سورة الرَّحْمن

مكية،

وهي ألف وستمائة وستة وثلاثون حرفاً،

وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة،

وثمان وسبعون آية

أخبرنا الاستاذ أبو الحسين الجباري قال : حدّثت عن أحمد بن الحسن المقري قال : حدّثنا محمد بن يحيى الكيساني قال : حدّثنا هشام البربري قال : حدّثنا علي بن حمزة الكسائي قال : حدّثنا موسى بن جعفر عن أبيه جعفر عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (لكلّ شيء عروس،

وعروس القرآن سورة الرَّحْمن جلّ ذكره).

وأخبرني أبو الحسين أحمد بن إبراهيم العبدي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد الحبري قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل الكوفي قال : حدّثنا أحمد بن عبداللّه قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة الرَّحْمن رحم اللّه ضعفه،

وأدّى شكر ما أنعم اللّه عليه).

روى هشام بن عروة عن أبيه قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عبداللّه ابن مسعود،

وذلك أن أصحاب رسول اللّه اجتمعوا فقالوا : ما سمعت قريش القرآن يجهر به،

فمن رجل يسمعهم؟

فقال ابن مسعود : أنا،

فقالوا : إنّا نخشى عليك منهم،

وإنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه،

فقال : دعوني فإنّ اللّه سيمنعني،

ثم قام عند المقام فقال : بسم اللّه الرَّحْمن الرحيم،

الرَّحْمن علم القرآن،

رافعاً بها صوته،

وقريش في أنديتها فتأمّلوا وقالوا : ما يقول ابن أُم عبد؟

ثم قاموا إليه فجعلوا يضربونه وهو يقرأ حتى يبلغ منها ما شاء،

ثم انصرف إلى أصحابه،

وقد أثّروا في وجهه،

فقالوا : هذا الذي خشينا عليك.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١-٢

{الرَّحْمن علم القرآن} نزلت حين قالوا : وما الرَّحْمن؟،

وقيل : هو جواب لأهل مكة حين قالوا : إنّما يعلّمه بشر.

٣

{خَلَقَ الإنسان} قال ابن عباس وقتادة : يعني آدم ج.

٤

{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أسماء كل شيء،

وقيل : علّمه اللغات كلّها،

وكان آدم ج يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية،

وقال آخرون : أراد جميع الناس؛ لأن الانسان اسم الجنس ثم اختلفوا في معنى البيان،

فروي عن قتادة أنّه قال : علّمه بيان الحلال والحرام،

وبيّن له الخير والشر،

وما يأتي وما يذر؛ ليحتج بذلك عليه.

وقال أبو العالية ومرّة الهمذاني وابن زيد : يعني الكلام. الحسن : النطق والتمييز. محمد ابن كعب : ما يقول وما يقال له. السدي : علّم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. يمان : الكتابة والخط بالقلم. نظيره {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} . ابن كيسان : خلق الانسان يعني محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) علمه البيان يعني بيان ما كان وما يكون؛ لأنه كان يبيّن عن الأولين والآخرين وعن يوم الدين.

٥

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي بحساب ومنازل لا تعدّونها،

قاله ابن عباس وقتادة وأبو ملك.

قال ابن زيد وابن كيسان : يعني بهما بحسب الأوقات والأعمار والآجال،

لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف نحسب شيئاً،

لو كان الدهر كلّه ليلاً كيف نحسب؟

أو كلّه نهاراً كيف نحسب؟

وقال الضحاك : يجريان بعدد. مجاهد : كحسبان الرحى يدوران في مثل قطب الرحا. السدي : بأجل كآجال الناس،

فإذا جاء أجلهما هلكا. نظيره {كُلٌّ يَجْرِى جَلٍ مُّسَمًّى} . يمان : يجريان بأهل الدنيا وقضائها وفنائها.

والحسبان قد يكون مصدر حسبت حساباً وحسباناً مثل الغفران والكفران والرجحان والنقصان،

وقد تكون جمع الحساب كالشهبان والرهبان والقضبان والركبان.

وارتفاع الشمس والقمر باضمار فعل مجازه الشمس والقمر يجريان بحسبان،

وقيل : مبتدأ وخبره فيما بعده.

ونظم الآية الرَّحْمن علم القرآن وقدر الشمس والقمر،

وقيل : هو مردود على البيان،

أي علّمه البيان،

إن الشمس والقمر بحسبان.

ويقال : سعة الشمس ستة آلاف فرسخ وأربعمائة فرسخ في مثلها،

وسعة القمر ألف فرسخ في ألف فرسخ.

مكتوب في وجه الشمس : لا إله إلاّ اللّه،

محمد رسول اللّه،

خلق الشمس بقدرته،

وأجراها بأمره،

وفي بطنها مكتوب : لا إله إلاّ اللّه،

رضاه كلام،

وغضبه كلام،

ورحمته كلام،

وعذابه كلام،

وفي وجه القمر مكتوب : لا إله إلاّ اللّه،

محمد رسول اللّه،

خلق اللّه القمر،

وخلق الظلمات والنور،

وفي بطنه مكتوب : لا إله إلاّ اللّه خلق الخير والشر بقدرته،

يبتلي بهما من يشاء من خلقه،

فطوبى لمن أجرى اللّه الخير على يديه،

والويل لمن أجرى اللّه الشر على يديه.

٦

{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} . قيل : هو ما ليس له ساق من الأشجار،

وينبسط على وجه الأرض،

وقال السدّي : هو جمع النبات سمّي نجماً لطلوعه من الأرض،

وسجودها سجود ظلها،

وقال مجاهد وقتادة : هو الكوكب،

وسجوده طلوعه.

٧

{وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} قال مجاهد : العدل،

وقال الحسن والضحاك وقتادة : هو الذي يوزن به ليوصل به الإنصاف والانتصاف،

وقال الحسين بن الفضل : هو القرآن،

وأصل الوزن التقدير.

٨

{أنْ لا تطغوا} يعني لئلاّ تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق

٩

{في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط} بالعدل،

وقال أبو الدرداء : أقيموا لسان الميزان بالقسط،

وقال ابن عيينة : الإقامة باليد والقسط بالقلب {وَلا تُخْسِرُوا} ولا تنقصوا {الْمِيزَانَ} ولا تطففوا في الكيل والوزن.

قال قتادة في هذه الآية : اعدل يا بن آدم كما تحب أنْ يعدل عليك،

وأوفِ كما تحب أن يوفى لك،

فإن العدل صلاح الناس.

وقراءة العامة {تُخْسِرُوا} بضم التاء وكسر السين،

وقرأ بلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين وهما لغتان.

١٠

{والأرض وَضَعَهَا لِنَامِ} للخلق،

وقال الحسن : للجن والإنس،

وقال ابن عباس والشعبي : لكل ذي روح.

١١

{فِيهَا فَاكِهَةٌ} يعني (ألوان) الفواكه،

وقال ابن كيسان : يعني ما يفكههم به من النعم التي لا تحصى،

وكل النعم يُتفكه بها {وَالنَّخْلُ ذَاتُ اكْمَامِ} أوعية التمر،

واحدها : كم،

وكل ما يسترنا فهو كم وكمة،

ومنه كمّ القميص،

ويقال : للقلنسوة : كمّة،

قال الشاعر :

فقلت لهم كيلوا بكمّة بعضكم

دراهمكم إني كذاك أكيل

قال الضحاك : ذات الأكمام أي ذات الغلف. الحسن : أكمامها : ليفها. قتادة : رقابها. ابن زيد : الطلع قبل أن يتفتق.

١٢

{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} قال مجاهد : هو ورق الزرع،

قال ابن السكّيت : يقول العرب لورق الزرع : العصف والعصيفة والجِل بكسر الجيم،

قال علمقة بن عبدة :

تسقي مذانب قد مالت عصيفتها

حدورها من أتيّ الماء مطموم

العصف : ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس. نظيره {كَعَصْفٍ مَّأْكُول} .

{وَالرَّيْحَانُ} قال مجاهد : هو الرزق،

وهي رواية عكرمة عن ابن عباس قال : كل ريحان في القرآن فهو رزق.

قال مقاتل بن حيان : الريحان : الرزق بلغة حمْيَر. قال الشاعر :

سلام الإله وريحانه

ورحمته وسماء درر

سعيد بن جبير عن ابن عباس : الريحان : الريع. الضحّاك : هو الطعام. قال : فالعصف هو التين والريحان ثمرته. الحسن وابن زيد : هو ريحانكم هذا الذي يشم. الوالبي عن ابن عباس : هو خضرة الزرع. سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق.

وقراءة العامة (والحبُ ذو العصف والريحان) كلّها مرفوعاً بالرد على الفاكهة،

ونَصبها كلّها ابن عامر على معنى خلق هذا الانسان وخلق هذه الاشياء،

وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصم (والريحان) بالجر عطفاً على العصف.

١٣

{فَبِأَىِّ ءَالآء ِ} نِعَم {رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أيها الثقلان.

يدل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن مسلم الحنبلي قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن عبدالخالق قال : حدّثنا عبدالوهاب الوراق قال : حدّثنا أبو إبراهيم الترجماني قال : حدّثنا هشام بن عمار الدمشقي،

قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا وهب ابن محمد عن ابن المنكدر عن جابر بن عبداللّه قال : قرأ علينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سورة الرَّحْمن حتى ختمها. ثم قال : (ما لي أراكم سكوتاً؟

للجن أحسن منكم ردّاً،

ما قرأت عليهم هذه الآية مرة {فَبِأَىِّ ءَالآء ِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلاّ قالوا : ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذب).

وقيل : خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب،

وقد مضت هذه المسألة في قوله سبحانه : {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ} .

وأما الحكمة من تكرارها فقال القتيبي : إن اللّه سبحانه وتعالى عدّد في هذه السورة نعماه،

وذكّر خلقه آلاءه. ثم أتبع ذكر كلّ كلمة وضعها،

ونعمة ذكرها بهذه الآية،

وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقرّرهم بها،

وهو كقولك لرجل : أحسنت إليه وتابعت بالأيادي،

وهو في كل ذلك ينكرك ويكفرك : ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟

أفتنكر؟

ألم تكن عرياناً فكسوتك؟،

أفتنكر هذا؟

ألم أحملك وأنت راحل؟

أفتنكر هذا؟

ألم تكن خاملاً فعززتك؟،

أفتنكر هذا؟

ألم تكن صرورة فحججت بك ؟

أفتنكر هذا؟

والتكرار سايغ في كلام العرب،

حسن في مثل هذا الموضع. قال الشاعر :

المم سلومه المم المم

وقال الآخر :

كم نعمة كانت لكم

كم كم وكم

وقال آخر :

فكادت فرارة تصلى بنا

فاولى فرارة أولى فراراً

وقال آخر :

لا تقطعن الصديق ماطرفت

عيناك من قول كاشح أشر

ولا تملّنّ من زيارته

زره وزره وزر وزر وزر

وقال الحسين بن الفضل : التكرار لطرد الغفلة وتأكيد الحجة.

١٤-١٥

{خَلق الانسان من صلصال كالفخار وخَلق الجان} وهو أب الجن،

وقال الضحاك : هو إبليس،

وقال أبو عبيدة : الجان واحد الجن {مِن مَّارِجٍ} لهب صاف وخالص لا دخان فيه. قال ابن عباس : هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت. عكرمة : هو أحسنها. مجاهد : هو ما اختلط بعضه ببعض من اللّهب الاحمر والاصفر والاخضر الذي يعلو النار إذا أُوقدت،

وهو من قولهم : مرج القوم إذا اختطلوا،

ومرجت عهودهم وأماناتهم.

١٦-١٧

{من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان ربّ المشرقين} مشرق الصيف والشتاء {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} مغرب الصيف والشتاء.

١٨-١٩

{فَبِأَىِّ ءَالآء ِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} {مَرَجَ} أرسل {الْبَحْرَيْنِ} العذب والملح وخلاّهما وخلقهما

٢٠-٢١

{يلتقيان بينهما برزخ} حاجز وحائل من قدرة اللّه وحكمته {لا يَبْغِيَانِ} لا يختلطان ولا يتغيران ولا يبغي أحدهما على صاحبه،

وقال قتادة : لا يبغيان على الناس بالغرق،

وقال الحسن : (مرج البحرين) يعني بحر الروم وبحر الهند واسم الحاجز بينهما،

وعن قتادة أيضاً : يعني بحر فارس والروم،

(بينهما برزخ) وهو الجزائر،

وقال مجاهد والضحاك : يعني بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام.

٢٢-٢٣

{يَخْرُجُ} قرأ أهل المدينة وأبو عمرو ويعقوب بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل،

واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون على الضدّ.

{مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ} أي من البحرين،

قال أهل المعاني : إنّما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب،

ولكن هذا جائز في كلام العرب ان يذكر شيئاً ثم يخصّ أحدهما بفعل دون الآخر،

كقول اللّه سبحانه : {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} والرسل من الإنس دون الجن،

قاله الكلبي. قال : وجعل القمر فيهن نوراً وإنما هو في واحدة منهما،

وقال بعضهم يخرج من ماء السماء وماء البحر اللؤلؤ وهو أعظم من الدر،

واحدتها لؤلؤة. {وَالْمَرْجَانُ} وهو صغارها،

وقال مرّة : المرجان جيّد اللؤلؤ،

وروى السدّي عن أبي مالك أن المرجان الخرز الأحمر،

وقال عطاء الخراساني هو البسذ،

يدل عليه قول ابن مسعود : المرجان حجر،

والذي حكينا من أن المراد بالبحرين القطر والبحر،

وأن الكناية في قوله : (منهما) راجعة إليهما (وهو) قول الضحاك،

ورواية عطية عن ابن عباس وليث عن مجاهد.

وتصديقهم ما أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا علي بن محمد بن لؤلؤ قال : أخبرنا الهيثم بن خلف قال : حدّثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال : حدّثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قرأ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} قال : إذا مطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها،

فحيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة.

ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدف،

فأصابت بعض النواة ولم يصب بعضها فكانت حيث القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة.

وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبداللّه قال : قرأ أبي على أبي محمد بن الحسن بن علويه القطان من كتابه وأنا اسمع،

قال : حدّثنا بعض أصحابنا قال : حدّثني رجل من أهل مصر يقال له : طسم قال : حدّثنا أبو حذيفة عن أبيه عن سفيان الثوري في قول اللّه سبحانه : {مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان} قال : فاطمة وعلي {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} قال : الحسن والحسين.

وروي هذا القول أيضاً عن سعيد بن جبير،

وقال : {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} محمد (صلى اللّه عليه وسلم) واللّه أعلم.

وقال أهل الإشارة {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أحدهما معرفة القلب والثاني معصية النفس،

بينهما برزخ الرحمة والعصمة.

{لا يَبْغِيَانِ} لا تؤثر معصية النفس في معرفة القلب،

وقال ابن عطاء : بين العبد وبين الرب بحران : أحدهما بحر النجاة،

وهو القرآن من تعلق به نجا،

والثاني بحر الهلاك وهو الدنيا من تمسك بها وركن إليها هلك،

وقيل : بحرا الدنيا والعقبى،

بينهما برزخ وهو القبر قال اللّه سبحانه : {وَمِن وَرَآهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .

{لا يَبْغِيَانِ} لا يحل أحدهما بالآخر،

وقيل : بحرا العقل والهوى {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} لطف اللّه تعالى. {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} التوفيق والعصمة،

وقيل : بحر الحياة وبحر الوفاة،

بينهما برزخ وهو الأجل،

وقيل : بحر الحجة والشبهة،

بينهما برزخ وهو النظر والاستدلال {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} الحق والصواب.

٢٤-٢٥

{فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار} السفن الكبار كسر حمزة سينها،

وهي رواية المفضل عن عاصم تعني المقبلات المبتديات اللاتي أنشأن بجريهن وسيرهن،

وقرأ الآخرون بفتحه أي المخلوقات المرفوعات المسخّرات

٢٦

{في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذّبان كل من عليها} أي على الأرض من حيوان كناية عن غير مذكور كقول الناس : (ما عليها أكرم من فلان) يعنون الأرض،

وما بين لابتيها أفضل منه يريدون جُزئَي المدينة {فَانٍ} هالك،

قال ابن عباس : لمّا أُنزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلك أهل الأرض فأنزل اللّه تعالى {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} فأيقنت الملائكة بالهلاك.

٢٧-٢٨

{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ}

قراءة العامة بالواو،

وقرأ عبداللّه ذي الجلال بالياء نعت الربّ.

أخبرني الحسين احمد بن جعفر بن حمدان بن عبداللّه قال : حدّثنا عبداللّه بن أحمد بن منصور الكناني قال : حدّثنا الحرث بن عبداللّه قال : أخبرنا عبدالرَّحْمن بن عثمان الوقاصي،

قال : حدّثنا محمد بن كعب القرظي قال : قال عبداللّه بن سلام : بعث إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا بن سلام إنّ اللّه عز وجل يقول : {ذُو الْجَلَالِ وَاكْرَامِ} فأمّا الإكرام فقد عرفت فما الجلال؟

فقال : بأبي أنت إنّا نجد في الكتب أنّها الجنة المحيطة بالعرش.

قال : فكم بينهما وبين الجنات التي يسكن اللّه عباده؟

قال : مدى سبعمائة سنة،

قال : فنزل جبرئيل بتصديقه.

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا بن ماهان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حماد بن سلمة قال : حدّثنا سعيد الجزيري عمّن سمع اللجلاج يقول : سمعت معاذ بن جبل وكان له أخاً وصديقاً قال : سمعته يقول : إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مرّ برجل يصلّي وهو يقول : يا ذا الجلال والإكرام. فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (قد استجيب لك).

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي الخصيب المصيصي قال : حدّثنا هلال بن العلاء قال : حدّثنا أبو الجرار قال : حدّثنا عمار بن زريق عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أَلِظوا ب (يا ذا الجلال والإكرام)).

واخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن صقلاب قال : حدّثنا ابن أبي الخصيب. قال : حدّثنا محمد بن يونس عن بسر بن عمر قال : حدّثنا وهيب بن خالد عن ابن عجلان عن سعيد المنقري قال : الحح رجل فقعد ينادي : يا ذا الجلال والإكرام. فنودي : إني قد سمعت فما حاجتك؟

٢٩-٣٠

{فبأي آلاء ربكما تكذّبان يسأله من في السماوات والأرض} من ملك وإنس وجنّ وغيرهم لا غنى لأحد منهم منه قال ابن عباس : وأهل السموات يسألونه المغفرة،

ولا يسألونه الرزق،

وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة.

{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} قال مقاتل : أُنزلت في اليهود حين قالوا : إن اللّه لا يقضي يوم السبت شيئاً،

فأنزل اللّه سبحانه : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} .

أخبرني أبو القاسم عبدالرَّحْمن بن محمد إبراهيم الحوضي قال : أخبرنا أبو أحمد عبداللّه ابن عدي الحافظ قال : حدّثنا عبداللّه بن محمد بن طويط أبو القاسم البزاز قال : حدّثنا إبراهيم ابن محمد بن يوسف الفريابي قال : حدّثنا عمر بن بكر قال : حدّثنا حارث بن عبيدة بن رياح الغسّاني عن أبيه عن عبدة بن أبي رياح عن مثبت بن عبداللّه الأزدي عن أبيه عن عبداللّه بن منيب قال : تلا علينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) هذه الآية {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} فقلنا : يا رسول اللّه وما ذاك الشأن؟

قال : (يغفر ذنباً،

ويفرج كرباً،

ويرفع قوماً،

ويضع آخرين).

وحدّثنا أبو بكر محمد بن احمد بن عبدوس إملاءً قال : أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد ابن يحيى البزاز،

قال : حدّثنا يحيى بن الربيع المكي قال : حدّثنا سفيان بن عيينة قال : حدّثنا أبو حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إن ممّاخلق اللّه سبحانه وتعالى لوحاً من درّة بيضاء،

دفتاه ياقوتة حمراء،

قلمه نور وكتابه نور،

ينظر اللّه سبحانه فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء،

فذلك قوله سبحانه {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} .

وقال مجاهد وعبيدة بن عمير : من شأنه أن يجيب داعياً ويعطي سائلا ويفكّ غائباً ويشفي سقيماً ويغفر ذنباً ويتوب على قوم،

وقال سفيان بن عيينة : الدهر كله عند اللّه سبحانه يومان : أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة،

والشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا،

الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع،

وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب،

وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت.

ويقال : شأنه سبحانه أنّهُ يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر : عسكراً من أصلاب الآباء إلى الأرحام،

وعسكراً من الأرحام إلى الدنيا،

وعسكراً من الدنيا إلى القبور،

ثم يرحلون جميعاً إلى اللّه سبحانه،

وقال الربيع بن أنس : يخلق خلقاً ويميت آخرين ويرزقهم ويكلؤهم. سويد بن جبلة الفراري : يعتق رقاباً ويقحم عقاباً ويعطي رغاباً،

وقال بعضهم : هو الجمع والتفريق. أبو سليمان الداراني : هو إيصاله المنافع إليك،

ودفعه المضار عنك. فلم نغفل عن طاعة من لا يغفل عنا؟

وقال أيضاً : في هذه الآية كل يوم له إلى العبيد برّ جديد.

ويحكى أن بعض الأمراء سأل وزيره عن معنى هذه الآية فلم يعرفه واستمهله إلى الغد،

فرجع الوزير إلى داره كئيباً،

فقال له غلام أسود من غلمانه : يا مولاي ما أصابك؟

فزجره. فقال : يا مولاي،

أخبرني،

فلعلّ اللّه سبحانه يسهّل لك الفرج على يديّ،

فأخبره بذلك فقال له : عد إلى الأمير وقل له : إن لي غلاماً أسود إن أذنت له فسّر لك هذه الآية،

ففعل ذلك ودعا الأمير الغلام وسأله عن ذلك فقال : أيها الأمير شأن اللّه هو انه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل،

ويخرج الميت من الحي ويخرج الحي من الميت،

ويشفي سقيماً،

ويسقم سليماً،

ويبتلي معافىً،

ويعافي مبتلىً،

ويعز ذليلا،

ويذل عزيزاً،

ويفقر غنياً ويغني فقيراً. فقال الأمير : أحسنت يا غلام،

قد فرّجت عني. ثم أمر الوزير بخلع ثياب الوزارة وكساها الغلام،

فقال : يا مولاي،

هذا شأن اللّه عز وجل.

{فَبِأَىِّ ءَالآء ِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .

٣١-٣٢

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} قرأ عبداللّه وأبي (سنفرغ اليكم)،

وقرأ الاعمش بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية،

وقرأ الأعرج بفتح النون والراء. قال الكسائي : هي لغة تميم،

وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الياء وفتح الراء،

واختاره أبو عبيد اعتباراً بقوله : {يسأله من في السماوات والأرض} فاتبع الخبر الخبر،

وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الراء،

واختاره أبو حاتم.

فإن قيل : إن الفراغ لا يكون إلاّ عن شغل واللّه تعالى لا يشغله شأن عن شأن. قلنا : اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال قوم : هذا وعيد وتهديد من اللّه سبحانه وتعالى لهم كقول القائل : لأتفرغنّ لك وما به شغل،

وهذا قول ابن عباس والضحاك،

وقال آخرون : معناه سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم،

وقد يقول القائل للذي لا شغل له : قد فرغت لي وفرغت لشتمي،

أي أخذت فيه وأقبلت عليه. قال جرير بن الخطفي :

ولما التقى القين العراقي بأسته

فرغت إلى القين المقيّد بالحجل

أي قصدته بما يسوؤه،

وهذا القول اختيار الفندي والكسائي.

وقال بعضهم : إن اللّه سبحانه وعد على التقوى وأوعد على الفجور،

ثم قال : سنفرغ لكم مما أوعدناكم وأخبرناكم فنحاسبكم ونجازيكم،

وننجز لكم ما وعدناكم،

ونوصل كلا إلى ما عدناه،

فيتمّ ذلك ويفرغ منه،

وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل وابن زيد،

وقال ابن كيسان : الفراغ للفعل هو التوفر عليه دون غيره. {أَيُّهَ الثَّقَلانِ} أي الجن والإنس،

دليله قوله في عقبه {يا معشر الجن والإنس} سمّيا ثقلين؛ لأنهما ثقل أحياءً وأمواتاً،

قال اللّه سبحانه : {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قدر ينافس فيه فهو ثقل،

ومنه قيل لبيض النعام : ثقل؛ لأن واجده وصائده يفرح إذا ظفر به قال الشاعر :

فتذكّرا ثقلاً رثيداً بعدما

ألقت ذكاءُ يمينها في كافر

وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي) فجعلهما ثقلين إعظاماً لقدرهما،

وقال جعفر الصادق : سمي الجن والانس ثقلين؛ لأنهما مثقلان بالذنوب.

٣٣-٣٤

{فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم} ولم يقل : استطعتما؛ لأنهما فريقان في حال جمع كقوله سبحانه : {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} وقوله سبحانه : {هذانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ} .

{أَن تَنفُذُوا} تجوزوا {من أقطار السموات والأرض} أي أطرافها {فَانفُذُوا} ومعنى الآية إن استطعتم ان تجوزوا اطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا،

وانما يقال لهم هذا يوم القيامة،

وقال الضحاك : يعني هاربين من الموت،

فأخبر أنه لا يجيرهم من الموت ولا محيص لهم منه،

ولو نفذوا من أقطار السماوات والأرض كانوا في سلطان اللّه عز وجل وملكه،

وقال ابن عباس : يعني : إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا،

ولن تعلموه إلاّ بسلطان يعني البيّنة من اللّه سبحانه. {تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} أي حجة.

قال ابن عباس وعطاء : لا تخرجون من سلطان،

وقيل معناه إلاّ إلى سلطاني كقوله {وَقَدْ أَحْسَنَ بِى} أي أحسن أليّ،

وقال الشاعر :

أسىء بنا أفأحسني لا ملومة

لدينا ولا مقليّة إن تقلّت

وفي الخبر (يحاط على الخلق الملائكة وبلسان من نار ثم ينادون : يا معشر الجن والإنس إن استطعتم. .. فذلك قوله تعالى...).

٣٥-٣٦

{يُرسَل عليكم شواظ من نار} قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق بكسر الشين،

غيرهما بضمّه،

وهما لغتان مثل صُوار من البقر،

وصَوار وهو اللّهب،

قال حسان بن ثابت يهجو أُمية بن أبي الصلت :

هجوتك فاختضعتَ لها بذلَ

بقافية تأجج كالشواظ

وقال رؤبة :

إن لهم من وقعنا أقياظا

ونار حرب تسعر الشواظا

وقال الضحاك : هو الدخان الذي يخرج من اللّهب ليس بدخان الحطب {وَنُحَاسٌ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر السين عطفاً على النار،

واختاره أبو حاتم،

وقرأ الباقون بالرفع عطفاً على الشواط،

واختاره أبو عبيد.

قال سعيد بن جبير : النحاس : الدخان،

وهي رواية أبي صالح وابن أبي طلحة،

عن ابن عباس،

قال النابغة :

يضيء كضوء سراج السليط

لم يجعل اللّه فيه نحاسا

قال الاصمعي : سمعت أعرابياً يقول : السليط : دهن السنام ولا دخان له،

وقال مجاهد وقتادة : هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم،

وهي رواية العوفي عن ابن عباس. قال مقاتل : هي خمسة أنهار من صفر ذائب تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار،

ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار،

وقال عبداللّه بن مسعود : النحاس : المهل. ربيع : القطر. الضحّاك : دُرديّ الزيت. الكسائي : هو الذي له ريح شديدة {فَلا تَنتَصِرَانِ} فلا تنتقمان وتمتنعان.

٣٧-٣٨

{فبأي آلاء ربكما تكذبان فإذا انشقت} انفرجت {السَّمَآءُ} فصارت أبواباً لنزول الملائكة،

بيانه قوله سبحانه : {يوم تشقّق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا} {فَكَانَتْ} صارت {وَرْدَةً} مشرقة،

وقيل : متغيّرة،

وقيل : بلون الورد.

قال قتادة : إنها اليوم خضراء وسيكون لها يومئذ لون آخر {كَالدِّهَانِ} اختلفوا فيه. قال ابن عباس والضحاك وقتادة والربيع : يعني كلون غرس الورد،

يكون في الربيع كميتاً أصفر،

فإذا ضربه أول الشتاء يكون كميتاً أحمر،

فإذا اشتدّ الشتاء يكون كميتاً أغبر،

فشبه السماء في تلوّنها عند انشقاقها بهذا الغرس في تلوّنه،

وقال مجاهد وأبو العالية : كالدّهن،

وهي رواية شيبان عن قتادة،

قال : الدهان جمع الدهن،

وللدهن ألوان،

شبّه السماء بألوانه. (وقال : ) عطاء بن أبي رياح : كعصير الزيت يتلوّن في الساعة ألواناً.

(وقال : ) الحسين بن الفضل : كصبيب الدهن يتلوّن. (وقال : ) ابن جريج : تذوب السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم،

(وقال : ) مقاتل : كدهن الورد الصافي. (وقال) مؤرخ : كالوردة الحمراء،

(وقال : ) الكلبي : كالأديم الأحمر،

وجمعه أدهنة.

{فَبِأَىِّ ءَالآء ِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة،

قال : حدّثنا ابن أيوب قال : حدّثنا لقمان الحنفي قال أتى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) على شاب في جوف الليل وهو يقرأ هذه الآية : {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول : ويحي من يوم تنشق فيه السماء،

ويحي،

فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (يا فتى مثلها أو مثّلها،

فوالذي نفسي بيده لقد بكت الملائكة يا فتى من بكائك).

٣٩-٤٠

{فَيَوْمَذٍ لا يُسَْلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَآنٌّ} قال الحسين وقتادة : لا يسألون عن ذنوبهم،

لأن اللّه سبحانه علمها منهم وحفظها (عليهم)،

وكتبت الملائكة عليهم،

وهي رواية العوفي عن ابن عباس،

وعنه أيضاً لا يسأل الملائكة (المجرمين)؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم،

دليله ما بعده،

وإلى هذا القول ذهب مجاهد،

وعن ابن عباس أيضاً في قوله سبحانه : {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله : {فَيَوْمَذٍ لا يُسَْلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَآنٌّ} قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟

لأنه أعلم بذلك منهم،

ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا؟،

وقال عكرمة أيضاً : مواطن يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها،

وعن ابن عباس أيضاً : لا يسألون سؤال شفاء وراحة،

وانما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ،

وقال أبو العالية : لا يسأل غير المذنب عن ذنب المجرم.

٤١-٤٢

{فبأي آلاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم} وهو سواد الوجه وزرقة العيون {فيؤخذوا بالنواصي والأقدام} فيسحبون إلى النار ويقذفون فيها ثم يقال لهم :

٤٣

{هذه جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} المشركون.

٤٤-٤٥

{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} قد انتهى خبره،

وقال قتادة : آني طبخه منذ خلق اللّه السموات الأرض،

ومعنى الآية أنهم يسعون بين الجحيم وبين الحميم.

قال كعب الأحبار : (آن) (وادي) من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم وهم في الأغلال فيغمسون في ذلك الوادي حتى تخلع أوصالهم،

ثم يخرجون منها وقد أحدث اللّه سبحانه لهم خلقاً جديداً،

فيلقون في النار فذلك قوله سبحانه : {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} .

٤٦-٤٧

{فبأي آلاء ربكما تكذّبان ولمن خاف مقام ربّه} أي مقامه بين يدي ربّه،

وقيل : قيامه لربه،

بيانه قوله : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ،

وقيل : قيام ربّه عليه،

بيانه قوله : {أَفَمَنْ هُوَ قَآمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ} قال إبراهيم ومجاهد : هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر اللّه تعالى فيدعها من مخافة اللّه. قال ذو النون : علامة خوف اللّه أن يؤمنك خوفه من كل خوف،

وقال السدّي : شيئان مفقودان الخوف المزعج والشوق المقلق.

{جَنَّتَانِ} بستانان من الياقوت الأحمر،

والزبرجد الأخضر،

ترابهما الكافور والعنبر وحمأتهما المسك الأذفر،

كل بستان منهما مسيرة مائة سنة،

في وسط كلّ بستان دار من نور.

قال محمد بن علي الترمذي : جنة بخوفه ربّه،

وجنّة بتركه شهوته. قال مقاتل : هما جنّة عدن وجنّة النعيم،

وقال أبو موسى الأشعري : جنّتان من ذهب للسابقين،

وجنتان من فضة للتابعين.

وروي أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال لأصحابه : (هل تدرون ما هاتان الجنتان؟،

هما بستانان في بساتين،

قرارهما ثابت،

وفرعهما ثابت،

وشجرهما ثابت).

وأخبرني عقيل إجازة قال : أخبرنا المعافى قراءة قال : أخبرنا محمد بن جرير الطبري قال : حدّثني محمد بن موسى الجرشي قال : حدّثنا عبداللّه بن الحرث القرشي قال : حدّثنا شعبة بن الحجاج قال : حدّثنا سعيد الحريري عن محمد بن سعد عن أبي الدرداء قال : قرأ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت : وإن زنى وإن سرق؟،

قال : (وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء).

٤٨-٤٩

{فبأي آلاء ربكما تكذّبان ذواتا أفنان} قال ابن عباس : ألوان،

وواحدها فن وهو من قولهم : افتنّ فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه وضروب،

قال الضحاك : ألوان الفواكه. مجاهد : أغصان وواحدها فنن. عكرمة : ظل الأغصان على الحيطان. الحسن : ذواتا ظلال،

وهو كقوله : {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} . (قال) الضحاك أيضاً : ذواتا أغصان وفصول. قال : وغصونها كالمعروشات تمسّ بعضها بعضاً،

وهي رواية العوفي عن ابن عباس. (قال) قتادة : ذواتا فضل وسعة على ما سواهما. (قال) ابن كيسان : ذواتا أصول.

٥٠-٥١

{فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان} قال ابن عباس : بالكرامة والزيادة على أهل الجنة،

وقال الحسن : تجريان بالماء الزلال،

إحداهما التسنيم والأُخرى السلسبيل.

عطية : إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين،

وقيل : إنهما تجريان من جبل من مسك،

وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق : فيهما عينان تجريان لمن كانت له في الدنيا عينان تجريان بالبكاء.

٥٢-٥٣

{فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان} صنفان.

قال ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة أو مرّة إلاّ وهي في الجنة حتى الحنظل إلاّ أنه حلو.

٥٤-٥٥

{فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين} حال {عَلَى فُرُشٍ} جمع فراش {بَطَآئنُهَا} جمع بطانة {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وهو ما غلظ من الديباج وحسن،

وقيل : هو أَستبر معرب.

قال ابن مسعود وأبو هريرة : هذه البطائن فما ظنّكم بالظهائر؟،

وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من استبرق فما الظواهر؟

قال : هذا مما قال اللّه سبحانه : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} .

وعنه أيضاً قال : بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد،

وقال الفرّاء : أراد بالبطائن الظواهر.

قال المؤرخ : هو بلغة القبط،

وقد تكون البطانة ظهارة والظهارة بطانة؛ لأن كل واحد منهما يكون وجهاً،

تقول العرب : هذا ظهر السماء،

وهذا بطن السماء للذي يراه،

وقال عبداللّه ابن الزبير في قتلة عثمان : قتلهم اللّه شرّ قتلة،

ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب،

يعني هربوا ليلا،

فجعل ظهور الكواكب بطوناً.

قال القتيبي : هذا من عجيب التفسير،

وكيف تكون البطانة ظهارة،

والظهارة بطانة؟

والبطانة من بطن من الثوب،

وكان من شأن الناس إخفاؤه،

والظهارة ما ظهر منه،

ومن شأن الناس إبداؤه،

وهل يجوز لأحد ان يقول لوجه المصلي : هذا بطانته،

ولما ولي الأرض : هذا ظهارته،

لا واللّه لا يجوز هذا،

وانما أراد اللّه سبحانه وتعالى ان يعرّفنا لطفه من حيث يعلم فضل هذه الفرش،

وأن ما ولي الأرض منها إستبرق،

وإذا كانت البطانة كذلك فالظهارة أعلى وأشرف،

وكذلك قول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (لَمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه الحلّة). فذكر المناديل دون غيرها؛ لأنها أحسن ويصدّق قول القتيبي ما حكيناه عن ابن مسعود وأبي هريرة،

واللّه أعلم.

{وجنا الجنّتين} ثمرهما {دَانٍ} قريب يناله القائم والقاعد والنائم

٥٦-٥٧

{فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهنّ قاصرات الطرف} غاضات الأعين،

قد قصر طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن الى غيرهم ولا يردن غيرهم،

قال ابن زيد : تقول لزوجها : وعزّة ربي ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك،

فالحمد للّه الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} لم يجامعهنّ ولم يفترعهنّ،

وأصله من الدم،

ومنه قيل للحائض : طامث،

كأنه قال لم يُدمِهن بالجماع. {إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَآنٌّ} . قال مجاهد : إذا جامع الرجل ولم يسمِّ انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه فذلك قوله سبحانه : {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَآنٌّ} أي لم يجامعهن،

ومنه قول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا امرأة ماتت بجمع لم تطمث دخلت الجنة) وقال الشاعر :

دفعن اليّ لم يُطمثن قبلي

وهن أصح من بيض النعام

قال سهل : من أمسك طرفه في الدنيا عن اللذات عُوّض في الآخرة القاصرات،

وقال ارطأة بن المنذر سألت ضمرة بن حبيب : هل للجن من ثواب؟

قال : نعم،

وقرأ هذه الآية،

قال : فالإنسيّات للإنس والجنيّات للجنّ.

٥٨-٥٩

{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} قال قتادة : صفاء الياقوت في بياض المرجان.

أخبرنا الحسن بن محمد قال : حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال : حدّثنا حازم بن يحيى الحلواني قال : حدّثنا سهل بن عثمان العسكري قال : حدّثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب عن عمرو بن ميمون عن عبداللّه بن مسعود عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) : (إن المرأة من أهل الجنّة ليُرى بياض ساقها من سبعين حلّة حتى يرى مخّها،

إن اللّه سبحانه وتعالى يقول : {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته من ورائه).

وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلّة فيرى مخّ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.

٦٠-٦١

{فبأي آلاء ربكما تكذّبان هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان} ،

(هل) في كلام العرب على أربعة أوجه :

الأول : بمعنى (قد) كقوله : {هَلْ أَتَى} و {هَلْ أَتَاكَ} .

والثاني : بمعنى الاستفهام،

كقوله سبحانه : {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} .

والثالث : بمعنى الأمر،

كقوله سبحانه : {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} .

والرابع : بمعنى (ما) الجحد،

كقوله سبحانه : {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ،

و {هَلْ جَزَآءُ احْسَانِ إِلا احْسَانُ} .

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة وابن حمدان والفضل بن الفضل والحسن بن علي ابن الفضل قالوا : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام قال : حدّثنا الحجاج بن يوسف المكتب قال : حدّثنا بشر بن الحسين عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {هَلْ جَزَآءُ احْسَانِ إِلا احْسَانُ} قال : (هل تدرون ما قال ربكم عزّوجل؟)

قالوا : اللّه ورسوله أعلم.قال : (هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلاّ الجنّة).

وحدّثنا أبو العباس بن سهل بن محمد بن سعيد المروزي لفظاً بها قال : حدّثنا جدي أبو الحسن محمد بن محمود بن عبيد اللّه،

قال : أخبرنا عبد اللّه بن محمود،

قال : حدّثنا محّمد بن مبشر،

قال : حدثنا إسحاق بن زياد الأبلي قال : حدّثنا بشر بن عبد اللّه الدارمي،

عن بشر بن عبادة عن جعفر بن برقان،

عن ميمون بن مهران قال : سمعت ابن عمر وابن عباس يقولان : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ( {هَلْ جَزَآءُ احْسَانِ إِلا احْسَانُ} يقول اللّه سبحانه : هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلاّ أن أُسكنه جنّتي وحظيرة قدسي برحمتي).

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عبدالملك بن محمد بن عدي قال : حدّثنا صالح بن شعيب الخواص ببيت المقدس قال : حدّثنا عبيدة بن بكار قال : حدّثنا محمد بن جابر اليمامي عن ابن المكندر {هَلْ جَزَآءُ احْسَانِ إِلا احْسَانُ} قال : هل جزاء من أنعمت عليه بالاسلام إلاّ الجنّة،

وقال ابن عباس : هل جزاء من عمل في الدنيا حسناً،

وقال : لا إله إلاّ اللّه،

إلاّ الجنّة في الآخرة،

هل جزاء الذين أطاعوني في الدنيا إلاّ الكرامة في الآخرة،

وقال الصادق : (هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلاّ حفظ الإحسان عليه إلى الأبد)،

وقال محمد ابن الحنفية والحسن : هي مسجلة للبر والفاجر (للفاجر) في دنياه وللبرّ في آخرته.

٦٢-٦٣

{فبأي آلاء ربكما تكذبان ومن دونهما} يعني : ومن دون الجنتين الأُولتين {جَنَّتَانِ} أُخريان،

واختلف العلماء في معنى قوله {وَمِن دُونِهِمَا} ،

فقال ابن عباس : ومن دونهما في الدرج،

وقال ابن زيد : ومن دونهما في الفضل،

قال ابن زيد : هي أربع : جنتان للمقرّبين السابقين فيهما من كلّ فاكهة زوجان،

وجنّتان لأصحاب اليمين والتابعين،

فيهما فاكهة ونخل ورمان،

وقال أبو معاذ الفضل بن يحيى : أراد غيرهما؛ لأنهما دون الاُوليين،

وقال الكسائي : يعني أمامهما وقبلهما،

كقول الشاعر :

رب خرق من دونها يخرس السفر

وميل يفضي إلى أميال

أي قبل الفلاة الأُولى،

ودليل هذا التأويل قول الضحاك : الجنتان الأُوليان من ذهب وفضة،

والأُخريان من ياقوت وزمرد،

وهما أفضل من الأُوليين.

٦٤-٦٥

{فبأي آلاء ربكما تكذّبان مدهامّتان} ناعمتان سوداوان من ريّهما وشدّة خضرتهما؛ لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد،

قال ذو الرمّة :

كسا الأكم بهمي غضة حبشية

تواماً ونقعان الظهور الأقارع

فجعلها حبشية لما اشتدّت خضرتها،

وقيل ملتقيان.

٦٦-٦٧

{فبأي آلاء ربكما تكذّبان فيهما عينان نضّاختان} ممتلئتان قبّاضتان فوّارتان بالماء لا ينقطعان،

وقال الحسن بن أبي مسلمد ينبعان ثم يجريان،

وقال ابن عباس : تنضحان بالخير والبركة على أهل الجنة،

(وقال) ابن مسعود : تنضخان على أولياء اللّه بالمسك والكافور. سعيد ابن جبير : نضاختان بالماء وألوان الفواكه. أنس بن مالك : تنضخ المسك والعنبر في دور أهل الجنة كما ينضخ طش المطر،

وأصل النضخ الرش،

وهو أكثر من النضخ.

{فَبِأَىِّ ءَالآء ِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .

٦٨-٦٩

{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} كأنما أعاد ذكر النخل والرمان وهما من حملة الفاكهة للتخصيص والتفضيل،

كقوله : {من كان عدواً للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل} وقوله : {حَافِظُوا عَلَى الصلاتِ وَالصلاةِ الْوُسْطَى} وقوله : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الأرض} ثم قال : {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} وقوله سبحانه : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} .

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة،

قال : حدّثنا الفريابي قال : حدّثنا سحاب بن الحرث قال : أخبرنا علي بن مسير عن مسيعر عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة قال : إن نخل الجنّة نضدها ما بين أصله إلى فرعه،

وثمره كأمثال القلال،

كلّما نُزعتْ عادت مكانها أُخرى،

العنقود منها اثنا عشر ذراعاً،

وأنهارها تجري في غير أُخدود.

قال : قلت : من حدّثك؟

قال : أما إنّي لم اخترعه،

حدّثني مسروق.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن ماهان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كجلد البعير المقتب،

وإذا طيرها كالبخت،

وإذا فيها جارية،

قلت : يا جارية،

لمن أنت؟

قالت : لزيد بن حارثة،

وإذا في الجنة ما لا عين رأت،

ولا أذن سمعت،

ولا خطر على قلب بشر).

{فَبِأَىِّ ءَالآء ِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال الكسائي : ذكر اللّه سبحانه وتعالى الجنتين والجنتين ثم جمعهن فقال :

٧٠-٧١

{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قرأ العامة بالتخفيف،

وقرأ أبو رجاء العطاردي (خيّرات) بتشديد الياء.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خنيس قال : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثنا الصاغاني قال : حدّثنا عبداللّه بن أبي بكر عن أبيه أنه قرأ (فيهن خيّرات) بالتشديد،

وهما لغتان مثل (هين وهيّن،

ولين وليّن).

وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا أحمد بن عبدالرَّحْمن ابن وهب قال : حدّثنا محمد بن الفرج الصدفي عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة عن هشام ابن حسان عن الحسن عن أُمه عن أُم سلمة قال : قلت لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أخبرني عن قوله سبحانه : {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قال (صلى اللّه عليه وسلم) (خيرات الأخلاق حسان الوجوه).

وقال الحسن : خيرات فاضلات. إسماعيل بن أبي خالد : عذارى. جرير بن عبداللّه : مختارات.

وقال المفسّرون : خيرات لسنَ بذربات ولا ذفرات ولا نجرات ولا متطلّعات ولا متشوّقات ولا متسلطات ولا طمّاحات ولا طوّافات في الطرق،

ولا يغرن ولا يؤذين.

وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا حامد بن شعيب البخلي قال : حدّثنا سريح بن يونس قال : حدّثنا مسلم بن قتيبة عن سلام بن مسكر عن قتادة عن عقبة بن عبدالغّفار قال : نساء أهل الجنة يأخذ بعضهن بأيدي بعض ويتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها : نحن الراضيات فلا نسخط،

ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً،

ونحن خيرات حسان حُبينا لأزواج كرام.

وروى الأسود عن عائشة خ : أن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابتهنّ المؤمنات من نساء الدنيا : نحن المصلّيات وما صلّيتن،

ونحن الصائمات وما صمتنّ،

ونحن المتوضّئات وما توضأتنّ،

ونحن المتصدّقات وما تصدقتنّ.

قالت عائشة : فغلبتهنّ واللّه.

٧٢-٧٣

{فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام} محبوسات مستورات في الحجال. يُقال للمرأة : قصيرة وقصورة ومقصورة إذا كانت مخدّرة مستورة لا تخرج.

قال الشاعر :

وأنت التي حببتِ كل قصيرة

إليّ وماتدري بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد

قصار الخطى شر النساء البحاتر

(الراجز) وقيل : قُصر بهنَّ على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلا.

أخبرني ابن فنجويه،

حدّثنا ابن شاذان،

حدّثنا القطان،

حدّثنا ابن حسان حدّثني نصر العطار،

أخبرنا عمر بن سعد عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لو أن حوراء بزقت في بحر (لجي) لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها).

{فِى الْخِيَامِ} جمع الخيم،

قال ابن مسعود : لكل زوجة خيمة طولها ستون ميلا،

وتصديق هذا التفسير،

ما أخبرنا ابن فنجويه،

حدّثنا ابن شنبه،

حدّثنا الفراتي،

حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة،

حدّثنا يزيد بن هارون،

حدّثنا همام بن يحيى عن أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري،

عبد أبيه،

عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون).

وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن يحيى بن طلحة اليربوعي،

حدّثنا فضل بن (عياض)،

عن هشام عن محمد عن ابن عباس في قوله : {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ} قال : الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.

أخبرني الحسين،

حدّثنا عبد اللّه بن (....) حدّثنا (....) أبو شعيب عبداللّه بن الحسن الحراني،

محمد بن موسى القرشي،

حدّثنا حماد بن هلال السكرّي،

حدّثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مررت ليلة أسري بي بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه : السلام عليك يا رسول اللّه.

فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟

قال : هؤلاء جوار من الحور العين استأذنَّ ربهنَّ في أن يسلّمن عليك فأذن لهن،

فقلن : نحن الخالدات فلا نموت،

ونحن الناعمات فلا نيئس (أبداً ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً) أزواجُ رجال كرام ثم قرأ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ} .

قال : (محبوسات).

٧٤-٧٥

{فَبِأَىِّ ءَالآء ِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} يمسسهن {إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَآنٌّ} قرأه العامة بكسر الميم وهي إختيار أبي عبيد وأبي حاتم.

وقرأ أبو يحيى الشامي وطلحة بن مصرف : بالضم فيهما،

وكان الكسائي يكسر إحداهما ويضم الأخرى مخيّراً في ذلك،

والعلة فيه ما أخبرني أبو محمد شيبة بن محمد المقري،

أخبرني أبو عمرو محمد بن محمد بن عبدوس حدّثني ابن شنبوذ أخبرني عياش بن محمد الجوهري،

حدّثنا أبو عمر الدوري عن الكسائي قال : إذا رفع الأول كسر الآخر،

وإذا رفع الآخر كسر الأول. قال : وهي قراءة أبي إسحاق السبيعي. قال : قال أبو إسحاق : كنت أصلي خلف أصحاب علي بن أبي طالب فأسمعهم يقرؤون (يطمثهن) بكسر الميم،

وكان الكسائي يقرأ واحدة برفع الميم والأخرى بكسر الميم؛ لئلا يخرج من هذين الأثرين،

وهما لغتان.

٧٦-٧٧

{فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف} قال سعيد بن جبير : هي رياض الجنة خضر مخضّبةٌ. وروي ذلك عن ابن عباس. واحدتها رفرفة والرفارف جمع الجمع.

وروى العوفي عن ابن عباس قال : الرفرف : فضول المجالس البسط. عيره عنه : فضول الفرش والمجالس. قتادة والضحّاك : محابس خضر فوق الفرش.

الحسن والقرظي : البسط. ابن عيينة : الزرابي. ابن كيسان : المرافق وهي رواية.

قتادة عن الحسن وأبو عبيدة : حاشية الثوب وغبره : واكل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف.

قال ابن مقبل :

وإنا لنزّالون نغشى نعالنا

سواقط من أصناف رَيط ورفرف

{وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ} وهي الزرابي والطنافس الثخان وهي جمع،

واحدتها عبقرية. وقد ذكر عن العرب أنها تسمى كل شيء من البسط عبقرياً.

قال قتادة : العبقري عتاق الزرابي،

وقال مجاهد : هو الديباج.

أبو العالية : الطنافس المخملّة إلى الرقة (مَا هِي).

الحسن : الدرانيك يعني (الثخان)،

القتيبيّ : كل ثوب موشى عند العرب عبقري.

قال أبو عبيد : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي.

قال ذو الرمّة :

حتى كأن رياض القف ألبسها

من وشي عبقر تجليل وتنجيد

قال : ويقال : إن عبقر أرض يسكنها الجن.

قال الشاعر (زهير) :

بخيل عليها جنة عبقرية

جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا

وقال قطرب : ليس هذا بمنسوب. وكل جليل فاضل فاخر من الرجال (وغيرهم) عند العرب عبقري،

ومنه الحديث في عمر : فلم أرّ عبقرياً يفري فرّيه.

حدّثنا أبو محمد الحسن بن علي بن المؤمل بقراءتي عليه،

أخبرنا أبو العباس الأصم،

حدّثنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصغاني،

حدّثنا الحسين بن محمد، ح.

وأخبرني الحسين،

حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي،

حدّثنا محمد بن إبراهيم بن ناصح،

حدّثنا أحمد بن زهير بن حرب،

حدّثنا أبو أحمد الحسين بن محمد الزوزني الأرطباني وهو ابن عم عبداللّه بن عون عن عاصم الجحدري عن أبي بكرة أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قرأ (متكئين على رفرف خضر وعباقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام) بالواو،

شامي وكذلك هو في مصاحفهم.

الباقون : (ذي الجلال والإكرام).

﴿ ٠