٧

{مَّآ أَفَآءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} يعني من أموال الكفار أهل القرى.

قال ابن عباس : هي قريظة والنضير وهما بالمدينة،

وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال،

وخيبر،

وقرى عرينة،

وينبع جعلها اللّه تعالى لرسوله يحكم فيها ما أراد فاحتواها كلّها. فقال ناس : هلاّ قسّمها ؟

فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية {مَّآ أَفَآءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} .

{فَللّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى} قرابة النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) . وهم بنو هاشم وبنو المطلب.

واختلف الفقهاء في وجه استحقاقهم سهمهم من مال الفيء والغنيمة.

فقال قوم : إنّهم يستحقّون ذلك بالقرابة ولا تعتبر فيهم الحاجة وعدم الحاجة،

وإليه ذهب الشافعي وأصحابه.

وقال آخرون : إنّهم يستحقون ذلك بالحاجة لا القرابة،

وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه،

فإذا قسم ذلك بينهم فضل الذكور على الإناث كالحكم في الميراث،

فيكون للذكر سهمان،

وللأنثى سهم.

وقال محمّد بن الحسن : سوّي بينهم،

ولا يفضل الذكران على الإناث.

ذكر حكم هاتين الآيتين

اختلف العلماء فيه،

فقال بعضهم : أراد بقوله : {مَّآ أَفَآءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} : الغنائم التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة وقهراً،

وكانت الغنائم في بدء الإسلام لهؤلاء الذين سمّاهم اللّه سبحانه في سورة الحشر،

دون الغانمين والموجفين عليها،

ثم نسخ ذلك بقوله في سورة الأنفال : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ} الآية.

وهذا قول يزيد بن رويان وقتادة.

وقال بعضهم : الآية الأُولى بيان حكم أموال بني النضير خاصّة لقوله سبحانه : {وَمَآ أَفَآءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} ،

والآية الثانية بيان حكم سائر الأموال التي أُصيبت بغير قتال،

ولم يوجَف عليها بالخيل والجمال.

وقال الآخرون : هما واحد،

والآية الثانية بيان قسمة المال الذي ذكر اللّه سبحانه في الآية الأُولى.

واعلم أنّ جملة الأموال التي للأئمّة والولاة فيها مدخل على ثلاثة أوجه :

أحدها : ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم كالصدقات.

والثاني : الغنائم وهي ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والعهد.

والثالث : الفيء وهو ما رجع الى النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) من أموال الكافرين عفواً صفواً من غير قتال ولا إيجاف خيل وركاب مثل مال الصلح والجزية والخراج والعشور التي تؤخذ من تجّار الكفّار إذا دخلوا دار الإسلام،

ومثل أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم أويموت منهم في دار الإسلام أحد،

ولا يكون له وارث.

وأمّا الصدقات،

فمصرفها ما ذكر اللّه سبحانه وتعالى : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ} الآية وقد مضى البيان عن أهل السهمين.

وأمّا الغنائم فإنّها كانت في بدء الإسلام لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يصنع بها ما يشاء،

كما قال عزّ وجلّ : {قُلِ انفَالُ للّه وَالرَّسُولِ} ثم نسخ ذلك بقوله : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ} الآية : فجعل أربعة أخماسها للغانمين تقسّم بينهم.

فأما ما كان من النقود والعروض والأمتعة والثياب والدواب والكراع فإنّه يقسّم بينهم،

ولا يحبس منهم.

وأمّا العقار،

فاختلف الفقهاء فيه،

فقال مالك (رحمه اللّه) : للإمام أن يحبس الأراضي عنهم ويجعلها وقفاً على مصالح المسلمين.

وقال أبو حنيفة : الإمام مخيّر بين أن يقسّمها بينهم وبين أن يحبسها عنهم ويجعلها وقفاً على مصالح المسلمين.

وقال الشافعي ح : ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم،

وحكمها حكم سائر الأموال. وهو الاختيار؛ لأنّ اللّه سبحانه أخرج الخمس منها بعدما أضاف الجميع إليهم بقوله : {غَنِمْتُمْ} فدلّ أنّ الباقي لهم وحقّهم. وأما الخمس الباقي فيقسّم على خمسه أسهم : سهم لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وسهم لذوي القربى،

وسهم لليتامى،

وسهم للمساكين،

وسهم لأبناء السبيل.

وأمّا الفيء فإنّه كان يقسّم على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على خمسة وعشرين سهماً : أربعة أخماسها،

وهي عشرون سهماً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يفعل بها ما شاء ويحكم فيها ما أراد،

والخمس الباقي يقسّم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة.

وأما بعد وفاة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقد اختلف الفقهاء في الأربعة الأخماس التي كانت له (صلى اللّه عليه وسلم) من الفيء.

فقال قوم : إنّها تصرف الى المجاهدين المتصدّين للقتال في الثغور،

وهو أحد قولي الشافعي ح.

وقال آخرون : تصرف إلى مصالح المسلمين؛ من سد الثغور وحفر الآبار وبناء القناطر ونحوها بدءاً بالأهّم فالأهمّ،

وهو القول الآخر للشافعي ح.

وأمّا السهم الذي كان لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من خمس الفيء وخمس الغنيمة فإنّه يصرف بعده الى مصالح المسلمين بلا خلاف،

كما قال (صلى اللّه عليه وسلم) (الخمس مردود فيكم).

وهكذا ما خلّفه من مال غير موروث عنه،

بل هو صدقة تصرف عنه إلى مصالح المسلمين كما قال (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّا لا نورّث،

ما تركناه صدقة). فكانت صفايا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من مال الفيء الذي خصّه اللّه سبحانه بها له،

ينفق منها على أهله نفقة سنة،

فما فضل جعله في الكراع والسلاح في سبيل اللّه كما ذكر. فلمّا توفي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وليها أبو بكر ح فجعل يفعل بها ما كان يفعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثم وليها عمر ح على ما ولي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأبو بكر،

فلما استخلف عثمان ولاّها عليّ بن أبي طالب على سبيل التوليه وجعله القسيم فيها،

يليها على ما وليها رسول اللّه (عليه السلام) وصاحباه،

وباللّه التوفيق.

أخبرنا عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن أبي جعفر الطبري قال : حدّثنا ابن عبد الأعلى قال : حدّثنا ابن ثور،

عن معمر،

عن أيوب،

عن عكرمة بن خالد،

عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر ح. {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ} حتى بلغ {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ثم قال : هذه لهؤلاء،

ثم قرأ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ} الآية ثم قال : هذه لهؤلاء،

ثم قرأ {مَّآ أَفَآءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} حتى بلغ {للفقراء المهاجرين... والذين تبوّأُوا... والذين جاءوا من بعدهم} ،

ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامّة،

فليس أحد إلاّ له فيها حقّ. ثم قال : لئن عشت ليأتينّ الراعي وهو يسير حمره نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه.

{كَىْ يَكُونَ دُولَةَ} قراءة العامة {يَكُونَ} بالياء {دُولَةَ} بالنصب على معنى كي لا يكون الفيء دولة. وقرأ أبو جعفر بالتاء والرفع،

أي كي لا تكون الغنيمة أو الأموال،

ورفع {دُولَةَ} فاعلا ل (كان)،

وجعل الكينونة بمعنى الوقوع،

وحينئذ لا خبر له. والقرّاء كلهم على ضمّ الدال من ال {دُولَةَ} إلاّ أبا عبد الرحمن السلمي فإنّه فتح دالها.

قال عيسى بن عمر : الحالتان بمعنى واحد. وفرّق الآخرون بينهما،

فقالوا : الدولة بالفتح الظفر والغلبة في الحرب وغيرها وهي مصدر،

والدُولة بالضمّ اسم الشيء الذي يتداوله الناس بينهم مثل العارية،

ومعنى الآية : كي لا يكون الفيء دولة بين الرؤساء والأقوياء والأغنياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء؛ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع،

ثم يصطفي منها أيضاً يعني المرباع ما شاء،

وفيه يقول شاعرهم :

لك المرباع منها والصفايا

وحكمك والنشيطة والفضول

فجعل اللّه سبحانه أمر الرسول (عليه السلام) بقسمته في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس،

فإذا خمس رفع عن المسلمين جميعاً.

{وَمَا نَهَ اكُمْ} : أعطاكم {الرَّسُولُ} من الفيء والغنيمة {فَخُذُوهُ وَمَا نَهَ اكُمْ عَنْهُ} من الغلول وغيره {فَانتَهُوا} .

قال الحسن في هذه الآية : يؤتيهم الغنائم ويمنعهم الغلول.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن عليّ قال : حدّثنا أبو محمّد عبيد بن أحمد بن عبيد الصفّار الحمصي قال : حدّثنا عطية بن بقيّة بن الوليد قال : حدّثنا عيسى ابن أبي عيسى قال : حدّثنا موسى بن أبي حبيب قال : سمعت الحكم بن عمير الثمالي وكانت له صحبة يقول : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه،

يسير لمن تبعه وطلبه. وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم،

فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن. ومن تهاون بالقرآن وبحديثي خسر الدنيا والآخرة. وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي،

فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن،

ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن. قال اللّه سبحانه : {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا} ).

وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفريابي وعبيد اللّه بن أحمد الكناني قالا : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدّثنا معاوية بن هشام قال : حدّثنا سفيان الثوري،

عن الأشتر،

عن إبراهيم،

عن عبد الرحمن بن يزيد قال : لقي عبد اللّه بن مسعود رجلا محرماً وعليه ثيابه،

فقال : انزع عنك. فقال الرجل : اتقرأ عليّ بهذا آية من كتاب اللّه؟

قال : نعم {ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا} .

{وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

﴿ ٧