١٨٤

قوله جلّ ذكره : { أيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرُ } .

من شهد الشهر صام للّه ، ومن شهد خالق الشهر صام باللّه ، فالصوم للّه يوجب المثوبة ، والصوم باللّه يوجب القربة . الصوم للّه تحقيق العبادة والصوم باللّه تصحيح الإرادة . الصوم للّه صفة كل عابد والصوم باللّه نعت كل قاصد . الصوم للّه قيام بالظواهر والصوم باللّه قيام بالضمائر . الصوم للّه إمساك من حيث عبادات الشريعة والصوم باللّه إمساك بإشارات الحقيقة .

من شهد الشهر أمسك عن المفطرات ومن شهد الحق أمسك في جميع أوقاته عن شهود المخلوقات .

من صام بنفسه سُقِيَ شرابَ السلسبيل والزنجبيل ، ومن صام بقلبه سُقِيَ شراب المحاب بنعمة الإيجاب .

ومن صام بِسِرِّهِ فهم الذين قال فيهم اللّه تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا }[ الإنسان : ٢١ ] .

شراب يا له من شراب!! شراب لا يُدار على الكف لكنه يبدو له من اللطف .

شراب استئناس لا شراب كأس .

قوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي من أفطر لهذه الأعذار فعليه صوم عدة أيام بعدد ما أفطر قضاء لذلك . الإشارة لمن سقمت إرادته عن الصحة فيرجع إلى غيره إما لرخصة تأويل أو لقلة قوة واحتمال ، أو عجز للقيام بأعباء أحكام الحقيقة فليُمْهَل حتى تقوى عزيمته وتستد إرادته ، فعند ذلك يُسْتَدْرَك منه ما رُخِّص له بالأخذ بالتأويل ، وتلك سُنَّةُ اللّه سبحانه وتعالى في التسهيل على أهل البداية ، ثم استيفاءُ ذلك منهم واجبٌ في آخر الحال .

قوله جلّ ذكره : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ( . . . . . ) طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .

الإشارة منه أَنَّ مَنْ فيه بقية من القوة للوقوف لمطالبات الحقيقة ويرجع إلى تسهيل الشريعة وينحط إلى رخصة التأويل فعليه الغرامة بواجب الحال وهو الخروج عما بقي له من معلوم مال أو مرسوم حال ويبقى مجرداً للواحد .

فصل : ويقال إنه لما علم أن التكليف يقتضي المشقة خففه عليك ذلك بأن قلَّل أيام الصوم في قلبك فقال :{ أَيّامًا مَّعْدُودَاتٍ } أي مدة هذا الصوم أيام قليلة فلا يهولنكم سماع ذكره ، وهذا كقوله تعالى : { وَجَاهِدُوا فِى اللّه حَقَّ جِهَادِهِ }[ الحج : ٧٨ ] ثم قال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ }[ الحج : ٧٨ ]أي لا يلحقكم كثير مشقة في القيام بحق جهاده .

﴿ ١٨٤