سورة الصافات

مكية،

وهي ثلاثة آلاف وثمانمئة وستة وعشرون حرفاً،

وثمانمئة وستون كلمة،

ومئة واثنتان وثمانون آية

أخبرنا كامل بن أحمد المفيد قال : أخبرنا محمد بن جعفر الوراق قال : حدّثنا إبراهيم بن الفضل قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير الآملي عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ {وَالصَّافَّاتِ} أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ جنّي وشيطان،

وتباعد عنه مردة الشياطين وبرئ من الشرك،

وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمناً بالمرسلين).

بسم اللّه الرَّحْمن الرحيم

١

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} قال ابن عباس ومسروق والحسن وقتادة : يعني صفوف الملائكة في السماوات كصفوف الخلق في الدُّنيا للصلاة،

وقيل : هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها بما يريد،

وقيل : هي الطير،

دليله قوله : {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} وقوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} .

والصف : ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة والحرب.

٢

{فَالزاجِرَاتِ زَجْرًا} يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه،

وقال قتادة : هي زواجر القرآن.

٣

{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} يعني جبرائيل والملائكة تتلو كتب اللّه،

عن مجاهد والسدي،

وقيل : هي جماعة قرّاء القرآن،

وهي كلها جمع الجمع،

فالصافة جمع الصاف،

والصافات جمع الصافة وكذلك أُختاها،

وقيل : هو قسم باللّه تعالى على تقدير : وربّ الصافات.

٤

{إِنَّ الهكُمْ لَوَاحِدٌ} موضع القسم قال مقاتل : لأنّ كفار مكة قالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟

فأقسم اللّه تعالى بهؤلاء : {إِنَّ الهكُمْ لَوَاحِدٌ} ،

وقرأ الأعمش وأبو عمرو وحمزة كلّهم بالإدغام،

والباقون بالبيان.

٥

{رَّبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} أي مطالع الشمس؛ وذلك أنّ اللّه تعالى خلق للشمس ثلاثمئة وستين كوة في المشرق،

وثلثمائة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة تطلع كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها فهي المشارق والمغارب.

حدّثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي إملاءً قال : حدّثنا أبو العباس محمّد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي إملاءً قال : حدّثني إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرَّحْمن بن عمر بن منيع صدوق ثقة قال : حدّثنا ابن عليه عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة قال : قال ابن عباس : إنّ الشمس تطلع كل سنة في ثلاثمائة وستين كوة تطلّع كل يوم في كوة ولا ترجع إلى تلك الكوة إلاّ ذلك اليوم من العام القابل،

ولا تطلع إلاّ وهي كارهة،

فتقول : ربّ لا تطلعني على عبادك؛ فإني أراهم يعصونك ويعملون بمعاصيك أراهم. قال : أولم تسمعوا إلى ما قال أُمية بن أبي الصلت : حتى تجر وتجلد؟

قلت : يا مولاي وتجلد الشمس؟

قال : عضضت بهن أبيك،

إنما اضطره الروي إلى الجلد.

وقيل : وكل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق،

وكل موضع غربت عليه فهو مغرب،

كأنه أراد ربّ جميع ما شرقت عليه الشمس.

٦

{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} قرأ عاصم برواية أبي بكر (بزينة) منونة (الكواكب) نصباً،

يعني بتزييننا الكواكب،

وقيل : أعني الكواكب،

وقرأ حمزة وعاصم في سائر الروايات (بزينة منونة. {الْكَوَاكِبِ} خفضاً على البدل،

أي بزينة الكواكب.

وقرأ الباقون {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} مضافة. قال ابن عباس : يعني بضوء الكواكب.

٧

{وَحِفْظًا} أي وحفظناها حفظاً،

أو وجعلناها أيضاً حفظاً،

وذلك شائع في اللغة {مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} : خبيث خال عن الخير.

٨

{لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الملأ الأعلى} كأنه قال : فلا يسمعون. قرأ أهل الكوفة {يَسَّمَّعُونَ} بالتشديد،

أي يتسمعون،

قال مجاهد : كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون،

وهو اختيار أبي عبيد،

وقرأ الآخرون بالتخفيف،

وهو اختيار أبي حاتم،

{إِلَى الملأ الأعلى} يعني الكتبة من الملائكة في السماء {وَيُقْذَفُونَ} ،

ويرمون {مِن كُلِّ جَانِبٍ} من آفاق السماء.

٩

{دُحُورًا} يبعدونهم عن مجالس الملائكة،

والدحر والدحور : الطرد والإبعاد،

{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} : دائم،

نظيره قوله سبحانه : {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} ،

وقال ابن عباس : شديد. الكلبي : موجع،

وقيل : خالص.

١٠

{إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} : مسارق فسمع الكلمة،

{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} : تبعه ولحقه كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتل أو يحرق أو يحيل،

وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه؛ طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البحر.

١١

{فَاسْتَفْتِهِمْ} فسلهم،

يعني : أهل مكة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} يعني : من الأُمم الخالية،

وقد أهلكناهم بذنوبهم،

وقيل : يعني السماوات والأرض وما بينهما.

نزلت في أبي الأسد بن كلدة،

وقيل : أُبيّ بن أسد،

وسُمّي بالأسدين؛ لشدة بطشه وقوته،

نظيرها : {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وقوله سبحانه {أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُ بَنَ اهَا} .

{إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لا زِب} أي جيد حر يلصق ويعلق،

باليد ومعناه اللازم تبدل الميم كأنه يلزم اليد،

وقال السدي : خالص. قال مجاهد والضحاك : (الرمل).

١٢

{بَلْ عَجِبْتَ} قرأ حمزة والكسائي وخلف (عجبتُ) بضم التاء وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس على معنى أنهم قد حلّوا محل من تعجّب منهم،

وقال الحسين بن الفضل : العجب من اللّه،

إنكار الشيء وتعظيمه وهو لغة العرب،

وقد جاء في الخبر : عجب ربكم من إلّكم وقنوطكم والخبر الآخر : إنّ اللّه ليعجب من الشاب إذا لم يكن له صبوة ونحوها،

وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول : سمعت أبا عبد اللّه محمد بن علي البغدادي يقول : سُئل جنيد عن هذه الآية فقال : إنّ اللّه لا يعجب من شيء،

ولكنّ اللّه وافق رسوله لمّا عجب رسوله،

فقال : {فإن تعجب فعجب قولهم} . أي هو لما يقوله.

وقرأ الآخرون بفتح التاء على خطاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وهي قراءة شريح القاضي. قال : إنما يعجب من لا يعلم،

واللّه عنده علم كلّ شيء،

ومعناه،

بل عجبت من تكذيبهم إياك. {وَيَسْخُرُونَ} وهم يسخرون من تعجبّك.

١٣

{وَإِذَا ذُكِّرُوا يَذْكُرُونَ} وإذا وعظوا لا يتعظون.

١٤

{وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً} يعني انشقاق القمر {يَسْتَسْخِرُونَ} يسخرون وقيل : يستدعي بعضهم بعضاً إلى أن يسخر.

١٥-١٧

{وقالوا إن هذا إلاّ سحرٌ مبين أإذا متنا وكنُا تراباً وعِظاماً أءِنا لمبعوثون أو آباؤنا} يعني : وآباؤنا {أَوَ} بمعنى الواو

١٨

{الأولون قل نعم وأنتم داخرون} : صاغرون.

١٩

{فَإِنَّمَا هِىَ} يعني : النفخة والقيامة {زَجْرَةٌ} : صيحة {وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أحياء.

٢٠-٢٢

{وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} أخبرني الحسن بن محمد المدني قال : حدّثنا محمد بن علي الحسن الصوفي قال : حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال : حدّثنا عمّي أبو بكر قال : حدّثنا وكيع عن سفيان عن سماك،

عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب ح قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} قال : (ضرباءهم)،

وقال ابن عباس : أشباههم. ضحاك ومقاتل : قرناءهم من الشياطين،

كل كافر معه شيطانه في سلسلة. قتادة والكلبي : كل من عمل مثل عملهم،

فأهل الخمر مع أهل الخمر،

وأهل الزنا مع أهل الزنا،

وقال الحسن : وأزواجهم المشركات.

٢٣

{وما كانوا يعبدون من دون اللّه} في الدنيا {فَاهْدُوهُمْ} : فادعوهم،

قاله الضحاك،

وقال ابن عباس : دلّوهم،

وقال ابن كيسان : فدلوهم،

والعرب تسمي السائق هادياً،

ومنه قيل : الرقية هادية السائق،

قال امرؤ القيس :

كأن دماء الهاديات بنحره

عصارة حنا بشيب مرجّل

{إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} : طريق النار.

٢٤

{وَقِفُوهُمْ} واحبسوهم،

يُقال : وقفته وقفاً فوقف وقوفاً. {إنهم مسؤولون} قال ابن عباس : عن لا إله إلاّ اللّه. ضحاك : عن خطاياهم. القرظي : عن جميع أقوالهم وأفعالهم. أخبرني الحسين بن محمد الدينوري قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال : حدّثنا محمد بن أيوب قال : أخبرنا محمد بن عقبة قال : حدّثنا أبو حصين بن نمير الهمداني قال : حدّثنا حسين بن قيس الرحبي وزعم أنه شيخ صدوق قال : حدّثنا عطاء عن أبي عمر عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال : عن شبابه فيما أبلاه،

وعن عمره فيما أفناه،

وعن ماله من أين كسبه،

وفيما أنفقه،

وما عمِلَ فيما علم).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن صقلاب قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن عبد الرَّحْمن بطرسوس قال : حدّثنا أحمد بن خليد قال : حدّثنا يوسف بن يونس الأخطف الأقطس قال : حدّثنا سليمان بن بلال عن عبد اللّه بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا كان يوم القيامة دعا اللّه سبحانه بعبد من عبيده فيوقفه بين يديه فيسائله عن جاهه كما يسائله عن ماله).

٢٥

{مالكم لا تناصرون} أي لا تنتقمون ولا ينصر بعضهم بعضاً،

يقوله خزنة النار للكفار،

وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر : نحن جميع منتصر.

٢٦

قال اللّه سبحانه وتعالى : {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} قال ابن عباس : خاضعون. الحسن : منقادون. الأخفش : ملقون بأيديهم،

وقال أهل المعاني : مسترسلون لما لا يستطيعون له دفعاً ولا منه امتناعاً كحال الطالب السلامة في نزل المنازعة.

٢٧

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يعني : الرؤساء والأتباع {يَتَسَآءَلُونَ} : يتخاصمون.

٢٨

{قَالُوا} يعني : الأتباع للرؤساء : {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي من قِبَل اليمين فتضلوننا عنه،

قاله الضحاك،

وقال مجاهد : عن الصراط الحق : وقال أهل المعاني : أي من جهة النصيحة والبركة والعمل الذي يتيمن به،

والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين،

وقال بعضهم : أي عن القوة والقدرة كقول الشماح.

إذا ماراية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

أي بالقوة وغرابة اسم ملك اليمن.

٢٩-٣١

{قَالُوا} يعني : الرؤساء {بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين فحقّ علينا} وعليكم {قَوْلُ رَبِّنَآ} يعنون قوله سبحانه : {مْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .

{إِنَّا} جميعاً {لَذَآقُونَ} العذاب.

٣٢

{فَأَغْوَيْنَاكُمْ} : فأضللناكم لأنا كنّا {غَاوِينَ} ضالين،

٣٣-٣٦

قال اللّه سبحانه : {فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلاّ اللّه يستكبرون ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون} يعني النبي صلّى اللّه عليه وآله. قال اللّه سبحانه رداً عليهم :

٣٧-٤١

{بل جاء بالحق وصدّق المُرسَلين إنكم لذائقو العذاب الأليم وما تُجزون إلاّ ما كنتم تعملون إلاّ عباد اللّه الُمخلَصين أُولئك لهم رزقٌ معلوم} يعني : بكرة وعشية،

كقوله : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} .

٤٢

{فَوَاكِهُ} : جمع الفاكهة،

وهي كلّ طعام يُؤكل للتلذذ لا للقوت الذي يحفظ الصحة،

يُقال : فلان يتفكّه بهذا الطعام،

٤٣-٤٥

{وهم مُكرمون في جنات النعيم على سُرر متقابلين يُطاف عليهم بكأس} : إناء فيه شراب،

ولا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب،

وإلاّ فهو إناء،

قال الأخفش : كل كأس في القرآن فهو خمر {مِّن مَّعِين} : خمر جارية في أنهار طاهرة العيون،

ويجوز أن يكون فعيلاً من (المعن) وهو الإسراع والشدة من (أمعن في الأمر) إذا اشتدّ دخوله فيه. يعني : خمراً شديدة الجري سريعته.

٤٦

{بَيْضَآءَ} أي صافية في نهاية اللطافة و{لَذَّةٍ} : لذيذة

٤٧

{للشاربين لا فيها غول} أي إثم عن الكلبي،

نظيره {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} . قتادة : وجع البطن. الحسن : صداع. مجاهد : داء. ابن كيسان : مغص. الشعبي : لا تغتال عقولهم فتُذهب بها،

وقال أهل المعاني : الغول : فساد يلحق في خفاء،

يُقال : اغتاله اغتيالاً إذا فسد عليه أمره في خفية،

ومنه الغول والغيلة وهو القتل خفية.

{وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} قرأ حمزة والكسائي وخلف : بكسر الزاي هاهنا وفي سورة الواقعة،

وافقهم عاصم في الواقعة. الباقون : بفتح الزاي فيهما. فمن فتح الزاي،

فمعناه : لا تغلبهم على عقولهم ولا يسكرون،

يقال : نزف الرجل فهو منزوف ونزيف،

إذا سكر وزال عقله،

قال الشاعر :

فلثمتُ فاها آخذاً بقرونها

شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

أي السكران،

ومن كسر الزاي فمعناه : لا ينفد شرابهم. يُقال : أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره.

قال الحطيئة :

لعمري لئن أنزفتمُ أو صحوتمُ

لبئس الندامى كنتمُ آل أبجرا

٤٨

{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} : حابسات الأعين،

غاضّات الجفون،

قصرن أعينهن عن غير أزواجهن،

فلا ينظرن إلاّ إلى أزواجهنّ {عِينٌ} نجل العيون حسانها،

واحدتها : عيناء،

يُقال : رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين.

٤٩

{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ} : جمع البيضة {مَّكْنُونٌ} مستور مصون. قال الحسن وابن زيد شبههن ببيض النعامة تكنها بالريش من الريح والغبار،

وقيل : شبههن ببطن البيض قبل أن يُقشر،

وهو معنى قول ابن عباس،

وإنما ذكّر المكنون والبيض جمع؛ لأنه ردّه إلى اللفظ.

٥٠

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} في الجنة.

٥١

{قَالَ قَآلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ} في الدنيا. قال مجاهد : كان شيطاناً،

وقال آخرون : كان من الإنس. قال مقاتل : كانا أخوين،

وقال الباقون : كانا شريكين : أحدهما فطروس وهو الكافر،

والآخر يهوذا وهو المؤمن،

وهما اللذان قصّ اللّه حديثهما في سورة الكهف.

٥٢

{يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} بالبعث؟

٥٣

{أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} : مجزيون ومحاسبون ومملوكون

٥٤

{قَالَ} اللّه سبحانه لأهل الجنة : {هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} إلى النار؟

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا أحمد ابن يزيد المقرئ عن جلاد عن الحكم بن طاهر،

عن السدي،

عن أبي ملك عن ابن عباس أنه قرأ

٥٥

{هل مطلعون فاطّلع} بخفضهما وبكسر اللام،

قال : رافعون فرفع،

قال ابن عباس : وذلك أنّ في الجنة كوىً فينظر أهلها منها إلى النار وأهلها.

{فَاطَّلَعَ} هذا المؤمن {فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ} فرأى قرينه في وسط النار.

٥٦

{قَالَ تَاللّه إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} ما أردت إلاّ أن تهلكوا وأصله من التردّي.

٥٧

{وَلَوْ نِعْمَةُ رَبِّى} : عصمته ورحمته {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} معك في النار.

٥٨-٥٩

{أفما نحن بميتين إلاّ موتتنا الأُولى وما نحنُ بمعذّبين} ،

فتقول لهم الملائكة : لا،

وقيل : إنما يقولونه على جهة الحديث بنعمة اللّه سبحانه عليهم في أنّهم لا يموتون ولا يعذّبون،

وقيل : يقوله المؤمن على جهة التوبيخ لقرينه بما كان ينكره.

٦٠-٦١

{إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون}

٦٢

{ أذلك خَيْرٌ نُّزُلا} : رزقاً {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} ،

والزقوم ثمرة شجرة كريهة الطّعم جداً،

من قولهم : يزقم هذا الطعام،

إذا تناوله على كره ومشقة شديدة.

٦٣

{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} : للكافرين،

وذلك أنهم قالوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟

وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش : إنّ محمداً يخوفنا بالزقوم وإنّ الزقوم بلسان بربر وأفريقية الزبد والتمر،

فأدخلهم أبو جهل بيته وقال : يا جارية زقّمينا. فأتتهم بالزبد والتمر،

فقال : تزقّموا فهذا ما يوعدكم به محمد،

٦٤

فقال اللّه سبحانه : {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} : قعر النار. قال الحسن : أصلها في قعر جهنم،

وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.

٦٥

{طَلْعُهَا} ثمرها،

سمّي طلعها لطلوعه {كأنه رؤوس الشياطين} قال بعضهم : هم الشياطين بأعيانهم،

شبهّه بها لقبحه؛ لأن الناس إذا وصفوا شيئاً بعاهة القبح قالوا : كأنه شياطين،

وإن كانت الشياطين لا تُرى؛ لأن قبح صورتها متصوّر في النفس،

وهذا معنى قول ابن عباس والقرظي،

وقال بعضهم : أراد بالشياطين الحيّات،

والعرب تُسمي الحية القبيحة الخفيفة الجسم شيطاناً،

قال الشاعر :

تلاعب مثنى حضرمّي كأنه

تعمج شيطان بذي خروع قفر

وقال الراجز :

عنجرد تحلف حين أحلف

كمثل شيطان الحماط أعرف

والأعرف : الذي له عرق،

وقيل : هي شجرة قبيحة خشنة مرة منتنة،

تنبت في البادية تسميها العرب رؤوس الشياطين.

٦٦

{فَإِنَّهُمْ كِلُونَ مِنْهَا فَمَالِ ُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} ،

والملء : حشو الوعاء بما لا يحتمل زيادة عليه،

٦٧

{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا} : خلطاً ومزاجاً،

وقال مقاتل : شراباً {مِّنْ حَمِيمٍ} : ماء حار شديد الحرارة،

٦٨

{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَى الْجَحِيمِ} ثم بمعنى قبل،

مجازه : وقبل ذلك مرجعهم لإلى الجحيم،

كقول الشاعر :

إنّ من ساد ثم ساد أبوه

ثم قد ساد قبل ذلك جده

أي قبل ذلك ساد أبوه،

ويجوز أن تكون بمعنى الواو.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو علي المقري قال : حدّثني علي بن الحسن بن سعد الهمداني قال : حدّثنا عباس بن يزيد بن أبي حبيب قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا سفيان عن ميسرة عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد اللّه أنه قرأ (ثم إنّ مقتلهم لإلى الجحيم).

٦٩-٧٠

{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا} : وجدوا {آباءهم ضالين فهم على آثارهم يُهرعون} يسرعون.

٧١-٧٥

{ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين} : مرسلين {فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلاّ عباد اللّه الُمخْلَصين ولقد نادانا نوح}،

نظيره : {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ} ،

وهو قوله : {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} .

{فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} على التعظيم،

٧٦

{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ،

وهو الغرق،

{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} ،

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا زكريا بن يحيى الساجي قال : حدّثنا بندار قال : حدّثنا محمد بن خالد بن غيمة قال : حدّثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في قوله

٧٧

{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} قال : (سام وحام ويافث).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال : حدّثنا أبو عبد اللّه المخزومي قال : حدّثنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب قال : كان وُلْد نوح ثلاثة : سام وحام ويافث،

فسام أبو العرب وفارس وروم،

وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب،

ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وما هنالك.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحى قال : حدّثنا الحسن بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما خرج نوح عليه السلام من السفينة مات مَن معه من الرجال والنساء إلاّ ولده ونساءهم،

فذلك قوله : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} .

٧٨

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى اخِرِينَ} ،

أي لقينا له ثناء حسناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأُمم.

٧٩-٨٣

{سلامٌ على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين وإنّ من شيعته} : أهل دينه وسنته

٨٤

{لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم} : مُخلص من الشرك والشك،

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفربابي قال : حدّثنا محمد بن العلا قال : حدّثنا عصام بن علي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال : يا بنيّ لا تكونوا لعّانين أو لم يروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئاً قط فقال اللّه سبحانه : {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ؟

٨٥-٨٨

{إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا} : ماالذي {تعبدون أإفكاً آلهةً دون اللّه تُريدون فما ظنكم برب العالمين} إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ} ،

قال ابن عباس : كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم حيث كانوا؛ لئلاّ ينكروا عليه؛ وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع،

وكانوا يدخلون على أصنامهم ويقرّبون لهم القرابين ويصنعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم زعموا التبّرك عليه،

فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه. قال مقاتل : وكانت الأصنام اثنين وسبعين صنماً من خشب وحديد ورصاص وشبه وفضّة وذهب،

وكان كبيرهنّ من ذهب في عينيه ياقوتتان،

وقالوا لإبراهيم (عليه السلام) : لا تخرج غداً معنا إلى عيدنا. فنظر إلى النجوم،

٨٩

{فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ} ،

قال ابن عباس : مطعون،

وقال الحسن : مريض،

وقال الضحاك : سأسقم؛ لقوله سبحانه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} .

وقيل : سقيم بما في عنقي من الموت،

وقيل : سقيم بما أرى من أحوالكم القبيحة،

وقيل : سقيم بعلة عرضت له،

وإنّه إنما نظر في النجوم مستدلاً بها على وقت حمّى كانت تأتيه،

والصحيح أنه لم يكن سقيماً؛ لما رُوي عن النبي (عليه السلام) أنه قال : (لقد كذب إبراهيم ثلاث كذبات،

ما منها واحدة إلاّ وهو بماحل وناصل بها عن دينه : قوله : {إِنِّى سَقِيمٌ} ،

وقوله : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} وقوله لسارة : هذه أُختي).

٩٠

{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} إلى عيدهم،

فدخل إبراهيم إلى الأصنام فكسرها ووضع الفأس على عاتق الصنم الكبير،

وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على أصنامهم قبل أن يرجعوا إلى منازلهم،

فدخلوا عليها فإذا هي مكسورة،

فذلك قوله سبحانه :

٩١

{فَرَاغَ} : فمال {إِلَى ءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ} إظهاراً لضعفهم وعجزهم :

٩٢-٩٣

{ألا تأكلون مالكم لا تنطقون فراغ عليهم ضرباً باليمين} ؛ لأنها أقوى على العمل من الشمال،

وهذا قول الربيع بن أنس قال : يعني يده اليمنى،

وقيل : بالقسم الذي سبق منه،

وذلك قوله : {وَتَاللّه كِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} وقال الفراء : بالقوة.

٩٤

{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ} : إلى إبراهيم {يَزِفُّونَ} ،

أي يُسرعون عن الحسن. مجاهد : يزفون زفيف النعام وهو حالٌ بين المشي والطيران. الضحاك : يسعون،

وقرأ يحيى والأعمش وحمزة {يَزِفُّونَ} بضم الياء،

٩٥-٩٦

وهما لغتان : فقال لهم إبراهيم على وجه الحِجاج : {أتعبدون ما تنحتون واللّه خلقكم وما تعملون} ؟

وفي هذه الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه وتعالى حيث قال : {وَمَا تَعْمَلُونَ} على (أنها) مكتسبة للعباد حيث أثبت لهم عملاً،

فأبطل مذهب القدرية والجبرية بهذه الآية،

وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ اللّه خالق كلّ صانع وصنعته).

٩٧

{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ} : معطم النار. قال مقاتل : بنوا له حائطاً من الحجر طوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملؤوه من الحطب وأوقدوا فيه النار.

٩٨

{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ اسْفَلِينَ} : المقهورين.

٩٩

{وَقَالَ} إبراهيم : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} ،

أي إلى مرضاة ربي،

وهو المكان الذي أُمر بالذهاب إليه. نظيره قوله : {وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى} ،

وقيل : ذاهب إلى ربي بنفسي وعملي

١٠٠

{سيهدين رب هب لي من الصالحين} مختصر. أي رب هب لي ولداً صالحاً من الصالحين.

١٠١-١٠٢

{فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السّعي} ذلك الغلام،

{قَالَ يَابُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ} الآية،

واختلف السّلف من علماء المسلمين في الذي أُمر إبراهيم بذبحه من ابنيه بعد إجماع (أهل الخاص) على أنه كان إسحاق،

فقال قوم : الذبيح إسحاق،

وإليه ذهب من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد اللّه بن مسعود والعباس بن عبد المطلب،

ومن الباقين وأتباعهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي بزة وعطاء ومقاتل وعبد الرَّحْمن بن سابط والزبيري والسدّي.

وهي رواية عكرمة وابن جبير عن ابن عباس. أخبرني الحسن بن محمد بن عبد اللّه قال : حدّثنا طلحة بن محمّد،

وعبيد اللّه بن أحمد قالا : حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال : حدّثنا أحمد ابن حرب قال : حدّثنا سنيد بن داوُد قال : حدّثني حجاج عن ليث بن سعد عن صفوان بن عمرو عن عمر بن الخطابح قال : هو إسحاق.

وأخبرني الحسن قال : حدّثنا عبيد اللّه بن أحمد بن يعقوب قال : حدّثنا رضوان بن أحمد الصيدلاني قال : حدّثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال : حدّثنا أبو معاوية عن حجاج عن القاسم بن نافع عن أبي الطُفيل،

عن علي قال : (الذي أراد إبراهيم (عليه السلام) ذبحه إسحاق).

وروى شبعة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال : افتخر رجل عند ابن مسعود فقال : أنا فلان ابن فلان ابن الأشياح الكرام. فقال عبد اللّه : ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه (عليه السلام).

وأخبرنا الحسين محمد قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا يوسف بن عبد اللّه قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا المبارك عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب قال : الذي فداه اللّه بذبح عظيم إسحاق.

وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي قال : حدّثنا أبو عبد اللّه محمد بن بكار قال : حدّثنا خالد بن عبد اللّه الواسطي عن داوُد ابن أبي هند عن عكرمة،

عن ابن عباس أنه قال : الذي أراد إبراهيم ذبحه إسحاق (عليهما السلام).

وأخبرنا الحسن قال : أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد اللّه قال : حدّثنا يوسف بن عبد اللّه قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حمّاد قال : أخبرنا عبد اللّه بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الذي أراد إبراهيم ذبحه هو إسحاق.

وأخبرني الحسن قال : حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد اللّه بن أحمد قالا : حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال : حدّثنا عباس الدوري قال : حدّثنا أبو سلمة يعني المنقري قال : حدّثنا محمد بن ثابت العبدي عن موسى مولى أبي بكر الصديق عن سعيد بن جبير قال : (لمّا) أُري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام سار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى،

فلما صرف اللّه عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه فسار به مسيرة شهر في روحة واحدة،

طويت له الأودية والجبال.

وروى سفيان عن زيد بن أسلم عن عبد اللّه بن عمر عن أبيه قال : قال موسى : (يا رب يقولون : إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبم قالوا ذلك؟)

قال : (إن إبراهيم لم يعدل بي شيئاً قط إلاّ اختارني عليه،

وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود،

وإن يعقوب كلّما زدته بلاء زاد بي حسن ظنّ).

وروى حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال : قال يوسف : للملك : (ترغب أن تأكل معي أو تنكف وأنا واللّه يوسف بن يعقوب نبيّ اللّه ابن إسحاق ذبيح اللّه بن إبراهيم خليل اللّه (عليهم السلام)؟).

 

وقال الآخرون : هو إسماعيل،

وإلى هذا القول ذهب عبد اللّه بن عمر وأبو الطُفيل عامر ابن واثلة وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي وهي رواية عطاء بن أبي رباح وأبي حمرة نصر بن عمران الضبعي ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال : المفدى إسماعيل،

وزعمت اليهود أنه إسحاق،

وكذبت اليهود.

وقد رُوي عن النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كلا القولين،

ولو كان فيهما صحيح بالإجماع لم يعزه إلى غيره،

وأمّا الرواية التي رويت عنه صلّى اللّه عليه أنّ الذبيح إسحاق ما أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد اللّه بن أحمد (قالا) : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثنا موسى بن إسحاق قال : حدّثنا عبد اللّه بن أبي شنبه قال : أخبرنا الأشيب قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الذي أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن علي بن لؤلؤ قال : أخبرنا الهيثم بن خلف قال : حدّثنا أحمد بن إبراهيم قال : حدّثنا حجاج عن ابن جريح قال : أخبرت عن صفوان بن سليم وزيد بن أسلم عن النبي (عليه السلام) أنه قال : (إنّ إسحاق الذي أراد إبراهيم أن يذبحه).

وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة (فأقرأنيه) قال : أخبرنا جدي قال : حدّثنا علي بن حجر قال : حدّثنا عمر بن حفص عن أبان عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه : (يشفع إسحاق بعدي فيقول : يا رب صدّقت نبيّك وجدتُ بنفسي للذبح فلا تُدخل النار من لم يشرك بك شيئاً). قال : (فيقول تبارك وتعالى : وعزتي لا أُدخل النار من لا يُشرك بي شيئاً).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن نصرويه قال : حدّثنا أبو حفص عمر بن محمد بن عيسى الجوهري قال : حدّثنا عيسى بن مساور الجوهري قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن بن زيد بن أسلم عن أبيه،

عن عطاء بن يسار،

عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ اللّه عزَّ وجل خيّرني بين أن يغفر لنصف أُمّتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأُمتي،

ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجّلت منها دعوتي؛ إنَّ اللّه سبحانه لما فرّج عن إسحاق كرب الذبح قيل : يا إسحاق سل تُعط. فقال : أما والذي نفسي بيده لأُتعجّلنها قبل نزغة الشيطان،

اللّهم من مات لا يُشرك بك شيئاً فاغفر له وأدخله الجنة).

وأما ما رُوي عنه صلّى اللّه عليه أنّ الذبيح إسماعيل فروى عمر بن عبد الرَّحْمن،

عن عبيد اللّه بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان عن أبيه قال : حدّثني عبد اللّه بن سعيد عن الصنايجي قال : كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق،

فقال : على الخبير سقطتم،

كنت عند النبي صلّى اللّه عليه فجاء رجل فقال : يا رسول اللّه عُد عليّ مما أفاء اللّه عليك يابن الذبيحين فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه،

فقيل له : يا أمير المؤمنين وما الذبيحان؟

فقال : إنّ عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر للّه عز وجل لئن سهل اللّه عز وجل له أمرها ليذبحنّ أحد ولده،

قال : فخرج السهم على عبد اللّه،

فمنعه أخواله وقالوا : افد ابنك بمئة من الإبل ففداه بمئة من الإبل والثاني إسماعيل (عليه السلام).

فهذا ما ورد من الأخبار في هذا الباب،

فأما حجة القائلين بإنه إسحاق من القرآن فهو أنّ اللّه سبحانه أخبر عن خليله إبراهيم (عليه السلام) حين فارق قومه مهاجراً إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط وقال : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} إنه دعا فقال : {رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ} وذلك أنه قبل أن يعرف هاجر،

وقبل أن تصير له أُم إسماعيل. ثم اتبع ذلك الخبر عن إجابته ودعوته وتبشيره أتاه بغلام حليم ثم عن رؤيا إبراهيم أن يذبح ذلك الغلام الذي بشر به حين بلغ معه السعي وليس في (كتاب اللّه بشير لإبراهيم بولد ذكر) إلاّ بإسحاق.

واحتج من قال : إنه إسماعيل من القرآن بما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول : إنّ الذي أمر اللّه سبحانه إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل،

وإنا لنجد ذلك في كتاب اللّه سبحانه،

وذلك أن اللّه عز وجل يقول حين فرغ من قصة المذبوح : {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} .

وقال عز من قائل : {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} يقول : بابن وبابن ابن،

فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من اللّه سبحانه وتعالى الموعود. فلما لم يذكر اللّه تعالى إسحاق إلاّ بعد انقضاء قصّة الذبح،

ثم بشّره بولد إسحاق علمنا أنّ الذبيح إسماعيل.

قال القرظي : فذكرت ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة،

إذ كنت معه بالشام،

فقال لي عمر : إنّ هذا الشيء ما كنت أنظر فيه،

وإني لأراه كما قلت. ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام،

وكان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه،

وكان يرى أنه من علماء اليهود،

فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك وأنا عنده فقال : أيُّ ابني إبراهيم أُمر بذبحه؟

فقال : إسماعيل. ثم قال : واللّه يا أمير المؤمنين إنّ اليهود لتعلم ذلك ولكنهم ليحسدونكم معشر العرب على أن يكون أنّ أباكم الذي كان من أمر اللّه سبحانه وتعالى فيه والفضل الذي ذكره اللّه سبحانه منه لصبره على ما أُمر به،

فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق؛ لأن إسحاق أبوهم.

واحتجوا أيضاً بأن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج،

قال الشعبي : رأيتُ قرني الكبش منوطين بالكعبة،

وكان القرنان ميراثاً لولد إساعيل عن أبيهم،

فلم يزاحمهم على ذلك ولد إسحاق وهم الروم،

وكانوا أكبر وأعزّ وأمنع من العرب : وهذا أدل دليل على أن الذبيح إسماعيل.

وقال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل؟

فقال لي : يا أصمع أين ذهب عنك عقلك؟

ومتى كان إسحاق عليه السلام بمكة؟

وإنما كان إسماعيل بمكة،

وهو الذي بنى البيت مع أبيه إبراهيم (عليهما السلام)،

كما قال اللّه سبحانه {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} ،

والمنحر بمكة لا شكّ فيه.

وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا بكر محمد بن المنذر الضرير يقول : سمعت أبا محمد الزنجاني المؤدّب يقول : سُئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد :

إنّ الذبيح هُديت إسماعيلُ

نطق الكتاب بذاك والتنزيلُ

شرفٌ به خَصّ الإلهُ نبيَّنا

وأتى به التفسير والتأويلُ

إن كنت أمّته فلا تنكر له

شرفاً به قد خصّه التفضيلُ

وأما قصة الذبح فقال السدي بإسناده : لمّا فارق إبراهيم الخليل (عليه السلام) قومه مهاجراً إلى الشام هارباً بدينه،

كما قال اللّه سبحانه وتعالى : {وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} دعا اللّه سبحانه وتعالى أن يهب له ابناً صالحاً من سارة فقال : {رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ} . فلما نزل به أضيافه من الملائكة المرسلين إلى المؤتفكة وبشرّوه بغلام حليم،

قال إبراهيم لما بُشّر به : فهو إذن للّه ذبيح. فلما وُلد الغلام وبلغ معه السّعي،

قيل : أوفِ بنذرك الذي نذرت. فكان هذا هو السبب في أمر اللّه تعالى رسوله إبراهيم بذبح ابنه،

فقال إبراهيم عند ذلك لإسحاق : (انطلق نقرّب قرباناً للّه تعالى)،

وأخذ سكّينا وحبلاً ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام : يا أبتِ أين قربانك؟

فقال {يا بُني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذاترى قال يا أبت افعل ما تُؤمر ستجدني إنْ شاء اللّه من الصابرين}.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار : كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حُمل على البراق فيغدو من الشام فيصلي بمكة،

ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام. حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته،

أُري في المنام أن يذبحه،

فلما أُمر بذلك قال لابنه : (يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب). فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب (ثبير)،

أخبره بما أُمر،

كما ذكر اللّه تعالى،

قالوا : فقال له ابنه الذي أراد أن يذبحه : (يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب،

وأكفف عنّي ثيابك حتى لا ينضح عليها من دمي شيء،

فينقص أجري وتراه أُمّي فتحزن،

واشحذ شفريك،

وأسرع مرّ السكين على حلقي ليكون أهون للموت عليّ،

فإنّ الموت شديد،

وإذا أتيت أُمي فاقرأ عليها السلام مني،

وإن رأيت أن ترد قميصي على أُمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عنّي). فقال له إبراهيم (عليه السلام) : (نعم العون أنت يا بُني على أمر اللّه).

ففعل إبراهيم ما أوصاه به ابنه،

ثم أقبل عليه يقبّله،

وقد ربطه وهو يبكي والابن يبكي حتى استنقع الدموع تحت خده،

ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تنحر السكين. قال السدي : ضرب اللّه صفحة من النحاس على حلقه. قالوا : فقال الابن عند ذلك : (يا أبتِ كبّني لوجهي على جبيني،

فإنّك إذا نظرت في وجهي رحمتني،

وأدركتك رقّة تحول بينك وبين أمر اللّه وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع). ففعل ذلك إبراهيم،

ووضع السكين على قفاه فانقلب السكين،

ونُودي : (يا إبراهيم مه،

قد صدّقت الرّؤيا،

هذه ذبيحتك فداءً لابنك فاذبحها دونه)،

فنظر إبراهيم فإذا هو بجبرائيل ومعه كبش أقرن أملح فكبّر جبرائيل فكبّر الكبش فكبّر إبراهيم فكبّر ابنه وأخذ إبراهيم الكبش وأتى به المنحر من منى فذبحه.

قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده،

لقد كان أوّل الإسلام،

وإنّ رأس الكبش لمعلّق بقرنيه في ميزاب الكعبة.

قال السدّي : فلما أخذ إبراهيم (عليه السلام) الكبش خلّى عن ابنه،

وأكبّ عليه وهو يقبّله ويقول : (يا بني وهبت لي)،

ثم رجع إلى سارة فأخبرها الخبر،

فجزعت سارة وقالت : يا إبراهيم،

أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني؟.

وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله قالوا : لما أُري إبراهيم (عليه السلام) ذبح ابنه قال الشيطان : واللّه لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم،

لا أفتن منهم أحداً أبداً. فتمثل لهم الشيطان رجلاً وأتى أُمّ الغلام فقال لها : هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟

قالت : ذهب به يحطبنا من هذا الشعب. قال : لا واللّه ما ذهب به إلاّ ليذبحه. قالت : كلا هو أرحم به وأشدّ حبّاً له من ذلك. قال : إنه يزعم أنّ اللّه أمره بذلك. قالت : فإنْ كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه،

وسلّمْنا لأمر اللّه عز وجل.

فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه فقال له : يا غلام هل تدري أين يذهب أبوك؟

قال : (يحطب أهلنا من هذا الشعب). قال : واللّه ما يُريد إلاّ أن يذبحك. قال : (ولِمَ).

قال : زعم أنّ ربه أمره بذلك،

قال : (فليفعل ما أمره به ربه،

فسمعاً وطاعة).

فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم،

فقال له : أين تُريد أيّها الشيخ؟

قال : (أُريد هذا الشعب لحاجة لي فيه). فقال : واللّه إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك،

فأمرك بذبح بُنيَّك هذا. فعرفه إبراهيم فقال : (إليك عنّي يا عدوَّ اللّه،

فواللّه لأمضينَّ لأمر اللّه).

وروى أبو الطفيل عن ابن عباس أنّ إبراهيم لما أُمر بذبح ابنه،

عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم،

ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب،

ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب،

ثم أدركه عند الجمرة الكُبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب،

ثم مضى بأمر اللّه عز وجل في ذلك.

وقال أُمية بن أبي الصلت :

ولإبراهيم الموفي بالنذر

احتساباً وحامل الأحدال

بكره لم يكن ليصبر عنه

لو يراه في معشر أقتال

يا بني إني نذرتك لل

ه شحيطاً فاصبر فدىً لك حالي

واشدد الصفد لا أحيد عن السك

ين حيد الأسير ذي الأغلال

وله مدية تخايل في اللح

م هذام حنية كالهلال

بينما يخلع السرابيل عنه

فكّه ربُّه بكبش حلال

قال خذه ذا وأرسل ابنك إني

للذي قد فعلتما غير قالِ

ربما تجزع النفوس من الأم

ر له فرجة كحل العقالِ

فهذه قصة الذبح كما قال اللّه سبحانه : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ} قال ابن عباس : يعني المشي مع أبيه إلى الحيل. قال الحسن ومقاتل بن حيان : يعني العقل الذي يقوم به الحجة،

وقال الضحاك : يعني الحركة،

وقال ابن زيد : (هو السعي في) العبادة.

{يا بُني إني أرى في المنام} : رأيت في المنام {أَنِّى أَذْبَحُكَ} لنذر عليّ فيك أُمرت بذلك،

وذلك أنّ إبراهيم (عليه السلام) رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إنّ اللّه يأمرك بذبح ابنك هذا. فلما أصبح روّى في نفسه أي فكّر من الصباح إلى الرواح أمِن اللّه هذا الحكم أو من الشيطان؟

فمن ثم سُمّي يوم التروية. فلما أمسى رأى في المنام ثانياً ما رآه من ذبح الولد،

فلما أصبح عرف أنّ ذلك الحكم من اللّه،

فمن ثم سمّيَ يوم عرفة.

وقال : مقاتل : رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات،

وقال عطاء ومقاتل : أُمر إبراهيم أن يذبح ابنه ببيت المقدس فلما تيقّن ذلك أخبر ابنه فقال لابنه {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} ؟

قرأ العامة بفتح التاء،

وقرأ حمزة والكسائي (تري) بضم التاء وكسر الراء أي ماذا تشير؟

وإنما جاز أن يؤامر ابنه في المضي لأمر اللّه؛ لأنه أحبّ أن يعلم صبره على أمر اللّه وعزمه على طاعته فقال له ابنه : {يا أبتِ افعل ما تُؤمر ستجدني إن شاء من اللّه من الصابرين}.

١٠٣

{فَلَمَّآ أَسْلَمَا} أي انقادا وخضعا لأمر اللّه سبحانه وتعالى ورضيابه،

وقرأ ابن مسعود (فلما سلّما) أي فوّضا،

وقرأ ابن عباس (استسلما). قال قتادة : أسلم هذا ابنه وهذا نفسه {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي صرعه وأضجعه وكبّه على وجهه للذّبح

١٠٤-١٠٦

{وَنَادَيْنَاهُ} ،

قال أهل المعاني : (الواو) مقحمة صلة،

مجازه : ناديناه،

كقوله : {وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ} يعني : أوحينا،

وقوله : {وهم من كلّ حدب ينسلون واقتربَ الوعد} وقال امرؤ القيس :

فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

وقال الشاعر :

حتى إذا قملت بطونكمُ

ورأيتم أبناءكم شبّوا

وقلبتم ظهر المجن لنا

إنّ اللئيم العاجز الخب

أراد : قلبتم.

{أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إنّ هذا لهو البلاء المبين} : الاختبار المظهر فيما يوجب النعمة أو النقمة،

ولذلك قيل للنعم : بلاء وللمحنة بلاء؛ لأنها سُمّيت باسم سببها المؤدّى به إليها،

كما قيل لأسباب الموت : هذا الموت بعينه.

١٠٧

{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ،

والذِّبح : المهيأ لأن يُذبح،

والذَّبح بالفتح المصدر،

وقد اختلفوا في هذا الذَّبح وسبب تسميته عظيماً؛ فأخبرنا أبو الحسن الفهندري قال : حدّثنا أبو العباس الأصم قال : حدّثنا إبراهيم بن مرزوق البصري قال : حدّثنا أبو عامر العقدي عن سفيان ابن عبد اللّه بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير،

عن ابن عباس قال : الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قرّبه ابن آدم،

وقال سعيد بن جبير : حق له أن يكون عظيماً وقد رعى في الجنة أربعين خريفاً،

وقال مجاهد : سمّاه عظيماً لأنه متقبل،

وقال الحسين بن الفضيل : لأنه كان من عند اللّه،

وقال أبو بكر الورّاق : لأنه لم يكن عن نسل وإنما كان بالتكوين،

وقيل : لأنه فداء عبد عظيم،

وقال أهل المعاني : قيل له : عظيم؛ لأنه يصغر مقدار غيره من الكباش بالإضافة إليه،

وأكثر المفسرين على أنه كان كبشاً من الغنم أعين أقرن أملح،

وروى عمر بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول : ما فدى إسماعيل إلاّ تيس من الأروى،

وأهبط عليه من (السماء)،

وهي رواية أبي صالح عن ابن عباس قال : وكان وعلاً.

١٠٨-١١٢

{وتركنا عليه في الآخرين سلامٌ على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيّاً من الصّالحين}،

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة وعبيد اللّه قالا : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثني أحمد بن حرب قال : حدّثنا سبيك قال : حدّثنا وكيع عن سفيان عن داوُد عن عكرمة عن ابن عباس. {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} : بشرى نبوّة بُشّر به مرتين حين ولد وحين نُبّئ،

١١٣

{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} أي على إبراهيم في الأولاد،

{وَعَلَى إِسْحَاقَ} حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صلبه.

{وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} : مؤمن {وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} : كافر ظاهر الكفر.

١١٤

{وَلَقَدْ مَنَنَّا} : أنعمنا {عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} بالنبوة.

١١٥

{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} : بني إسرائيل {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ،

يعني الغرق،

حيث أغرقنا فرعون وقومه

١١٦

{وَنَصَرْنَاهُمْ} يعني موسى وهارون وقومهما {فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} على القبط،

١١٧

{وَءَاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} : المستنير

١١٨-١٢٢

{وهديناهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الآخرين سلامٌ على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنّهما من عبادنا المؤمنين}.

١٢٣

{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ،

أخبرنا أبو محمد بن أبي القاسم بن المؤهل قال : حدّثنا أبو العباس الأصم قال : حدّثنا بكار بن قتيبة قال : حدّثنا أبو داود الطيالسي قال : حدّثنا قيس بن أبي إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن ابن مسعود قال : إلياس هو إدريس،

وإسرائيل هو يعقوب،

وإلى هذا ذهب عكرمة،

وقال : هو في مصحف عبد اللّه : {وإن إدريس لمن المرسلين} وتفرّد عبد اللّه وعكرمة بهذا القول.

وقال الآخرون : هو نبي من أنبياء بني إسرائيل. قال ابن عباس : وهو ابن عمّ اليسع،

وقال ابن إسحاق : هو إلياس بن ياسين بن العيزار بن هارون بن عمران،

وقال أيضاً محمد بن إسحاق ابن ياسر والعلماء من أصحاب الأخبار : لمّا قبض اللّه سبحانه حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل،

وظهر فيهم الفساد والشرك،

ونسوا عهد اللّه،

ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون اللّه،

فبعث اللّه إليهم إلياس (عليه السلام) : نبياً وإنما دانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام يبعثون إليهم تجديد ما نسوا من التوراة،

وبنو إسرائيل يؤمئذ متفرّقون في أرض الشام وفيهم ملوك كثيرة وكان سبب ذلك أنّ يوشع بن نون لما فتح أرض الشام بعد موسى وملكها بوّأها بني إسرائيل وقسّمها بينهم،

فأحلّ سبطاً منهم بعلبك ونواحيها،

وهم سبط إلياس الذي كان منهم إلياس فبعثه اللّه إليهم نبيّاً،

وعليهم يؤمئذ ملك يقال له : (أجب) قد ضلّ أضل قومه،

وأجبرهم على عبادة الأصنام،

وكان يعبد هو وقومه صنماً يقال له : بعل،

وكان طوله عشرين ذراعاً،

وكانت له أربعة وجوه. قال : فجعل إلياس يدعوهم إلى اللّه سبحانه،

وهم في كلّ ذلك لا يسمعون منه شيئاً إلاّ ما كان من أمر الملك الذي كان ببعلبك،

فإنه آمن به وصدّقة وكان إلياس يقوم أمره ويسدده ويرشده وكان لأجب الملك هذا امرأة يُقال لها أزبيل،

وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها،

فكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتركب كما يركب،

وتجلس في

مجلس القضاء فتقضي بين الناس،

وكانت قتّالة للأنبياء.

قال : وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتمها إيمانه،

وكان كاتبها قد خلّص من يدها ثلاثمئة نبي كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قبلهم ممن يكثر عددهم،

وكانت في نفسها غير محصنة،

ولم يكن على وجه الأرض أفحش منها،

وهي مع ذلك قد تزوجت سبعة ملوك من بني إسرائيل وقتلتهم كلّهم بالاغتيال،

وكانت معمّرة حتى يُقال : إنها ولدت سبعين ولداً.

قال : وكان لأجب هذا جار من بني إسرائيل،

رجل صالح يُقال له (مزدكي) وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ويزينها،

وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته،

وكانا يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها،

وكان أجب الملك مع ذلك يحسن جوار صاحبها مزدكي ويحسن إليه،

وامرأته أزبيل تحسده على ذلك لأجل تلك الجنينة،

وتحتال في أن تغصبها إياه لما تسمع الناس يكثرون ذكر الجنينة ويتعجبون من حسنها،

ويقولون : ما أحرى أن تكون هذه الجنينة لأهل هذا القصر ويتعجبون من الملك وامرأته كيف لم يغصباها صاحبها. فلم تزل امرأة الملك تحتال على العبد الصالح مزدكي في أن تقتله وتأخذ جنينته والملك ينهاها عن ذلك فلا تجد عليه سبيلاً.

ثم إنه اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد،

وطالت غيبته،

فاغتنمت امرأته أزبيل ذلك للحيلة على مزدكي،

وهو غافل عمّا تريد به،

مقبل على عبادة ربه وإصلاح معيشته،

فجمعت أزبيل جمعاً من الناس وأمرتهم أن يشهدوا على مزدكي أنه سبّ زوجها أجب فأجابوها إلى ملتمسها من الشهادة عليه.

وكان من حكمهم في ذلك الزمان على من سبّ الملك القتل إذا قامت عليه البيّنة بذلك فأحضرت مزدكي،

وقالت له : بلغني أنّك شتمت الملك وعبته. فأنكر مزدكي ذلك،

فقالت المرأة : إنّ عليك شهوداً،

وأحضرت الشهود فشهدوا بحضرة الناس عليه بالزور،

فأمرت بقتل مزدكي فقتل وأخذت جنينته غصباً فغضب اللّه عليهم بقتل العبد الصالح.

فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر،

فقال لها : ما أصبت ولا وفقتِ ولا أرانا نفلح بعده أبداً،

وإنا كنّا عن جنينته لأغنياء،

قد كنّا نتنزه فيها،

وقد جاورنا وتحرّم بنا مذ زمان طويل،

فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى،

لوجوب حقه علينا،

فختمت أمره بأسوأ الجوار،

وما حملكِ على اجترائكِ عليه إلاّ سفهك وسوء رأيك وقلّة تفكرك في العواقب. فقالت : إنما غضبت لك وحكمت بحكمك. فقال لها : أوما يسعه حلمك ويحدوك عظيم خطرك على العفو عن رجل واحد فتحفظين له جواره؟

قالت : قد كان ما كان.

فبعث اللّه تعالى إلياس (عليه السلام) إلى أُجب الملك وقومه وأمره أن يخبرهم أنّ اللّه سبحانه قد غضب لوليّه حين قتلوه بين أظهرهم ظلماً،

وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنعهما ولم يردّا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما يعني أجب وامرأته في جوف الجنينة أشرّ ما يكونان بسفك دميهما ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرى عظامهما من لحومهما ولا يمتّعان بها إلاّ قليلاً.

قال : فجاء إلياس وأخبره بما أوحى اللّه تعالى إليه في أمره وأمر امرأته والجنينة،

فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له : يا إلياس واللّه ما أرى ما تدعو إليه إلاّ باطلاً،

واللّه ما أرى فلاناً وفلاناً،

سمى ملوكاً منهم قد عبدوا الأوثان إلاّ على مثل ما نحن عليه يأكلون ويشربون ويتنعّمون مملكين ما ينقص من دنياهم ولا من أمرهم الذي تزعم أنه باطل،

وما نرى لكم علينا (ولا) عليهم من فضل.

قال : وهمّ الملك بتعذيب إلياس وقتله،

فلما سمع إلياس ذلك وأحسّ بالشر،

رفضه وخرج عنه،

فلحق بشواهق الجبال،

وعاد الملك إلى عبادة بعل. فارتقى إلياس أصعب جبل وأشمخه،

فدخل مغارة فيه،

فيقال : إنه قد بقي فيه سبع سنين شريداً طريداً خائفاً يأوي إلى الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر،

وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون،

يتوقعون أخباره ويجتهدون في أخذه،

واللّه سبحانه وتعالى يستره ويدفع عنه. فلما تمّ له سبع سنين أذن اللّه تعالى في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم،

فأمرض اللّه سبحانه ابناً لأجب وكان أحبّ ولدِه إليه،

وأعزهم عليه،

وأشبههم به فأدنف حتى يئس منه،

فدعا صنمه بعلاً وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه،

حتى جعلوا له أربعمئة سادن فوكلوهم به وجعلوهم أُمناءه،

فكان الشيطان يدخل في جوف الصّنم فيتكلّم بأنواع الكلام،

وأربعمئة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان،

ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيكتبونها للناس فيعملون بها،

ويسمونهم الأنبياء.

فلما اشتدّ مرض ابن الملك طلب إليهم الملك أن يتشفعوه إلى بعل ويطلبوا لابنه من قِبَلِهِ الشفاء والعافية فدعوه فلم يجبهم،

ومنع اللّه بقدرته الشيطان عن صنمهم فلم يمكنه الولوج في جوفه ولا الكلام،

وهم مجتهدون في التضرع إليه وهو لا يزداد إلاّ خمودا. فلما طال عليهم ذلك قالوا لأجب : إنّ في ناحية الشام آلهة أُخرى،

وهي في العظم مثل إلهِك،

فابعث إليها الأنبياء ليشفعوا لك إليها،

فلعلّها أن تشفع لك إلى إلهك بعل،

فإنه غضبان عليك،

ولولا غضبه عليك لكان قد أجابك وشفى لك ابنك.

قال أجب : ومن أجل ماذا غضب عليّ،

وأنا أطيعه وأطلب رضاه منذ كنت،

لم أسخطه ساعة قط؟

قالوا : من أجل أنك لم تقتل إلياس،

وفرطت فيه حتى نجا سليماً،

وهو كافرٌ بإلهك،

يعبد غيره،

فذلك الذي أغضبه عليك. قال أُجب : وكيف لي أن أقتل إلياس يومي هذا،

وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابني؟

فليس لإلياس مطلب،

ولا يعرف له موضع فيقصد،

فلو عوفي ابني تفرّغت لطلبه،

ولم يكن لي همّ ولا شغل غيره حتى آخذه فاقتله،

فأُريح إلهي منه وأُرضيه.

قال : ثم إنه بعث أنبياءه الأربعمئة ليشفعوا إلى الآلهة. التي بالشام،

ويسألوها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفي ابنه. فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه إلياس،

أوحى اللّه سبحانه إلى إلياس أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويستوقفهم ويكلمهم،

وقال له : (لا تخف فإني سأصرف عنك شرّهم،

وأُلقي الرّعب في قلوبهم) فنزل إلياس من الجبل،

فلما لقيهم استوقفهم،

فلما وقفوا،

قال لهم : (إنّ اللّه سبحانه أرسلني إليكم وإلى مَن وراءكم،

فاسمعوا أيُّها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم،

فارجعوا إليه وقولوا له : إنّ اللّه يقول لك : ألست تعلم يا أجب أنّي أنا اللّه لا إله إلاّ أنا إله بني إسرائيل الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم،

أفجهلك وقلة علمك حملك على أن تشرك بي،

وتطلب الشفاء لابنك من غيري ممن لا يملكون لأنفسهم شيئاً إلاّ ماشئت؟

إنّي حلفت باسمي لأغيظنّك في ابنك ولأُميتنه في فوره هذا حتى تعلم أنّ أحداً لا يملك له شيئاً دوني).

فلما قال لهم هذا رجعوا،

وقد مُلئوا منه رعباً،

فلما صاروا إلى الملك قالوا له ذلك وأخبروه بأن إلياس انحط عليهم وهو رجل نحيف طويل،

قد قشف وقحل وتمعط شعره وتقشر جلده،

عليه جبّة من شعر وعباءة قد خللّها على صدره بخلال،

فاستوقفنا،

فلما صار معنا قذفت له في قلوبنا الهيبة والرعب،

وانقطعت ألسنتنا،

ونحن في هذا العدد الكبير وهو واحد،

فلم نقدر على أن نكلّمه ونراجعه ونملأ أعيننا منه،

حتى رجعنا إليك،

وقصّوا عليه كلام إلياس،

فقال أجب : لا ينتفع بالحياة ما كان إلياس حيّاً،

ما الذي منعكم أن تبطشوا به حين لقيتموه وتوثقوه وتأتوني به،

وأنتم تعلمون أنه طلبي وعدوّي؟

فقالوا : قد أخبرناك ما الذي منعنا منه ومن كلامه والبطش به. قال أجب : ما يُطاق إذن إلياس إلاّ بالمكر والخديعة.

فقيّض له خمسين رجلاً من قومه من ذوي القوة والبأس،

وعهد إليهم عهده وأمرهم بالاحتيال عليه والاعتناء به،

وأن يطمعوه في أنهم قد آمنوا به هم ومن وراءهم ليستنيم إليهم ويغترّ بهم فيمكنهم من نفسه،

فيأتوا به ملكهم. فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذي فيه إلياس (عليه السلام)،

ثم تفرّقوا فيه وهم ينادونه بأعلى أصواتهم،

ويقولون : يا نبي اللّه ابرز لنا وأشرف بنفسك فإنا قد آمنا بك وصدقناك،

وملكنا أُجب وجميع قومنا،

وأنت آمن على نفسك،

وجميع بني إسرائيل يقرؤون عليك السلام ويقولون : قد بلّغتنا رسالة ربك وعرفنا ما قلت وآمنا بك،

وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلّم إلينا،

فأنت نبينا ورسول ربنا،

فأقم بين أظهرنا واحكم فينا،

فإنا ننقاد لما أمرتنا وننتهي عما نهيتنا،

وليس يسعك أن تتخلف عنا مع إيماننا وطاعتنا،

فتداركنا وارجع إلينا،

وكلّ هذا كان منهم مماكرة وخديعة.

فلما سمع إلياس مقالتهم وقعت بقلبه،

وطمع في إيمانهم وخاف اللّه،

وأشفق من سخطه إن هو لم يظهر ولم يجبهم بعد الذي سمع منهم،

فلمّا أجمع على أن يبرز لهم،

رجع إلى نفسه فقال : (لو أنّي دعوت اللّه سبحانه وتعالى وسألته أن يعلمني ما في أنفسهم ويطلعني على حقيقة أمرهم)،

وذلك أنّ اللّه سبحانه وفقه وألهمه التوقّف والدعاء والتحرز،

فقال : (اللّهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فائذن لي في البروز إليهم،

وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم).

فما استتمّ قوله حتى حصبوا بالنار من فوقهم أجمعين.

قال : وبلغ أجب وقومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء،

واحتال ثانياً في أمر إلياس،

وقيّض فئة أُخرى مثل عدد أُولئك،

أقوى منهم وأمكن من الحيلة والرأي فأقبلوا حتى توغلوا (في) تلك الجبال. متفرقين،

وجعلوا ينادون : يا نبي اللّه إنا نعوذ باللّه وبك من غضب اللّه وسطواته،

إنا لسنا كالذين أتوك قبلنا،

إنّ أولئك فرقة نافقوا وخالفوا،

فصاروا إليك ليكيدوا بك من غير رأينا ولا علمنا،

وذلك أنهم حسدونا وحسدوك وخرجوا إليك سراً،

ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤونتهم،

والآن فقد كفاك ربك أمرهم وأهلكهم بسوء نياتهم وانتقم دونك منهم. فلما سمع إلياس مقالتهم دعا اللّه بدعوته الأُولى،

فأمطر عليهم النار فاحترقوا عن آخرهم.

وفي كل ذلك ابن الملك في البلاء الشديد من وجعه كما وعده اللّه سبحانه وتعالى على لسان نبيّه إلياس،

لا يُقضى عليه فيموت ولا يُخفف عنه من عذابه،

فلما سمع الملك بهلاك أصحابه ثانياً إزداد غضباً إلى غضب،

وأراد أن يخرج في طلب إلياس بنفسه إلاّ أنه شغله عن ذلك مرض ابنه،

فلم يمكنه،

فوجه نحو إلياس الكاتب المؤمن الذي هو كاتب امرأته،

رجاء أن يأنس به إلياس،

فينزل معه وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءاً،

وإنما أظهر له ذلك لما اطّلع عليه من إيمانه،

وأنّ الملك مع اطلاعه على إيمانه كان مغضياً عنه فيه؛ لما هو عليه من الأمانة والكفاءة والحكمة وسداد الرأي والبصر بالأُمور فلما وجّهه نحوه أرسل معه فئة من أصحابه،

وأوعز إليهمدون الكاتب أن يوثقوا إلياس ويأتوه به إن أراد التخلف عنهم،

وإن جاء مع الكاتب واثقاً به آنساً لمكانته لم يوحشوه ولم يرّوعوه. ثم أظهر للكاتب الإنابة،

وقال له : إنه قد آن لي أن أتوب واتّعظ،

وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا،

والبلاء الذي فيه ابني،

وقد عرفت أنّ ذلك بدعوة إلياس،

ولست آمن أن يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته،

فانطلق لنا إليه وأخبره أنا قد تبنا وأنبنا،

وإنّه لا يصلحنا في توبتنا،

وما نُريد من رضا ربنا وخلع أصنامنا إلاّ أن يكون إلياس بين أظهرنا،

يأمرنا وينهانا،

ويخبرنا بما يُرضي ربنا.

قال : وأمر قومه فاعتزلوا الأصنام وقال له : أخبر إلياس أنّا قد خلعنا آلهتنا التي كنا نعبد وأرجأنا أمرها حتى ينزل إلياس إلينا فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها،

وكان ذلك مكراً من الملك. فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه إلياس،

ثم ناداه،

فعرف إلياس صوته،

فتاقت نفسه إليه وأنس به،

وكان مشتاقاً إلى لقائه.

قال : وأوحى اللّه سبحانه وتعالى إلى إلياس أن انزل إلى أخيك الصالح،

فالقه وجدد العهد به. فنزل إليه وسلم عليه وصافحه وقال له : ما الخبر؟

فقال المؤمن : إنه بعثني إليك هذا الجبار الطاغية وقومه،

ثم قصّ عليه ما قالوا،

ثم قال له : إني لخائف إن رجعت إليه ولست معي أن يقتلني،

فمرني بما شئت أفعله وأنتهي إليه،

وإن شئت انقطعت إليك فكنت معك وتركته،

وإن شئت جاهدته معك،

وإن شئت ترسلني إليه بما تحبّ فأبلغه رسالتك،

وإن شئت دعوت ربك فجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً.

قال : فأوحى اللّه سبحانه إلى إلياس أنّ كلّ شيء جاءك منهم مكر وكذب ليظفروا بك،

وإنّ أجب إن أخبرته رسله أنّك قد لقيت هذا الرجل ولم يأتِ بك إليه اتهمه وعرف أنه قد داهن في أمرك فلم يأمن أن يقتله فانطلق معه،

فإنّ انطلاقك معه عذره وبراءته عند أجبّ،

وإنّي سأشغل عنكما أجب،

فأضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له همّ غيره ثم أُميته على شرّ حال،

فإذا مات هو فارجع عنه ولا تقم.

قال : فانطلق معهم حتى قدموا على أجب فلما قدموا عليه شدّد اللّه الوجع على ابنه وأخذ الموت يكظمه فشغل اللّه بذلك أجب وأصحابه عن إلياس،

ورجع إلياس سالماً إلى مكانه. فلما مات ابن أُجب،

وفرغوا من أمره وقلّ جزعه،

انتبه لإلياس وسأل عنه الكاتب الذي جاء به،

فقال : ليس لي به علم وذلك أنه شغلني عنه موت ابنك والجزع عليه ولم أكن أحسبك إلاّ وقد استوثقت منه. فأضرب عنه أجب وتركه لما كان فيه من الجزع على ابنه.

فلما طال الأمر على إلياس ملّ المكث في الجبال والمقام بها واشتاق إلى العمران والناس،

نزل من الجبل وانطلق حتى نزل بامرأة من بني إسرائيل،

وهي أُمّ يونس بن متّى ذي النون،

فاستخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود يرضع،

وكانت أُمّ يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها ولا تدّخر عنه كرامة تقدر عليها.

قال : ثم إنّ إلياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال دوحها فأحبّ اللّحوق بالجبال،

فخرج وعاد إلى مكانه،

فجزعت أُمّ يونس لفراقه (وأوحشها) فقده ثم لم تلبث إلاّ يسيراً حتى مات ابنها حين فطمته،

فعظمت مصيبتها فيه،

فخرجت في طلب إلياس فلم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ووجدته فقالت له : إني قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتي واشتد لفقده بلائي وليس لي ولد غيره فارحمني وادع ربك جل جلاله ليُحيي لي ابني ويجبر مصيبتي،

وإني قد تركته مسجّى لم أدفنه،

وقد أخفيت مكانه. فقال لها إلياس : (ليس هذا مما أُمرت به،

وإنما أنا عبدٌ مأمور أعمل بما يأمرني ربي،

ولم يأمرني بهذا) فجزعت المرأة وتضرعت،

فأعطف اللّه سبحانه قلب إلياس لها،

فقال لها : (ومتى مات ابنك؟)

قالت : منذ سبعة أيام.

فانطلق إلياس معها وسار سبعة أُخرى حتى انتهى إلى منزلها فوجد ابنها يونس بن متّي ميتاً منذ أربعة عشر يوماً،

فتوضأ وصلّى ودعا فأحيا اللّه يونس بن متّي بدعوة إلياس. فلما عاش وجلس،

وثب إلياس وانصرف وتركه وعاد إلى موضع ما كان فيه. فلما طال عصيان قومه ضاق بذلك إلياس ذرعاً وأجهده البلاء،

قال : فأوحى اللّه سبحانه إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود : (يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه؟

ألست أميني على وحيي،

وحجّتي في أرضي،

وصفوتي من خلقي؟

فسلني أُعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم) قال : (تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملّوني،

وأبغضتهم فيك وأبغضوني). فأوحى اللّه سبحانه إليه : (يا إلياس،

ما هذا باليوم الذي أُعري منك الأرض وأهلها،

وإنما قوامها وصلاحها بك وأشباهك وإن كنتم قليلاً،

ولكن تسألني فأُعطيك).

قال إلياس : (فإن لم تمتني يا إلهي فأعطني ثاري من بني إسرائيل). قال اللّه سبحانه : (وأي شيء تريد أن أُعطيك يا إلياس؟)

قال : (تمكنّني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشأ عليهم سحابة إلاّ بدعوتي،

ولا يمطر عليهم سبع سنين قطرة إلاّ بشفاعتي،

فإنهم لا يذلّهم إلاّ ذلك). قال اللّه سبحانه وتعالى : (يا إلياس،

أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين). قال : (فستّ سنين). قال : (أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين).

قال : (فخمس سنين). قال : (أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين،

ولكنّي أُعطيك ثأرك ثلاث سنين،

أجعل خزائن المطر بيدك،

ولا تنشأ عليهم سحابة إلاّ بدعوتك،

ولا ينزل عليهم قطرة إلاّ بشفاعتك). قال إلياس : (فيأي شيء أعيش؟)

قال : (أُسخرّ لك جنساً من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط).

قال إلياس : (قد رضيت).

قال : فأمسك اللّه عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر،

وجهد الناس جُهداً شديداً،

وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان،

وقد عرفه بذلك قومه،

فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في البيت قالوا : لقد دخل إلياس هذا المكان،

فطلبوه ولقي منهم أهل ذلك المنزل شيئاً.

قال ابن عباس : أصاب بني إسرائيل ثلاثَ سنين القحطُ،

فمرّ إلياس بعجوز،

فقال لها : هل عندك طعام؟

فقالت : نعم،

شيء من دقيق وزيت قليل. قال : فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسَّه حتى ملأ جرابها دقيقاً وملأ خوابيها زيتاً،

فلمّا رأى بنو إسرائيل ذلك عندها قالوا : من أين لك هذا؟

قالت : مرّ بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته،

فعرفوه وقالوا : ذلك إلياس،

فطلبوه فوجدوه فهرب منهم.

ثم إنه آوى ليلة إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له : اليسع بن أخطوب وكان به ضر،

فآوته وأخفت أمره،

فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به،

واتّبع اليسع إلياس فآمن به وصدّقه ولزمه،

وكان يذهب به حيثما ذهب،

وكان إلياس قد أسنّ وكبر،

وكان اليسع غلاماً شاباً.

ثم إن اللّه سبحانه أوحى إلى إلياس : (إنك قد أهلكت كثيراً من الخلق ممن لم يعصِ سوى بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر يحبس المطر من بني إسرائيل). فيزعمون واللّه أعلم أنّ إلياس قال : (يا ربّ دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به،

وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم لعلّهم أن يرجعوا وينزعوا عمّا هم عليه من عبادة غيرك). قيل له : (نعم).

فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم : (إنكم قد هلكتم جوعاً وجهداً،

وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر لخطاياكم،

وإنكم على باطل وغرور،

فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم (تلك) فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون،

وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم،

ودعوت اللّه ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء).

قالوا : أنصفت.

فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تستجب لهم ولم يفرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء،

ثم قالوا لإلياس (عليه السلام) : يا إلياس إنا قد هلكنا فادع اللّه لنا. فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج عنهم مما هم فيه،

وأن يسقوا،

فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر،

وهم ينظرون،

فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق،

ثم أرسل اللّه تعالى عليهم المطر وأغاثهم وحييت بلادهم. فلما كشف اللّه عنهم الضر نقضوا العهد،

ولم ينزغوا عن كفرهم،

ولم يقلعوا عن ضلالتهم،

وأقاموا على حيث ما كانوا عليه،

فلما رأى إلياس ذلك دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم،

فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا وكذا،

فاخرج فيه إلى موضع كذا،

فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه.

فخرج إلياس ومعه اليسع بن أحطوب،

حتى إذا كان بالموضع الذي أمر،

أقبل فرس من نار حتى وقف بين يديه،

فوثب عليه إلياس،

فانطلق به الفرس،

فناداه اليسع : يا إلياس،

ما تأمرني؟

فقذف إليه بكسائه من الجوّ الأعلى،

وكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل،

فكان ذلك آخر العهد به،

ورفع اللّه سبحانه إلياس من بين أظهرهم،

وقطّع عنه لذّة المطعم والمشرب،

وكساه الرّيش،

فكان إنسيّاً ملكيّاً،

أرضيّاً سماويّاً،

وسلّط اللّه تعالى على أجب الملك وقومه عدّواً لهم،

فقصدهم من حيث لم يشعروا بهم حتى رهقهم،

فقتل أجب ملكهم وأزبيل امرأته في بستان مزدكي،

فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما.

ونبّأ اللّه سبحانه بفضله اليسع،

وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل وأوحى إليه وأيده بمثل ما أيدّ به عبده إلياس،

فآمنت به بنو إسرائيل،

فكانوا يعظّمونه وينتهون إلى أمره،

وحكم اللّه تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال : حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل قال : حدّثنا الحسن بن عبد العزيز الجدوي عن ضمرة عن السدي بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : إلياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان ببيت المقدس،

ويوافيان الموسم في كلّ عام.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا الحسن بن أيوب قال : حدّثنا عبد اللّه بن أبي زياد قال : حدّثنا يسار قال : حدّثنا بشر بن منصور قال : حدّثني سعيد بن أبي سعيد البصري قال : قال حدّثني العلاء البجلي عن زيد مولى عون الطفاوي عن رجل من أهل عسقلان كان يمشي بالأردن عند نصف النهار،

فرأى رجلاً فقال : يا عبد اللّه من أنت؟

قال : فجعل لا يكلمني،

قلت : يا عبد اللّه من أنت؟

قال : (أنا إلياس) قال : فوقعت عليَّ رعدة،

فقلت : ادع اللّه يرفع عني ما أجد حتى أفهم حديثك وأعقل عنك. قال : فدعا لي بثماني دعوات : (يابرّ يارحيم ياحنان يامنان ياحي ياقيوم)،

ودعوتين بالسريانية لم أفهمهما.

قال : ورفع اللّه عنّي ما كنت أجدُ،

فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين يدي،

قال : فقلت له : يوحى إليك اليوم؟

قال : (منذ بعث اللّه سبحانه محمداً رسولاً فإنه ليسَ يُوحي إليّ) قال : قلت له : كم الأنبياء اليوم أحياء؟

قال : (أربعة،

اثنان في الأرض،

واثنان في السماء،

في السماء عيسى وإدريس،

وفي الأرض إلياس والخضر). قلت : كم الأبدال؟

قال : (ستون رجلاً،

خمسون منهم من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات،

ورجل بالمصيصية ورجلان بعسقلان وسبعة في سائر البلدان،

كلّما أذهب اللّه بواحد،

جاء اللّه بآخر،

بهم يدفع عن الناس وبهم يمطرون). قلت : فالخضر أين يكون؟

قال : (في جزائر البحر). قلت : فهل تلقاه؟

قال : (نعم). قلت : أين؟

قال : (بالموسم) قلت : فما يكون من حديثكما؟

قال : (يأخذ من شعري وآخذ من شعره).

قال : وذاك حين كان بين مروان بن الحكم وبين أهل الشام القتال،

فقلت : فما تقول في مروان بن الحكم؟

قال : (ما تصنع به؟

رجل جبّار عات على اللّه سبحانه،

القاتل والمقتول والشاهد في النار). قال : قلت : فإني قد شهدت فلم أطعن برمح ولم أرمِ بسهم ولم أضرب بسيف،

وأنا أستغفر اللّه عز وجل من ذلك المقام أن أعود إلى مثله أبداً.

قال : (أحسنت،

هكذا فكن).

قال : فأني وإياه قاعدان،

إذ وُضع بين يديه رغيفان أشد بياضاً من الثلج،

أكلت أنا وهو رغيفاً وبعض آخر ثم رفع فما رأيت أحداً وضعه ولا أحداً رفعه. قال : وله ناقة ترعى في وادي الأردن،

فرفع رأسه إليها فما دعاها حتى جاءت فبركت بين يديه فركبها،

قلت : أُريد أن أصحبك. قال : (إنك لا تقدر على صحبتي). قلت : إني خلوّ،

مالي زوجة ولا عيال. قال : (تزوج وإياك والنساء الأربع : إياك والناشز والمختلعة والملاعنة والمبارية،

وتزوّج ما بدا لك من النساء). قال : قلت : إني أُحبّ لقاءك. قال : (إذا رأيتني فقد لقيتني)،

ثم قال : (إني أُريد أن أعتكف في بيت المقدس في شهر اللّه المبارك رمضان).

قال : ثم حالت بيني وبينه شجرة،

فواللّه ما أدري كيف ذهب،

فذلك قوله عز وجل :

١٢٤-١٢٥

{وإنّ الياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون} أتعبدون {بَعْلا} ؟

وهو اسم صنم لهم كانوا يعبدونها،

ولذلك سمّيت مدينتهم بعلبك،

وقال مجاهد وعكرمة والسدّي : البعل الرب بلغة أهل اليمن،

وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس،

قال ابن عباس : وسألت أعرابياً يقول : لآخر : من بعل هذه الناقة؟

يعني صاحبها. قال الفراء : هي بلغة هذيل.

{وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} ،

فلا تعبدونه :

١٢٦

{اللّه رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآكُمُ الأولين} ،

قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب بنصب الهاء والبائين على البدل،

وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ورواية حفص عن عاصم،

وقرأ الآخرون برفعها على الاستئناف.

١٢٧

{فكذبُوه فإنهم محضرون} في العذاب والنار

١٢٨

{إِلا عِبَادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ} من قومه فإنهم (ناجون من النار)

١٢٩-١٣٠

{وتركنا عليه في الآخرين سلامٌ على إل ياسين} قرأ ابن محيص وشيبة {سلامٌ على إلياسين} موصولاً.

وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب (آل ياسين) بالمدّ. الباقون : {إِلْ يَاسِينَ} بالقطع والقصر،

فمن قرأ آل ياسين بالمد،

فإنه أراد آل محمد عن بعضهم،

وقيل : أراد إلياس،

وهو أليق بسياق الآية،

ومن قرأ إل ياسين فقد قيل : إنها لغة في إلياس مثل إسماعيل وإسماعين وميكائيل وميكائين،

وقال الفراء : وهو جمع،

أراد إلياس وأتباعه من المؤمنين كقولهم : الأشعرون والمكيون وقال الكسائي : العرب تثني وتجمع الواحد كقول الشاعر :

قدني من نصر الخبيبين قدي

وإنما هو أبو خبيب عبد اللّه بن الزبير.

وقال الآخر :

جزاني الزهدمان جزاء سوء

وإنما هو زهدم،

وفي حرف عبد اللّه (وإن إدريس لمن المرسلين،

وسلامٌ على ادراسين).

١٣١-١٣٨

{إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وإنّ لوطاً لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلاّ عجوزاً في الغابرين ثم دمّرنا الآخرين وإنكم لتمرّون عليهم}،

أي على آثارهم ومنازلهم،

{مُّصْبِحِينَ} : وقت الصباح،

{وَبِالَّيْلِ} أيضاً تمرّون،

وها هنا تمّ الكلام،

ثم قال {أفلا تعقلون} ،

فتعتبروا؟

١٣٩-١٤٠

{وإنّ يونس لمن المرسلين إذ أَبَق} . هرب {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ،

قال ابن عباس ووهب : كان يونس (عليه السلام) قد وعد قومه العذاب فلما تأخر العذاب عنهم خرج كالمنشور منهم،

فقصد البحر وركب السفينة،

فاحتبست السفينة،

فقال الملاّحون : ها هنا عبد أبق من سيّده،

وهذا رسم السفينة إذا كان فيه آبق لا تجري. فاقترعوا،

فوقعت القرعة على يونس،

فقالوا : ألا نلقيه في الماء؟

واقترعوا ثانياً وثالثاً فوقعت القرعة على يونس،

فقال : (أنا الآبق) وزجّ نفسه في الماء،

فذلك قوله سبحانه :

١٤١

{فَسَاهَمَ} : فقارع،

والمساهمة : إلقاء السهام على جهة القرعة. {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} المقروعين المخلوعين المغلوبين.

١٤٢

{فَالْتَقَمَهُ} : فابتلعه والتقمة {الْحُوتُ} وأوحى اللّه سبحانه إليه أنّي جعلت بطنك سجناً ولم أجعله لك طعاماً،

{وَهُوَ مُلِيمٌ} مذنب،

قد أتى بما يلام عليه.

١٤٣

{فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} المنزهّين الذاكرين للّه سبحانه قبل ذلك في حال الرخاء،

وقال ابن عباس : من المصلين،

وقال مقاتل : من المصلحين المطيعين قبل المعصية،

وقال وهب : من العابدين،

وقال سعيد بن جبير : يعني قوله {اله إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال الحسن : ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملاً صالحاً،

١٤٤

{لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} لصار بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة.

١٤٥

{فَنَبَذْنَاهُ} : طرحناه {بِالْعَرَآءِ} قال الكلبي : يعني وجه الأرض. مقاتل بن حيان : يعني ظهر الأرض. مقاتل بن سليمان بالبراري من الأرض. الأخفش بالفِناء الفراء بالأرض الواسعة. السدّي : بالساحل،

وأصل العراء الأرض الخالية عن الشجر والنّبات،

ومنه قيل للمتجرد : عريان. قال الشاعر :

(ترك الهام... بالعراء

صار للخير حاصر العبقا)

{وَهُوَ سَقِيمٌ} عليل كالفرخ الممغط،

واختلفوا في المدة التي لبث يونس (عليه السلام) في بطن الحوت،

فقال مقاتل بن حيان : ثلاثة أيام. عطاء : سبعة أيام،

ضحاك : عشرين يوماً. السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان : أربعين يوماً.

١٤٦

{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ} أي له،

وقيل : عنده،

كقوله : {لهم عليّ ذنبٌ} أي عندي {شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} قال ابن مسعود : يعني القرع. ابن عباس والحسن ومقاتل هو كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض،

ولا يبقى على الشتاء وليس له ساق نحو القثاء والبطيخ والقرع والحنظل. سعيد ابن جبير : هو كل شيء ينبت ثمّ يموت من عامه،

وقيل : هو يفعيل من (قطن بالمكان) إذا أقام به إقامة زائل لا إقامة ثابت،

وقال مقاتل بن حيان : وكان يستظل بالشجرة،

وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها،

١٤٧

{وَأَرْسَلْنَاهُ} يجوز أن يكون من حبسه في بطن الحوت،

تقدير الآية وقد أرسلناه،

ويجوز أن يكون بعده،

ويجوز أن يكون إلى قوم آخرين. {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال ابن عباس : معناه ويزيدون،

قال الشاعر :

فلما اشتد أمر الحرب فينا

تأملنا رياحاً أو رزاماً

أي ورزاماً،

وقال مقاتل : بل يزيدون.

واختلفوا في مبلغ الزيادة على مائة ألف؛ فقال ابن عباس ومقاتل : عشرون ألف. الحسن والربيع : بضع وثلاثون ألفاً،

ابن حيان : سبعون ألفاً،

١٤٨

{فَامَنُوا} عند معاينة العذاب،

{فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} انقضاء آجالهم.

١٤٩

{فَاسْتَفْتِهِمْ} : فسل يا محمد أهل مكة {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} ؛ وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أنّ الملائكة بنات اللّه،

١٥٠

{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَاكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} : حاضرون خلقنا إياهم،

نظيره قوله : {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} .

١٥١-١٥٣

{ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد اللّه وإنهم لكاذبون أصطفى}. قرأ العامة بقطع الألف؛ لأنه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوحة على حالها مثل {أَسْتَكْبَرْتَ} و{أَسْتَغْفَرْتَ} و {أَذْهَبْتُمْ} ونحوها.

وقرأ أبو جعفر ونافع في بعض الروايات (الكاذبون اصطفى) موصولة على الخبر والحكاية عن قول المشركين،

مجازه : {ليقولون ولد اللّه} ويقولون {أَصْطَفَى} {الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} ثم رجع إلى الخطاب :

١٥٤-١٥٦

{مالكُم كيف تحكمون أفلا تذكّرون أم لكم سُلطانٌ مبين} : برهان بيّن على أنّ اللّه ولداً

١٥٧-١٥٨

{فائتوا بكتابكم إن كنتم صادقين وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبا} : فجعلوا الملائكة بنات اللّه،

فسمّي الملائكة جنًّا لاختبائهم عن الأبصار،

هذا قول مجاهد وقتادة،

وقال ابن عباس : قالوا لحيّ : من الملائكة يقال لهم : الجنّ ومنهم إبليس بنات اللّه.

قال الكلبي : قالوا (لعنهم اللّه) : بل تزوّج من الجن فخرج منها الملائكة،

تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً،

وقال الحسن : أشركوا الشيطان في عبادة اللّه فهو النسب الذي جعلوه.

{وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ} يعني قائلي هذا القول {لَمُحْضَرُونَ} في النار.

١٥٩-١٦٠

{سُبحان اللّه عما يصفون إلاّ عباد اللّه المخلصين}؛ فإنهم من النار ناجون.

١٦١

{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} يعني الأصنام

١٦٢

{مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أي مع ذلك {بِفَاتِنِينَ} : بمضلّين

١٦٣

{إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} أي إلاّ من هو في علم اللّه وإرادته سيدخل النار.

أخبرني ابن فنجويه قال حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفربابي قال : حدّثنا أبو بكربن شنبه قال : حدّثنا عبد اللّه بن إدريس عن عمربن ذر قال : قدمنا على عمر بن عبد العزيز فذكر عنده القدر،

فقال عمر بن عبد العزيز : لو أراد اللّه ألاّ يُعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة،

وإن في ذلك لعلماً من كتاب اللّه،

وجهله من جهله وعرفه من عرفه،

ثم قرأ {إنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلاّ من هو صالِ الجحيم} ،

وقد فصلت هذه الآية بين الناس.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفربابي قال : حدّثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : حدّثنا أنس بن عياض قال : حدّثني أبو سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر قال : قال لي عمر بن عبد العزيز (من فيه إلى أُذني) : ما تقول في الذين يقولون لا قدر؟

قال : أرى أن يستتابوا،

فإن تابوا وإلاّ ضربت أعناقهم. قال عمر بن عبد العزيز : ذلك الرأي فيهم واللّه لو لم يكن إلاّ هذه الآية الواحدة لكفى بها : {فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلاّ من هو صال الجحيم}.

١٦٤

{ما منّا إلاّ له} يعني إلاّ من له {مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} : مكان مخصوص في العبادة. قال ابن عباس : ما في السماوات موضع شبر إلاّ وعليه ملك مصلَ أو مسبح،

وقال أبو بكر : الوراق : {إِلا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} يعبد اللّه عليه،

كالخوف والرجا،

والمحبة والرضا،

وقال السدي : يعني في القربى والمشاهدة.

١٦٥

{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} في الصلاة،

١٦٦-١٦٧

{وإنا لنحن المسبحون وإن كانوا} وقد كادوا يعني أهل مكة {لَيَقُولُونَ} لام التأكيد :

١٦٨

{لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا من الأولين} : كتاباً مثل كتبهم،

١٦٩-١٧٠

{لكنا عباد اللّه المخلصين فكفروا به} فيه اختصار تقديره : فلما أتاهم ذلك الكتاب كفروا به. نظيره قوله : {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ} .

{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ،

وهذا وعيد لهم.

١٧١

{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ،

وهي قوله : {كَتَبَ اللّه غْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى} .

١٧٢-١٧٤

{إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتولّ عنهم حتى حين} قال ابن عباس : يعني الموت،

وقال مجاهد : يعني يوم بدر،

وقيل : إلى يوم القيامة،

وقال مقاتل بن حيان : نسختها آية القتال.

١٧٥

{وَأَبْصِرْهُمْ} : أنظر إليهم إذا عدوا،

وقيل : أبصر حالهم بقليل،

وقيل : انتظرهم {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ما أنكروا :

١٧٦

{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} وذلك أنّ رسول اللّه (عليه السلام) لما أوعدهم العذاب،

قالوا : متى هذا الوعد؟

فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية.

١٧٧

{فَإِذَا نَزَلَ} العذاب {بِسَاحَتِهِمْ} : بناحيتهم وفِنائهم {فَسَآءَ} : فبئس {صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} : الكافرين. أخبرنا أبو عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه الزاهد قال : أخبرنا أبو العباس السراح قال : حدّثنا محمد بن رافع قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمّر عن قتادة عن أنس في قوله : {فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} قال : لما أتى النبي صلّى اللّه عليه خيبر فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومعهم مساحيهم،

فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا،

فرجعوا إلى حصنهم،

فقال النبي عليه السلام : (اللّه أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).

١٧٨-١٧٩

{وتولّ عنهم حتى حين وأبصر فسوف يُبصرون} تأكيد للأُولى.

١٨٠

{سُبْحَانَ رَبِّكَ} إلى آخر السورة أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا أبو مسلم : حدّثنا محمد بن إسماعيل بن محمد بن أُسد بن عبد اللّه الأصفهاني قال : حدّثنا أسيد بن عاصم قال : حدّثنا أبو سفيان بن صالح بن مهران قال : حدّثنا نعمان قال : حدّثنا أبو العوام عن قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه : (إذا سلمتم عليّ فسلّموا على المرسلين؛ فإنما أنا رسول من المرسلين).

قال أبو العوام : كان قتادة يذكر هذا الحديث إذا تلا هذه الآية : {سُبْحَانَ رَبِّكَ} إلى آخر السورة.

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا المسيب قال : حدّثنا مطرف عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه يقول قبل أن يسلّم : {سبحان ربك ربّ العزةِ عمّا يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد للّه رب العالمين}.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا علي بن محمد الطنافسي قال : حدّثنا وكيع عن ثابت بن أبي صفية عن الأصبغ بن نباتة عن عليح قال : (من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة،

فليكن آخر كلامه من مجلسه

١٨١-١٨٢

{سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد للّه ربّ العالمين}).

(أخبرنا ابن فنجويه،

أخبرنا الحسن المخلدي المقرئ عن أبي الحسن علي بن أحمد عن أبي (عثمان) البصري عن أبي خليفة (الجمحي عن) عبد المؤمن عن إبراهيم بن إسحاق (عن عبد الصمد) عن صالح بن مسافر قال : قرأت على عاصم بن أبي النجود سورة والصافات فلما أتيت على آخرها سكت،

فقال : لِم؟

إقرأ.

فقلت : قد ختمت،

قال إني فعلت كما فعلت على أبي عبد الرحمن السلمي،

فقال أبو عبد الرحمن : كذلك قال لي عليّ وقال لي : قل : آذنتكم بأذانة المرسلين و {لتسئلن عن النبأ العظيم} .

﴿ ٠