٢٣

ودليل هذا التأويل قوله سبحانه : {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} فذكر الحالتين جميعاً : {إِلا فِى كِتَابٍ} يعني : اللوح المحفوظ {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} : من قبل أن نخلق الأرض والأنفس.

وقال ابن عباس : يعني المصيبة.

وقال أبو العالية : يعني النسَمَة

{إِنَّ ذلك عَلَى اللّه يَسِيرٌ} إن خلق ذلك وحفظه على اللّه هيّن.

أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن مخلد قال : أخبرنا داود قال : حدّثنا عبيد قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا الربيع بن أبي صالح قال : دخلت على سعيد بن جبير في نفر فبكى رجل من القوم،

فقال : ما يبكيك؟

قال : أبكي لما أرى بك ولما يذهب بك إليه. قال : فلا تبكِ،

فإنّه كان في علم اللّه سبحانه أن يكون،

ألم تسمع إلى قول اللّه عزّ وجلّ : {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرض وَلا فِى أَنفُسِكُمْ} الآية.

{لكيلا اتأسوا} : تحزنوا {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} من الدنيا،

{وَلا تَفْرَحُوا} : تبطروا {لِّكَيْ تَأْسَوْا} . قراءة العامّة بمدّ الألف،

أي (أعطاكم)،

واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو بقصر الألف أي : (جاءكم)،

واختاره أبو عبيد،

قال : لقوله سبحانه : {فَاتَكُمْ} ولم يقل : (أفاتكم) فجعل له،

فكذلك (أتاكم) جعل الفعل له ليوافق الكلام بعضه بعضاً.

قال عكرمة : ما من أحد إلاّ وهو يفرح ويحزن فاجعلوا للفرح شكراً وللحزن صبراً.

{وَاللّه يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} : متكبّر بما أُوتي من الدنيا،

فخور به على الناس.

وقال ابن مسعود : لأن ألحسَ جمرة أحرقت ما أحرقت،

وأبقت ما أبقت،

أحبّ إليّ من أن أقول لشيء كان : ليته لم يكن،

أو لشيء لم يكن : ليته كان.

وقال جعفر الصادق : (يا بن آدم،

مالك تأسّف على مفقود لا يردّه إليك الفوت؟

ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟).

وقيل لبزرجمهر : ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت؟

فقال : لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة،

والآتي لا يستدام بالحبرة.

وقال الفضيل في هذا المعنى : الدنيا مفيد ومبيد فما أباد فلا رجعة له،

وما أفاد فقد أذن بالرحيل.

وقال الحسين بن الفضل : حمل اللّه سبحانه بهذه الآية المؤمنين على مضض الصبر على الفائت،

وترك الفرح بالآتي،

والرضا بقضائه في الحالتين جميعاً.

وقال قتيبة بن سعيد : دخلت بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء من الأرض مملوء من الإبل الموتى والجيف بحيث لا أُحصي عددها،

فسألت عجوزاً : لمن كانت هذه الإبل؟

فأشارت إلى شيخ على تلّ يغزل صوفاً،

فقلت له : يا شيخ ألك كانت هذه الإبل؟

قال : كانت باسمي. قلت : فما أصابها؟

قال : ارتجعها الذي أعطاها. قلت : وهل قلت في ذلك شيئاً؟

قال : نعم :

لا والذي أخذ (...) من خلائقه

والمرء في الدهر نصب الرزء والمحنِ

ما سرّني أنّ إبْلي في مباركها

وما جرى في قضاء اللّه لم يكنِ

وقال سلم الخوّاص : من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين؛ ليضع اللّه سبحانه الدنيا والآخرة بين يديه. قيل : وما مذهبكم؟

قال : الرضا بالقضا،

ومخالفة الهوى. وأنشد :

لا تطل الحزن على فائت

فقلّما يجدي عليك الحزنْ

سيّان محزون على ما مضى

ومظهرٌ حزناً لما لم يكنْ

﴿ ٢٣