١٣{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ} : مساجد ومساكن وقصور، والمحراب : مقدم كل مسجد، ومجلس وبيت. قال عدي : كدُمى العاج في المحاريب أو كال بيض في الروض زهره (مستنير) وكان مما عملوا له من ذلك بيت المقدس، وقصته وصفته على ما ذكره أهل البصر بالسير أن اللّه تعالى بارك في نسل إبراهيم (عليه السلام) حتى جعلهم في الكثرة غاية لا يُحصون، فلما كان زمن داوُد (عليه السلام) لبث فيهم ثلاثين سنة بأرض فلسطين، وهم كل يوم يزدادُون كثرة، فأُعجب داوُد بكثرتهم فأمر بعدّهم، فكانوا يعدون زماناً من الدهر حتى أيسوا وعجزوا أن يحيط علمُهُم بعدد بني إسرائيل، فأوحى اللّه إلى داوُد : (إني قد وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح ولده فصدقني وائتمر أمري أن أُبارك له في ذريته، حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء وحتى لا يحصيهم العادّون، وإني قد أقسمت أن أبتليهم ببلية يقل منها عددهم ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم) وخيرّه بين أن يعذبهم بالجوع والقحط ثلاث سنين، وبين أن يُسلط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر، وبين أن يُرسل عليهم الطاعون ثلاثة أيام. فجمع داوُد بني إسرائيل وأخبرهم بما أوحى اللّه إليه وخيره فيه، فقالوا : أنت أعلم بما هو أيسر لنا وأنت نبينا فانظر لنا، غير أن الجوع لا صبر لنا (عليه) وتسليط العدو أمر فاضح، فإن كان لابد فالموت. فأمرهم داوُد عليه السلام أن يتجهزوا للموت، فاغتسلوا وتحنطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين، وأمرهم أن يضجّوا إلى اللّه تعالى ويتضرعوا إليه لعله يرحمهم، وذلك في صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد. قال : وارتفع داوُد (عليه السلام) فوق الصخرة فخرّ ساجداً يبتهل إلى اللّه تعالى فأرسل اللّه فيهم الطاعون. فأهلك منهم في يوم وليلة ما لم يتفرغوا من دفنهم إلاّ بعد مدة شهرين. فلما أصبحوا من اليوم الثاني سجد داوُد وسجدوا معه إلى طلوع الشمس فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف اللّه عنهم الطاعون. قالوا : فلما أن شفّع اللّه تعالى داوُد في بني إسرائيل في ذلك المكان جمع داوُد بني إسرائيل بعد ثلاثة فقال لهم : (إن اللّه سبحانه قد منّ عليكم ورحمكم فجددوا له شكراً). فقالوا : كيف تأمرنا. قال : (آمركم أن تتخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجداً لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذاكر). فلما أرادوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم في ثبوتهم فقال لبني إسرائيل : إنّ لي فيه موضعاً أنا محتاج إليه ولا يحل لكم أن تحجبوني عنه. فقالوا له : يا هذا ما أحد في بني إسرائيل إلاّ وله في هذا الصعيد حق مثل حقك، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه. فقال : أنا لا أعرف حقي وأنتم لا تعرفون. فقالوا له : إما إن ترضى وتطيب نفساً، وإلاّ أخذناه كرهاً. فقال لهم : أوتجدون ذلك في حكم اللّه وفي حكم داوُد؟ قال : فرفعوا خبره إلى داوُد فقال : (أرضوه). فقالوا : بكم نأخذه يا نبي اللّه؟ قال : (خذوه بمائة شاة). فقال الرجل : زد. فقال داوُد : (بمائة بقر). قال : زد. قال : (مائة إبل). قال : زدني فإنّ ما تشتريه للّه تعالى. فقال داوُد : (أما إذا قلت هذا، فاحتكم أُعطكه) فقال : تشتري مني بحائط مثله زيتوناً ونخلاً وعنباً. قال : (نعم). فقال : تشتريه للّه فلا تبخل. قال : (سل ما شئت أُعطكه، وإن شئت أُؤاجرك نفسي) قال : وتفعل ذلك يا نبي اللّه؟ قال : (نعم إذا شئت). قال : أنت أكرم على اللّه من ذلك، ولكنك تبني حوله جداراً مشرفاً ثم تملؤه ذهباً، وإن شئت ورقاً. قال داوُد : (هو هين). فالتفت الرجل إلى بني إسرائيل وقال : هذا هو التائب المخلص. ثم قال لداوُد : يا نبي اللّه لئن يغفر اللّه لي ذنباً واحداً أحبُّ إلي من كل شيء وهبته لي، ولكني كنت أُجرّبكم. فأخذوا في بناء بيت المقدس، وكان داوُد (عليه السلام) ينقل لهم الحجارة على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة. فأوحى اللّه تعالى إلى داوُد (عليه السلام) : (إنّ هذا بيت مقدّس وإنك رجل سفاك للدماء فلست ببانيه إذا لم أقضي ذلك على يدك، ولكن ابن لك أُملكه بعدك اسمه سليمان، أُسلّمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده، وذلك صيته وذكره لك باقياً). فصلوا فيه زماناً، وداوُد يومئذ ابن سبع وعشرين ومئة سنة، فلما صار من أبناء أربعين ومئة سنة توفّاه اللّه واستخلف سليمان. فأحبّ بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له. فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضاً، وأنزل كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطاً. فلما فرع من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد، فوجّه الشياطين فرقاً، فرقاً يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقاً يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر، فأُتي من ذلك بشيء لا يُحصيه إلاّ اللّه تعالى، ثم أحضر الصنّاعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء فكانوا يعالجونها، فتصوّت صوتاً شديداً لصلابتها، فكره سليمان تلك الأصوات. فدعا الجن وقال لهم : (هل عندكم حيلة في نحت هذه الجواهر من غير تصويت؟). فقالوا : يا رسول اللّه، ليس في الجن أكثر تجارب، ولا أكثر علماً من صخر العفريت، فأرسل إليه من يأتيك به. فطبع سليمان خاتمه طابعاً وكان يطبع للشياطين بالنحاس، ولسائر الجن بالحديد وكان إذا طبع أحدهما بخاتمه لمع ذلك كالبرق الخاطف، فكان لا يراه أحد : جني ولا شيطان إلاّ انقاد له بإذن اللّه عزّت قدرته. فأرسل الطابع مع عشرة من الجن فأتوه وهو في بعض جزائر البحور، فأروه الطابع، فلما نظر إليه كاد يصعق خوفاً، فأقبل مسرعاً مع الرسل حتى دخل على سليمان (عليه السلام). فسأل سليمان رسله عما أحدث العفريت في طريقه. فقالوا : يا رسول اللّه إنه كان يضحك بعض الأحايين من الناس. فقال له سليمان (عليه السلام) : (ما رضيت بتمردك عليّ في ترك المجيء إليّ طائعاً حتى صرت تسخر بالناس؟). فقال : يا نبي اللّه إني لم أسخر منهم غير أن ضحكي كان تعجّباً مما كنت أسمع وأرى في طريقي. فقال سليمان : (وما ذاك؟). قال : اعلم أني مررت برجل على شط نهر ومعه بغلة يريد سقيها ومعه جرة يريد أن يستقي فيها، فسقى البغلة وملأ الجرة، ثم أراد أن يقضي حاجته فشد البغلة بإذن الجرة فنفرت البغلة وجرت الجرة فكسرتها، فضحكت من حمق الرجل حيث توهم أن الجرة تحبس البغلة. ومررت برجل وهو جالس عند إسكاف يستعمله في إصلاح خف له، فسمعته يشترط معه أن يصلحه بحيث يبقى معه أربع سنين ونسي نزول الموت به قبله، فضحكت من غفلته وجهله. ومررت بعجوز تتكهن وتخبر الناس بما لا يعلمون من أمر السماء، وقد كنت عهدت رجلاً دفن في موضع فراشها ذهباً كثيراً في الدهور الخالية، فرأيتها تموت جوعاً وتحت فراشها ذهب كثير لا تعلم بمكانه، ثم تخبر الناس عن أمر السماء فضحكت منها. ومررت برجل في بعض المدن، وقد كان به داء فيما قيل فأكل البصل فبرأ من دائه، فصار يتطبّب للناس، فكان لا يأتيه أحد يسأله عن علّة إلاّ أمره بأكل البصل وإنه لأضرّ شيء، حتى إنّ ضره ليصل إلى الدماغ، فضحكت منه. ومررت ببعض الأسواق فرأيت الثوم وهو أفضل الأدوية كلّها يكال كيلاً، ورأيت الفلفل وهو أحد السموم القاتلة يوزن وزناً فضحكت من ذلك. ومررت بناس قد جلسوا يبتهلون إلى اللّه تعالى ويسألونه المغفرة والرحمة، فملَّ منهم قوم وقاموا، وجاء آخرون وجلسوا فرأيت الرحمة قد نزلت عليهم، فأخطأت الذين كانوا من أهل المجلس، وغشيت الذين جاؤوا فجلسوا، فضحكت؛ تعجباً للقضاء والقدر. قالوا : فقال سليمان له : هل عرفت في كثرة تجاربك وجولاتك في البر والبحر شيئاً تنحت به هذه الجواهر فتلين فيسهل نحتها وثقبها فلا تصوت؟ فقال : نعم يا نبي اللّه، أعرف حجراً أبيض كاللبن يقال له السامور غير أني لا أعرف معدنه الذي هو فيه، وليس في الطير شيء هو أحيل ولا أهدى من العقاب. فمر بعقاب أن تجعل فراخه في صندوق حجر معه ليلة، ثم تسرّح ذلك العقاب وتترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بذلك الحجر فيضرب به ظهر الصندوق حتى يُنقبه به ليصل إلى فراخه. قال : فأمر سليمان بعقاب مع فراخه فجعله في صندوق من حجر يوماً وليلة، ثم سرح العقاب دون الفراخ، فمرّ العقاب وجاء بذلك الحجر بعد يوم وليلة، وثقب به الصندوق حتى وصل إلى فراخه. فوجه سليمان مع العقاب نفراً من الجن حتى أتوه به منه قدر ما علم أن فيه كفاية، واستعمل ذلك في أدوات الصناعين، فسهل عليهم نحتها من غير تصويت وهو الحجر الذي يستعمل في نقش الخواتيم وثقب الجواهر إلى اليوم، وهو حجر عزيز ثمين. قال : فبنى سليمان (عليه السلام) المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمّده بأساطين المها الصافي، وسقفه بألواح الجواهر الثمنية وفصّص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ بيت في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر. فلما فرغ منه جمع إليه أخيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه للّه وأنّ كل شيء فيه خالص للّه، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً. وقالوا : من أعاجيب ما اتخذ سليمان عليه السلام ببيت المقدس أنْ بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة وصقله، فكان إذا دخله الورِع البرّ استبان خياله في ذلك الحائط أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود. فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة. ونصب في زاوية من زوايا المسجد عصا أبنوس، فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم يضره مسها، ومن مسها من غيرهم احترقت يده. وروى الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد عن عبد اللّه بن الديلمي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنين وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه اللّه الثالثة : سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أنْ لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلاّ خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أُمه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك). قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان (عليه السلام) حتى غزا نبوخذ نصر فخرب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمله معه إلى دار مملكته من أرض العراق. قال سعيد بن المسيب : لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه، فعالجها سليمان فلم تنفتح، حتى قال في دعائه : (بصلوات أبي داوُد إلاّ فتحت الأبواب). ففتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل : خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلاّ واللّه يعبد فيها. {وَتَمَاثِيلَ} أي صور، كانوا يعملون التماثيل من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام في المساجد تماثيل الملائكة والنبيين الصالحين؛ لكي إذا رآهم الناس مصورين عبدوا عبادتهم. {وَجِفَانٍ} أي قصاع، واحدها جفنة {كَالْجَوَابِ} كالحياض التي يجبى فيها الماء، أي يجمع، واحدها جابية. قال الأعشى ميمون بن قيس : تروح على آل مخلق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق أخبرنا أبو بكر الحمشاوي قال : أخبرني أبو بكر القطيعي إبراهيم بن عبد اللّه بن مسلم قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا سهل السرّاج قال : سمعت الحسن يقول : (وجفان كالجواب) مثل حياض الإبل، ويقال : إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه. {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} : ثابتات لا يحوّلن ولا يحركن من أماكنهن لعظمتهن، ولا ينزلن ولا يعطلن وكانت باليمن، ومنه قيل للجبال : رواسي {اعْمَلُوا} أي وقلنا : اعملوا {آل داوُد شكراً} مجازه : اعملوا بطاعة اللّه يا آل داوُد شكراً له على نعَمه، و {شَاكِرًا} في محل المصدر. {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} أرسل حمزة (الياء) وفتحها الباقون. قال القرظي : الشكر : تقوى اللّه والعمل بطاعته. وحدثونا عن محمد بن يعقوب قال : حدثنا الحصر بن أبان قال : حدّثنا سيار قال : حدّثنا جعفر بن سليمان قال : سمعت ثابتاً يقول : كان داوُد نبي اللّه (عليه السلام) قد جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن بأي ساعة من ساعات الليل والنهار إلاّ وإنسان من آل داوُد قائم يصلي، فعمهم اللّه تعالى في هذه الآية {اعملوا آل داوُد شكراً} . |
﴿ ١٣ ﴾