبراهيم وذريته. الضحاك : هي مصر والشام. {وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} الحلالات. {فَمَا اخْتَلَفُوا} يعني اليهود الذين كانوا على عهد النبي محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} البيان بأن محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) يقول صدقاً ودينه حق. وقيل : العلم بمعنى المعلوم لقولهم للمخلوق : خلق، وللمقدور : قدر، وهذا (....... فتم طرف الأمر، قال اللّه.....)، ومعنى الآية فما اختلفوا في محمد حتى جاءهم المعلوم وهو كون محمد (صلى اللّه عليه وسلم) نبياً لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الدين. ٩٤{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} ، الآية، وقد أكثر العلماء في تفسير معنى الآية، قال مقاتل : قالت كفار مكة : إنما ألقى هذا الوحي على لسان محمد شيطان، فأنزل اللّه تعالى : {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} يعني القرآن. {فسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} يخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة رسولا نبياً. وقيل : الخطاب للرسول (صلى اللّه عليه وسلم) والمراد به غيره من الشاكّين به، كما ذهب العرب في خطابهم الرجل بالشيء ويريدون به غيره، كقوله تعالى : {يا أيها النبي اتق اللّه} كأن الخطاب للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) والمراد به المؤمنون، ويدلّ عليه قوله تعالى : {إِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ولم يقل : تعمل. قال المفسرون : كان الناس على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قالوا : آمنا باللّه بلسانهم، ومنهم كافر مكذّب لا يرى إلاّ أن ما جاء به باطل، أو شاكّ في الأمر لا يدري كيف هو يقدّم رجلا ويؤخِّر أخرى، فخاطب اللّه هذا الصنف من الناس فقال : {إِن كُنتُمْ} أيها الإنسان {فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} من الهدى على لسان محمد ( (صلى اللّه عليه وسلم) ). ف{سَأَلَ} الأكابر من علماء أهل الكتاب مثل عبد اللّه بن سلاّم، وسلمان الفارسي، وتميم الداري وأشباههم فيشهدوا على صدقه، ولم يرد المعاندين منهم. وقيل : إنْ بمعنى (ما)، وتقديره : فما كنت في شك مما أنزلنا إليك، فاسألوا يا معاشر الناس أنتم دون النبي. كما قال : {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} بمعنى وما كان مكرهم. وقيل : إنّ اللّه علم أن الرسول (صلى اللّه عليه وسلم) لم يشكّ ولكنّه أراد أن يأخذ الرسول بقوله لا أشك ولا (أماري) إدامةً للحجة على الشاكّين من قومه كما يقول لعيسى : {قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ الهيْنِ مِن دُونِ اللّه قَالَ} وهو يعلم أنه لم يقل ذلك، بدليل قوله : {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ} إدامة للحجة على النصارى. وقال الفرّاء : علم اللّه تعالى أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) غير شاكّ، فقال له : فإن كنتَ في شكّ، وهذا كما تقول لغلامك الذي لا تشك في ملكك إياه : إن كنت عبدي فأطعني، أو تقول لابنك : إن كنت ابني فبرّني. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : الشاك في الشيء يضيق به صدراً، فيقال لضيِّق الصدر شاك، يقول : إن ضقت ذرعاً بما تعاين من تعنتهم وأذاهم فاصبر، واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك يخبروك كيف صبر الأنبياء على أذى (قومهم) وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر والتمكين. وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن حبيب سمعت أبا بكر محمد بن محمد بن أحمد القطان في (ذلك : ) كان جائزاً على الرسول (صلى اللّه عليه وسلم) وسوسة الشيطان لأن المجاهدة في ردّها يستحق عليها عظيم الثواب واللّه (............) وكان يضيق صدره من ذلك واللّه أعلم. وقال الحسين بن الفضل مع (حيث) الشرط لا يثبت الفعل. والدليل عليه ما روي أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال لما نزلت هذه الآية : (واللّه لا أشك ولا أسأل). ثم أفتى (وزوّدنا) بالكلام فقال : ٩٥{لقد جاءك الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين ولا تكوننّ من الذين كذّبوا بآيات اللّه} القرآن. {فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الذين تحبط أعمالهم) ٩٦{إن الذين حقّت عليهم كلمت ربك} لعنته إياهم (لنفاقهم)، قال ابن عباس : ينزل بك السخط، وقال : إن اللّه خلق الخلق (فمنهم شقي ومنهم) سعيد، فمن كان سعيداً لا يكفر إلاّ ريثما يراجع الإيمان ومن كان شقياً لا يؤمن إلاّ ريثما يراجع الكفر، وإنما العمل (...) وقرأ أهل المدينة : (كلمات) جمعاً. ٩٧{لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية} دلالة {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الِيمَ} قال الأخفش : أنّث فعل (كل) لأنها مضافة إلى مؤنث، ولفظة كل للمذكر والمؤنث سواء. ٩٨{فَلَوْلا} أي فهلاّ، وكذلك هي في حرف عبد اللّه وأُبي، قال الشاعر : تعدون عقر النيب أفضل مجدكم (بني ضوطري) لولا الكميّ المقنعا أي فهلاّ. وقرأ في الآية : (فلا تكن قرية) لأن في الاستفهام ضرباً من الجحد. {ءَامَنتُ} عند معاينتها العذاب {فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَآ} في وقت اليأس {إِلا قَوْمَ يُونُسَ} فإنّهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت لما علم من صدقهم. قال أهل النحو : قومَ منصوب على الاستثناء المنقطع، وإن شئت قلت من جنسها لأن القوم مستثنى من القرية، ومنجون من الهالكين، وتقديره : لكن قوم يونس كقول النابغة : وقفت فيها أُصيلاناً أسائلها أعيت جواباً وما بالربع من أحد ألا الأواري لأياً ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد وفي يونس ست لغات، ضم النون، وقرأ (...) بضمّ الياء لكثرة من قرأ بها، وقرأ طلحة والأعمش والحميري وعيسى بكسر النون، وعن بعضهم بفتح النون، وروى أبو قرظة الأنصاري عن العرب همزة مع الضمة والكسرة والفتحة. {فَلَوْ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَآ إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُوا كَشَفْنَا} وهو وقت انقضاء آجالهم، قال بعضهم : إنّما نفعهم إيمانهم في وقت اليأس لأن آجالهم بقى منها بقية فنجوا لما بقي من آجالهم، فأما إيمان من انقضى أجله فغير نافع عند حضور العذاب. وقصة الآية على ما ذكره عبد اللّه بن مسعود وسعيد بن جبير والسدّي ووهب وغيرهم أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل فأرسل اللّه إليهم يونس يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فدعاهم فأبوا، فقيل له : أخبرهم أن العذاب يجيئهم إلى ثلاث، فأخبرهم بذلك فقالوا : إنّا لم نجرِّب عليه كذباً فانظروا، فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم، فلمّا كان في جوف الليل خرج ماشياً من بين ظهرانيهم فلمّا أصبحوا تغشّاهم العذاب كما يغشي الثوب القصير إذا أدخل فيه صاحبه. قال مقاتل : كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ميل. قال ابن عباس : قدر ثلثي ميل. قال وهب : غامت السماء غيماً أسود هائلا يدخل دخاناً شديداً، وهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيّهم فلم يجدوه، فقذف اللّه في قلوبهم التوبة فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابّهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وأخلصوا النية، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، فحنّ بعضهم إلى بعض، وعلت أصواتهم واختلطت أصواتها بأصواتهم وحنينها بحنينهم، وعجوا وضجوا إلى اللّه تعالى وقالوا : آمنّا بما جاء به يونس، فرحمهم ربّهم واستجاب دعاءهم، وكشف عنهم العذاب بعدما أظلّهم وتدلّى إلى سمعهم، وذلك يوم عاشوراء. قال ابن مسعود : بلغ من توبة أهل نينوى أن ترادّوا المظالم بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي الحجر وقد وضع عليه أساس فيقلعه ويردّه. وروى صالح المري عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد، قال : لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا له : قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال : قولوا : يا حيّ حين لا حي ويا حي (يا) محيي الموتى، ويا حي لا إله إلاّ أنت، فقالوها، فكشف عنهم العذاب ومُتّعوا إلى حين. قالوا : وكان يونس (عليه السلام) وعدهم العذلب فخرج ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم يرَ شيئاً، وكان من كذب ولم تكن له بيّنة قتل، فقال يونس لما كشف عنهم العذاب : كيف أرجع إلى قومي وقد كذبتهم؟ فانطلق عاتباً على ربه، مغاضباً لقومه فأتى البحر (فإذ سفينة قد شحنت) فركب السفينة (لوحده) بغير أجر، فلمّا دخلها وقفت السفينة، والسفن تسير يميناً وشمالا قالوا : ما لسفينتكم؟ قال يونس : إنّ فيها عبداً آبقاً ولا تجري ما لم تلقوه، فقالوا : وأنت يا نبي العبد فلا نلقيك، فاقترعوا فوقعت القرعة عليه ثلاثاً فوقع في الماء ووكل عليه حوت فابتلعه. قال ابن مسعود : فابتلعه الحوت وجرى به حتى أتاه إلى قرار الأرض، وكان في بطنه أربعين ليلة فسمع تسبيح الحصى فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجاب اللّه له فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر (عرياناً)، فأنبت اللّه عليه شجرة من يقطين، فجعل يستظلّ بها، ووكل اللّه به سخلا يشرب من لبنها، فيبست الشجرة فبكى عليها، فأوحى اللّه إليه : تبكي على شجرة يبست، ولا تبكي على مائة ألف إنسان أُهلكهم فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال : من أنت يا غلام؟ قال : من قوم يونس، قال : إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس، قال الغلام : إن كنت يونس فقد تعلم أنه لم يكن لي بينة، (فإنْ) قلت : فمن يشهد لي؟ قال يونس : يشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة، قال الغلام : أراهما؟ قال يونس : إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالا : نعم. فرجع الغلام إلى قومه، فقال للملك : إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام، وكان له أخوة وكان في منعة فأمر الملك بقتله، فقال : إنّ لي بينة فانسلّوا معه إلى البقعة والشجرة، فقال الغلام : أنشدكما هل أشهدكما يونس؟ قالا : نعم، فرجع القوم مذعورين، وقالوا للملك : شهد له الشجرة والأرض، فأخذ الملك بيد الغلام فأجلسه في مجلسه، وقال : أنت أحق بهذا المكان مني، قال ابن مسعود : فأقام لهم أميراً فيهم ذلك الغلام أربعين سنة. ٩٩{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ} يا محمد {مَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا} قال الحسين بن الفضل : لأضطرّهم إلى الإيمان. قال الأخفش : جاء بقوله : (جميعاً) مع (كل) تأكيداً كقوله : {تَتَّخِذُوا الهيْنِ اثْنَيْنِ} . {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس : كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حريصاً على أن يؤمن جميع الناس ويبايعوه على الهدى، فأخبره اللّه تعالى أنّه لا يؤمن إلاّ من سبق له من اللّه سعادة في الكتاب الأول، ولا يضلّ إلاّ من سبق له من اللّه الشقاء في الذكر الأول. ١٠٠{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ} قال الحسن : وما ينبغي لنفس. وقال المبرد : معناه وما كنت لتؤمن إلاّ بإذن اللّه. قال ابن عباس : بأمر اللّه. وقال عطاء : بمشيئة اللّه، كقوله : {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللّه} . وقال الكوفي : ما سبق من قضائه. وقال (الدّاني) : بعلمه وتوفيقه. {وَيَجْعَلُ} أي ويجعل اللّه، وقرأ الحسن وعاصم بالنون {الرِّجْسَ} العذاب والسخط. وقرأ الأعمش الرجز بالزاي {عَلَى الَّذِينَ يَعْقِلُونَ} حجج اللّه في التوحيد والنبوة. ١٠١{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين السائليك الآيات {انظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ} من الشمس والقمر والنجوم {والأرض} من الجبال والبحار والأنهار والأشجار وغيرها من الآيات ثم قال : {وَمَا تُغْنِى ايَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} في علم اللّه. ١٠٢{فَهَلْ يَنتَظِرُونَ} يعني مشركي مكة {إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا} مضوا {مِن قَبْلِهِمْ} من الذين مضوا. قال قتادة : يعني وقائع اللّه في قوم نوح وعاد وثمود، والعرب تسمي العذاب والنعيم : أياماً، كقوله تعالى : {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّ امِ اللّه} وكل ما مضى عليك من خير أو شر فهو أيام. ١٠٣{قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجّي رسلنا والذين آمنوا} معهم عند نزول العذاب، كذلك كما أنجيناهم. { كذلك حَقًّا} واجباً، {عَلَيْنَا} غير شك، {نُ جِى الْمُؤْمِنِينَ} بك يا محمد. وقرأ يعقوب : ننجي رسلنا بالتخفيف، وقرأ الكسائي وحفص : ننجي المؤمنين بالتخفيف وشدّدهما الآخرون، وهما لغتان فصيحتان أنجى يُنجي إنجاءً ونجّى ينجّي تنجية بمعنى واحد. ١٠٤{قل يا أيها الناس إن كنتم في شكّ من ديني} الذي أدعوكم إليه. {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه} من الأوثان التي لا تعقل ولا تفعل ولا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع {وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللّه الَّذِى يتوفاكم} تقدير أن يسلم ويقبض أرواحهم. ١٠٥{وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك} قال ابن عباس : عملك. وقيل : نفسك، أي استقم على الدين {حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على المنبر : (لم أعبد ربي بالرهبانية وأن خير الدين الحنيفية السهلة). ١٠٦{وَلا تَدْعُ} تعبد {مِن دُونِ اللّه مَا يَنفَعُكَ} إن أطعته {وَلا يَضُرُّكَ} إن عصيته {فَإِن فَعَلْتَ} فعبدت غير اللّه {فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} الضارّين لأنفسهم، الواضعين العبادة في غير موضعها ١٠٧{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍّ} يصبْك اللّه ببلاء وشدّة {فلا كاشف} دافع {لَهُ إِلا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} رخاء ونعمة {فَلا رَآدَّ لِفَضْلِهِ} فلا مانع لرزقه. {يُصِيبُ بِهِ} واحد من الضر والخير ١٠٨{من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم} يعني القرآن فيه البيان. {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} (أي له ثواب اهتدائه) {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} فعلى نفسه جنا {وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بوكيل } بكفيل وحفيظ يحفظ أعمالكم. قال ابن عباس : نسختها آية القتال. ١٠٩{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّه} من نصرك وقهر أعدائك وإظهار دينه {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} . قال الحسن : لما نزلت هذه الآية جمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) الأنصار وقد تجمع خيرتهم فقال : (إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني) قال أنس : فلم نصبر. فأمرهم بالصبر كما أمره اللّه به. وقال عبد اللّه بن محمد بن عقيل بن أبي طالب : لما قدم معاوية المدينة تلقّته الأنصار وتخلّف أبو قتادة ودخل عليه بعد فقال : مالك لا تلقنا؟ قال : لم تكن عندنا دواب، قال : فأين النواضح؟ قال : ربطناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (فاصبروا حتى تلقوني)، قالوا : إذاً نصبر، ففي ذلك قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت : ألا أبلغ معاوية بن حرب أمير المؤمنين ثنا كلام فإنّا صابرون ومنظروكم إلى يوم التغابنوالخصام |
﴿ ٠ ﴾