سُورَة الْبَقَرَةِ

بسم اللّه الرحمن الرحيم

{وبه نستعين على القوم الكافرين}

١

قوله تعالى: (الم (١)  

وقيل: فيه وجوه:

رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال: قوله: (والم) أنا اللّه أعلم.

وقيل: إنه قسم أقسم بها.

وقيل: إن هذه الحروف المعجمة مفتاح السورة.

وقيل: إن كل حرف من هذه الحروف كناية اسم من أسماءِ اللّه: الأَلف اللّه، واللام لطفه، والميم ملكه.

وقيل: إن اللام آلاؤه، والميم مجدهُ.

وقيل: إن الأَلف هو اللّه، واللام جبريل، والميم مُحَمَّد.

وقيل: إنها من التشبيب؛ ليفصل بين المنظوم من الكلام، والمنثور من نحو الشعر ونحوه.

وقيل: إن تفسير هذه الحروف المقطعة ما أَلحق ذكرها بها على أَثرها نحو قوله:

ويجوز أن يكون بمعنى اسم السور، وللّه تسميتها بما شاءَ كما سمى كتبه، وعلى ذلك منتهى أَسماءِ الأَجناس خمسة أحرف، وكذلك أمر السور، دليل ذلك وصْلُ كل سورة فتحت بها إليها، كأَنه بنى بها. ولا قوة إلا باللّه.

ويجوز أن يكون على التشبيب، على ما ذكرنا للتفصيل بين المنظوم من الكلام والمنثور في المتعارف أن المنظوم في الشاهد يشبب فيخرج عن المقصود بذلك الكلام، فعلى ذلك أمر الكلام المنزل.

أَلا ترى أَنه خرج على ما عليه فنون الكلام في الشاهد إلا أنه على وجه ينقطع له المثال من كلامهم، فمثله أَمر التشبيب. ولا قوة إلا باللّه.

وجائِز: أن يكون اللّه أَنزلها على ما أَراد؛ ليمتحن عبادَه بالوقف فيها، وتسليم المراد في حقيقة معناه والذي له يزول ذلك، ويعترف أَنه من المتشابه، وفيها جاءَ تعلق الملحدة، ولا قوة إلا باللّه.

ويحتمل: أَن يكون إذ علم اللّه من تعنت قوم وإعراضهم عنه وقولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}، أنزل على وجه يبعثهم على التأمل في ذلك بما جاءَ بالعجيب الذي لم يكونوا يعرفون ذلك: إما لما عندهم أَنه كأحدهم، أو لسبيل الطعن؛ إذ خرج عن المعهود عندهم، فتلا عليهم ما يضطرهم إلى العلم بالنزول من عند من يملك تدبير الأشياءِ؛ ولذلك اعترضوا لهذه الأَحرف بالتأمل فيها من بين الجميع. ولا قوة إلا باللّه.

وقيل: إنه دعا خلقه إلى ذلك، واللّه أَعلم بما أَراد.

٢

وقوله: (ذَلِكَ الْكِتَابُ (٢)

أي: هذا الكتاب، إشارة إلى ما عنده، وذلك شائع في اللغة، جائز بمعنى هذا.

وقيل: ذلك بمعنى ذلك، إشارة إلى ما في أَيدي السفرة والبررة.

وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ}.

قيل: فيه وجوه؛ لكن الحاصل يرجع إلى وجهين:

أي: لا ترتابوا فيه أنه من عند اللّه.

وقيل: لا ريب فيه أنه منزل على أَيدي الأُمناءِ والثقات.

وقوله: {هُدًى}.

قيل فيه بوجهين:

{هُدًى}: أَي: بيانًا ووضوحًا، فلو كان المراد هذا، فالتقيُّ وغير التقِيِّ سواء.

والثاني: هُدًى أي: رشدًا، وحجة، ودليلًا.

ثم اختلفوا في الدليل:

فقال الراوندي: الدليل إنما يكون دليلًا بالاستدلال؛ لأَنه فعل المستدل. مشتق من الاستدلال؛ كالضرب من الضارب وغيره.

وقال غير هَؤُلَاءِ: الدليل بنفسه دليل، وإن لم يستدل به؛ لأَنه حجة، والحجة حجة وإن لم يحتج بها. غير أَن الدليل يكون دليلًا بالاستدلال، ومن لم يستدل به فلا يكون له دليلًا، وإن كان بنفسه دليلًا، بل يكون عليه عمى وحيرة كقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا).

وقوله: (لِلْمُتَّقِينَ (٢)  

قيل: فيه بوجهين:

يؤمنون باللّه غيبًا، ولم يطلبوا منه ما طلبه الأُمم السالفة، من أنبيائهم؛ كقول بني إسرائيل لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّه جَهْرَةً}.

والثاني: يؤمنون بغيب القرآن، وبما يخبرهم القرآن من الوعدِ والوعيدِ، والأمر والنهي، والبعث، والجنة، والنار. والإيمانُ إنما يكون بالغيب؛ لأَنه تصديق، والتصديقُ والتكذيب إنما يكونان عن الخبر، والخبرُ يكون عن غيب لا عن مشاهدة.

٣

والآية تنقض قول من يقول: بأن جميع الطاعات إيمان؛ لأَنه أَثبت لهم اسم الإيمان دون إقامة الصلاة والزكاة بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.

وقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}.

يحتمل وجهين:

يحتمل: الصلاة المعروفةَ، يقيمونها بتمام ركوعها وسجودها، والخشوع، والخضوع له فيها، وإخلاص القلب في النية؛ على ما جَاءَ في الخبر " انْظُر مَنْ تُنَاجِي ".

ويحتمل: الحمد له والثناء عليه. فإن كان المراد هذا فهو لا يحتمل النسخ، ولا الرفع في الدنيا والآخرة.

وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.

من الأَموال يحتملِ فِرضًا ونفلًا.

ويحتمل: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من القوى في الأنفس وسلامة الجوارح، {يُنْفِقُونَ}: يعينون. واللّه أعلمِ.

٤

وقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ (٤)

يحتمل وجهينِ:

أي: ما أنزل إليك من القرآن.

ويحتمل: ما أنزل إليك من الأَحكام، والشرائع التي ليس ذكرها في القرآن.

وقوله: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}.

يحتمل وجهين أيضًا:

يعني الكتب التي أنزلت على سائِر الأَنبياءِ عليهم السلام.

ويحتمل: الشرائعِ، والأَخبار سوى الكتب، واللّه أعلم.

وقوله: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.

بمعنى يؤمنون.

والإيقان بالشيء هو العلم به. والإيمان هو التصديق، لكنه إذا أَيقن آمن به وصدق به لعلمه به؛ لأَن طائفة من الكفار كانوا على ظن من البعث؛ كقوله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ عن حال هَؤُلَاءِِ أَنهم على يقين، ليسوا على الظن والشك كأُولئك.

٥

وقوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (٥)

قيل: على صواب، ورشد من ربهم.

وقيل: إنهم على بيان من ربهم، لكن البيان ليس المؤمنُ أحق به من الكافر؛ لأَنه يبين للكافر جميع ما يحتاج إليه، إما من جهة العقل، وإما من جهة السمع. فظهر بهذا أَن الأول أَقرب إلى الاحتمال من الثاني.

وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

قيل فيه بوجوه:

قيل: الباقون في نعم اللّه والخير.

وقيل: الظافرون بحاجاتهم، يقال: أَفلح، أَي: ظفر بحاجته.

وقيل: {الْمُفْلِحُونَ} هم السعداءُ، يقال: أَفلح، أي: سعد.

وقيل: {الْمُفْلِحُونَ} الناجون؛ يقال: أَفلح، أي: نجا. وكله يرجع إلى واحد؛؛ كقوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} وكل واحد ممن زحزح عن النار فقد فاز ومن أُدخل الجنة فقد فاز فكذلك الأَول.

٦

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦)

هذا - واللّه أعلم - في قوم خاص، عَلِمَ اللّه أَنهم لا يؤمنون، فأَخبر عَزَّ وَجَلَّ رسولَه بذلك، فكان كما قال.

وفيه آية النّبوَّة.

ويحتمل أَيضًا: أَنهم لا يؤمنون ما داموا في كفرهم؛ كقوله: {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

والكافرون ما داموا كافرين ظالمون.

٧

وقوله: (خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)

روي عن الحسن: " إن للكافر حدا إذا بلغ ذلك الحد، وعلم اللّه منه أنه لا يؤمن، طبعَ على قلبه حتى لا يؤمن ".

وهذا فاسد على مذهب المعتزلة لوجهين:

أحدهما: أَن مذهبهم أَن الكافر مكلف، وإن كان قلبه مطبوعاً عليه.

والثاني: أن اللّه - عز وجل - عالم بكل من يؤمن في آخر عمره، وبكل من لا يؤمن أَبداً، بلغ ذلك الحد أَو لم يبلغ.

فعلى ما يقوله الحسن إيهام أَنه لا يعلم ما لم يبلغ ذلك.

والمعتزلةُ يقولون: إن قوله: { خَتَمَ } ، و { طَبَعَ } يُعلم عَلاَمةً في قلبه أَنه لا يؤمن كإعلام الكتب والرسائل.

ولكن عندنا: خلق ظلمة الكفر في قلبه.

والثاني: خلق الختم والطبع على قلبه [إذا فَعَل فِعْل الكفر؛ لأَن] فِعْل الكفر من الكافر مخلوق عندنا، فخلق ذلك الختم عليه؛ وهو كقوله:

{ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } [الإسراء: ٤٦] أي: خلق الأَكنة. وغيرهِ من الآيات.

٨

وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّه وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)

إخبار منهم أنهم قالوا ذلك بألسنتهم قولا، وأَظهروا خلاف ما في قلوبهم؛ فأخبر عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام: أَنهم ليسوا بمؤمنين، أي: بمصدقين بقلوبهم.

وكذلك قوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}.

وكذلك قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية.

هذه الآيات كلها تنقض على الكراميَّةِ؛ لأَنهم يقولون: الإيمان قول باللسان دون التصديق. فأَخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن جملة المنافقين أَنهم ليسوا بمؤمنين لما لم يأْتوا بالتصديق، وهذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب.

والكراميَّة يقولون: بل هم مؤمنون.

٩

وقوله: (يُخَادِعُونَ اللّه وَالَّذِينَ آمَنُوا (٩)

لا يقصد أحد مخادعة اللّه، لكنهم كانوا يقصدون مخادعة المؤمنين، وأَولياءِ اللّه، فأَضاف اللّه عَزَّ وَجَلَّ ذلك إلى نفسه؛ لعِظم قدرهم، وارتفاع منزلتهم عند اللّه؛ وهو كقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ}، واللّه لا يحتاج أَن ينصر، ولكن كأَنه قال: إن تنصروا أولياء اللّه ينصركم؛ وهو كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّه} واللّه لا يُبايَع، ولكن إضافة ذلك إلى نفسه؛ لعظم قدر نبيه، وعلو منزلته عند اللّه تعالى، فكذلك الأول أَضاف مخادعتهم أَولياءَه إلى نفسه لعلو منزلتهم عند اللّه وقدرهم لديه.

والمخادعة هو فعل اثنين؛ لخداع هَؤُلَاءِِ بحضور المؤمنين؛ لذلك المعنى ذكر المفاعلة. واللّه أعلم.

وقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}.

الأول: أي حاصل خداعهم، ووباله يرجع إليهم.

والثاني: أنهم يُظهرون لهم الموافقة ليأْمنوا، فلحقهم خوف دائم بذلك الخداع في الدنيا.

وقوله: {وَمَا يشعُرُونَ}.

الأَول: أي: ما يشعرون أَن حاصل الخداع يرجع إليهم في الآخرة.

والثاني: ما يشعرون أَن اللّه يظهر، ويطلع نبيه على ما أَضمروا هم في قلوبهم، واللّه أعلم.

١٠

وقوله: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (١٠)

يقال: شكٌ ونفاق؛ سَمَّى عَزَّ وَجَلَّ المنافقين مرضى؛ لاضطرابهم في الدِّين؛ لأَنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بالقول، ويضمرون الخلاف لهم بالقلب؛ فكان حالهم كحال المريض الذي هو مضطرب بين الموت والحياة؛ إذ المريض يشرف - ربما - على الموت، ويرجو الإقبال عليه منه ثانيًا؛ فهو مضطرب بين ذلك، فكذلك هم، لما كانوا مضطربين في دينهم سماهم مرضى.

والكراميَّة يقولون: بل هم مؤمنون.

وأما سائِر الكفرة فإنهم لم يضطربوا في الدِّين، بل أظهروا بالقول على ما أَضمروا بالقلب؛ فسماهم موتى، لما لم ينتفعوا بحياتهم، ولم يكتسبوا الحياة الدائمة.

وسمى المؤمنين أَحياء؛ لما انتفعوا بحياتهم، واكتسبوا الحياة الدائمة، لموافقتهم باللسان والقلب جميعًا لدين اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - واللّه أعلم.

وقوله: {فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضًا}.

اختلف في تأويله:

قالت المعتزلة: هو التخلية بينهم وبين ما اختاروا.

وأما عندنا: فهُو على خلق أَفعال زيادة الكفر والنفاق في قلوبهم، لما زادوا هم في كل وقت من إظهار الموافقة للمؤمنين بالقول، وإضمار الخلاف لهم بالقلب، خلق اللّه عز وجل تلك الزيادة من المرض في قلوبهم باختيارهم.

وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم في قوله: {اهدِنَا}.

وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. لأَن عذاب الدنيا قد يكون ولا أَلم فيه؛ فأخبر اللّه عَزَّ وَجَلَّ أن عذاب الآخرة عذاب شديد عظيم، ليس كعذاب الدنيا.

١١

وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}. بالمخادعة للمؤمنين، وإظهار الموافقة لهم بالقول، وإضمار الخلاف لهم بالقلب، والاستهزاء بهم عند الخلوة، والقول فيهم بما لا يليق بهم، وعبادة غير اللّه. وأَيُّ فساد أَكبر من هذا؟!.

وقوله: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.

بإظهار الموافقة بالقول.

١٢

وقوله: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ (١٢)

أخبر تعالى أنهم هم المفسدون؛ لما أَضمروا من الخلاف لهم، والمخادعة، والاستهزاءِ بهم.

وقوله: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}.

الأول: أي: لا يشعرون أَن حاصل ذلك لا يرجع إليهم.

والثاني: لا يشعرون أن ما كانوا يفعلون الفسادُ.

فإن كان هذا فهو ينقض قول من يقول: بأن الحجة لا تلزم إلا بالمعرفة، وهو قول الناس؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ أَخبر بفساد صنيعهم، وإن لم يشعروا به.

وهو كقوله أَيضًا: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} أخبر بحبط الأعمال وإن كانوا لا يعلمون.

١٣

وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ (١٣)

تحتمل الآية: أَن تكون في المنافقين، وتحتمل: في أَهل الكتاب.

فإن كانت في المنافقين فكأَن قوله: آمنوا يا أَهل النفاق في السر والعلانية، كما اّمن أَصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في السر والعلانية جميعًا، وهو كقوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا}.

وإن كان في أَهل الكتاب ففيه الأَمر بالإيمان الذي هو إيمان، وهو التصديق. والإيمان عندنا هو التصديق بالقلب؛ دليله قول جميع أَهل التأْويل والأَدب أنهم فسروا {آمَنُوا}: صدقوا في جميع القرآن.

وقوله: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} الآية.

السفه: هو ضد الحكمة، وهو العمل بالجهل على العلم أَنه يبطل، والجهلُ هو ضد العلم. والسفهُ هو الشتم؛ يقول الرجل لآخر: يا سفيه.

وقوله: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ}.

يقول بعض المتكلمين: إن هذا شتم من اللّه لهم، جوابًا على المؤمنين، ويستجيزون ذلك على الجواب، وإن لم يجز على الابتداءِ، كالمكر، والكيد، والاستهزاءِ، والخداع ونحوه، فعلى ذلك هذا.

وأما عندنا فهو غير جائِز؛ لأَن من يشتم آخر يذم عليه، وهو عمل السفهاء. فأَخبر عز وجل: أَنهم هم الذين يعملون بالجهل على علمهم أَن دينهم الذي يدينون به باطل، وأَن الدِّين الذي يدين به المؤمنون حق.

وقوله: {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ}.

قيل فيه بوجهين:

أحدهما: لا يعلمون أنهم هم السفهاء.

والثاني: لا يعلمون ما يحل بهم من العذاب لذلك، واللّه أعلم.

١٤

وقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا (١٤)

يعني: أصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقوله: {قَالُوا آمَنَّا}.

أظهروا لهم الموافقة في العلانية، ويضمرون لهم الخلاف في السر.

وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}.

قيل فيه بأَوجه:

قيل: إن شياطينهم؛ يعني الكهنة؛ سموا بذلك لبعدهم عن الحق.

يقال: شَطَن، أَي: بَعُدَ.

وقيل: إن كل عاتٍ ومتمرد يسمى شيطانًا لعتوه وتمرده؛ كقوله: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} سموا بذلك لعتوهم وتمردهم؛ إذ من قولهم: إن الشياطين أَصْلهم من الجن.

وقيل: سموا شياطين؛ لأَنه كان مع كل كاهن شيطان يعمل بأَمره، فسموا بأَسمائِهم؛ وذلك جائِز في اللغة جالي، واللّه أَعلم.

وقوله: {قَالُوَا إِنَّا مَعَكُم}.

قيل: فيه وجهان:

الأَول: أَي: معكم في القصد والمعونة.

والثاني: إنا معكم، أي: على دينكم لا على دين أُولَئِكَ، واللّه أَعلم.

قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.

بإظهار الموافقة لهم في العلانية، وإظهار الخلاف لهم في السر.

١٥

وقوله: (اللّه يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (١٥)

قيل فيه بوجوه:

قيل: يجزيهم جزاء الاستهزاءِ.

وكذلك قوله: {يُخَادِعُونَ اللّه وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي: يجزيهم جزاء المخادعة، وكذلك قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّه} أي: يجزيهم جزاء غير أن هذه في المنافقين والأُولى في الكفرة.

وهى تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنهم يقولون: إن اللّه لا يقدر أَن يستنقذهم في حال الاختيار، وإنما يقدر الاستنقاذ منهم في حال الاضطرار، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ: أَنه يستنقذهم على فعل الطغيان.

وقوله: {وَيَمُدُّهُمْ} أي: يخلق فعل الطغيان فيهم.

ويحتمل: أن يخذلهم ويتركهم لما اختاروا من الطغيان إلى آخر عمرهم.

ويحتمل: أنه لم يهدهم ولم يوفقهم.

وفي هذا إضافة المد إلى اللّه. وإضافة المد على الطغيان لا يضاف إليه إلا لمدح، والمدح يكون بالأَوجه الثلاثة التي بينا، وفي هذا أَنه إذا كان هو الذي يمُدهم في الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان؛ فدل أَن اللّه خالق فعل العباد؛ إذ من قولهم: إن القدرة التامة هي التي إذا قدر على شيء قدر على ضده.

والعَمَهُ: الحيرة في اللغة.

١٦

قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى (١٦)

أي: اختاروا الضلالة على المدعو إليه -وهو الهدى- من غير أَن كان عندهم الهدى، فتركوه بالضلالة.

وهو كقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} من غير أن كانوا فيه، فكذلك الأَول، تركوا الهدى بالضلالة ابتداء.

وقيل: الضلالة: الهلاك؛ أي: اختاروا ما به يهلكون على ما به نجاتهم، وإن كانوا لا يقصدون شراء الهلاك بما به النجاة؛ كقولهم: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} لا يقدر أحد أن يصبر على النار، ولكن فما أصبرهم على عمل يستوجبون به النار.

وكذلك قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}، أي: بئسما اختاروا ما به هلاك أَنفسهم على ما به نجاتهم.

وفي هذه الآية دلالة جواز البيع بغير لفظة البيع؛ لأَنهم ما كانوا يتلفظون باسم البيع، ولكن كانوا يتركون الهدى بالضلالة.

وكل من ترك لآخر شيئًا له ببذل يأخذه منه فهو بيع وإن لم يتكلموا بكلام البيع.

وكذلك قوله: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ. . .} الآية. وهو على بذل الأَموال والأَنفس له بالموعود الذي وعد لهم، وهو الجنة.

وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.

أي: ما ربحوا في تجارتهم؛ لأَن التجارة لا تربح ولكن بالتجارة يربح، وقد يسمى الشيء باسم سببه.

وهو كقوله: {جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} والنهار لا يبصر، ولكن بالنهار يبصر.

وذلك سائغ في اللغة، جائز تسمية الشيء باسم سببه.

ثم في قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} نفى الربح دون نفى الأَصل في الظاهر، غير أَن النفي على وجهين:

نفي شيء يوجب إثبات ضده، وهو نفي الصفة؛ كقولك: فلان عالم: نفيت الجهل عنه، وفلان جاهل: نفيت العلم عنه.

ونفي شيء لا يوجب إثبات ضده، وهو نفي الأَعراض؛ لأَنك إذا نفيت لونًا لم يوجب ضد ذلك اللون.

وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} نفى الأَصل؛ كأَنه قال: بل خسرت تجارتهم، أَوجبت إثبات ضده.

دليله قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} و {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

١٧

وقوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧)

اختلف فيه:

قيل: إنها نزلت في المنافقين؛ لأَنها على أَثر ذكر المنافقين، وهو قوله: (وَإِذَا لَقُوا وحياته لم ينتفع بنور الآخرة وجزائِها.

وكذلك الذي ذهب عنه ضوء البرق يبقى متحيرا؛ إذ به يبصر الطريق كمن يذهب عته بصر القلب؛ إذ به يبصر عواقب الأَشياءِ.

بل الذي قصد السلوك بالبروق، والاستضاءَة بنور النار، إذا ذهب كان أَعظمَ حسرة وأَشد خوفًا من النارِ، وشدةِ المطرِ، وخبثِ الطريق من الذي لم يعرف -في الابتداءِ- نفع النار أَو البرق، ويكره المطر على شدة رغبته فيه، والنار بما ذهب منه.

وكذلك المنافق في الآخرة إن لم يكن منه ما أظهر إذ به يُرد إلى درك الأَسفل، ولا قوة إلا باللّه.

وكذلك الكافر لم يبصر -بما أَعطاه من البصر- عواقب البصر الظاهر، ولا يسمع -بما أَنعم عليه من السمع- عواقب السمع؛ إذ حق ذلك أن يؤدي ذلك ما أَدركه إلى العقل ليعتبر به أَنه لم يخلق شيء من ذلك بالاستحقاق، ولا يحتمل عقله الإحاطة بكنه ما فيه من الحكمة، فيعلم عظم نعمة اللّه وخروج مثله عن العبث، فيقوم بأداءِ شكره؛ وبذلك يصير به إلى الجزاءِ في العواقب، ولا قوة إلا باللّه.

١٨

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)

يحتمل وجهين:

أَحدهما: صم؛ لأَنه ختم على آذانهم، وعلى سمعهم، وعلى قلوبهم؛ فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يعقلون.

ويحتمل: أَنهم صم بكم عمى؛ لما لم ينتفعوا بأسماعهم، وأَبصارهم، وقلوبهم.

ثم اختلف في جواز إضافة لفظ " الاستهزاءِ " إلى اللّه تعالى "

فأجازه قوم، وإن كان ذلك قبيحًا من الخلق؛ لما قبح منهم بما لا أحد يستهزئ بأَحدٍ -إما لجهله، أَو لقبح في الخلقة، أَو لزيادة في الخلق- إلا والمستهزئ نحو هذه قد يحتمل ذلك لولا إنعام اللّه عليه الذي قد أغفل عنه، أَو لدناءة في الخلق باشتغاله بما ذكر، مع ما لعل الإغفال من هذا أوحش، وأَقبح من حال المستهزأ به.

ولذلك قال عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ. . .} الآية.

وذلك نحو التكبر: أنه قبيح من الخلق، بما لهم أَشكال في الحدث، وآثار الصنعة، واحتمال كل منهم بما احتمل غيره.

وجائِز إضافته إلى اللّه تعالى، لتعاليه عن الأَشباه والأَشكال، وإحالة احتمال ما احتمل غيره، وبه يقول حسين النجار.

وأبَى قوم ذلك إلا على أثر أَحوال تصرف فهم السامع إلى معنى الاستهزاءِ، نحو أن يذكر على أثر فعل له جزاء؛ فيفهم منه جزاءُ الاستهزاءِ كذكر السيئة في الجزاء، والمكر ونحو ذلك.

ثم يخرج ما نحن فيه على أوجه:

أَحدها: ما بينا.

والثاني: ما ينسب إليه فعل المأمور، نحو قول المؤمنين للمنافقين في الآخرة: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} وقول أَهل الجنة، ودعائهم أهل النار بالخروج، لو ثبت ما ذكره الكلبي، وقول الملائِكة: {فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} وغير ذلك.

١٩

وقوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّه مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩)

ثم ما ذكر من " الظلمات " يخرج على وجوه ثلاثة:

أَحدها: ظلمات كفرهم بقلوبهم؛ إذ أظهروا الإيمان أولًا.

والثاني: المتشابه في القرآن، وهو الذي تعلق به كثير من المشركين حتى نزول قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ. . .} الآية.

والثالث: ما في الإسلام من الشدائد، والإفزاع من الجهاد، والحدود وغير ذلك.

وأَمكن صرف الأَول، والآخر إلى الفريقين: الكافر، والمنافق، وصرف تأْويل المتشابه إلى الكافر.

على أنا بينا أَن لكل من ذلك حَظًّا، ويدل آخر الآية -وهو قوله: {وَاللّه مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} - على أن المثل لهم، إلا أن المنافق شريكهم في الكفر، واللّه الموفق.

وجائِز أن يكون المثل المضروب بالآية إنما هو للقوم الذين شهدوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم كانوا قبل بعثه صنفين:

صنف ينتحل الكتاب الذي هو عندهم مما جاءَ به الرسل، لكن أَئمتهم قد غيروا ما في كتبهم من دين اللَّه وأَحكامه حتى عطلوا ذلك، وأَبدعوا غير الذي جاءَت به الرسل من الدِّين والأَحكام.

بَين ذلك قولُه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا. . .) الآية.

وقوله: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ).

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ. . .) الآية.

ومنهم من أبدع الكتاب ونسب إليهم؛ كقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ. . .) الآية.

تبين ما ظهر من التفرق فيهم، ومن القول في أَنبيائهم، وفي اللَّه سبحانه. ومعلوم أن دين الرسل واحد غير مختلف، وبما كان من الفترة اندرست الكتب، وذهبت الرسوم؛ فصاروا في ظلمة الضلالة، وحَيرة الزيغ، وتاهوا في سبيل الشيطان، وانقطع من بين أظهرهم الأَئمة الذين يوثق بهم في الدِّين، بما ليس لأَحد برهان يشهد له بالتمسك بسبيل الأنبياءِ، والاعتصام بكتبهم؛ إِذْ كلهم يدعي ذلك - وقد ظهر فيهم القول المختلف والمتناقض الذي لا تحتمله الحكمة، وَلا يصبر عليه العقل.

وصنف: لا ينتحل الكتاب، ولا يؤمن بنبي من الأَنبياءِ، بل يعبدون الأَوثان والنيران والأحجار، وما يهوون مما لا يملك الضرر ولا النفع، ليس لهم شرع، بل هم حيارى، لا يعرفون معبودًا، ولا يبصرون طريقا، وليس فيهم مَنْ إذا فزعوا إليه دلهم على المحجة، وأطلعهم على الحق، بل هم في الضلال تائهون، وفي الظلمات متحيرون.

فأحوج الفريقين جميعًا ما حل بهم من الحيرة والتيه، إلى من يشفيهم من داءِ الضلالة بنور الهدى، ومن ظلمة الاختلاف بضياءِ الائتِلاف، ويخرجهم من سبيل الشيطان إلى سبيل اللَّه، ويَدُلهم على معرفة المعبود الحق لئلا يتخذوا من دونه أَربابًا.

فبعث إليهم - عند شدة حاجتهم - رسولا، وأكرمهم بما أَراهم من الآيات التي يعلمهم بها أَنه أنعم بها عليهم؛ ليستنقذهم من الضلالة إن هم أَطاعوه، وشكروا نعمة اللَّه.

فكانوا كقوم بُلُوا بظلماتِ الليل والسحاب، فتحيروا فيها بما حالت الظلمة بينهم وبين حاجاتهم، وتعذر عليهم الوجه في وضع أَقدامهم، فتاهوا، فدفعهم التيهُ إلى استيقاد النار؛ ليبلغوا حوائجهم، ويأمنوا العَطَبَ في وضع الأَقدام.

وكقوم بُلُوا في شدة الجوع والعطش لضيق الزمان وجَدْبِهِ، فاستغاثوا بمن يملك كشف ذلك عنهم فأَغاثهم بالمطر.

ثم منهم من عرف نعمة من أَنعم عليهم بالوقود وأَغاثهم بالمطر، فتلقوا نعمته بالشكر فنجوا بذلك فما خشوا من الهلاك، ووصلوا إلى حوائِجهم بالنار والمطر.

وذلك مثل من اتبع محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعرف نعم اللّه فشكره.

ومنهم من تلقى نور النار بالكفران والجهل بالمنعم به عليه، ونسي ما كان عليه، وهو قوله: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} آيات فيها ذكر ما بَينت،

وقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ. . .} الآية، فأَذهب اللّه نورَهُ فلا ينتفع بنور النار، ولا وَصل إلى حاجته التي بها يقضي.

وذلك مثل الذين كفروا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنهم لم ينتفعوا به، ولا قضوا حاجاتهم، بل زادهم ذلك ظلمةً وحيرة، كمستوقد النار إذا ذهب بصرهُ.

وكذلك قوم بُلوا بالسلوك في الطريق عند شدة الظلمة، ولم يتلقوا النعمة بالشكر من الوجه الذي جُعل لهم لوضع أَقدامهم بنور البرق فأَذهب اللّه نوره، وسَكَنَ لمعانُ البرق؛ فعاد الغياث له هلاكا، والمطر -الذي وجهه- عليه بلاء.

فمثله من كابر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واعترض على الاستماع إليه، ولا قوة إلا باللّه.

٢٠

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠).

٢١

وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}.

فالخطاب يحتمل الخصوص والعموم.

وقوله: {اعْبُدُوا}: وحدوا ربَّكم.

جعل العبادة عبارةً عن التوحيد؛ لأَن العبادة التي هي للّه لا تكون ولا تخلص له إلا بالتوحيد. ويقال: {اعْبُدُوا}؛ أي: أَطيعوا له؛ أي: اجعلوا عبادتكم للّه، لا تعبدوا غيره، في كلا التأْويلين يرجع إلى الكفرة.

ويقال: {اعْبُدُوا}؛ أَي: أَطيعوا له.

والعبادة جعل العبد كُليته للّه قولًا، وعملًا، وعقدًا، وكذلك التوحيد، والإسلام.

والطاعة ترجع إلى الائتمار؛ لأَنه يجوز أن يطاع غير اللّه، ولا يجوز أَن يعبد غير اللّه؛ لأن كل من عمل بأَمرِ آخر فقد أطاعه؛ كقوله: {وَأَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، ولا كل من عمل بأمر آخر فهو عابدٌ له، وباللّه نستعين.

ثم بين الذي أَمر بالتوحيد إياه وبالعبادة له خالصًا، فقال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.

والذين تعبدونهم لم يخلقوكم، ولا خلقوا الذين من قبلكم، فكيف تعبدونهم دون الذي خلقكم؟! وباللّه التوفيق.

وقوله: {لَعَلَّكُم تَتقونَ}. يحتمل وجهين:

يحتمل: تتقون المعاصي، والمناهي، والمحارم التي حرم اللّه عليكم. فإذا كان هذا هو المراد فذلك راجع إلى المؤمنين.

ويحتمل قوله: {تَتَّقُونَ} والشرك وعبادة غير اللّه، فذلك راجع إلى الكفرة.

قال الشيخ: الأَحسن في الأمر بالتقوى والتوحيد أَن يجعل عامّا، وفي الخبر عن التقوى خاصًّا.

{لَعَلَّكُم} أي: كي تتقوا.

٢٢

وقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ (٢٢)

بَيَّنَ اتقاء الذي أَمر بالتوحيد له، وتوجيه العبادة إليه، وإخلاص النية له؛ فقال: الذي فرش لكم الأَرض لتنتفعوا بها، وتقضوا حوائِجكم فيها، من أنواع المنافع عليها، واتخاذ المستقر والمسكن فيها.

{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي: رفع السماء بناء.

والسماء: كل ما علا وارتفع، كما يقال لسقف البيت: سماء؛ لارتفاعه.

بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ. . .) الآية، ولأَن في العقل ما يدفع حمل الأشياء كلها على الإباحة، لما في ذلك فساد الخلق، وتفانيهم.

فيين لِكل منهم ملْكًا على حدة بسبب يكتسب به؛ لئلا يحملهم على التفاني والفساد، وباللّه نستعين.

وقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا للّه أَنْدَادًا}.

أي: أَعدالًا، وأَشكالًا في العبادة، وكله واحد.

ند الشيء: هو عِدْلهُ. وشكلُه: هو مثلُه "

وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

الأَول: أَن لا نِدَّ، ولا عِدْل، ولا شكل؛ لما أَراكم من إِنشاءِ هذه الأَشياء ولم تروا من ذلك ممن تعبدونه شيئًا.

والثاني: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ولما أَنشأ فيكم من الأَشياءِ ما لو تدبرتم وتفكرتم وتأَملتم، علمتم أنه لا نِد له ولا شكل له؛ كقوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.

٢٣

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا (٢٣)

من القرآن أنه مُخْتَلَق مفترى، وأنه ليس منه؛ كقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} وقولهم: {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى}، و {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ}.

وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}.

أي: ائْتوا أَنتم بمثل ما أَتى هو؛ إذ أنتم وهو سواء في الجوهر والخلقة واللسان، ليس هو أَولى بذلك منكم؛ أَعني: في الاختلاق.

وقوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

أي: استعينوا بآلهتكم الذين تعبدون من دون اللّه، حتى تعين لكم على إتيان مثله إن كنتم صادقين في مقالتكم أنه مختلق مفترى.

ويقال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ}. يعني شعراءَكم وخطباءَكم ليعينوكم على إتيان مثله.

ويقال: ادعوا شهداءَكم من التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائِر الكتب المنزلة على الرسل السالفة أنه مختلق مفترى.

٢٤

وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (٢٤)

يحتمل وجوهًا:

يحتمل أنهم اقروا على أثر ذلك بالعجز عن إتيان مثله من غير تكلف ولا اشتغال كان منهم لما دفع عَزَّ وَجَلَّ عن أطماعهم إتيان مثله نظمًا، ولا اجتهدوا كل جهدهم، وتكلفوا الجزاءَ من شاءَ بلا فعل، ولا صنع كان منه؛ فضلًا وكرامة، وذلك في العقل جائِز إعطاء الثواب بلا عمل على الإفضال والإكرام.

وأَما التعذيب فإنه غير جائِز في العقل بلا ذنب يرتكبه، واللّه أعلم.

٢٥

وقوله: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (٢٥)

الآية تنقض قول من جعل جميع الطاعات إيمانًا؛ لما أثبت لهم اسم الإيمان، دون الأَعمال الصالحات، غير أَن البشارة لهم، وذهاب الخوف عنهم إنما أُثبت بالأَعمال الصالحات.

ويحتمل: الأَعمال الصالحات: عمل القلب، وهو أن يأْتي بإيمان خالص للّه، لا كإيمان المنافق بالقول دون القلب.

وقوله: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.

يعني بساتين.

وقوله: {ومِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} قيل فيه بوجوه:

قيل: إن البساتين ليست هي اسم الأَرض والبقعة خاصة، ولكن ما يجمع من الأشجار، وما ينبت فيها من أَلوان الغروس المثمرة فعند ذلك يسمى بستانًا.

وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: من تحت أشجارها، وأغراسها الأَنهار.

وقيل: من تحتها: مما يقع البصر عليها، وذلك أَنزه عند الناس، وأَجلى، وأَنبل.

وقيل أَيضًا: من تحتها أَي: من تحت ما علا منها من القصور والغرف، لا تحت الأَرض مما يكون في الدنيا في بعض المواضع يكون الماء تحت الأَرض.

دليله قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " تحت كل شعرة جنابة "؛ أي تحت ما علا، لا تحت الجلد؛ تشبيهًا.

لكن ذلك وهمٌ عندنا؛ لأَن اللّه تعالى هو الأَول بذاته، والآخر بذاته، والباقي بذاته، والجنةُ وما فيها باقية بغيرها.

ولو كان فيما ذكر تشبيه لكان في العالم، والسميع، والبصير تشبيه، ولكان في الخلق أيضًا في حال البقاءِ تشبيه، فإذا لم يكن فيما ذكرنا تشبيه لم يكن فيما تقدم تشبيه.

وأيضًا: فإن اللّه تعالى جعل الجنة دارًا مطهرة من المعايب كلها؛ لما سماها دار قدس، ودار سلام.

ولو كان آخرها للفناءِ كان فيها أَعظم المعايب؛ إذ المرء لا يهنأُ بعيش إذا نغص عليه بزواله؛ فلو كان آخره بالزوال كان نعمة منغصة على أَهلها؛ فلما نزه عن العيوب كلها -وهذا أَعظم العيوب- لذلك كان التخليد لأَهلها أولى بها.

٢٦

وقوله: {إِنَّ اللّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}.

كأن هذا - واللّه أعلم - يخرج جوابًا على أثر قول قاله الكفرةُ لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما ذكره بعض أَهل التأْويل - فقالوا: ما يستحيي ربك أَن يذكر البعوض والذباب ونحوها مما يصغر في نفسه، وملوكُ الأَرض لا يذكرون ذلك، ويستحيون؟

فقال عَزَّ وَجَلَّ جوابًا لقولهم: {إِنَّ اللّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا. . .} الآية.

لأَن ملوك الأَرض إنما ينظرون إلى هذه الأَشياءِ بالاستحقار لها، والاستذلال؛ فيستحيون ذكرها على الإنكاف، والأنَفَة.

واللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يستحيي عن ذلك؛ لأَن الأعجوبة في الدلالة على وحدانية اللّه تعالى وربوبيته في خلق الصغير من الجثة والجسم، أَكبر من الكبارِ منها والعظام؛ لأَن الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب، وتركيب ما يحتاج إليه من الفم والأَنف والرجل واليد والمدخل والمخرج - ما قَدروا، ولعلهم يقدرون على ذلك في العظام من الأَجسام والكبار منها.

فأُولئك لم ينظروا إليها لما فيه من الأعجوبة واللطافة، ولكن نظروا للحقارة، والخساسة أنفًا منهم وإِنكافًا.

ثم اختلف أَهل الكلام في إضافة الحياءِ إِلى اللّه تعالى:

فقال قوم: يجوز ذلك بما رُويَ في الخبر: " إن اللّه يستحيي أَن يعذب من شاب في الإسلام " ولأنه يجوز كالتكبر، والاستهزاءِ، والمخادعة، وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم.

وقال آخرون: لا يجوز إضافته إلى اللّه تعالى؛ لأَن تحته الإنكاف والأَنفة، وذلك عن اللّه تعالى مَنْفِيٌّ، ولكن الحياء هو الرضاء هاهنا، والحياء الترك؛ أَي: لا يترك ولا يدع.

وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}.

أي: علموا أن ضرب المثل بما ذكر من صغار الأَجسام والجثة حق؛ لما نظروا إلى ما فيها من الأُعجوبة والحكمة واللطافة.

وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلًا}.

لم ينظروا فيها لما فيها من الأُعجوبة والحكمة، ولكن نظروا للخساسة والحقارة.

وقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}.

الآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنه جواب قولهم: {مَاذَا أَرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلًا} فقال: أَرَاد أَن يضل بهذا المثل كثيرًا، وأَراد أن يهدي به كثيرا، أَضل به من علم منه أَنه يختار الضلالة، ويهدي به من علم أَنه يختار الهدى، أراد من كل ما علم منه أَنه يختار

ويُؤثر، واللّه أَعلم.

وهم يقولون: بل أَراد أن يهدي به الكل، ولكنهم لم يهتدوا.

والثاني: يُضلُّ به كثيرًا؛ أَي: خَلَقَ فِعْلَ الضلالة من الضال، وخلقَ فعل الاهتداءِ من المُهتدِي. وقد ذكرنا فيما تقدم.

وقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}.

أي: ما يُضِل بهذا المثَل إلا الفاسق الذي لا ينظر إلى ما فيها من الأُعجوبة واللطافة في الدلالة.

٢٧

وقوله: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ (٢٧)

عهد اللّه يكون على وجهين:

عهدُ خِلْقه؛ لما يشهد خَلْقه كُل أحدٍ على وحدانية الرب؛ كقوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.

وكقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ. . .} الآية. إنه إن نظر في نفسه وتأَمل عرف أن له صانعًا وأنه واحد لا شريك له.

وعَهْدُ رسالةٍ على أَلْسِنة الأَنبياءِ والرسل عليهم السلام؛ كقوله: {وَقَالَ اللّه إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي. . .} والآية.

وكقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. . .} الآية.

فنقضوا العهدين جميعًا؛ عهدَ الخلقة، وعهد الرسالة.

وقوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّه بِهِ أَنْ يُوصَلَ}.

يَحْتَمِل وجهين:

يقطعون الإيمان ببعض الرسل وقد أُمروا بالوصل؛ كقوله: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}.

وقيل: يقطعون ما أمر اللّه أن يوصل من صلة الأرحام.

وقوله: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}.

قيل فيه بوجهين:

يفسدون بما يأمرون في الأرض بالفساد؛ كقوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}.

وقيل: يفسدون، أي: يتعاطَوْن بِأنفسهم في الأَرض بالفساد؛ كقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}.

وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

يحتمل أَيضًا وجهين:

خسروا لما فات عنهمِ، وذهب من المنى والأَماني في الدنيا.

 عن الحسن أنه قال في قوله: {هُمُ الْخَاسِرُونَ}: أي: قذفوا أَنفسهم -

باختيارهم الكفر- بين أَطباق النار؛ فذلك هو الخسران المبين.

٢٨

وقوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (٢٨)

يحتمل وجوهًا:

" كيف ": من أَين ظهرت لكم الحجةُ أَن تعبدوا من دون اللّه من الأَصنام وغيرها أَنه حق، ولم يظهر لكم منها الإنشاء بعد الموت، ولا الإماتةُ بعد الإحياءِ؟

وقيل: كيف تكفرون بالبعث بعد الموت {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} يعني نُطَفًا {فَأَحْيَاكُمْ}، وأَنتم لا تنكرون إنشاء الأَول فكيف تنكرون البعث والإحياء بعد الموت؛ وقيل: كيف تكفرون بالإحياءِ والبعث بعد الموت، وفي العقل أن خَلْقَ الخلْق للإفناءِ والإماتة من غير قصد العاقبةِ عبث ولعب؛ لأَن كل بانٍ بنى للنقض فهو عابث، وكذلك كل ساع فيما لا عاقبة له فهو عابث هازل، فكيف تجعلون فعله عَزَّ وَجَلَّ؛ إذ لو لم يجعل للخلق دارًا للجزاءِ، والعقاب كان في خلقه إياهم عابثًا هازلًا خارجا من الحكمة؟! تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرًا.

وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

أَي: تعلمون أَنكم تُرجَعون إليه، وكذلك المصير والمآب.

والثاني: ترجعون إلى ما أعَد لَكُم من العذاب. احتج عليهم بما أَخبرهم اللّه أَنه أَنشأهم بعد الموتة الأُولى، وأنه يبعثهم بعد الموتة الأُخرى {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كأنه يقول: ثم اعلموا أَنكم إليه ترجعون.

٢٩

قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (٢٩)

قيل: إنه صلة قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} أي: كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأرض ما يدلكم على وحدانيته؛ لأَنه ليس شيء من الأرض إلا وفيه دلالة وحدانيته.

ويحتمل: كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأَرض نعيمًا من غير أَن كان وجب لكم عليه حق من ذلك لتشكروا لَهُ عليها، فكيف وجهتم أَنتم الشكر فيها إلى غيره؟

ويحتمل {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ}: محنة يمتحنكم بها في الدنيا؛ كقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، ثم لتجزون في دار أخرى فكيف أنكرتم البعث؟!

باختيارهم الكفر- بين أَطباق النار؛ فذلك هو الخسران المبين.

٢٨

وقوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (٢٨)

يحتمل وجوهًا:

" كيف ": من أَين ظهرت لكم الحجةُ أَن تعبدوا من دون اللّه من الأَصنام وغيرها أَنه حق، ولم يظهر لكم منها الإنشاء بعد الموت، ولا الإماتةُ بعد الإحياءِ؟

وقيل: كيف تكفرون بالبعث بعد الموت {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} يعني نُطَفًا {فَأَحْيَاكُمْ}، وأَنتم لا تنكرون إنشاء الأَول فكيف تنكرون البعث والإحياء بعد الموت؛ وقيل: كيف تكفرون بالإحياءِ والبعث بعد الموت، وفي العقل أن خَلْقَ الخلْق للإفناءِ والإماتة من غير قصد العاقبةِ عبث ولعب؛ لأَن كل بانٍ بنى للنقض فهو عابث، وكذلك كل ساع فيما لا عاقبة له فهو عابث هازل، فكيف تجعلون فعله عَزَّ وَجَلَّ؛ إذ لو لم يجعل للخلق دارًا للجزاءِ، والعقاب كان في خلقه إياهم عابثًا هازلًا خارجا من الحكمة؟! تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرًا.

وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

أَي: تعلمون أَنكم تُرجَعون إليه، وكذلك المصير والمآب.

والثاني: ترجعون إلى ما أعَد لَكُم من العذاب. احتج عليهم بما أَخبرهم اللّه أَنه أَنشأهم بعد الموتة الأُولى، وأنه يبعثهم بعد الموتة الأُخرى {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كأنه يقول: ثم اعلموا أَنكم إليه ترجعون.

٢٩

قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (٢٩)

قيل: إنه صلة قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} أي: كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأرض ما يدلكم على وحدانيته؛ لأَنه ليس شيء من الأرض إلا وفيه دلالة وحدانيته.

ويحتمل: كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأَرض نعيمًا من غير أَن كان وجب لكم عليه حق من ذلك لتشكروا لَهُ عليها، فكيف وجهتم أَنتم الشكر فيها إلى غيره؟

ويحتمل {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ}: محنة يمتحنكم بها في الدنيا؛ كقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، ثم لتجزون في دار أخرى فكيف أنكرتم البعث؟!

وكذلك تقدرُه الأوهام؛ فيكون موصوفا بعلوه على التعالي عن الأمكنة، وأَنه على ما كان قبل كون الأَمكنة، وهو فوق كل شيء؛ أي بالغلبة، والقدرة، والجلال عن الأَمكنة، ولا قوة إلا باللّه.

وأَصله ما ذكرنا: ألا نُقَدرَ فعلَه بفعل الخلق، ولا وصفه بوصف الخلق؛ لأنه أخبر أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

وقوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

مرة قال: {فَسَوَّاهُنَّ}، ومرة قال: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}، ومرة قال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ. . .} الآية، ومرة قال: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. وكله يرجع إلى واحد.

٣٠

وقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}.

قال الشيخ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: القول فيما يتوجه إليه مما تضمن قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة، والكشفُ عما قال فيها أهل التفسير من غير شهادة لأحد منا لإصابة جميع ما فيه من الحكمة أَو القطع على تحقيق شيء، ووجهوا إليه بالإحاطة.

ولكن الغالب مما يحتمله تدبير البشر، ويبلغه مبلغ علمنا مما يجوز أَن يوصَف به أَهلُ المحنة، وإن كان تنزيه الملائِكة عن كل معنى فيه وحشة أَوْلى بما وصفهم اللّه من الطاعة

ولكن يحتمل: أَن يريد آدم وولده -إلى يوم القيامة- أَن يجعل بعضهم خلفاء لبعض؛ كقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}، أو يجعلهم خلفاء من ذكروا، إن صح الذي قالوا.

وجائز أَن يكونوا على وجه الأَرض، إذ هي مخلوقة لهم قرارا ومِهادًا ومعادًا، وهم جُعِلوا سكانهَا وعُمَّارها - أَن يكونوا خلفاء، في إظهار أَحكام اللّه تعالى ودينه، كقوله لداود عليه السلام: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ}، فجعله كذلك ليحكم بين أهلها بحكم اللّه ولا يتبع الهوى، وبذلك أُمر بنو آدم.

وقولُه: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

قيل: بأمرك.

وقيل: بمعرفتك.

وقيل: بالثناءِ عليك؛ إذ كانوا أَضافوا ذلك إلى أنفسهم دون أن يذكروا عظيم مِنَّة اللّه عليهمِ بذلك، واختصاصَه إياهم بالتوفيق له؛ إذ كيف ذكروا من نُعُوت البشر شرَّ ما فيهم، دون أن يحمَدوا اللّه -بما وفقوا له- أَو يدعوا للبشر بالعصمة والمغفرة مما ابتلوا.

ولذلك - واللّه أعلم - صَرفوا شغلهم من بعد إلى الاستغفار لمن في الأَرض، ونصر أولياءِ اللّه، ولا قوة إلا باللّه.

ومن الناس من أَخبر في ذلك: أَن إبليس سأَلهم: لو فُضل آدمُ عليهم، وأُمِروا بالطاعة له ما يصنعون؟

فأَظهر اللّه عَزَّ وَجَلَّ أَنه علم ما كتم إِبليس من العصيان، وما أَظهروا هم من الطاعة. وهذا شيء لا يعلم حقيقته؛ لأَن المعاتبة كانت في جملة الملائكة، والمخاطبة بالإنباءِ، وما أُلحق به وأَمر بالسجود وكان في غيره.

ولم يحتمل أَن يكونوا يؤاخذون بسؤال إبليس اللعين.

ولكن يحتمل وجوه العتاب الإخبار فيما لم يبلغوا العصيان، واللّه الموفق.

٣١

وقوله: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ (٣١)

يحتمل: أن يكون علم لهم.

ويحتمل: أن يكون علَّم بإِرسال ملك من غير الذين امتحنوا به. وفي ذلك تثبيت أحد وجهين:

وجل - أنه خلقه من مارج من نار.

وقيل: المارجُ هو لهبُها مع ما ليس في القرآن، ولا في الخبر أَنهم إنما خلقوا من النور، ولم يخلقوا من غيره.

ثم اختلف في إِبليس: إنه لم كفر باللّه؟ قيل: إنَه كفر لما لم ير الأَمرَ بسجود من فوقه لمن هو دونه حكمة.

وقيل: كفر لما رأَي أن اللّه تعالى وضع الأَمر في غير موضع الأَمر، ورآه جورًا؛ فكفر وقيل: كفر لما أَبى الائتمار بالسجود واستكبر فكفر.

وقيل: كفر لما أضمر إضلال الخلق.

وقيل: أَبى الطاعة فيما أُمر به، واستكبر على آدم؛ لما رأَي لنفسه فضلًا عليه بقوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.

وقوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. أي صار كقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}.

وكقوله: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} أي: صار.

وقيل: كان في علم اللّه تعالى أنه سيكفر.

٣٥

وقوله: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (٣٥)

قد ذكرنا فيما تقدم أَن الجَنة هي اسم البقعة التي حُفت بالأَشجار والغُروس وأنواع النبات.

دليله: قوله: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}.

وذلك أيضًا ظاهرٌ معروفٌ عند الناس؛ ألا تُسمى كل بقعة من الأرض بستانا، ولا جنة حتى يجتمع فيها ما ذكرنا.

ثم لا يُدْرَى ما تلك الجنة التي أمر آدمُ وحواء بالكَون، والمُقام فيها: أهي التي وُعد المتقون، أَو جنة من جنات الدنيا؛ إذ ليس في الآية بيان ذلك.

وفي الآية دلالة أن الشرط في الذكر قد يُضْمر، ويكون شرطًا بلا ذكر؛ لأنه قال: {أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} ثم قد جاع وعَرِيَ حين عصى، فدل أَن ترك المعصية كان

جهة الإيثار، ولكن إشفاقًا عليه ورحمة.

ويحتمل أيضًا النهي عن التناول من الشيء على جهة الحرمة، فإذا كان ممكنا هذا محتملا حمل آدم وحواء على التناول منها لما اشتبه عليهما، ولم يعرفا معنى النهي بأَنه نهيُ حرمةٍ، أَو نهي إيثار غيره عليهما، أَو نهي داء؛ لأَنهما لو كانا يعلمان أَن ذلك النهي نهي حرمة لكانا لا يأَتيان ولا يتناولان، وباللّه التوفيق.

ثم في الآية دلالة على أن الحال التي يكون فيه الإنسان في سعة ورغد يشتد على الشيطان اللعين؛ لأَنه إنما تعرض لآدم وحواءَ بالوسوسة التي وسوس إليهما ليزيل تلك الحال عنهما.

وإنما يبلى بالسعة، والرخاء ثم لما لحقته من الشدائد والبلايا مما كسبت أيدينا؛ لقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.

ثم الآية ترد على بعض المتقشفة قولهم بتحريم الطيبات والزينة.

وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}.

أي: الضارِّين؛ لأَن كل ظالم ضارٌّ نفسَه في الدارين جميعًا.

٣٦

وقوله: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا (٣٦)

أي: دعاهما، وزين لهما إلى سبب الزلة والإخراج عنها، لا أَن تولى إخراجهما وإزلا لهما،

وقد ذكرنا أَن الأَشياءَ تسمى باسم أسبابها، أَو الأَسباب باسم الأشياء. وذلك ظاهر معروف في اللغة، غير ممتنع تسمية الشيء باسم سببه.

ثم تكلموا فيما أصاب آدم من الشجرة، وفي جهة النهي عنها: فقال قوم: أكل منها وهو ناسٍ لعهد اللّه نسيان ترك الذكر.

وأَبى ذلك قوم

واحتج الحسن بأَن نسيانه نسيان تضييع واتباع الهوى، لا نسيان الذكر بأَوجهٍ:

أحدها: ما جرى في حكم اللّه - تعالى - من العفو عن النسيان الذي هو ترك الذكر، وألا يلحق صاحبَه اسمُ العصيان، وقد عوقب هو به، ونسب إلى العصيان بقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} مع ما تقدم القول فيه أن يكونا من الظالمين.

والثاني: أَن عَدُوه قد ذكَره لو كان ناسيًا؛ حيث قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. . .} الآية.

وقوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا}.

قيل: الهبوط النزول في موضع، كقوله: {اهْبِطُوا مِصْرًا} أي: انزلوا فيه.

ويحتمل الهبوط منها هو النزول من المكان المرتفع إلى المنحدر، والدون من المكان.

وقوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}.

قيل: يعني إبليسَ وأَوْلاده، وآدمَ وأَولادَه، بعضهم لبعض عدو. والعداوة فيما بيننا وبينهم ظاهرة.

وقيل: بيننا وبين الحيَّة التي حملت إبليس حتى وسوس لهما من ذؤابتها.

فهذا لا يعلم إلا بالسمع، إذْ ليس في الكتاب ذلك.

غير أن العداوة بيننا وبين الحيَّات عداوة طبع، والعداوَة التي بيننا وبين إبليس عداوة اختبار وأَمر؛ إذ الطبعُ ينفر عن كل مؤذٍ ومضر، وباللّه التوفيق.

وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}.

يقرون فيها، كقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا}.

وقوله: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}.

أي: متاعًا لكم إلى انقضاء آجالكم.

ويحتمل: متاعًا لكم لانقضاء الدنيا وانقطاعها.

٣٧

وقوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ (٣٧)

أي: أخذ.

وقوله: {كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}.

قيل: إن فيه وجوهًا:

قيل: فتاب عليه، أي: وفق له التوبة، وهداه إليها فتاب، كقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}، أي: وفق لهم التوبة فتابوا.

وقيل: خلق فعل التوبة منه، فتاب، كما قلنا في قوله: {وَهَدَاهُ}

والتجاوز، وبعضه قريب من بعض.

وفي الآية: أنه إنما تاب عليه لكلمات تلقاها من ربه.

والآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنهم يقولون: إن من ارتكب صغيرة فهو مغفور له لا يحتاج إلى الدعاء، ولا إلى التوبة. فآدم - عليه السلام - دعا بكلمات، تلقاها منه؛ فتاب عليه. ولو كان مغفورًا له ما ارتكب لكان الدعاء فضلًا وتكلفًا، وباللّه التوفيق.

والكلمات هي ما ذكرت في سورة أُخرى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا. . .} الآية.

وقوله: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

أي: قابل التوبة.

وقيل: أي موفق التوبة، وهادي لها؛ كقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} وقد ذكرنا في قوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ} ما احتمل فيه.

{الرَّحِيمُ} بالمؤمنين، ورحيم بالتائبين.

٣٨

وقوله: (لْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا (٣٨)

ذكر هبوطهم جميعًا؛ فإذا هبطوا فُرادى لم يخرجوا من الأمر، بل كانوا في الأمر، فدل أَن الجمع في الأَمر، والذكر، لا يُصَير الجمعَ في الفعل شرطًا.

وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى}.

أي: ليأْتينكم. وهذا جائز في اللغة.

وقوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

أي: من تبع هداي، ودام عليه حتى مات، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون وكذلك قوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ}: في الدنيا، {وَلَا يَشْقَى} في الآخرة، إذا مات عليه.

٣٩

وهذه الآية والتي تليها وهو قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩).

تنقض على الجهمية؛ لأَنهم يقولون بفناء الجنة والنار، وانقطاع ما فيهما.

فلو كانت الجنة تفنى وَينقطع ما فيها، لكان فيها خوف وحزن؛ لأَن من خاف في الدنيا زوال النعمة عنه وفوتها يحزن عليه، وينغصه ذلك، ولهذا وصف الدنيا بالخوف والحزن لما يزول نعيمها ولا تبقى، فأَخبر عَزَّ وَجَلَّ أَلا خوف عليهم فيها؛ أي: خوف النقمة، ولا حزن، أَي: حزن فوات النعمة.

{وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} دل أنها باقية، وأن نعيمها دائم، لا يزول.

وكذلك أخبر عَزَّ وَجَلَّ أن الكفار في النار خالدون وأَن عذابها أليم شديد، فلو كان لهم رجاء النجاة منها لخف ذلك العذاب عليهم وهَان؛ لأَن من عوقب في الدنيا بعقوبة، وله رجاء النجاة منها وإن ذلك عليه وخف، وباللّه التوفيق.

٤٠

وقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}.

يحتمل وجوهًا:

يحتمل قوله: اذْكروا نعمتي التي خصصت لكم دون غيركم من نحو ما جعل منكم الأَنبياء، والملوك، كقوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}.

ويحتملُ {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} ويعني: النجاة من فرعون، حيث كان يستعبدكم ويستخدمكم ويستحيي نساءكم، كقوله تعالى: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ. . .} الآية.

ويحتمل: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} ومن نحو ما أَعطاهم - عَزَّ وَجَلَّ - المن والسلْوَى، وتظليل الغمام وغير ذلك من النعم، ما لم يُؤت أَحدًا من العالمين، خصوا بذلك من دون غيرهم. وقيل: نعمتُه مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث وقتَ اختلافهم في الدِّين، وتَفرقهم فيما كان عليه مَنْ مَضى من النبيين ليدُلهم على الحق من ذلك، ويؤلف بينهم بالبينات.

وقيل: اخشَوْا عذابي ونِقْمتي.

وقيل: اخشوا نقض عهدي وكتمان بعث مُحَمَّد نبيي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

٤١

وقوله: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ (٤١)

قوله: {وَآمِنُوا بِمَآ أَنزَلْتُ} على نبيي مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من القرآن.

{مُصَدِّقا لِمَا مَعَكُم}.

أي: موافقًا لما معكم من الكتب؛ من التوراة، والإنجيل، وغيرهما.

وهم قد عرفوا موافقتَه كتُبهم؛ إذ لم يتكلفوا جمع هذا إلى كتبهم، ومقابلة بعض ببعض.

أو يحتمل قوله: {مُصَدِّقا} أي: موافقًا لما معكم من الكتب، وليس كما قال صنف من الكفرة -وهم الصابئون-: إن الإنجيل نَزلَ بالرُّخص، والتَّوراة نزلت بالشدائد.

فقالوا باثنين؛ لما لم يرَوْا نزول الكتب -بعضُها على الرُّخَص وبعضُها على الشدائِد مِنْ واحدٍ- حكمةً.

فقال عَزَّ وَجَلَّ: {مُصَدِّقًا} أي: موافقًا للكتب، وأنها إنما نزلت من واحد لا شريك له، وإن كان فيه شدائدُ ورخص؛ إذ للّه أَن ينهى هذا عن شيء، ويأْمرَ آخرَ، وينهى في وقت، ويأمر به في وقت، وليس فيه خروج عن الحكمة أَن يأْمر أَحدًا وينهاهُ في وقتٍ واحد، وفي حالٍ واحدة، وفي شيء واحد.

ثم في الآية دلالة أَن المنسوخ موافق للناسخ، غَير مُخالف له؛ لأَن من الأَحكام والشرائع ما كانت في كتبهم، ثم نسخت لنا، فلو كان فيها خلاف لظهر القول منهم إنه مخالف، وإنه غير موافق.

وكذلك في القرآن ناسخ ومنسوخ، فلم يكن بعضه مخالفا لبعضه، كقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.

وقوله: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}.

قيل فيه بوجهين:

قيل: لا تكونوا أَول قُدوة يقتدى بكم في الكفر.

وقيل: أَي لا تكونوا أَول كافر بما آمنتم به؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أَن يُبعث، فلما بعث كفروا به.

وقيل: هم أول من التقوا برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأَنه ظهر بين أَظهرهم؛ فلو كفروا لكانوا أَول من يكفر به فيلحقهم ما يلحق من سن الكفر لقومه مع ما يكونون هم بمعنى الحجة لغَيرهم؛ إذ كانوا أعرف به، وأبصر بما معه من الأدلة والبراهين؛ فيقتدى بهم من لم يشهد ولا عَلِمَ.

فيكون عليهم -لو كفروا- ما على أول من كفر -ولا قوة إلا باللّه- مع ما يلحقهم فيه وصفُ التعنُت والتمرد، واللّه الموفق.

وقوله: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}.

قيل: بحجتي.

قال الحسن: الآيات في جميع القرآن هي الدِّين؛ كقوله: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}.

وأما عندنا فهي الحجج، وقد ذكرنا أن اسم الشراء قد يقع من اختيار شيء بشيء وإن لم يتلفظ بلفظ الشراء.

وقوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}.

أي: اتقوا عذابي ونقْمتي، ويحتمل: سلطاني وقدرتي. وقد ذكرناه.

٤٢

وقوله: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ (٤٢)

يحتمل وجوهًا:

يحتمل: لا تشتروا بالحق الباطل.

ويَحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تلبِسوا؛ هو تلبيس الحق بالباطل.

ويحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تخلطوا.

ويحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تشبهوا الحق بالباطل.

ويحتمل: لا تلبسوا، أي: تكتموا.

ويحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تمحوا نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا تثبتوا غيره. وكله يرجع إلى واحد.

ثم (الحَق) ويحتمل وجوها:

يحتمل: محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونعته.

ويحتمل الحق: القرآن.

ويحتمل الحق: الإيمان.

والباطلُ: هو الظلمُ والكفرُ، واللّه أعلم.

وقوله: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

لما ذكر هو ونعتُه في كتابهم أَنه حق؛ إن كان محمدًا عليه أَفضل الصلواتِ وأَكمل التحيات، أو القرآن والإيمان، لكن تعاندون وتكابرون.

٤٣

وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (٤٣)

يحتمل وجوهًا:

يحتمل: الأَمر بإقامة الصلاة، وإيتاءِ الزكاة أَمرًا بقبول الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة والمدعوة إليهما؛ كقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ليس هو إخبارًا عن إقامة فعلهما، ولكن القبول لهما والإيمان بهما، واللّه أعلم.

ويحتمل: أن يكون الأَمر بإقامة الصلاة والزكاة أَمرًا بكونهم على حال تكون صلاتهم صلاة، وزكاتهم زكاةً.

قال: كونوا في حال تكون صلاتكم صلاة، وزكاتكم زكاة في الحقيقة؛ لأَن الآية نزلت في بني إسرائيل وهم كانوا أَهل كتاب، وكانوا يُصَلُّون ويصَّدقون، ولكن صلاتهم وزكاتهم لم تكن للّه، لما لم يأْتوا بإيمانهم فأمروا أن يأْتوا بالإيمان؛ لتكون صلاتهم تلك صلاة في الحقيقة.

ويحتمل: الأَمر بإقامة الصلاة والزكاة أَمرًا بإقامتها بأَسبابها وشرائطها من نحو

قيل: إن اليهود كانوا يصلون ولا يركعون؛ فأُمروا أن يصلوا للّه ويركعوا فيها على ما يفعله المسلمون.

وقيل: إنَّهم كانوا يصلون وحدانا لغير اللّه؛ فأُمروا بالصلاة مع النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَصحابه بالجماعة.

وفيه أمر بحضور الجماعة.

وقيل: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: كونوا مع المصلينَ يعني المسلمين، ولا تخالفوهم في الدِّين والمذهب، أَي: اعتقادًا.

٤٤

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (٤٤)

قيل فيه بوجوه:

قيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ} يَعنى: الأَتباع والسفلة باتباعكم، وتعظيمكم لعلمكم، وتلاوتكم الكتاب، {وَتَنسَونَ أَنفُسَكُمْ} ولا تأْمرونها باتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتعظيمه، لعلمه، ولنبوته، ولفضل منزلته عند اللّه؟!

وقوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}.

أي: تجدون في كتابكم أنه كذلك.

وقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

أَن ذا لا يصحُّ؟!.

وقيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ} يعني: الفقراءَ والضعفةَ بالإيمان بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا تأمرون الأغنياء وأهلَ المروءَة بالإيمان به، لما تخافون فوت المأْكلة، والبر، وانقطاعه عنكم.

ويحتمل أن ذا الخطاب لهم ولجميع المسلمين، ألا يأْمر أحدٌ أحدًا بمعروف إلا ويأمر نفسه بمثلهِ، بل الواجب أَن يبدأ بنفسه، ثم بغيره، فذلك أنفع وأَسرع إلى القبول.

{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أَن ذلك في العقل لازم أن يجعل أول السعي في إصلاح نفسه، ثم الأمر لغيره. واللّه أعلم.

٤٥

وقوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (٤٥)

يحتمل وجوهًا:

يحتمل: أَن استعينوا بالصبر على ترك الرئاسة والمأكلة في الدنيا؛ لأَن الخطاب كان للرؤساءِ منهم بقوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ) إلى قوله: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) والله أعلم.

ويحتمل: أن اصبروا على ترك الرئاسة لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والانقياد والخضوع له، لما بمن لكم من الثواب الآخرة لمن آمن به وأَطاعه، وترَكَ الرئاسةَ له.

ويحتمل: أَن اصبروا على المكاره وترك الشهوات؛ بأن الجنة لا تدرك إلا بذلك؛ لما جاءَ: " حفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات ".

ويحتمل؛ أن استعينوا بالصوم والصلاة على أَدَائهما.

لكن هذا يرجع إلى المؤمنين، والآية نزلت في رؤساء بني إسرائيل، دليله قولُه: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ).

وإنما يصلح هذا التأويل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا. . .) الآية.

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ).

يُخرَّج -واللَّه أعلم- على ما ذكرنا من ترك الرئاسة، والمأْكلة في الدنيا، إنها لكبيرة عليهم إلا على الخاشعين، فإنها غير كبيرة، ولا عظيمة عليهم.

ويحتمل: أنَ تركَ الرئاسة لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والانقياد له، والخضوع - لثقيل إلا على الخاشعين؛ فإنه لا يثقل ذلك عليهم، ولا يكبر.

ويحتمل أَن يقال: إن الصبر على الطاعة، وأداء هذه الفرائض كبيرة على المنافقين إلا على المؤمنين خاصة، فإنه لا يتعاظم ذلك عليهم.

وقيل: إن تحويل القبلة إلى الكعبة لثقيل على اليهود، واللّه أعلم.

وقوله: {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}.

قيل فيه بوجوه:

قيل: الخاشع؛ هو الخائف بالقلب.

وقيل: الخاشع؛ المتواضع.

وقيل: الخاشع -ها هنا- المؤمن.

وقال الحسن: الخشوع هو الخوف اللازم بالقلب.

٤٦

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ (٤٦)

يعني: يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو ربهم بكسبهم وصنيعهم.

وقوله: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.

أي: سيعلمون يومئذ أَنهم راجعون إليه.

قال صاحب المنطق: الظن هو الوقوف على أَحد طرفي اليقين، والشك هو الوقوف على أَحد طرفى الظن. والهمةُ بين هذين.

٤٧

وقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}.

يحتمل وجوها:

يحتمل: (أنعمت عليكم) بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن الناس كانوا على فترة من الرسل، وانقطاع من الوحي، واختلاف من الأديان والمذاهب؛ فبعث اللّه - تعالى - محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليجمعهم ويدعوهم إلى دين اللّه، ويؤلف بينهم، ويخرجهم من الحيرة والتيه، وذلك من أعظم نعمة أنعمها عليهم، وباللّه التوفيق.

وذلك أيضًا يُحْتمل فيما تقدم من الآيات.

وقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي. . .} والآية.

وقوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} يعني محمدا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وعهدُه في الأرض رسولُه، كقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} إلى قوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}، أي: عهدى.

وعلى ذلك قوله: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}، يعني: بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}، يعني: محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وكذلك قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، أَمكن تخريج هذه الآيات كلها على مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

ويحتمل أيضا قوله: {نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} الوجوه التي ذكرنا.

أحدها: أن جعل منكم الأنبياء والملوك؛ كقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}.

كما قيل: إن كل نبي من لدن يعقوب إلى زمن عيسى عليه السلام كان من بني إسرائيل.

ويحتمل: ما آتاهم - عَزَّ وَجَلَّ - من أنواع النعم ما لم يؤت أَحدًا من العالمين؛ فَضلوا أَنفسهم على العالمين، لا هو، فكيف يَمُنُ عليهم بذلك؟! ولا قوة إلا باللّه.

مع ما لا يخلو تفضيله إياهم على غيرهم من أَن يكون لهم الفضلُ في الدِّين أَولًا.

فإن لم يكن فليس ذلك بتفضيل.

وإن كان ثبث أَنْ ليس من الحق عليه التسويةُ بين الجميع في أسباب الدِّين.

٤٨

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا (٤٨)

الآيةُ - واللّه أعلم - كأنها مؤخرة في المعنى وإن كانت في الذكر مقدمة؛ لأَنه قال: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، ثم ذكر الأَفضال والمنَنَ فقال: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. . .} الآية،

وقوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ}،

وقوله: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.

ذكَّرهم - عَزَّ وَجَلَّ - عظيم نعمه ومنَنِه عليهم؛ ليشكروا له، وليعرفوا أنها مِنَّةٌ، وأَنه فضلٌ مِنْهُ،

ثم حذَرهم - جل وعز - فقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا. . .} الآية؛ ليكونوا على حذر؛ لئلا يصيبهم ما أَصاب الأُمم السالفة من الهلاك وأَنواع العذاب بعد الأَمن، والتوسع عليهم، كقوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} إلى قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ. . .} الآية.

ثم في الآية دليل لقول أبي حنيفة وأصحابه: إن الولد يصير مشتومًا مقذوفًا بشتم والديه؛ لما عيرهم - جل وعز - بصنع آبائهم بقوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ}، وهم لم يتخذوا العجل، وإنما اتخذ ذلك آباؤهم.

وكذلك ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - صنعه ومننه عليهم، من نحو النجاة من الغرق، وإخراجهم من أَيدي العدو، وفَرق البحر بهم، وإهلاك العدو. وإنما كان ذلك لآبائهم دونهم، لكن ذكرهم - جل وعز - عظيم منته على آبائهم؛ ليشكروا له على ذلك، وكذلك عَيرهم بصنيع آبائهم من اتخاذ العجل، وإظهار الظلم؛ ليكونوا على حذر من ذلك، واللّه أعلم.

وفي قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي: بما كان إنعامي عليهم باتباعهم الرسول موسى - عليه السلام - وطاعتهم له، فاتبِعوا اسم الرسول مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَطيعوا له، ولا تتركوا اتباعه.

وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}.

قيل: أي لا تُؤدي نفس عن نفس شيئا؛ كقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥).

وقوله: {وَلَا يُقبَلُ منهَا شَفَاعَة}.

قيل فيه بوجهين:

قيل: لا يكون لهم شفعاء يشفعون؛ كقوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}، وكقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}.

وقيل: لو كان لهم شفعاء لا تقبل شفاعتهم؛ كقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أي: لا يؤْذَنُ لهم بالشفاعة؛ كقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}.

وقوله: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}.

والعدل: هو الفداءُ، إما من المال، وإما من النفس.

وذلك أيضًا يحتمل وجهين:

يحتمل: ألا يكون لهم الفداء، على ما ذكرنا في الشفيع.

ويحتمل: أَن لو كان لا يقبل منهم؛ كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ}.

ثم الوجوه التي تخلص المرء في الدنيا إذا أَصابته نكبة بثلاث:

إما بفداءِ يفدى عنه -مالًا أو نفسًا- وإما بشفعاء يشفعون له، وإما بأَنصارٍ ينصرون له؛ فيتخلص من ذلك.

فقطع - عَزَّ وَجَلَّ - عنهم جميع وجوه التخلص في الآخرة.

والآية نزلت - واللّه أعلم - في اليهود والنصارى، وهم كانوا يؤمنون بالبعث، والجنة، والنار، كقوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}

وقوله: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}.

ولذلك ذكر اسم الفداءِ والشفيع، وما ذكر، وأَما من لم يؤمن بالآخرة فلا معنى لذكر ذلك.

٤٩

وقوله: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (٤٩)

قيل: آل الرجل: شيعتُه؛ ولذلك قيل: آل رسول اللّه: قرابتُه.

وقيل: كل مؤمن فهو من آله، وعلى ذلك الأَمر بالصلاة عليه وعلى جميع من آمن به.

وقوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}.

فيل فيه بوجهين:

قيل: يقصدونكم أَشد العذاب. وذلك يرجع إلى الاستعباد، والاستخدام بأَنفسهم.

وقيل: يسومونكم، يُذيقونكم أَشد العذاب، وذلك يرجع إلى ما يسوءُهم من تذبيح الأبْناء وتقتيلهم، كقوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}، أي: يقتلون أَبناءَكم.

وقوله: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}.

يحتمل أيضًا وجهين:

يحتمل: يستحيون من الحياء، أَي: استحيوا قتْل النساء، لما لا يخافهن.

ويحتمل من الإحياءِ، أي: تركوهن أَحياء فلم يقتلوهن.

وقوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}.

قيل: البلاء -ممدود- هو النعمة، كأَنه قال: فيما ينجيكم من فرعون وآله نعمة عظيمة.

وقيل: البلا -مقصور- هو الابتلاء والامتحان؛ كأَنه قال: في استعباده إياكم واستخدامه امتحان عظيم.

٥٠

وقوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)

قيل: فرقنا، أَي: جعلنا لكم البحر فِرَقًا، أي: طرقًا تمرون فيه.

وقيل: فرقنا، أي: جاوزنا بكم البحر.

٥١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (٥١)

كان الوعد لهم - واللّه أعلم - وعدين:

أحدهما: من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بصرف موسى إليهم مع التوراة، كقوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} أَي: صدقًا.

ووعد آخر، كان من موسى بانصرافه إليهم بالتوراة على رأْس أَربعين ليلة، كقوله: {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي}.

وقوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ}.

يحتمل وجهين:

{اتَّخَذْتُمُ}: أي عبدتم؛ فاستوجبوا ذلك التعبير واللائمة بعبادة العجل لا باتخاذه نفسه.

ويحتمل: اتخذتم العجل إلهًا؛ فاستوجبوا ذلك باتخاذهم إلهًا، كقوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}.

وهذا كان أقرب.

وقيل: اتخذتم، أي: صنعتم، واللّه أعلم.

وقوله: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}. قيل في الظلم بوجوه:

قيل: إن كل فعل يستوجب به الفاعل عقوبة فهو ظلم.

وقيل: إن كل عمل لم يؤذن له فهو ظلم.

وهاهنا -حيث فعلوا ما لم يؤذن لهم- نسبهم إلى الظلم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم.

وقيل: إن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه؛ فسموا بذلك لأنهم وضعوا الألوهية في غير موضعها، وهذا كأنه - واللّه أعلم - أقرب.

٥٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ (٥٢) الآية.

يَنْقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنهم يزعمون أن اللّه إذا علم من أحدٍ أنه يؤمن به في آخر عمره -وإن طال- أَو يكون من نسله من يؤمن إلى آخر الأَبد، لم يكن له أن يُميته، ولا له أَن يقطع نسله.

فإذا كان على اللّه أَن يبقيهم، ولا يقطع نسلهم، لم يكن للامتنان عليهم، ولا للإفضال وطلب الشكر منهم - معنى؛ إذ فَعَلَ - جل وعز - ما عليه أَن يفعل. وكل من فعل ما عليه أن يفعل لم يكن فعلُه فعل امتنان، ولا فعل إِفضال؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - مَنَّ عليهم بالعفو عنهم، حيث لم يستأصلهم، وتركهم حتى تناسلوا وتوالدوا، ثم وجه الإفضال والامتنان على هَؤُلَاءِ - وإن كان ذلك العفو لآبائهم؛ لأَنه لو أَهلك آباءَهم وقطع تناسلهم انقرضوا وَتَفَانَوا، ولم يتوالدوا؛ فالمنة عليهم حصلت؛ لذلك طلبهم بالشكر له، واللّه أَعلم.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

أَي؛ لكنى تشكروا. وكذلك قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، أي: لكى يوحدوا.

وذلك يحتمل وجوهًا:

يحتمل: أَن يَشْهد خَلْقُه كل أَحد على وحدانيته، وكذلك يشكر خَلْقُه كل أَحد له.

ويحتمل: عبادة الأخيار بوحدانيته، والشكر له بما أَنعم وأفضل عليه، وذلك يرجع إلى من يعبد ويوحد.

ويحتمل: أَنه خلقهم؛ ليأمرهم بالعبادة، والشكر له، من احتمل منهم الأَمر بذلك.

٥٣

وقوله: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ (٥٣)

يعني: التوراة. والكتابُ: اسم لكل مكتوب.

وقو له: {وَالْفُرْقَانَ}.

قيل: سميت فرقانا؛ لما فرق وبَيّن فيها الحلال والحرام، وكل كتاب فرق فيه بين الحلال والحرام فهو فرقان.

وقيل: يسمى فرقانًا؛ لما فرق فيه بين الحق والباطل. وهما واحد.

وقيل: سميت التوراة فرقانًا؛ لما فيها المخرج من الشبهات.

وقيل: الآية على الإضمار؛ كأَنه قال: وإذ آتينا موسى الكتاب -يعني التوراة- ومحمدًا الفرقان؛ كقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.

فالكلام فيه كالكلام في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقد ذكرنا فيه ما أَمكن، واللّه أعلم.

٥٤

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}.

وقيل: ظلمتم أَنفسكم باتخاذكم العجل إلهًا.

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}.

قيل: ارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة ربكم.

وقيل: ارجعوا عن اتخاذ العجل إلهًا إلى اتخاذ خالقكم إلهًا.

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.

قال الفقيه أَبو منصور - رحمه اللّه -: لولا اجتماع أَهل التأْويل والتفسير على صرف ما أَمر اللّه - جل وعز - إياهم بقتل أنفسهم على حقيقته، وإلا لم نكن نصرف الأَمر بقتل أَنفسهم على حقيقة القتل؛ وذلك لأَن الأَمر بالقتل كان بعد التوبة، ورجوعهم إلى عبادة اللّه، والطاعة له، والخضوع.

أَحدهما: أَنه كأنهم طبعوا على أَخلاق البهائم والدواب.

وذلك أَن موسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من خدمة فرعون وآله، ونجاهم من الشدائد التي كانت عليهم، ولحوق الوعيد بهم، وأَراهم من الآيات العجيبة: من آية العصا، واليد البيضاءِ، وفَرق البحر، وإهلاك العدو فيه، وتفجير الأَنهار من حجر واحد، وغير ذلك من الآيات ما يكثر ذكرها، أَن لو كانت واحدة منها لكفتهم، ودلتهم على صدقه ونُبُوته.

ثم -مع ما أَراهم من الآيات- إذا فارقهم، دعاهم السامرى إلى عبادة العجل، واتخاذه إلهًا، كقوله: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}، فأجابوه إلى ذلك، وأَطاعوه.

وكان هارون - صلوات اللّه على نبينا وعليه - فيهم، يقول: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}، فلم يجيبوه ولا صدقوه، ولا اكترثوا إليه، مع ما كان هارون من أَحب الناس إليهم.

فلولا أَنهم كانوا مطبوعين على أَخلاق البهائم والدواب، وإلا ما تركوا إجابته، ولا عبدوا العجل، مع ما أُروا من الآيات التي ذكرنا.

فإذا كان إلى هذا يرجع أَخلاقهم لم يبالوا ببذل أَنفسهم للقتل، واللّه أَعلم، ونحو ذلك قوله: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}.

وعلى ذلك جعلت آيات موسى كلها حسية لا عقلية؛ إذ عقولهم كادت تقصر عن فهم المحسوس ودركه، فضلًا عن المستدل عليه، واللّه أعلم.

والثاني: يحتمل أَن أُروا ثواب صبرهم على القتل في الآخرة، وجزيل جزائهم، وكريم مآبهم؛ فهَانَ ذلك عليهم وخف.

كلما روى أن امرأَة فرعون لما علم فرعون -لعنه اللّه- بعبادتها ربها، وطاعتها له، أَمر أَن تُعاقب بأشد العقوبات، فَفُعِل بها فضحكت في تلك الحال، لما أُريت مقامها في الجنة، وكريم مآبها؛ فهَان ذلك عليها وسهل.

فعلى ذلك يحتمل بذل هَؤُلَاءِ أَنفسهم للقتل، والصبر عليه لذلك، واللّه أَعلم.

٥٥

وقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّه جَهْرَةً (٥٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: قال الذين اختارهم موسى -وكانوا سبعين رجلًا- لن نُصدقك بالرسالة والتوراة حتى نرى اللّه جهرة، يخبرنا أنه أَنزلها عليك.

ويحتمل: لن نؤمن لك أَنه إله، ولا نعبده حتى نراه جهرة عيانًا.

فاحتج بعض من ينفي الرؤية في الآخرة بهذه الآية؛ حيث أَخذتهم الصاعقة لما سأَلوا الرؤية.

قالوا: فلو كان يجوز أَن يُرى لكان لا تأْخذهم الصاعقة، ولا استوجبوا بذلك العذاب والعقوبة.

وأَما عندنا، فإنه ليس في الآية دليل نفي الرؤية، بل فيها إثباتها.

وذلك أَن موسى - عليه السلام - لما سُئل الرؤية لم ينههم عن ذلك، ولا قال لهم: لا تسأَلوا هذا.

وكذلك سأَل هو ربه الرؤية، فلم ينهه عنها، بل قال: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، وإذا صرف الوعد لا يجوز ذلك، لو كان لا يحتمل؛ لأَنه كفرٌ، ومحال ترك النهي عنه.

وكذلك ما روى في الأَخبار: من سؤال الرؤية لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قالوا: أَنرى ربنا؛ لم يأْت عنه النهي عن ذلك، ولا الرد عليهم؛ فلو كان لا يكون لنُهوا عن ذلك ومنعوا.

وإنما أَخذ هَؤُلَاءِ الصاعقةُ بسؤالهم الرؤية؛ لأَنهم لم يسألوا سؤال استرشاد، وإنما سأَلوا سؤال تعنت.

دليل التعنت، فيما جاءَ من الآيات، من وجه الكفاية لمن يُنْصف؛ لذلك أَخذتهم الصاعقة، واللَّه أعلم.

أَو أَن يقال: أَخذتهم الصاعقة بقولهم: (لَن نُؤمِنَ لَكَ)، لا بقولهم: (حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً). وسنذكر هذه المسألة في موضعها، إن شاءَ اللَّه تعالى.

وقوله: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ).

قيل: الصاعقة كل عذاب فيه هلاك.

لكن الهلاك على ضربين:

هلاك الأَبدان والأَنفس.

وهلاك العقل والذهن، كقوله: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} قيل: مغشيًّا.

وفيه هلاك الذهن والعقل؛ وكذلك قوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} أَي غشي. واللّه أعلم.

وقيل: الصعقة: صياح شديد.

وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.

قيل فيه بوجهين:

قيل: تعلمون أَن الصاعقة قد أَخذتهم وأَهلكتهم بقولهم الذي قالوا؛ فكونوا أَنتم على حذر من ذلك القول.

وقيل: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} الخطابُ لأُولئك الذين أَخذتهم الصاعقة - أَي: تنظرون إلى الصاعقة وقت أَخذتها لكم، أَي: لم تأْخذكم فجأَة، ولا بغتة، ولكن عيانًا جهارًا، واللّه أعلم.

٥٦

وقوله: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) 

يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - عظيم مِنَّته عليهم، وجزيل عطائه لهم؛ ببعثهم بعد الموت،

٥٧

وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى من السماءِ لهم، وذلك مما خصوا به دون غيرهم.

ثم ما كان لنا من الموعود في الجنة، فكان ذلك لهم في الدنيا معاينة، من نحو البعث بعد الموت ومن الظل الممدود، والطير المشوي، والثياب التي كانت لا تبلى عليهم ولا تتوسخ؛ فذلك كله مما وعد لنا في الجنة، وكان لهم في الدنيا معاينة يعاينون.

مع ما كان لهم هذا لم يجيبوا إلى ما دعوا، ولا ثبتوا على ما عاهدوا، وذلك لقلة عقولهم، وغلظ أَفهامهم، ونشوئهم على أَخلاق البهائم والدواب، واللّه أعلم.

وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.

يحتمل وجهين:

يحتمل: ما لم يكل لهم الفضل على حاجتهم، فأَباح لهم القدر الذي لهم إليه حاجة،

وسماه طيبات.

ويحتمل أَنه سماه طيبات؛ لما لا يشوبه داء يؤذيهم، ولا أَذى يضرهم، ليس كطعام الدنيا مما لا يسلم عن ذلك، واللّه أعلم.

وقد قيل: الطيب هو المباح الذي يستطيبه الطبع، وتتلذذ به النفس.

وقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. . .} الآية.

وقد ذكرنا معنى الظلم فيما تقدم.

وقد يحتمل وجها آخر: وهو النقصان؛ كقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}، أي: لم تنقص منه.

وحاصل ما ذكرنا: أَن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وكل ما ذكرنا يرجع إلى واحد.

٥٨

وقوله: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ (٥٨)

اختلف في تلك القرية:

قيل: إنها بيت المقدس، كقوله: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّه لَكُمْ}.

أمروا بالدخول فيها، والمقام هنالك؛ لسعة عيشهم فيها ورزقهم؛ إذ هو الموصوف بالسعة والخصب.

وقيل: إن تلك القرية التي أُمروا بالدخول، والمقام هنالك، هي قرية على انقضاء التيه، والخروج منها.

غير أن ليس لنا إلى معرفة تلك القرية حاجة، وإنما الحاجة إلى تعرف الخلاف الذي كان منهم، وما يلحقهم بترك الطاعة للّه والائتمار، واللّه أعلم.

وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}.

والرغد قد ذكرنا فيما تقدم: أَنه سعة العيش، وكثرة المال.

وقوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}.

يحتمل المراد من الباب: حقيقة الباب، وهو باب القرية التي أُمروا بالدخول فيها.

ويحتمل المراد من الباب: القرية نفسها، لا حقيقة الباب؛ كقوله: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} ذكر القرية ولم يذكر الباب، وذلك في اللغة سائغ، جائز؛ يقال: فلان دخل ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - مرة خطايا، ومرة خطيئات، ومرة قال: ادخلوا، ومرة قال: اسكنوا، ومرة قال: فأَنزلنا، ومرة قال: فأرسلنا -والقصة واحدة- حتى يعلم:

أَن ليس في اختلاف الأَلفاظ والألسن تغيير المعنى والمراد. وإن الأَحكام والشرائع التي وضعت لم توضع للأَسامي والألفاظ، ولكن للمعاني المدرجة والمودعة فيها، واللّه أعلم.

وقوله: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}.

يحتمل المراد من المحسنين: المسلم الذي كان أَسلم قبل ذلك.

ويحتمل: الذي أَسلم بعد قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ}، وكان كافرًا إلى ذلك الوقت.

والزيادةُ تَحتمل: التوفيق بالإحسان من بعد، كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. . .} الآية.

ويحتمل: الثواب على ما ذكر من قوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا. . .}.

٥٩

وقوله: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ (٥٩)

قوله " بَدَّلَ " يحتمل: إحداث ظلم، بعد أَن لم يكن، والخلاف لما أَمرهم به عَزَّ وَجَلَّ.

ويحتمل: نشوءَهم على غير الذي قيل لهم.

ولم يبين: ما ذلك القول الذي بدلوا؟ وليس لنا -إلى معرفة ذلك القول- حاجة؛ إنما الحاجة إلى معرفة ما يلزمهم بالتبديل، وترك العمل بأَمره، وإظهار الخلاف له، فقد تولى اللّه بيان ذلك بمضله، وباللّه التوفيق.

وقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ}.

قيل: " الرجز ": هو العذاب المنزل من السماء على أَيدي الملائكة؛ لأن من العذاب ما ينزل على أَيدي الملائكة كعذاب قوم لوط وغيره.

ومنه عذاب ينزل من السماء -لا على أَيدي أَحد- نحو: الصاعقة، والصيحة، ونحوهما.

وقوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}.

مرة ذكر " يَفْسُقُونَ "، ومرة ذكر " يَظْلِمُونَ "، وهو واحد.

وفي هذه الآيات التي ذكرناها، والأنباء التي وصفنا - دلالةُ رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإثباتُ نبوته.

وذلك أَن أَهل الكتاب كانوا عرفوا هذه الأَنباء بكتبهم، وكان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يذكر ذلك بمشهدهم، كما في كتابهم، ولم يكن ظهر منه اختلاف إليهم، ولا درس كتابهم؛ فدل: أنه باللّه عرف، وكان فيها تسكين قلب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والتصبر عليه؛ لظهور الخلاف له من قومه، وترك طاعتهم إياه، وأن ذلك ليس بأول خلاف كان له من قومه، ولا أَول تكذيب، بل كان من الأُمم السالفة لأَنبيائهم ذلك، فصبروا عليه؛ فاصبر أَنت كما صبروا؛ كقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ. . .} الآية.

٦٠

وقوله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ}.

يعني: طلب الماء لقومه عند حاجتهم إليه؛ فأَوحى اللّه - تعالى - إليه: أَن اضرب بعصاك الحجر.

قد ذكرنا فيما تقدم: أَن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد أَراهم لمنْ عَصَاهُ آيات عجيبة، من نحو الثعبان الذي كان يتلقف ما يأْفكون؛ كقوله: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}

وقوله: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}.

ومن ضربه البحر بها حتى انفلق؛ كقوله: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}.

ومن ضربه الحجر بها، وانفجار العيون منه، وغير ذلك من الآيات مما يكثر، ذكرها عَزَّ وَجَلَّ من آيات رسالته، وآيات نبُوته.

وفيما أرى منها، من عجيب آياته: دلالةُ حدوث العالم وإبداعه، لا من شيء؛ كان ذلك أَنفع لهم، وأَهون عليهم، من جهة الرعي والربع وسعة المنازل.

وفي الأَول: سبق المعنى الذي وصفنا، واللّه أعلم.

وقوله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}.

أي: موردهم.

وفيه دلالة قطع التنازع، ودفع الاختلاف من بينهم؛ لما بين لكل فريق منهم موردًا على حدة.

ولو كان مشتركها لخيف وقوع التنازع والاختلاف بينهم، وفي وقوع ذلك بينهم قطع الأَنساب وألأَرحام، وباللّه التوفيق.

وقوله: {كُلُوا}.

يعني: المن والسلوى.

وقوله: {وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّه}، من الماءِ الذي أَخرج لهم من الحجر، وكلاهما رزق اللّه، الذي ساقه إليهم، من غير تكلف ولا مشقة.

وقوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.

قيل: لا تسعوا في الأرض بالفساد.

ويحتمل: لا تعثوا، أي: لا تفسدوا؛ لأن العُثُو هو الفساد نفسه، كأَنه قال: لا تفسدوا في الأرض؛ فتكونوا مفسدين.

٦١

وقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ (٦١)

قيل فيه بوجوه:

قيل: أَول ما أنزل المن، فعند ذلك قالوا: لن نصبر على طعام واحد، ثم أَنزل السلوى.

وقيل: كانوا يتخذون من المن القُرَص، فيأكلون مع السلوى، فهو طعام واحد؛ فقالوا: لن نصبر عليه.

ويحتمل: أَن يكون طعامهم في اليوم مرة؛ فطلبوا الأَطعمة المختلفة. واللّه أعلم.

وقوله: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَ}.

٦٢

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢).

قيل: إن اليهود والنصارى وهَؤُلَاءِ جائز أَن يكون لهم تعلق بظاهر هذه الآية؛ لأنهم كانوا يقولون: إنا آمنا باللّه، وآمنا باليوم الآخر، فليس علينا خوف ولا حزن.

لكن الجواب لهذا وجوه:

أَحدها: أَنّه ذكر المؤمنين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}، وإيمانهم ما ذكر في آية أخرى وهو قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}. وهم قد فرقوا بين الرسل، بقولهم: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}.

وفرقوا بين الكتب أيضًا: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.

فهَؤُلَاءِ الذين ذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - في هذه الآية، هم الذين آمنوا بجميع الرسل، وآمنوا بجميع الكتب أيضًا.

فإذا كان هذا إيمانهم لم يكن عليهم خوف ولا حزن.

والثاني: ذَكَر الإيمان باللّه. والإيمان باللّه هو الإيمانُ بجميع الرسل، وبجميع الكتب.

ولكنهم لا يؤمنون باللّه، ولا يعرفونه في الحقيقة.

أو أَن يقال: ذكَر عملَ الصالحات، والكفرُ ببعض الرسل ليس من عمل الصالحات؛ لذلك بطل تعلقهم بهذا، واللّه أعلم.

وقيل: ذلك على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: إن الذين هادوا والنصارى من آمن منهم باللّه واليوم الآخر، والذين آمنوا. . . الآية.

وللمعتزلة تعلق أيضًا بظاهر قوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

وصاحب الكبيرة عليه خوف وحزن، فلو كان مؤمنا لكان لا خوف عليه ولا حزن؛ لأَنه أَخبر أَن المؤمن لا خوف عليه ولا حزن؛ فدل: أَنه يخرج من إيمانه إذا ارتكب كبيرة.

فيقال لهم: لم ينف عنهم الخوف، والحزن في كل الوقت.

فيحتمل: أَن يكون عليه خوف في وقت، ولا يكون عليه خوف في وقت آخر؛ لأن لكل مؤمن خوفَ البعث وفزعه حتى الرسل، بقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّه الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا}؛ لشدة فزعهم من هول ذلك اليوم.

فإذا دخلوا الجنة، ونزلوا منازلهم، ذهب ذلك الخَوف والفزع عنهم،

فعلى ذلك المؤمن: يكون له خوف في وقت، ولا يكون عليه خوف في وقت آخر، واللّه أعلم.

واختلف في الصابئين:

قيل: الصابئون: قوم يعبدون الملائكة، ويقرءُون الزبور.

وقيل: إنهم قوم يعبدون الكواكب،

وقيل: هم قوم بين المجوس والنصارى.

وقيل: هم قوم بين اليهود والمجوس.

وقيل: هم قوم يذهبون مذهب الزنادقة؛ يقولون باثنين لا كتاب لهم، ولا علم لنا بهم.

٦٣

وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}.

قد ذكرنا فيما تقدم: أَن ميثاق اللّه، وعهده على وجهين: عهد خلقة وفطرة، وعهد رسالة ونبوة.

وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} في التوراة أَن يعملوا بما فيها، فنقضوا ذلك العهد لما رأَوا فيها الحدود، والأَحكام، والشرائع كرهوا؛ فرفع اللّه الجبل فوقهم، فقبلوا ذلك.

ويحتمل ما ذكرنا من عهد خلقة وفطرة قنقضوا ذلك.

وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}.

قيل: خذوا التوراة بالجد والمواظبة.

وقيل: " بقوة " يعني: بالطاعة له والخضوع.

ثم احتج بعض المعتزلة بهذه الآية على تقدم القدرة الفعلَ؛ لأَنه أمرهم - عَزَّ وَجَلَّ - بالقبول له، والأَخذ والعمل بما فيها.

فلو لم يعطهم قوة الأَخذ والقبول له قبل الأخذ له والفعل، لكان لا يأمرهم بذلك؛ لأنهم يقولون: لا قوة لنا على ذلك؛ فدل أنه قد أعطاهم قبل ذلك، لكنه غلط عندنا؛ لأَنه لو كان أَعطاهم القوة قبل الفعل، ووقت الأَمر به، ثم تذهب عنهم تلك القوة وقت الفعل - لكان الفعل بلا قوة؛ إذ من قولهم: أن القوة لا تبقى وقتين؛ فدل: أَنها تحدث بحدوث الفعل، لا يتقدم ولا يتأخر، ولكن يَكونان معًا.

ولأَنها سميت: قدرة الفعل، فلو كانت تتقدم الفعل، لم يكن لإضافة الفعل إليها معنى، واللّه أعلم.

والأَصل في ذلك: أَن اللّه - تعالى - قال: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} ومعلوم أَن المرادَ من ذلك الأَخذُ بقوة الآخذ.

ثم فيه وجهان:

أَحدهما: أَن للأَخذ قوة غير التي للترك.

والثاني: أَنه ذكر الأَخذ بقوة، فإذا لم تكن معه لم يكن بها أَن يرى أَن الوقت إذا تباعد لم يحتمل بما تقدم من القوة أَوقاتًا؛ فمثله وقت واحد.

وقوله: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

قيل فيه بوجوه:

قيل: اذكروا، واحفظوا ما فيه من أَمره ونهيه، ولا تضيعوه؛ لعلكم تتقون المعاصي والمآثم.

ويحتمل: اذكروا ما فيه من التوحيد والإيمان؛ لعلكم تتقون الشرك والكفر.

ويحتمل: اذكروا ما فيه من الأَحكام والشرائع.

ويحتمل: الثواب والعقاب، والوعد والوعيد. وكله واحد.

٦٤

وقوله: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ (٦٤)

يعني: من بعد القبول.

دل هذا على: أَنهم كانوا قَبِلوا ذلك مرة، قبل أَن يأْتيهم موسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بها؛ فلما أَتاهم - ورأَوا التشديد، والمشقة- أَبوا قبولها، وتركوا العمل بما فيها من الأَحكام والشرائع؛ فخُوِّفُوا برفع الجبل فوقهم؛ فقبلوا ذلك، واللّه أعلم.

وقوله: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

يحتمل وجوهًا:

قيل: فضل اللّه عليكم الإسلام ورحمته: القرآن.

وقيل: فضل اللّه عليكم بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، بعث إليكم رسولًا؛ ليجمعكم، ويؤلف بينكم، ويدعوكم إلى دين اللّه الحق، بعد ما كنتم في فترة من الرسل، وانقطاع من الدِّين والعمل.

ويحتمل: فضل اللّه عليكم؛ لما أَنجا آباءَكم من العذاب، ولم يرسل عليهم الجبل، وإلا ما توالدتم أَنتم.

وقيل: فضل اللّه عليكم؛ لما أَعطاهم التوراة، ووفقهم على قبولها، وإلا كنتم من الخاسرين. وبعضه قريب من بعض.

٦٥

وقوله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ (٦٥)

فيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

كأنه قال: ولقد علمتم أَن محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يعلم الذين اعتدوا منكم في السبت، ولا كان علم ما فُعِل بهم، ثم علم ذلك؛ فإنما علم باللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأَنه لم يكن قرأَ كتابكم، ولا كان يختلف إلى أَحد ممن يعرف ذلك؛ فباللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عرف ذلك، وبه علم؛ فدل: أَنه رسول اللّه إليكم.

ويحتمل قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.

أي: علمتم ما أَصاب أُولئك باعتدائهم يوم السبت بالاصطياد، وكنتم تقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ}. يعني: أَبْناءُ رسل اللّه وأَحباؤُه.

فلو كان كما تقولون، لم يكن ليجعلهم قردةً -وهي أَقبحُ خلق اللّه، وأَوحشُه- إذ مثل ذلك لا يُفعل بالأَحباء ولا بالأَبناءِ.

أَو أَن يحمل على التحذير لهَؤُلَاءِ؛ لئلا يُكذبوا محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا يعصوه في أَمره، فيصيبكم ما أَصاب أُولَئِكَ؛ بتكذِيبهم موسى، وعصيانهم أَمرَه، واللّه أعلم.

ثم سبب تحريم الاصطياد في السبت كان -واللّه أعلم- لما قيل: إن موسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أراد أَن يجعل يومًا للّه، خالصًا للطاعة له، والعبادةِ فيه -وهو يوم الجمعة- فخالفوا هم أَمره ونهيَه، وقالوا: نجعل ذلك اليوم السبت؛ لأَنه لم يُخلق لعمل. فحرم الاصطياد في ذلك اليوم لذلك وحولوا قردةً؛ عقوبة لهم لما نهوا عن الاصطياد في ذلك اليوم فاصطادوا.

وعلى ذلك تأْويل قوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}، يعني: يوم الجمعة.

وقيل: {اخْتَلَفُوا فِيهِ}، يعني: في اللّه.

ثم اختلف في قوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}:

قال قوم: قوله: {كُونُوا قِرَدَةً} من الأصل؛ على ذهاب الإنسانية منهم.

وقيل: حَوَّل جَوْهَرهم إلى جوهر القردة، على إبقاءِ الإنسانية فيهم؛ من الفهم والعقل؛ لأَنه قيل: إن الذين كانوا يَنْهَوْنهم عن الاصطياد في ذلك اليوم دخلوا عليهم، فيقولون لهم: أَلم نَنْهكم عن ذلك، ونزجزكم؟!

فَآومئوا: أَي نعم. ودموعهم تفيض على خدودهم.

فلو كان التحويل على ذهاب جميع الإنسانية منهم لكانوا لا يفهمون ذلك، ولا حزنوا على ما أَصابهم؛ لأَن كل ذي جوهر راضٍ بجوهره الذي خلقه اللّه سبحانه يُسَرُّ به.

ولأَن تحويله إياهم قردةً عقوبةٌ لتمردهم في التكذيب، وجرأتهم على اللّه؛ ليعلموا ذلك، ويروا أَنفسهم أَقبحَ خلقِ اللّه وأَوحشَه.

وفيه نقض قول المعتزلة؛ لأَنهم يقولون: ليس في خلق اللّه قبيح.

فلو لم يكن في خلق اللّه قبيح لم يكن لتحويل صورتهم من صورة الإنسان، إلى أَقبح صورةٍ معنًى؛ ليروا قبح أنفسهم؛ عقوبةً لهم بما عَصَوْا أَمر اللّه، ودخلوا في نهيه.

٦٦

وقوله: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا (٦٦)

قيل: الهاء راجعة إلى القرية التي كانوا فيها.

وقوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا}. من أَهل القرية.

وقوله: {وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}. حواليها.

وقيل: أَراد بالهاءِ: القرية، {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} من القرى، {وَمَا خَلْفَهَا} من القرى.

وقيل: أَراد بالهاءِ: العقوبة والنكالَ، {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} يعني: لما مضى من الذنوب. {وَمَا خَلْفَهَا} يعني: ما بَقي، واللّه أَعلم.

وقوله: {خَاسِئِينَ}.

قيل: الخاسئ: الصاغرُ.

وقيل: الخاسئ: الذليلُ.

وقيل: البعيدُ. وكله يرجع إلى واحد، واللّه أَعلم.

٦٧

وقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}.

قيل: قُتِل قتيلٌ في بني إِسرائيل، وأُلْقيَ على باب غيرِهم؛ فتنازعوا فيه واختلفوا؛ فأَمر اللّه نبيه موسى أَن يذبحوا بقرةً، فقال: {إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فاضربوا ببعضها ذلك الميت؛ فيحيى، فيقول: مَنْ قتلني.

وقوله: (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا  هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ).

قَالَ بَعْضُهُمْ: كفروا بهذا القول؛ لأَنهم سمَّوْه هازئًا، ومن سَمَّى رسولًا من الرسل هازئًا يكفر؛ أَلا ترى أَنهم قالوا في الاخِر: (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ)؟! دل أَن ما قال لهم أَولَ مرةٍ ليس بحق عندهم.

وليس هذا بشيء. ولا يحتمل ما قالوا.

ولكن يحمل على المجازاة، كأَنهم قالوا: أتجازينا بهذا لما مضى منا وسبق من العصيان بك، والخلاف لك؟! لما لم يعلموا أَنه من عند اللَّه يأْمر بذلك.

وهذا وأَمثاله على المجازاة جائزٌ على ما ذكرنا من الاستهزاءِ، والمخادعة، والمكر، كله على المجازاة جائز.

وكقول نوح لقومه: (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)، على المجازاة جائز على ما ذكرنا من الاستهزاء؛ فكذلك الأَول.

وأما الاستهزاء فيما بين الخلق فهو جهل يسخر بعضهم ببعض؛ لجهلٍ بأَحوال أَنفسهم؛ إذ كلهم سواء مِن جهة الجوْهر والخِلْقة، وتركيب الجوارح، وتصوير الصُّور، وتمثيلها.

أَلا ترى: أن موسى أجاب لهم عن الهزء بالجهْل، فقال: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)؟!

دل أَن الهزء في الخلق لجهلٍ فيهم، وباللَّه التوفيق.

ثم استدل قوم بهذه الآية على: عموم الخطاب وقت قرْع السمع؛ لأَنه أَمرهم بذبح بقرة لم يبين لهم كيفيَّتها، ولا ماهيتها وقت الخطاب، إلا بعد البحث والسؤال عنها؛ فثبت أَنه على العموم.

أَلا ترى ما روي في الخبر: " لو عمدوا إلى أَدنى بقرة لأَجزأتهم، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد اللَّه عليهم ".

لكن هذا لا يصح؛ لأَنه دعوى على اللَّه، لحدوث شيء في أَمره، وبُدُوٍّ في حكمه، فذلك كفرٌ، لا يقوله مسلم، فضلًا عن أَن يقولَ به رسولٌ من الرسل.

تأْويل هذا أَنه قال: إنه يقول كذا، فلو كان الأَول على: غير ذلك لكان قد بدا له فيما عم وفسر بما لم يكن أَرادَ. وذلك معنى البداءِ، بل معنى الرجوع عن الأَول مما أَراد، والتفسير له بغَيره، ولا قوة إلا باللَّه.

ثم في الآية دليل خصوص الخطاب من وجهين:

أَحدهما: أَخذُ كل آيةٍ خرجت في الظاهر على العموم حتى الخصوص.

والثاني: جواز تأْخير البيان على تقدم الأَمر به؛ لما ذكرنا: أنها لو حملت على العموم -وهو مرادها- ثم ظهر الخصوص، فهو بدو وحدوث في الأَحكام والشرائع، فذلك حال من جهل العواقب والنهايات، تعالى اللَّه عن ذلك.

ومعنى سُؤالهم؛ بدعاءِ الرب لهم: البيان بما أريد جعل ذلك آية؛ فوقع عندهم: أَنْ لا كل بقرة تصلح للآيات، ولذلك لم يسأَلوا موسى عن تفسيرها؛ إذ اللَّه - تعالى - هو الذي يعلم الآيات.

والحرف الثاني هو الأَول الذي قلنا: إليه انصرف المراد في الابتداءِ؛ لما يوجبه، وأَن الأَمر بالذبح في الابتداءِ كان على ما آل أَمرها إليه وظهر.

لكنهم أمروا بالسؤال عنها، والبحث عن أَحوالها؛ ليصلوا إلى المراد فيه، لا أَنه أَحدث لهم ذلك بالسؤال.

وعلى ذلك: ما روي في الخبر: " أَن صلة الرحم تزيد في العمر ".

أَي: لما علم من عبده أَنه يصل رحمه، جعل مدة عمره أَكثر مما لو علم أَنه لا يصل، لا أَنه يجعل أَجله إلى وقت، فإذا وصل رحمه زادَ على ذلك.

لا على ما يقوله المعتزلة: أَن اللَّه - تعالى - يجعل لكل أَحد أَجلين، فإذا وَصل رحمه أَماته في أَبْعد الأَجلين، وإذا لم يصل جعلَ أَجله الأولَ.

فهذا أَمر من يجهل العواقب، فأَما من كان عالمًا بالعواقب فلا؛ لأَنه بدوٌّ ورجوعٌ عما تقدم من الأَمر.

ثم من استدل بهذه الآية: بقبول قول أَولياءِ المقتول وَهِمَ؛ لأَوجهٍ:

أَحدها: ما لا يقبل قول القتيل قبل خروج الروح منه: إنَّ فلانًا قتلني، في قطع حَق الميراث، وإغرام الدية.

والثاني: أَن ذلك كان آية عظيمة لهم، لم يكن ذلك لغيرهم.

والثالث: أَن أَولياء المقتول قد كانوا -قبل أن يحيى- يدَّعون عليهم القتل، فلو كان لهم حق القبول، لم يحتج إلى تلك الآية.

والرابع: أَن قبول قول الميت أَحق من قبول قول الولي؛ لأَن الوليَّ ينتفع بقوله، والميت لا ينتفع بقوله شيئًا، ثم القتيل لا يقبل قوله في شريعتنا فكذلك الولي، والله الموفق.

ثم وَجْه جعْلِ البقرة آيةً دون غيرها من البهائم وجهان:

أَحدهما: ما رُويَ أن رجلًا كان بارًّا بوالديْه، محسنًا إليهما عاطفًا عليهما، وكانت له بقرة على تلك الصفة والشبه، فأراد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أَن يوصل إليه في الدنيا جزاء ما كان منه بمكان والديْهِ.

والثاني: أَنهم كانوا يعبدون البُقُور والعَجَاجيل، وحُببَ ذلك إليهم؛ كقوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)، ثم تابوا وعادوا إلى عبادة اللَّه وطاعته، فأَراد اللَّه أَن يمتحنهم بذبح ما حُبِّب إليهم؛ ليظهر منهم حقيقة التوبة، وانقلاع ما كان في قلُوبهم من حب البُقُور والعجاجيل، واللَّه أَعلم.

وقوله: (لَا فَارِضٌ).

يقول: ليست بكبيرة.

وقوله: (وَلَا بِكْرٌ).

ولا شابة.

وقوله: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ).

بين الشابة والكبيرة.

وقل: (لَا فَارِضٌ): لا كبيرة، على ما ذكرنا (وَلَا بِكْرٌ)، أي: ولا ما لا تلد، (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) أي: قد ولدت بطنًا أَو بَطنَين.

٦٩

وقوله: (صَفْرَاءُ (٦٩)

قيل: الصفراءُ؛ التي تضرب إلى السواد، وذلك لشدته.

وقيل: الصفراءُ؛ من الصفَر المعروف.

وقوله: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا}.

قيل؛ صَافٍ.

وقوله: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}.

تُعْجِب الناظرين.

وقيل: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا}. صَفْرَاءُ الظلف والقَرن، واللّه أعلم.

٧٠

وقوله: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللّه لَمُهْتَدُونَ (٧٠)

وقوم موسى مع غلظ أفهامهم، ورقة عقولهم - أَعرف للّه، وأَمهلُ توحيدًا من المعتزلة؛ لأَنهم قالوا: إنْ شَاءَ اللّه لكنا من المهتدين.

والمعتزلة يقولون: قد شاءَ اللّه أَن يهتدوا، وشاءُوا هُم ألا يهتدوا؛ فغلَبَتْ مشيئَتُهم على مشيئة اللّه على قولهم - فنعُوذ باللّه من السَّرَفِ في القول، والجهل في الدِّين.

٧١

وقوله: (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا (٧١)

قيل: لم يذللّها للعمل؛ أَي: لم يزرع عليها، ولا هي مما يُسقى عليها الحرث.

وقيل: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ}؛ أي: بقرة وحسية صعبة، تثير الأَرض، ولكن إثارة الأَرض لم تذللّها؛ لصعوبتها وشدتها.

وقوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}.

قيل فيه بوجوه:

{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}، خوفًا على أَنفسهم أَن يفتضحوا لظهور القاتل.

وقيل: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} لغلاءِ ثمنها.

والأولُ أَقرب، واللّه أعلم.

وقيل: إنهم استقصَوْا في صفة تلك البقرة، والسؤال عن أحوالها، والاستقصاءُ في الشيء ربما يكون للمدافعة، واللّه الموفق.

وفي قوله: {إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} دليل لأَبي حنيفةَ - رَحمَهُ اللّه وَأصحابِه - أَن من حَلَف لا يأْكل لحم بقرَةٍ، فأَكل لحْم ثَور حنث؛ لأَن اللّه تعالى ذكر البقرةَ، ثم بين في آخره ما يدل أَنه أَراد به الثورَ؛ لقوله: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ}.

والثوْرُ هو الذي يثير الأَرض، ويسقي الحرث، دون الأُنثى منها؛ لذلك كان الجواب على ما ذكرنا.

إلا أَن يكونوا همْ كانوا يحرثون بالأُنثى منها كما يَحرث أَهل الزمان بالذكَر، فحينئذ لا يكون فيه دليلٌ لما ذكرنا، واللّه أَعلم.

٧٢

وقوله: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّه مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)

في الآية: دليلُ مُرادِ الخصوص -وإن خرجت في الظاهر مخرج العموم- لأَنه قال عز وجل: {قَتَلْتُمْ}، وإنَّمَا قتله واحد،

وقال: {وَاللّه مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، وإنما كان كتمه الذي قتله.

لذلك قلنا: ألا نصْرف مرادَ الآية إلى العموم بلفظ العموم، ولا إلى الخصوص بلفظ الخصوص إلا بعد قيام الدليل والبرهان على ذلك، واللّه الموفق.

٧٣

وقوله: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا (٧٣)

قَالَ بَعْضُهُمْ: بفخذها الأَيمن.

لكن هذا لا يعلم إلا بخبر عن اللّه تعالى، ولكن يقال: {بِبَعْضِهَا} بقدر ما في الكتاب.

وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللّه الْمَوْتَى}.

أَي: هكذا يُحي اللّه الموتى، من الوجه الذي لا يتوهمون إحياءَه، بضرب بعض البقرة عليه.

وكذلك قوله: (وَاللّه الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (٩).

فكما أَحيا الأَرض بَعد موتها بالمطر المنزل من السماءِ، يقدر على إِحياءِ الموتى، وبعثهم على الوجه الذي لا يظنون ولا يتوهمون، واللّه أعلم.

ويحتمل: إِحياء ذلك القتيل لهم، لما لم يكونوا اطمَأنوا على إِحياءِ الموتى؛ فأَرَاهُم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك؛ ليطمئنوا، وليَستَقِروا على ذلك، ولا يضطَربوا فيه، واللّه أعلم.

وقوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}.

يحتمل: يُريكم آيات وحدانيته.

ويحتمل: يريكم آيات إِحياءِ الموتى، وآيات البعث.

ويحتمل: آياته فيما تحتاجون إليه، كما أَرى من تقدمكم عند حاجاتهم.

ويحتمل: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} آيات نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ هو خَبَّر عن الغيب.

وأَوضح آيات الرسالة؛ الخَبَرُ عن الغئبِ، وذكرُ القصة على الوجه الذي يعلم أَن الاختراع لا يبلغ ذلك؛ لتعلموا أَنه باللّه علم؛ إذ لم يذكر له خط كتاب، ولا اختلافٌ إلى من عنده.

على أَنه لو كان مسموعًا منهم، يجري على مثله القول في الزيادة والنقصان، ولكن منعهم اللّه تعالى عن ذلك -إذ علموا صدقه- إِشفاقًا على أَنفسهم، أَن ينزل عليهم نِقْمة اللّه.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.

لكي تعْقلُوا آيات وحدانيته، وتعقلوا أَنه قادر على إِحياءِ الموتى بَعْدَ الموت.

٧٤

وقوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه (٧٤)

ضرب اللّه لقلوبهم مثلًا بالحجارة، وشبهها بها؛ لتساويها، وشدة صلابتها، وأَنها أشدُّ قسوة من الحجارة، وذلك: أَن من الحجارة -مع صلابتها وشدتها، مع فقد أسباب الفهم والعقل عنها، وزوال الخطاب منها- ما تخضع له، وتتصدع؛ كقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللّه}.

وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ. . .} الآية.

وقلبُ الكافر -مع وجود أسباب الفهم والعقل، وسعة سببية القبول- لا يخضع له، ولا يلين.

وكذلك أَخبر اللّه عَزَّ وَجَلَّ عن الجبال أَنها تلينُ، وتخضع لهول ذلك اليوم بقوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}. وقلبُ الكافر لا يلين أَبدًا.

أَو أَن يقال: إن اللّه عَزَّ وَجَلَّ جعل من الجبال مَنافِع للخلق مع صلابتها وشدتها حتى يتفجر منه الأَنهار والمياه. وقلبُ الكافر -مع احتمال ذلك وإمكانه- لا منفعة منه لأَحدٍ.

وباللّه الئوفيق.

ثم وجه حكمة ضرب قلوبهم مثلًا بالحجارة، وتشبيهها بها، دونَ غيرها من الأَشياء الصلبة؛ من الحديد، والصُّفْر، وغيرهما، وذلك - واللّه أعلم - أَن الحديد تُلينه النار، وكذلك الصُّفْر حتى تضرب منهما الأَواني.

والحجرُ لا تُلينهُ النار ولا شيء؛ لذلك شبه قلب الكافر بها. وهذا - واللّه أعلمَ - في قوم علم اللّه أَنهم لا يؤمنون أَبدًا.

وقوله: {وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

خرجت على الوعيد -أبلغ الوعيد- والوعظ؛ حين ذَكرهم علمه بما يعملون.

٧٥

وقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}.

قيل: الآية -وإن خرجت على عموم الخطاب- فالمراد منها الخصوص، وهو الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وإلى هذا يذهب أَكثر أَهل التفسير.

وقيل: المراد منها -بعموم الخطاب- العموم؛ يعني: النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأَصحابه؛ وكأَنها خرجت على النهي عن طمع الإيمان منهم، كأَنه قال: لا تطمعوا في إيمانهم.

كقوله: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}؛ أي: لا تُنقذ.

وكقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}؛ أَي: لا تسمع الصم.

وقوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّه ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ. . .} الآية.

لقائلٍ أن يقول: أَليس فيما كان فريقٌ منهم يسمعُون كلام اللّه ثم يحرفونه ما يجب أَن يدفع الطمع عن إيمان هَؤُلَاءِ؟

فهو - واللّه أعلم - لوجهين:

أَحدهما: أَنهم كانوا أصحاب تقليد؛ كقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}.

فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أَن هَؤُلَاءِ -وإن رأَوا الآيات العجيبة- فإنهم لا يؤمنون أَبدًا؛ لأَنهم أَصحاب تقليد، لا ينظرون إلى الحجج والآيات.

والثاني: أَنهم - معَ كثرة ما عاينوا من الآيات، وشاهدوا من العجائب في عهد رسول اِللّه موسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يطمع في إيمانهم، فكيف طمعتم أَنتم في إيمان هَؤُلَاءِ، وهم أتباعهم؟ واللّه الموفق.

ولهذا وجهان آخران:

أحدهما: كأنه قال: لا تطمع في إيمانهم؛ لأَنهم - في علم اللّه على ما عليه من ذكر.

والثاني: لأن أُولَئِكَ كانوا خيرًا من هَؤُلَاءِ، وأَرغبَ في الحق منهم، ثم لم يؤمنوا مع سماع الحجج، وما يجب به الإيمان، فكيف تطمع في إيمان هَؤُلَاءِ؟

وقوله: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. أنه من عند اللّه، ويعلمون أَنه رسول اللّه، وأَنه حق.

٧٦

وقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا (٧٦)

فقد ذكرنا فيما تقدم أَنها في المنافقين نزلت.

وقوله: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}.

يحتمل وجهين:

يحتمل: خلا بعض المنافقين إلى بعض، قالوا: أَتحدثونهم بكذا.

ويحتمل: خلاء المنافقين إلى اليهود.

وقوله: {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللّه عَلَيْكُمْ}.

قيل: فتح اللّه؛ قصَّ اللّه.

وقيل: فتح اللّه؛ بيَّن اللّه.

وقيل: فتح اللّه؛ قضى اللّه.

وقيل: منَّ اللّه عليكم في التوراة. وكله يرجع إلى واحد.

وقوله: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}.

أي: باعترافكم عند هَؤُلَاءِِ.

ويحتمل: على إضمار رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كأَنه قال: ليحاجوكم بإقراركم عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

ويحتمل: على معنى ليحاجوكم به عند ربكم أي في ربكم؛ إذ العرب تستعمل حروف الخفض بعضها في موضع بعض.

ويحتمل: عند ربكم، أَي: يوم القيامة. ويكون ليحاجوكم بما عند اللّه؛ أَي: بالذي جاءكم من عند اللّه.

لكن لقائل أَن يقول: ما معنى ذكرِ المحاجَّةِ عند ربكم، والمحاجةُ يومئدٍ لا تكون إلا عنده، ولا تكون ليحاجوكم بها عند اللّه؛ أَي: بالذي جاءَكم من عند اللّه؟

قيل: لأَن ذلك أَشد إِظهارًا، واقل كتمانًا؛ لما لممبق منهم الإقرارُ بذلك؛ لذلك نهوا عن ذلك، لأَنهم كانوا يَنْهوْن أُولَئِكَ عن الإقرار بالإيمان عند المؤمنين، وإظهار ما في التوراة من بَعث رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وَصِفته.

وقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

أَنَّ هذه حجةٌ لهم عليكم، حيث تعترفون به، وتظهرون نعته وصفته ثم لا تبايعونه.

ويحتمل: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أَنه حق.

٧٧

وقوله: (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٧)

قيل: {مَا يُسِرُّونَ} في الخلوة؛ من الكفر به والتكذيب له {وَمَا يُعْلِنُونَ} لأصحابه؛ من التصديق له والإيمان به.

وقيل: {مَا يُسِرُّونَ} من كتمان نعته وصفته. {وَمَا يُعْلِنُونَ} من إظهار نعته وصفته الذي في التوراة.

ويحتمل: ما يُسِرُّ هَؤُلَاءِِ لهم من النهي عن إظهار ما في التوراة، وما يُعْلِنُ هَؤُلَاءِ للمؤمنين من إظهار نعته وصفته، واللّه أعلم.

٧٨

وقوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ (٧٨)

يقول: مِنَ اليهود من لا يقرأ التوراة ولا يعرفها، إلا أَن يحدثهم العلماء والرؤساء عنها.

والأُمِّي: الذي لا يكتب، ولا يقرأ عن كتابة، لكنه يقرأ لا عن كتابة، كالنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كان لا يكتب، ولا يقرأ عن كتابة؛ كقوله: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}.

ويقال أَيضا: الذي لا يقرأ ولا يكتب، لا عن كتابة، ولا غير كتابة.

وقوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ}.

قيل: أَحاديث باطلة يحدث لهم، وهو قول ابن عَبَّاسٍ.

وقيل: إِلَّا أَمَانِيَّ، يعني إلا كذبًا.

وقال الكسائى: إلا أَمانى: إلا تِلاوة؛ كقوله: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}، يعني: في تلاوته.

وقوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، يقول: ما هم إلا ظن يظنون في غير يقين.

وأَصله: أَي لا يعلمونَ علم الكتاب، إنما عندهم أماني النفس وشهواتها؛ كقوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}.

٧٩

وقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّه (٧٩)

قيل: الويلُ: الشدةُ.

وقيل: الويلُ: وادٍ في جهنم.

وقيل: الويل: هو قول كل مكروب وملهوف يقول: ويلٌ له بكذا.

وقوله: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} يحتمل وجهين:

يحتمل: يكتبون: يمحون نعته، وصفته عن التوراة.

ويحتمل: يكتبون: يُحْدثون كتابة، على خلاف نعته وصفته، ثم يقولون: هذا من عند اللّه؛ فتكون الكتابة في هذا إثباتًا؛ كقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}، والمثبت: هو ذلك الملحق ليظن أنه كذلك في الأَصل.

وقوله: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}.

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}.

ذكر لهم ثلاث ويلات:

ويل؛ بإِحداث كتابة ببعث رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومحوه وتغييره.

والثاني: بقولهم: هذا من عند اللّه.

والثالث: وويل لهم مما يكسبون من المأكلة والهدايا.

٨٠

وقوله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}.

أَجمع أَهل التفسير والكلام على صرف الأَيام المعدودة المذكورة في هذه الآية إلى أَيام عبادة العجل. وذلك لا معنى له؛ لوجهين:

أحدهما: أَن هَؤُلَاءِ لم يعبدوا العجل، وإنما عبد آباؤُهم؛ فلا معنى لصرف ذلك إلى هَؤُلَاءِ.

والثاني: لو صرف ذلك إلى آبائهم الذين عبدوا العجل لم يحتمل أيضًا؛ لأَنهم قد تابوا ورجعوا عن ذلك؛ فلا معنى للتعذيب على عبادة العجل بعد التوبة والرجوع إلى عبادة اللّه؛ كقوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، واللّه أعلم.

وتصرف الأَيام المعدودة إلى العمر الذي عَصَوا فيه؛ لما لم يروا التعذيب إلا على قدر وقت العصيان والذنب، أَو لما لم يكونوا يروْن التخليد في النار أَبدًا، أو لما هم عند أنفسهم، كما أَخبر اللّه عنهم، بقوله: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} وكقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ}.

يقولون: إنا لا نُعذَّب أَبدًا، إنما نعذَّب تعذيب الأَبِ ابنَه أو الحبيبِ حبيبَه؛ يعذِّب في وقت قليل، ثم يرضى، ويدخل الجنة.

ولكن عقوبة الكفر أبدًا، والتخليد فيها لا لوقت، وكذلك ثوابُ الإيمان للأَبد لا لوقت؛ لأَن من اعتقد دينًا إنما يعتقده للأبد لا لوقت؛ فعلى ذلك جزاؤه للأَبد لا لوقت.

وأما من ارتكب ذنبًا من المسلمين؛ بشهوة تغلبه في وقت، فيرتكبه، ثم يتركه - فإنما يعاقب إن عوقب على قدر ما ارتكب في وقتٍ؛ لأَنه لم يرتكبه للأَبد؛ لذلك افترقا، واللّه أعلم.

وقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّه عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللّه عَهْدَهُ}.

والعهد يحتمل: هل عندكم خبر عن اللّه تعالى بأنكم لا تعذبون أبدًا، ولكن أيامًا معدودة؛ فإن كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده.

والثاني: اتخذتم عند اللّه عهدًا، أي لكم أعمال صالحة عند اللّه فوعدكم بها الجنة، فهو لا يخلف وعده.

أَي: ليس لكم واحد من هذين، لا خبرٌ عن اللّه بأنه لا يعذبكم، ولا أَعمال صالحة وعد لكم بها الجنة.

٨١

بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١)

هذا إكذابٌ من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - إِياهم بذلك القول، كأنه قال: بل تقولون على اللّه ما لا تعلمون؛ أَلا ترى أنه قال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}؟!

يقول: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} يعني: شركًا {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، أَي: مات عليها.

{فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.

وقيل: {وَأَحَاطَتْ بِهِ}: بقلبه.

٨٢

وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢)

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

٨٣

وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}.

قد ذكرنا عهد اللّه وميثاقه أَنه يكون على وجهين: عهد خِلْقة وفطرة، وعهد رسالة ونبوة.

وقوله: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللّه}.

يحتمل وجهين:

يحتمل: لا تجعلون الألوهيةَ إِلا للّه.

ويحتمل: نفس العبادة، أَي: لا تعبدون غير اللّه، من الأَصنام والأَوثان وغيرهما.

وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

بِرًّا بهما، وعَطفًا عليهما، وإلطافًا لهما، وخفْضَ الجناح، ولينَ القول لهما؛

كقوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣)

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ. . .) الآية، وكقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.

فَإِنْ قِيلَ: إِن الأَمر بالإحسان فيما بين الخلق يخرج مخرج الإفضال والتبرع، لا على الوجوب، واللزوم.

غير أَن الإحسان يجوز أن يكون الفعلَ الحسن نفسَه؛ كقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، استوجبوا هذا بالفعل الحسن، لا بالإحسان إلى الله تعالى، وفعلُ الحسن فرضٌ واجبٌ على كل أَحد.

والثاني: أَن الإحسان إِليهم يجوز أَن يكون من حق اللَّه عليهم، وحقُّ اللَّه عليهم لازم، وعلى ذلك صلةُ القرابةِ والمحارِم، والإنفاقُ عليهم من حق اللَّه عليهم، وهو لازم.

فهذا ينقض على الشافعي قولَه: إنه لا يوجب النفقة إلا على الوالدين، ولا يتكلم في الآباء والأمهات بالقرابة، ولا سموا بهذا الاسم؛ فدل: أَنه أَراد به غير الوالدين، والله أَعلم.

وقوله: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ).

يحتمل: على النفْل من الصدقة والفرض جميعًا.

وقوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا).

يحتمل وجوهًا:

يحتمل: لا تكتموا صفة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونعته ولكن أَظهروها.

ويحتمل: الدعاء إلى شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

ويحتمل: المراد به الكلُّ، كل شيء وكل قول؛ أَي: لا تقولوا إلا حسنًا. واللَّه أعلم.

وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ).

يحتمل: الإقرار بها، والقبول لها.

ويحتمل: إِقامتها في مواقيتها، بتمام ركوعها وسجودها وخشوعها.

ويحتمل: أن كونوا في حالٍ تكون لكم الصلاة والتزكية.

وقوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}.

يحتمل الوجوه التي ذكرناها في الصلاة.

وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}. الآية ظاهرة.

٨٤

وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ (٨٤) قد ذكرنا الميثاق والعهد في غير موضع.

وقوله: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}. يحتمل وجهين:

أي: لا تسفكون دماءَ غيركم، فيسفك دماءَكم؛ فتصيرون كأنكم سفكتم دماءَكم.

ويحتمل: لا يسفك بعضُكم دماءَ بعض؛ كقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، أي: يسلم بعضكم على بعض.

وذكر نقض العهد في هَؤُلَاءِِ وإن كان في أَوائلهم؛ لوجهين:

أَحدهما: لما رضي هَؤُلَاءِ بفعل آبائهم.

والثاني: بقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ. . .} الآية.

وقوله: {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}.

يحتمل أيضا وجهين:

يحتمل: ولا يُخرج بعضُكم بعضًا.

ويحتمل: لا تخرجوا غيركم من ديارهم، فتخرجون من دياركم؛ على ما ذكرنا في قوله: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}، واللّه أعلم.

وقوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}.

يحتمل: ثم أقررتم وأَنتم تشهدون بالعهد والميثاق، وتشهدون أَنه في التوراة.

٨٥

وقوله: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ (٨٥)

يعني: يا هَؤُلَاءِ.

وقوله: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ}.

يحتمل الوجهين اللذَين ذكرتهما في قوله: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ}.

وقوله: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ}.

أي: تَعَاوَنُون عليهم، يُعاون بعضكم بعضًا بالإخراج، وهو الظلم والعدوان.

وقوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}.

أي: ذلك الإخراج محرم عليكم.

وقوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ. . .}.

الآيةُ -وإن كانت مؤخرة في الذكر- فهي مقدمة؛ كأَنه قال: لا تسفكون دماءَكم ولا تخرجون أَنفسكم، وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ.

وقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}.

آمنوا بالمفَاداة من الأسارى، وكفروا بالإخراج وسفك الدماءِ.

ويحتمل: الإيمان ببعض ما في التوراة، وكفروا ببعضها، وهو نَعْت مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته؛ إذ لم يكن على موافقة مُرادهم.

ويحتمل: أَن فادوا أَسراهم من غيرهم، وسَبَوْا ذَرَاري غيرهم.

وقوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}.

قيل: الخزي في الدنيا إِجلاءُ بني النضير من ديارهم، وإخراجهم إلى الشام.

وقيل: مقاتلةُ بني قريظةَ، وسبي ذراريهم، وذلك لحربٍ وقع بينهم، واللّه أعلم.

ويحتمل قوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. ولكن لا يعاقبون في الدنيا، بل يردون إلى أشد العذاب في الآخرة، وإن استوجبوا ذلك في الدنيا؛ كقوله: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ. . .} الآية.

وقوله: {وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. وعيد. قد ذكرنا ذلك فيما تقدم.

٨٦

وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)

يحتمل: أنهم كانوا آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل خروجه وبعثه، فلما بعث على خلاف مرادهم كفروا به، فذلك اشتراء الحياة الدنيا بالآخرة.

ويحتمل: ابتداء اختيار الضلال على الهدى، والحياة الدنيا على الآخرة، من غير أن آمنوا به، واللّه أعلم.

٨٧

وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}. يعني: التوراة، وهو ظاهر.

وقوله: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}.

وقيل: وقفينا: أَرْدَفْنَا، وهو من القفا، قفا يقفو.

وقيل: أَتبعنا رسولًا على أَثر رسول؛ كقوله: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا}، واحدًا على أَثر واحدٍ.

وقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}.

قيل: البينات: الحجج.

وقِيل: العجائب التي كانت تجري على يديه، من خلق الطين، وإحياء الموتى، وإبراءِ الأكمه والأَبرص، وإِنباءِ ما يأْكلون وما يدخرون.

وقيل: البينات: الحلال والحرام.

ثم الرسل في أَنفسهم حفظوا حججًا؛ فلم يحتج كل قول يقولون إلى أن يكون مصحوبًا بدليل وبيانٍ على صدقهم؛ لأَنهم في أَنفسهم حجة.

وأما سائر الناس فليسوا بحجج في أَنفسهم، فلا بد لكل قول يقولون أَن يأتوا بدليلٍ يدل على صدقهم، وبيانٍ يُظهر الحق من الباطل، والصوابَ من الخطأ، والصدقَ من الكذب. وباللّه التوفيق.

وقوله: {وَأَيَّدْنَاهُ}: قويناه.

لم يقتل. أَو كان ما ذكر من النُصرة لهم كان بالحجِج والآيات.

ثم في الآية دلالة رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته؛ لأَنه أخبرهم بتكذيب بعض الرسل، وقتل بعضهم، فسكتوا عن ذلك، فلولا أَنهم عرفوا أنه رسول -عرف ذلك باللّه- وإلا لم يسكتوا عن ذلك.

٨٨

وقوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ (٨٨)

يعني: في أَكنة عليها الغطاء؛ فلا نفهم ما تقول، ولا نفقه ما تُحدِّث.

يدَّعون زوال الخطاب عن أَنفسهم؛ كراهية لما سمعوا.

وأَكذبَهُمُ اللّه تعالى بقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه} أَي: طِردهم اللّه؛ بكفرهم، وعتوهم، وتفريطهم في تكذيب الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واعتنادهم إياه، لا أن قلوبهم بمحل لا يفهمون شيئًا مما يخاطبون به -على ما يزعمون- ولكن ذلك لترك التفكر والتدبر فيها.

وقيل في قوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}: يعني: أَوعية، تفهم وتعي ما يقال، ويخاطب، ولكن لا تفهم ما تقول، ولا تفقه ما تُحدث، فلو كان حقًّا وصدقًا لفهمت ولفقهت عليه.

يَدَّعون إِبطال ما يقول الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لهم، وذلك نحو ما قالوا لشعيب: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ}.

وقوله: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}.

قيل فيه بوجهين:

قيل: فقليلًا أي بقليل ما يؤمنون من التوراة؛ لأَنهم عرفوا نَعْته وصفته، وحرفوه، فلم يؤمنوا به.

وقيل: فقليلًا، أي: قليل منهم يؤمنون بالرسل، صلى اللّه عليهم وسلم.

٨٩

وقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (٨٩)

فلولا أنهم عرفوا أن هذا الكتاب هو موافق لما معهم من الكتاب، غير مخالف له، وإلا لأَظهروا الخلاف لو عرفوا ذلك، ولتكلفوا على إِطفاءِ هذا النُّور ودفعه؛ فدل سكوتهم عن ذلك، وترك اشتغالهم بذلك، أَنهم عرفوا موافقته لما معهم من التوراة؛ ففيه آية نُبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكَافِرِينَ}.

{يَسْتَفْتِحُونَ}: يستنصرون {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قبل أن يُبعث مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، يقولون: اللّهم انصرنا بحق نبيك الذي تبعثه، فلما لم يجئهم على هواهم ومرادهم كفروا به، فلعنة اللّه على الكافرين.

٩٠

وقوله: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللّه (٩٠)

يقول: اشتروا ما به هلاكهم بما به نجاتهم.

وذلك أَنهم كانوا آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فكان إيمانُهم به نجاتَهم في الآخرة، فكفروا به، وذلك هلاكُهم، وباللّه التوفيق.

وقيل {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ}: باعوا به أَنفسهم بعرض يسير من الدنيا، بعذاب في الآخرة أَبدًا.

وقوله: {بَغْيًا}.

قيل: حسدًا منهم؛ وذلك أَنهم قد هَووا أن يُبعث مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أَولاد إسرائيل؛ لأَنهم كانوا أُمتَه، فلما بُعث من أَولاد إسماعيل - عليه السلام - والعربُ كانت من أَولاده كفروا به، وكتموا نعته حسدًا منهم.

وقوله: {أَنْ يُنَزِّلَ اللّه مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}.

يعني: النبوة والكتاب على مُحَمَّد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقيل: {بَغْيًا} أَي: ظلمًا، ظلموا أَنفسهم بكفرهم بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتكذيبهم إياه.

وقوله: {فَبَاءُوا}.

قد ذكرنا فيما تقدم.

وقوله: {بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}.

يحتمل وجهين:

قيل: استوجبوا الغضب من اللّه؛ بكفرهم بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، على أَثر غضب؛ بكفرهم بعيسى، وبما جاء به.

وقيل: إنما استحقوا اللعنةَ على أثر اللعنةِ؛ بعصيانٍ بعد عصيانٍ، وبذنب على أَثر الذنب. واللّه أعلم.

٩١

وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللّه (٩١)

على مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من القرآن.

فهو -واللّه أعلم- أَنهم أَخذوا هذه المحاجة من أَوائلهم، وإن علموا بما ظهرت نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأَنه مبعوث، وأَنتم تقلدونهم، فتُقلدونهم -لو وأوتيتم- كما قلدتموهم، وإن علمتم بما عاينتم؛ إذ لا حجة لكم. واللّه أعلم.

٩٢

وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}.

والبينات: ما ذكرنا -فيما تقدم- من الآيات المعجزة، والحجج العجيبة، والبراهين الظاهرة على رسالته ونبوته، وصدق ما يدعوهم إليه، مما يدل كله أَنه من عند اللّه.

ثم -مع ما جاءَهم موسى بها- عبدوا العجل واتخذوه إلهًا، وكفروا باللّه.

يُعَزِّي نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لئلا يظن أَنه اول مُكذَّب من الرسل. ولا أَول من كُفِر به؛ حتى لا يضيق صدره بما يقولون، ويستقبلونه بما يكره، وباللّه التوفيق. كقوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}.

٩٣

وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ (٩٣)

قد ذكرنا هذا فيما تقدم ما فيه مقْنع، إن شاءَ اللّه تعالى.

وقوله: {وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}.

يحتمل وجهين:

يحتمل: اسمعوا، أي: أَجيبوا.

ويحتمل: اسمعوا: أَطيعوا، لكن هذا فيما بين الخلق جائز السمع والطاعة.

وأَما إِضافة الطاعة إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - فإِنه غير جائز؛ إذ لا يجوز أَن يقال: أَطاع اللّه. وأَما السمع فإنه يجوز؛ لقوله: " سمع اللّه لمن حمده ".

{قَالُوا سَمِعْنَا} قولك، {وَعَصَيْنَا} أمرك.

لكن قولهم: {وَعَصَيْنَا} لم يكن على أثر قولهم: {سَمِعْنَا}، ولكن بعد ذلك بأوقات؛ لأَنه قيل: لما أَبوا قبول التوراة؛ لما فيها من الشدائد والأَحكام، رفع اللّه الجبل فوقهم، فقبلوا؛ خوفًا من أن يرسل عليهم الجبلَ، وقالوا: أَطعنا، فلما زايل الجبل، وعاد إلى مكانه، فعند ذلك قالوا: {وَعَصَينَا}، وهو كقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} فالتولي منهم كان بعد ذلك بأَوقات.

وقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}.

قيل: أشربوا، أَي: جُعل في قلوبهم حب عبادة العجل بكفرهم باللّه عَزَّ وَجَلَّ.

وقيل: سُقُوا حُبَّ العجل.

وقيل: إِن موسى لما أَحرق العجل، ونسفه في البحر جعلوا يشربون منه لحبهم العجل.

وقيل: لما أَحرق ونسف في البحر جعلوا يلحسون الماء. حتى اصفرت وجوههم.

وقيل: إنهم لما رأوا في التوراة ما فيها من الشدائد، قالوا عند ذلك: عبادةُ العجل علينا أَهون مما فيها من الشرائع.

وكله يرجع إلى وأحد، وذلك كله آثار الحب.

وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

قيل: قل يا مُحَمَّد: بئسما يأْمركم إيمانكم بالعجل الكفرَ باللّه عَزَّ وَجَلَّ.

وقيل: إن اليهود ادعوا أَنهم مؤمنون بالتوراة؛ فقال: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} أي بالتوراة؛ إذ كفرتم بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقد وجدتم فيها نعته وصفته.

٩٤

وقوله: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللّه خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٤)

وذلك أَن أعداءَ اللّه - تعالى - كانوا يقولون: إن الجنة لنا في الآخرة، بقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، وكقولهم: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}، وكقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ}؛ فقال اللّه تعالى لنبيه كجَتَ: قل لهم: إن كانت لكم الدار الأَخرة -كما تزعمون- وأَنكم أبناءُ اللّه وأحباؤه -كما تقولون- {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

وذلك أَن المرء لا يكره الانتقال إلى داره، وإلى بستانه، بل يتمنى ذلك، وكذلك المرءُ لا يكره القدوم على أبيه، ولا على ابنه، ولا على حبيبه، ولا يخاف نقمته ولا عذابه، بل يجد عنده الكرامات والهدايا.

فإن كان كما تقولون، فتمنوا الموت؛ حتى تنجوا من غم الدنيا، ومن تحمل الشدائد التي فيها إن كنتم صادقين في زعمكم: بأَن الآخرة لكم، وأَنكم أبناءُ اللّه وأَحباؤه.

فَإِنْ قِيلَ: إنكم تقولون: إن الآخرة للمؤمنين، ثم لا أَحد منهم يتمنى الموت إذا قيل له: تمنَّ الموت، فما معنى الاحتجاج عليهم بذلك، وذلك على المؤمنين كهو عليهم؟ قيل: لوجهين:

أَحدهما: أَن المؤمنين لم يجعلوا لأَنفسهم من الفضل والمنزلة عند اللّه ما جعلوا هم لأَنفسهم؛ فكان في تمنيهم صدقُ ما ادعَوْا لأَنفسهم، وفي الامتناع عن ذلك ظهورُ صدق رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

والثاني: ما ذكرنا أَنهم ادعوا: أَنهم أَبناءُ اللّه وأحباؤه، وفي تمنيهم الموت ردهم، وصرفهم إلى الحبيب، والأَب الذي ادعوه، ولا أَحد يرغب وينفر عن حبيبه وأَبيه؛ فدل امتناعهم عن ذلك: على كذبهم في دعاويهم. وباللّه نستعين.

فإن سأَلونا عن قوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} أنهم إذا تمنوا ليس كان انقضاء عمرهم بدون الأَجَل الذي جعل لهم، وفي ذلك: تقديم الآجال عن الوقت الذي كان أَجَلا، وقال اللّه تعالى: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}.

قيل: إن اللّه علم منهم -في سابق علمه، وأَزليته- أَنهم لا يتمنون جعل أَجلهم ذلك.

ولو علم منهم أَنهم يتمنون الموت لكان يجعل أَجلهم ذلك في الابتداءِ، وكذلك هذا الجواب؛ لما روى: " أَن صلة الرحم تزيد في العمر ".

إنه كذلك يحتمل في الابتداءِ، لا أَن يجعل أَجله إلى وقت، ثم إذا وصل رحمه يزيد على ذلك الأَجل أَو ينقص، فيتمنى الموت عن الأَجل المجعول المضروب له، وباللّه التوفيق.

٩٥

وقوله: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا (٩٥)

فيه دلالة إِثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أَنه أَخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أَنهم لا يتمنون أبدًا، فكان كما قال؛ فدل أَنه من عند اللّه علم ذلك.

وقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}. من الذنوب، والعصيان، والتكذيب بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والحسد له.

وهم - واللّه أعلم - قد عرفوا عن صنيعهم، وما لهم من عند اللّه من العذاب والجزاءِ، لكنهم قالوا ذلك؛ على التعنت، والمكابرة، والسفه؛ لذلك لم يتمنوا، واللّه الموفق.

وقوله: {وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. هو على الوعيد؛ كقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ}.

ويحتمل: عليم بالظالمين؛ بما يفضحهم بالحجج، ويُظهر كذبهم في الدنيا؛ لئلا يظن أحد أَنه عن غفلة بما يعملون، بل خلقهم على علم منه بما يعملون. خلقهم؛ ليعلم أنه لا لنفع له بخلقهم خلَقَهم، وأَن ذلك لا يضره.

٩٦

وقوله: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ (٩٦) يعني اليهود.

{أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}. وعلى كراهية الموت.

فدل حرصهم على حياة الدنيا أَنهم كذبة فيما يزعمون ويدعون.

وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ}.

يعني: المجوس.

مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧).

وقوله: {وَاللّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}. هو على الوعيد أيضًا.

٩٧

وقوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}.

وذلك أَن اليهود قالوا: لو كان الذي يَنْزِل على مُحَمَّد بالوحي ميكائيل لاتبعناه، ونؤمن به؛ لأَن ميكائيل هو الذي ينزل بالغيث والرحمة، وجبريل هو المنزل بالعذاب والحرب والشدائد، فهو عدو لنا؛ لذلك لا نتَّبعه.

وفي جهة العداوة بينهم وبين جبريل وجه آخر، وهو أَن قالوا: إن جبريل أُرسل بالوحي والرسالة في أَولاد إسرائيل، لكنه أَنزلها على أَولاد إسماعيل؛ عداوة لنا وبغضًا؛ لذلك نَصبوا العداوة بينه وبينهم -واللّه أعلم بذلك- فَأَكذبهم اللّه -تعالى- بزعمهم، فقال: {نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه}، لا كما تقول اليهود. وما ينزل من العذاب والشدائد، إنما ينزل بأَمره، لا من تلقاءِ نفسه وذَاته.

ثم كان إظهارهم عداوة جبريل، لاعتقادهم عداوة اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لكنهم لم يجترئوا على عداوة اللّه -على التصريح- فدل أنه على الكناية عن عداوة اللّه تبارك وتعالى.

ويدل هذا على أن الروافض طعنوا في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث طعنوا.

وقوله: {نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه}. تقول الباطنية: إن القرآن لم ينزل على رسول اللّه - عليه السلام - بالأَحرف التي نقرؤها، ولكنه إلهام، نزل على قلبه، ثم هو يصوره ويرسمه ذا الحروف، ويعبر به، ويعربه بالمعربة التي نقرؤها.

فلو كان على ما يقولون لزال موضع الاحتجاج عليهم بما أَتى به معجزًا؛ كقوله:

(إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)

إذ كان لهم أَن يقولوا: أنزل على لسان العجمي، لكنه غيّر ذلك بلسانه.

وكذلك قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}، مخافة النسيان والذهاب.

وكذلك قوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}.

فدلت هذه الآيات كلها على بطلان قولهم، وفساد مذهبهم، وبُعدهم عن دين اللّه المستقيم.

وقوله: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}. هدى من الضلالة، وبشرى للمؤمنين بالجنة.

٩٨

وقوله: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا للّه وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّه عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (٩٨)

يحتمل وجهين:

يحتمل: من كان عدوًّا للّه، أَو ملائكته، أَو رسله.

ويحتمل: افتتاح العداوة به دون هَؤُلَاءِ على التعظيم لهم، وفضل المنزلة عند اللّه، وحسن المآب لديه؛ كقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، معنى إضافة ذلك إليه: على التعظيم له، والإفضال للّه، لا على جعل ذلك للّه مفردًا.

فعلى ذلك: معنى افتتاح العداوة به -على ما ذكرنا- واللّه أعلم.

* * *

٩٩

وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ}.

بيَّن فيها الحلالَ والحرام، وما يُؤْتى وما يُتَّقى، وما يُنْهى وما يُؤْمر.

ويحتمل: الآيات التي أنزلها عليه ليُنْصر بها على المعاندين له، والمكابرين، واللّه أعلم.

١٠٠

وقوله: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)

يقول: كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم.

يحتمل: العهودَ التي أُخذت عليهم -في التوراة- أَن يؤمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا يكفروا به بعد الإيمان.

أَو أخذ عليهم: ألا يكتموا نعته، وصفته، الذي في التوراة لأَحد، فنبذوا ذلك، ونقضوا تلك المواثيق والعهود التي أخذت عليهم.

ثم في الآية دلالة جعل القرآن حجة؛ لأنه قال: {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}، ولو كان في كتبهم ما ادعوا من الحجة والاتباع لأَتوا به معارضًا؛ لدفع ما احتج به عليهم؛ فثبت أَنهم كانوا كذبة في دعاويهم؛ حيث امتنعوا عن معارضته.

وقوله: {وَمَا يَكْفرُ بِهَا}.

أي: وما يكفر بتلك الآيات إلا الفاسقون.

١٠١

وقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّه (١٠١)

يعني محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}.

أي: نَعتُه الذي كان في التوراة موافق لمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقيل: لما جاءَهم مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عارضوه بالتوراة؛ فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة والقرآن، وأَخذوا بكتاب السحر الذي كتبه الشياطين.

ويحتمل: أَن محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما جاءَهم كان موافقًا لما مضى من الرسل، غير مخالف لهم؛ لأَن الرسل كلهم آمنوا به، وصدق بعضهم بعضًا.

وقوله: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللّه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}.

يحتمل: كتاب اللّه: التوراة، على ما ذكرنا.

ويحتمل: كتاب اللّه، القرآن العظيم. واللّه أعلم.

وقوله: {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.

أي: يعلمون، ولكن تركوا العمل به، والإيمان بما معهم؛ كأنهم لا يعلمون؛ لما لم ينتفعوا بعلمهم خرج فعلهم فعل من لا يعلم.

أَخبر: أَنهم نبذوا نبذ من لا يعلم، لا أَنهم لم يعلموا، ولكن نبذوه، سفهًا، وتعنتًا، واللّه أعلم.

١٠٢

وقوله: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (١٠٢)

قيل: تتلو: ما كتبت الشياطين من السحر.

{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} يقول: لقد علمت اليهود أن في التوراة آية لمن اختار السحر.

وقوله: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}.

يقول: نصيب في الثواب.

وقيل: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ} أَي: ما له عند اللّه وجه.

وقوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

أي: بئس ما باعوا به أنفسهم، يعني: اليهود الذين يعلمون الفرفة والسحر.

وقيل: {مَا شَرَوْا بِهِ} يقول: ما باعوا به أَنفسهم من السحر والكفر. يعني: من لا يقرأَ التوراة.

أَو يعني: أن لو كانوا يعلمون ما باعوا به أنفسهم، ولكنهم لا يعلمون. أي: لو علموا أنهم بمَ باعوا أَنفسهم من العذاب الدائم، لعلموا أنهم بئس ما باعوا به.

١٠٣

وقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا (١٠٣)

بتوحيد اللّه.

{وَاتَّقَوْا}.

الشركَ، والسحر.

{لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّه خَيْرٌ}.

يقول: لكان ثوابهم عند اللّه خيرًا من السحر والكفر.

{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

ولكنهم لا يعلمون علم الانتفاع به، وهو كقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، ليسوا بصم ولا بكم ولا عمي في الحقيقة، ولكنهم صم من حيث لا ينتفعون به؛ إذ الحاجة من العلم، والبصر، والسمع الانتفاعُ به، فإذا ذهبت المنافع بهما فكان كمن لا علم معه ولا بصر له ولا سمع؛ حيث لا ينتفع، ولا يعمل به، واللّه أعلم.

* * *

١٠٤

 يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)

قيل: كانتِ الأَنصار في الجاهلية يقولون هذا لرسول اللَّه - عليه السلام - فنهاهم اللَّه - تعالى - أن يقولوها.

وقيل: كانت اليهود تقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: راعنا من الرعونة؛ من قولك للرجل: يا أَرعن، وللمرأَة يا: رعناء.

وكان الحسن يقرؤها: (راعنًا) بالتنوين.

وقال الكلبي: كان في كلام اليهود (رَاعِنَا) سبًّا قبيحًا؛ يسب بعضهم بعضًا، وكانوا يأتون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فيقولون: راعنا، ويضحكون، فنهى المؤمنين عن ذلك خلافًا لهم.

وقوله: (وَقُولُوا انْظُرْنَا).

قيل: فهمنا بقولٍ بينٍ لنا.

وقال مقاتل: أي اقصدنا.

وقيل: إن الأَمر بالإنظار يقع موقع التشفع في النظرة لوجهين:

بالصحبة مرةً، وبالخطاب ثانيًا فقولهم: (انْظُرْنَا) لما لا يبلغ أفهامنا القدر الذي يعني ما يخاطبنا به.

والثاني: على قصور عقولهم عما يستحقه من الصحبة والإيجاب له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

فأما الأَمر بـ " راعنا "، فهو استعمال في الظاهر بالمراعاة، وذلك يخرج على التكبر عليه، وترك التواضع له، والخضوع.

وقوله: (وَاسْمَعُوا).

أَي: اجيبوا له.

وقيل: أطيعوا له.

وقيل: (وَاسْمَعُوا) أَي: اسمعوا وَعُوا.

١٠٥

وقوله: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ

مِنْ رَبِّكُمْ).

(مَا يَوَدُّ) أي: ما يريد وما يتمنى (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) اليهود والنصارى (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ما يود هَؤُلَاءِ (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

يحتمل وجهين:

أحدهما: أَنهم كانوا يَهوون ويحبون أَن يبعث الرسول من أَولاد إِسرائيل وهم كانوا من نسله. فلما بعث من أَولاد إسماعيل - عليه السلام - على خلاف ما أَحبوا وهَووا، لم تطب أنفسُهم بذلك، بل كرهت، وأَبت أَشد الإباءِ والكراهية.

والثاني: لم يُحبوا ذلك؛ لما كانت تذهب منَافعُهم التي كانت لهم، والرياسةُ بخروجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واللَّه أعلم.

وقوله: (مِنْ خَيْرٍ).

قيل: الخير؛ النبوة.

وقيل: الخير؛ الإسلام.

وقيل: الخير؛ الرسول هاهنا، واللَّه أعلم.

وقوله: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

تنقض على المعتزلة قولَهم؛ لأَنهم يقولون: إن على اللَّه أَن يعطيَ لكل الأَصلحَ في الدِّين، في كل وقتٍ، وكل زمانٍ.

فلو كان عليه ذلك لم يكن للاختصاص معنى، ولا وجه.

والثاني: قال: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) والمفضل عند الخلق هو الذي يُعطِي ويَبذُل ما ليس عليه، لا ما عليه؛ لأَن من عليه شيء فأعطاه، أَو قضى ما عليه من الدَّيْن، لا يوصف بالإفضال؛ فدل أَنه استوجب ذلك الاختصاص، وذلك الفضل، لما لم يكن عليه ذلك، ولو كان عليه لكان يقول: ذو العدل، لا ذو الفضل، وباللَّه التوفيق.

١٠٦

وقوله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا (١٠٦)

قال بعض أهل الكلام: {مَا نَنْسَخْ} من اللوح المحفوظ {أَوْ نُنْسِهَا}: نَدعُها في اللوح.

وقيل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} أي نرفع بآيةٍ أُخرى أو نتركها في الأخرى.

وقيل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} فنرفع حكمها، والعملَ بها، {أَوْ نُنْسِهَا} أَي: نترك قراءتها وتلاوتها.

فيجوز رفع عينها، ويجوز رفع حكمها وِإبقاء عينها؛ لأَوجه:

أَحدها: ظهور المنسوخ؛ فبطل قول من أَنْكر النسخ؛ إذ وجد. ومن أَنكر ذلك فإنما أَنكر لجهل بالمنسوخ؛ لأَن النسخ بيان الحكم إلى وقت، ليس على البداءِ، على ما قالت اليهود.

والثاني: أَن للتلاوة فيها فضلًا -كما للعمل- فيجوز رفع فضل العمل، وبقاءُ فضل التلاوة.

والثالث: على جعل الأَول في حالة الاضطرار، والثاني في وقت السعة، كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}.

ثم يجوز أَن يرفع عينها فيُنْسى ذكرُها، كما رُويَ عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: " كنا نعدل سورة الأَحزاب بسورة البقرة، حتى رفع منها آيات، منها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتَّة ".

وأَما قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}.

فاختلف فيه: قيل: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أي: أخف وأَهونَ على الأبدان؛ كقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}، إن الأمر بالصوم كان لوقت دون وقت؛ إذ رجع الحكم عند الطاقة إلى غَيره. وكذا ما كان من الحكم في تحريم الأَكل عند النوم والجماع، وكذا

وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

يحتمل: أن يكون الخطاب له - عليه السلام - والمرادُ بالخطابِ الذين سبق ذكْرُهم في قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}. . .) والآية.

إنه قادر على إنزال الخير على من يشاء، واختصاص بعضٍ على بعض، وتفضِيلِ بعضهم على بعض.

ويحتمل: أَن يكون المراد في الخطاب له - عليه الصلاة والسلام - على حقيقة العلم على التذكير والتنبيه، أي: تعلم أنت أَن اللّه على كل شيء قدير، وهو كقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه}. على حقيقة العلم له.

ويحتمل: على الإعلام والإخبار لقومه، وقد ذكرنا.

وعلى ذلك يخرج قوله:

١٠٧

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (١٠٧)

أي: من كان يملك ملك السماوات وملك الأًرض، يملك تخصيص بعض على بعض، وتفضيلهم فيها، ويحكم فيها بما يشاء، ويُحْدِث من الأَمر ما أَراد، واللّه أعلم. ويحتمل: نزوله على أَثر نوازلَ لم تذكر فيه، وذلك في القرآن كثير، وإنما يقال هذا الحرف عند ضيق القلب؛ تسكينا له.

ومعنى تخصيص السماوات والأرض بالملك له؛ لمنتهى علم الخلق بهما، وإن كان له ملك الدنيا والآخرة، وباللّه التوفيق.

وقوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}.

يدل هذا على أَنه خرج على أَثر نوازل وإن لم تذكر.

١٠٨

وقوله: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ (١٠٨)

سؤالَ تعنت: لن نؤمن لك -تعنتًا- حتى نرى اللّه جهرة،

وقيل: إنهم سأَلوا ذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما سأَل قوم موسى موسى.

وقيل؛ سألوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَن يجعل الصفا -لهم- ذهبًا إن كان ما يقوله حقًّا.

وقيل: سؤالهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}، وكانوا يسأَلون سؤال تعنت، لا سؤال استرشاد واهتداء.

وقوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ}.

قيل: اختار الكفر بالإيمان.

وقيل: ومن يختر شدة الآخرة على رخائها وسعتها.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " ومن يشتر الكفر بالإيمان " وذلك كله واحد.

وقوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.

قيل: عدل عن الطريق.

وقيل: عدل عن قصد الطريق.

وقيل: أَخطأَ قصد طريق الهدى، وكله واحد.

١٠٩

وقوله: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا (١٠٩)

إنهم كانوا يجهدون كل جهدهم حتى يصرفوا ويردوا أَصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن دين اللّه - الإسلام - إلى ما هم عليه؛ كقوله تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}، وكقوله: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}، وكقوله: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ. . .} الآية.

وذلك -واللّه أعلم- لخوفِ فوت رياستهم التي كانت لهم، وذهاب منافعهم التي ينالون من الأَتباع والسفلة، فودوا ردَّهم وصرفهم إلى دينهم.

ثم احتجت المعتزلة علينا بظاهر قوله تعالى: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}، قالوا: دلت الآية على أَن الحسد ليس من عند اللّه بما نفاه - عَزَّ وَجَلَّ - عنه، وأَضافه إلى أَنفسهم العلة في الذي لا يكون مخلوقًا، أنه ليس هو من عنده لوجب القول بخلقه ما هو من عنده، ثم لم يقولوا به؛ فَبان أَن ما يقولون فاسد، باطل، ليس بشيء.

ثم جهة الحسد ما ذكرنا أنهم أحبوا أن تكون الرسالةُ فيهم، أَو أن يكون من عنده سعَةْ؛ كقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ}، وكقوله: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}؛ فبهذين الوجهين يخرج حسدهم.

قوله: {مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم}.

أي: من قِبَلِها، لا أَن اللّه - تعالى - أمرهم. وليس يضاف إلى اللّه - تعالى - بأَنه من عنده بما يخلق، ولكن بما يأمر أو يلزم.

أَلَا تَرى أَن الأنجاس كلها، والخبائث، والشياطين، كلهم مخلوقة وإن لم يجز نسبتها إلى اللّه - تعالى - بمعنى أنه مِن عنده؟ كذلك ما ذكر من الحسد.

على أَنه معلوم أَنهم لم يكونوا يدعون مِنْ دون اللّه خَلْقًا فبذلك الوجه ينكر عليهم، بل كانوا يدعون الأَمر في كل ما نُسب إلى اللّه تعالى؛ فعلى ذلك ورد العقاب، واللّه أعلم.

وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}.

أي: بين لهم في التوراة أن محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نبي، وإن دينه الإسلام؛ كقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}.

وقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ}.

يحتمل: النهي عن مكافأة ما يؤذونه في الدنيا، ثم لم ينسخ.

وقيل: فيه نهي عن قتالهم، حتى يأْتى أَمر اللّه في ذلك، ثم جاءَ بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه. . .} الآية.

وقيل: حتى يأتي اللّه بأمره، أي: بعذابه، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

من التعذيب والانتقام، وبكل شيء. ولم ينسخ هذا.

١١٠

وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (١١٠)

كرر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - الأَمر بإقامة الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، في القرآن تكرارًا كثيرًا، حتى كانت لا تخلو سورة إلا وذكرهما فيها -في غير موضع- وذلك لعظم شأنهما، وأمرهما، وعلو منزلتهما عند اللّه، وفضل قدرهما.

ثم كانت الصلاة تجمع استعمال جميع الجوارح فيما للّه فيها القيام بها - شكرًا له، مع ما فيها توقف أَحوال نفسه بالاختيار بما هي عليه بالاضطراب والخلقة والقلب بالنية، والخوف والرجاء، وإحضار الذهن والعقل بالتعظيم والتبجيل؛ فيكون كل شيء منه في شكره؛ لما له فيه من سبوغ النعمة، واللّه أعلم.

وكذلك بالأموال فضلوا -في هذه الدنيا- واستمتعوا بلذيذ العيش؛ فأمروا بالإخراج للّه، مع ما إذ سخرت هذه الأَرض -بما فيها- لجميع البشر، ألزم من ذلك صلةَ من لم يملك، ليستووا في الاستمتاع بالتسخير لهم، من الوجه الذي عَلِم اللّه لهم في ذلك صلاح الدارين، ولا قوة إلا باللّه.

وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه}.

الآية تخرج على خلاف قول المعتزلة؛ لأَنهم يقولون: إن من ارتكب كبيرة ثم أَقام الصلاة وآتى الزكاة، وجاهد في سبيل اللّه، وحج بيت اللّه الحرام، فقدم خيرات كثيرةً - فإنه لا يجد مما قدم شيئًا، ولكن يجد ما قدم من شر.

وذلك ليس من فعل الكريم والجواد، ولا كذلك وصف اللّه نفسه، بل وصف نفسه على خلاف ما وَصفوا هم، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ}.

وهم يقولون: لا يتقبل عنهم ما قدموا من الخيرات، ولا يتجاوز عن سيئاتهم، وذلك سرف في القول؛ فنعوذ باللّه من السرف في القول، والحكم على اللّه، وباللّه العصمة والتوفيق.

وقوله: {إِنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

بما قدمتم من الخير والشر؛ تنبيه منه عَزَّ وَجَلَّ ليكونوا على حَذرٍ من الشر، وترغيب منه لهم بالخيرات. واللّه أعلم.

* * *

١١١

وقوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١)

يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: أَن قالوا ذلك جميعًا؛ لما أَرادوا أَن يُروا الناس الموافقة فيما بينهم؛ ليرغبوا في دينهم، وينفروا عن دين الإسلام، وإن كانوا هم -في الباطن- على الخلاف والعداوة.

ويحتمل: أن يكون ذلك القولُ من كل فريق في نفسه، لا عن كل الفريقين جميعًا على المو افقة.

دليله: قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} دلت الآية أن ذلك القولَ لم يكن من الفريقين جميعًا على الموافقة، ولكن كان من كل في نفسه على غير موافقة منهم ولا مساعدة، واللّه أعلم.

ثم في الآية دليلٌ، لزم الدليل على النافي؛ لأَنهم نفوا دخول غيرهم الجنة بقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} فطولبوا بالبرهان بقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنه لا يدخل فيها سواكم.

فَإِنْ قِيلَ: إنهم إذا نفوا دخول غيرهم فيها ادعوا لأنفسهم الدخول، فإنما طولبوا بالبرهان على ما ادعوا، ليس على ما نَفَوا.

قيل: لا يحتمل ذا؛ لأَنهم لم يذكروا دخول أنفسهم تصريحًا، إنما نفوا دخول غيرهم وهو كمن يقول: لا يدخل هذه الدار إلا فلان وفلان، ليس فيه أن فلانًا وفلانًا يدخلان ولكن فيه نفي دخول غيرهما.

أَو نقول: نَفَوْا دخول غيرهم تصريحًا، وادعوا لأَنفسهم الدخول مستدلا، وإنما يطلب الحجة على مُصَرح قولهم، لا على مستدلهم.

أَلا ترى أَن الجواب من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالإكذاب والرد عليهم خرج على ما نفوا

١١٢

دخول غيرهم، وهو قوله: (بَلَى (١١٢)

- يدخل الجنة - {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ}.

ألا ترى إلى ما رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا نكاح إلا بشهود " ليس فيه إثبات النكاح إذا كان ثم شهود؛ ولكن فيه نفى النكاح بغير شهود تصريحًا.

ألا ترى أَن من قال: لا نكاح إلا بشهود، لا يسأل أن: لِم قلت: إن النكاح يجوز بالشهود؟ ولكن يسأَل أنْ: لِمَ قلت: إنه لا يجوز بغير شهود؟ فعلى ذلك قوله: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} ليس فيه إثبات الدخول لهم تصريحًا، وفيه نفي دخول غيرهم تصريحًا، واللّه أعلم.

وقوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ}.

قد قلنا إنه خرج مخرج الرد عليهم، والإنكار لحكمهم على اللّه؛ فقال: بل يدخلها من أسلم وجهه للّه وهو محسن.

ثم اختلف في قوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه}.

قيل: أخلص دينه للّه وعمله.

وقيل: أَسلم نفسه للّه.

وقد يجوز أن يذكر الوجه على إرادة الذات، كقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: إلا هو.

وقيل: أَسلم، أي: وجه أمره إلى دينه فأخلص. وبعضُه قريب من بعض.

أَسلم نفسه للّه أَي بالعبودية؛ كقوله: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ}.

وذلك معنى الإسلام: أن تُخْلص نفسك للّه، لا تجعل لأحد شركًا من عبودة، ولا من عبادة.

وقوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

قد ذكرنا متضمنها فيما تقدم.

١١٣

وقوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ (١١٣)

فَإِنْ قِيلَ: كيف عاتبهم بهذا القول، وقد أَمر نبيه - عليه السلام - في آية أُخرى أَن يقول لهم ذلك: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ}؟.

قيل: إنما أَمر نبيه: أَن يقول لهم: إنهم ليسوا على شيء إذا لم يقيموا التوراة، فأما إذا الظالمون علوًّا كبيرًا.

* * *

١١٤

وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ}.

يقول: لا أَحد أَظلم لنفسه، ولا أوضع لها.

وقوله: {مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.

اختلف فيه:

قيل: مساجد اللّه: الأَرض كلها؛ لأَن الأَرض كلها مساجد اللّه؛ كقوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " جُعِلَت لي الأَرض مسجدًا وطَهورًا " منع أَهلُ الكفر أَهلَ الإسلام أَن يذكروا فيها اسم اللّه، وأَن يُظهروا فيها دينه.

وقوله: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}.

وهو كقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}.

ويخرج قوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ}.

أي: لا يدخلون البلدان والأَمصار إلا بالخوف، أَو بالعهد؛ كقوله: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}، وهو العهد.

ويحتمل قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ}: ما كان ينبغي لهم -بما عليهم من حق اللّه، وتعظيمه- أَن يدخلوا المساجد إلا خائفين وجلين؛ لما كانت هي بقاع اتخذت لعبادة اللّه، ونسبت إليه تعظيمًا لها؛ فدخلوا مخرِّبين لها، مانعين أَهلها من عبادة اللّه فيها.

وقيل: مساجد اللّه: المسجد الحرام.

وذلك أَنهم حالوا بينها وبين دخول مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَصحابه فيها، حتى رجعوا من عامهم ذلك. ثم فتح اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - مكة لهم، فصار لا يدخلها مشرك إلا خائفًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:

{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}.

وقيل: أراد بمساجد اللّه: بيت المقدس؛ قيل: إن النصارى استعانوا ببُختنصر وهو رئيس المجوس، حتى خربوا المساجد، وقتلوا من فيها من أَهل الإسلام، ثم بنى أَهل الإسلام -بعد ذلك بزمان- مساجد، فكان لا يدخل نصراني فيها إلا خائفا، مستخفيًا. واللّه أعلم.

وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}.

قيل: الخزى: الجزية. ويحتمل القتال، {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

١١٥

وقوله: (وَللّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه (١١٥)

قيل: إن رهطًا من أَصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - انطلقوا سَفْرًا، وذلك قبل أن تُصرف القبلة إلى الكعبة، فحضر وقت الصلاة، فاشتبه عليهم، فتحرَّوْا، فمنهم من صلى إلى المشرق، ومنهم من صلى إلى المغرب؛ صلوا إلى جهات مختلفة، فلما بَانَ لهم ذلك قدموا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسأَلوا عن ذلك؛ فنزلت الآية فيهم (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ وأَما أمر القبلة فإنما بني على الاجتهاد والقصد، دون إصابة عينها. واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّ اللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ عَلِيمٌ}.

قيل: الواسع: الغني.

وقيل: الواسع: الجواد، حيث جاد عليهم بقبول ما ابتغوا به وجه اللّه، وحيث وسع عليهم أَمر القبلة.

{عَلِيمٌ} بما قصدوا ونَوَوْا.

* * *

١١٦

وقوله {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا سُبْحَانَهُ}.

فيه تنزيه، نزه به نفسه عما قالوا فيه بما لا يليق، ورد عليهم.

ومعناه - واللّه أعلم -: أَنَّ اتخاذ الولد، والتبني -في الشاهد- إنما يكون لأَحد وجوه ثلاثة تحوجه إلى ذلك:

إما لشهوات تغلبه؛ فيقضيها به.

وإما لوحشة تأْخذه؛ فيحتاج إلى من يستأْنس به.

أَو لدفع عدو يقهره؛ فيحتاج إلى من يستنصر به ويستغيث.

فإذا كان اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - يتعالى عن أَن تمسه حاجة، أَو تأْخذه وحشة، أَو يقهره عدو، فلأَي شيء يتخذ ولدًا؟!.

وقوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.

رد على ما قالوا: بأن من ملك السماوات وما فيها، وملك الأَرض وما فيها - لا تمسه حاجة، ولا يقهره عدو؛ إذ كل ذلك ملك له، يجري فيهم تقديره، ويمضي عليهم أَمره وتدبيره، وإنما يرغب إلى مثله إذا اعترض له شيء مما ذكرنا، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرًا.

فإن عورض بالخلة، قيل: إِن الخلة تقع على غير جوهرِ مَنْ منه الخلة، والولدُ لا

١١٧

وقوله: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (١١٧)

ابتدعهما ولم يكونا شيئًا.

والبديع والمبدع واحد؛ وهو الذي لم يسبقه أحدٌ في إنشاءِ مثله؛ ولذلك سمى صاحب الهوى: مبتدعًا؛ لما لم يسبقه في مثل فعله أحد.

ثم فيه الحجةُ على هَؤُلَاءِ الذين قالوا: اتخذ اللّه ولدًا، يقول: إن من قدر على خلق السماوات والأَرض من غير شيء، ولا سبب، كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟!

والثاني: أن يقال: إِن من له القدرةُ على خلق ما يصعب، ويعظم في أعينكم، بأقل الأَحرف عندكم - كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أَب؟!

وقوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ}.

قيل: وإذا حكم حكمًا: فإنما يقول له: كن فيكون.

وقيل: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا}؛ يعني قضى بإهلاك قوم واستئصالهم {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

ثم قوله: {كُنْ فَيَكُونُ}.

ليس هو قول من اللّه: أَنْ كُنْ -بالكاف والنون- ولكنه عبارة بأَوجز كلام، يؤدي المعنى التام المفهوم؛ إذ ليس في لغة العرب كلام التحقيق بحرفين يؤدي المعنى المفهوم أَوجز من هذا، وما سوى هذا فهو من الصلات، والأَدوات، فلا يفهم معناها، واللّه أعلم.

ثم الآية ترد على من يقول: بأَن خلق الشيء هو ذلك الشيء نفسه؛ لأَنه قال: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} ذكر " قَضى " وذكر " أَمْرًا "، وذكر " كُنْ فَيَكُونُ ". ولو كان التكوين والمكون واحدًا لم يحتج إلى ذكر كن في موضع العبارة عن التكوين فالـ " كن " تكوينه، فيكون المكون؛ فيدل أنه غيره.

ثم لا يخلو التكوين: إما أن لم يكن فحدث، أو كان في الأَزل.

فإن لم يكن فحدث، فإِما أَن يحدث بنفسه -ولو جاز ذلك في شيء لجاز في كل شيء- أَو بإِحداث آخَر، فيكون إحداث بإحداث، إِلى ما لا نهاية له. وذلك فاسد، ثبت أَن الإحداث والتكوين ليس بحادث، وأَن اللّه تعالى موصوف في الأَزل أَنه محدث، مكون؛ ليكون كل شيء في الوقت الذي أراد كونه فيه، وباللّه التوفيق.

١١٨

وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللّه أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ (١١٨)

قيل فيه بوجوه:

قيل: الَّذِينَ لا يعلمون، يعلمون في الحقيقة، ولكن سماهم بذلك؛ لما لم ينتفعوا بعلمهم.

وقيل: لا يعلمون توحيد ربهم؛ وهم مشركو العرب. قالوا للنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: هلا يكلمنا اللّه، أو تأْتينا آية فتُخبرنا بأَنك رسوله.

وقيل: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللّه}، أَي: لا يعلمون أَنهم لم يبلغوا المبلغ الذي يتمنون تكليم اللّه إياهم.

وقيل: {لَا يَعْلَمُونَ} أنه قد كلمهم وأَخبرهم بالوحي، وإِيتاء رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آياتٍ على رسالته، لكنهم يعاندون.

وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}.

قيل: الذين من قبلهم: بنو إسرائيل؛ قالوا لموسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ما قال مشركو العرب لمحمد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو قوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}.

وقيل: اليهود سألوا مثل سؤال النصارى.

وقيل: النصارى سألوا مثل سؤال اليهود، واللّه أعلم.

وقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}.

بالكفر والسفه.

وقيل: تشابهت قلوبهم في المقالة؛ يشبه بعضُها بعضًا في السؤال؛ لأَنهم سأَلوا سؤال تعنت، لا سؤال مسترشد.

وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.

يحتمل وجهين:

أَحدهما: هذا القول.

والثاني: أَن يسأَلوا سؤال التعنت والعتو، لا سؤال مسترشد؛ إذ اللّه - تعالى - قد أَثبت آيات الإرشاد لمن يبتغي الرشد، ولا قوة إلا باللّه.

وقوله: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

قيل: بينا أَمر مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالآيات، والحجج التي أَقامها: أَنه رسول لمن آمن به، وصدقه، ولم يعانده.

١١٩

وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}.

قيل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} يا مُحَمَّد؛ لتدعوَهم إلى الحق، وهو التوحيد.

وقيل: بالحق: بالقرآن.

وقيل: بالحق: بالحجج والآيات.

قوله تعالى: {بَشِيرًا} لمن أَطاعه بالجنة، {وَنَذِيرًا} لمن عصاه وخالف أمره بالنار.

وقيل: بالحق الذي للّه على الخلق، والحق الذي لبعضٍ على بعض؛ لتدعوهم إليه وتدلهم عليه.

وقوله: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}.

وجائز أن يكون بمعنى: لَا تَسْأَلْ بعد هذا عنهم. ولم يُذكر أَنه سئل عنهم بعده؛ فيكون ذلك آية له بما هو خبر عن علم الغيب.

قيل: إن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليت شعري! ما فعل أَبواي؟ " فأَنزل اللّه - تعالى -

هذه الآية.

وفيها لغتان: " لا تَسأل " بنصب التاءِ وهو ما ذكرنا.

ويحتمل وجهًا آخر: أَي لا تشتغل بأَصحاب الجحيم؛ فإن ذلك تكلف منك وشُغل.

وفيها لغةٌ أُخرى برفع التاءِ: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}، أَي: لا تُسأَل أنت يا مُحَمَّد عن ذنوب أَصحاب الجحيم؛ وهو كقوله: {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وكقوله: {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}، وكقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ونحوه.

١٢٠

وقوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (١٢٠)

اختلف في الملة:

قيل الملة: السنة؛ كقوله: " بسم اللّه، وعلى ملة رسول اللّه "، وكقوله {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}.

وقيل الملة: الدِّين، كقوله عليه السلام: " لا يتوارث أهل الملتين ".

وقيل: الملة هاهنا: القبلة، وهو كقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}.

آيس - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن اتباع أُولئك دينه وقبلته؛ لأنهم يختارون الدِّين، والقبلة؛ بهوى أَنفسهم، لا بطلب الحق، وظهوره، ولزوم الحجة.

وذلك: أَن النصارى إنما اختاروا قبلتهم المشرق؛ لأَن مكان الجبل الذي كان فيه والبيانُ لأَصحابِه، ومن دخل في دينه وصدقه، لا هو. وذلك كثير في القرآن؛ يخاطَبُ هو والمراد غيره.

وقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}.

ظاهره: من ولي يتولى الدفاع عنك، ولا نصير يمنعك من العذاب.

ويحتمل: ينصرك فتغلب به سلطان اللّه فيما يريد تعذيبك.

١٢١

وقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ (١٢١)

قيل: الكتابُ: أراد به التوراةَ أَو الإنجيلَ.

وقيل: أَراد به القرآن.

ومن حمله على التوراةِ والإنجيل قال: فيه إِضمار واو كأَنه قال: الذين آتيناهم الكتاب، ويتلونه حق تلاوته، أُولئك يؤمنون به، أي: إِذا تَلَوْا حق التلاوة؛ فحينئذ يؤمنون به.

وقيل: يتلونه حق تلاوته، يعني يعملون به حق عمله، ولا يكتمون نعته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا يحرفونه.

{أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}. وهم الذين أَسلموا منهم.

وقيل: يتبعونه حق اتباعه. وهو واحد.

ومن حمله على القرآن، فالذين يتلونه حق تلاوته أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

* * *

١٢٤

وقوله: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (١٢٤)

قيل: الابتلاء والامتحان في الشاهد: استفادة علم خَفِيَ عليه من الممتحن والمبتلى به، ليقع عنه علم ماكان ملتبسًا عليه.

وفي الغائب لا يحتمل ذلك؛ إِذ اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عالم في الأَزل بما كان، وبما يكون في أَوقاته أبدًا.

ثم يرجع الابتلاء منه إلى وجوه:

أَحدها: أَن يخرج مخرج الأَمر بالشيء أَو النهي عنه، لكن الذي ذكر يظهر بالأمر والنهي؛ فسمى ابتلاء من اللّه تعالى.

والثاني: ليكون ما قد علم اللّه أَنه يوجد موجودًا، وليكون ما قد علم أنه سيكون كائنًا.

وعلى هذا يخرج قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ}، حتى نعلمه موجودًا، كما علم أَنه يوجد؛ كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، علم الغيبَ، علم أنه مُوجَد. وَعلم الشهادةَ، عَلِم به موجودًا، حتى يوجد الذي علم أَنه يجاهد منهم - مجاهدًا، والذي، يصبر منهم صابرًا.

ثم اختلف في الكلمات التي ابتلاه بها:

فقَالَ بَعْضُهُمْ: الكلمات: هي التي ذكرت في سورة الأَنعام، وهو قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا}، ورأَي القمر بازغًا، ورأَي الشمس بازغة، هي الحجج التي أَقامها على قومه بقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}.

وقيل: ابتلاه بعشر ففعلهن: خمسةً في الرأْس، وخمسة في الجسد.

لكن في هذا ليس كبيرُ حكمةٍ؛ إِذ يفعل هذا كل واحد، ولكن الحكمة فيه هي: ما قيل: إن ابتلاءه بالنار، حيث أُلْقي فيها، فصبر، حتى قال له جبريل: " أَتستعين بي؟ قال: أَمَّا منْك فلا ".

وقال الحسن: لا ينال الظالم في الآخرة العهدَ.

ويحتمل: أَن يكون المراد من ذلك: وذريتي، فأخبر أَن فيهم من لا يصلح لذلك.

ويحتمل: أَن يريد به الإمامَة لَا النبوة، وقد كانت هي في نسل كل الفرق، والنبوةُ كانت فيهم.

ويحتمل: أَن يكون قصدَ خصوصًا من ذريته، ممن علم اللّه أَن فيهم من لا يصلح لذلك.

ولا يحتمل: أن يريد به الإمامَة لا النبوة وقد ذكر، أَو قال الإنسان: قيل له: إِنه من ذريتك لكن لا ينال من ذكر؛ ولهذا خص بالدعاءِ من آمن منهم دون من كفر.

١٢٥

وقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا (١٢٥)

قيل: المثابة المجمع.

وقيل: المثابة: المرجع، يثوبون: يرجعون.

وقيل: يحجون.

وقوله: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}.

هو فعل العباد؛ لأَنهم يأمنون ويثوبون.

أَخبر أَنه جعل ذلك؛ ففيه دلالة خلق أَفعال العباد.

والعاكفُ: المقيمُ.

{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} منهما جميعًا.

وقيل: العاكفون: المجاورون؛ يعني: من أهل مكة والقادمين إليها.

١٢٦

وقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا (١٢٦)

قد ذكرنا الوجه في قوله: {آمِنًا}.

وقوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.

لما علم أَن المكان ليس بمكان ثمرٍ ولا عُشب دَعَا، وسأَل ربه: أن يرزق أَهله عَطفًا على أَهله، وعلى كل من ينتاب إليه من الآفاق.

ثم خص المؤمنين بذلك؛ لوجوه:

أَحدها: أَنه لما أَمرهما بتطهير البيت عن الأَصنام والأَوثان ظن أَنه لا يجعل لسوى أَهل الإيمان هنالك مقامًا؛ فخص لهم بالدعاءِ، وسؤال الرزق.

والثاني: أَنه أَراد أَن يجعل آية من آيات اللّه؛ ليرغب الكفار إلى دين اللّه، فيصيروا أُمة واحدة؛ فكان كقوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ. . .}.

ووجه آخر قيل: لما كان قيل له: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فلعله خشي أَن يخرج ذلك مخرج المعونة لهم على ما فيه العصيان.

وفي ذلك: أن لا بأْس ببيع الطعام من الكفرة. ولا يصير ذلك كالمعونة على ما هم عليه.

ويحتمل الدعاءُ المبهم للكفرة: القبحَ؛ إذ ذلك اسم من يعبد غير اللّه.

وقوله: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا}.

بالنعم؛ لأن الدنيا دار محنة، لا توجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق، ولا إلى الولي من العدو في الدنيا.

وأما الآخرةُ فهي دار جزاء، ليست بدار محنة؛ فيوجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق.

ومعنى قوله: {قَلِيلًا} لأن الدنيا كلها قليل.

ثم الامتحان على وجهين: امتحانٌ بالنعم، وامتحان بالشدائد.

وقد قرئ: " فأمْتِعْه " على معنى دعاءِ إِبراهيم - عليه السلام - " ومن كفر فأمتِعْه " بالجزم.

فَإِنْ قِيلَ: لم لا كان تفاضل الامتحان بتفاضل النعم.

وإنما يعقل فضل الامتحان بفضل العقل، ويعلم أَن المؤمن هو المفضَّل بالعقل.

كيف لا وقع فضل ما به يمتحن -وهو النعم- لأَن العقل الذي به يدرك الحق واحد، لا تفاضل فيه لأَحد.

ثم العقل الذي به يمتحن واحد؛ فهما متساويان -فيما به دَرْكُ الحق- إلا أَن أحدهما يدركه فيتبعه، والآخر يدركه فيعانده. فهو -من حيث معرفته- ذو عقل، أعرض عنه؛ فيسمى معاندًا، إذ من لا عقل له يُسمى مجنونًا.

وقوله: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ}.

ذكر الاضطرار، وهو كقوله: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} وهو السوق، وكقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجرِمينَ}، إِنهم يساقون إليها، ويُدَعون، لا أنهم يأتونها طوعًا واختيارًا.

وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

أي: بئس ما صاروا إليه.

١٢٧

وقوله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا (١٢٧)

أُمِرَا برفع البيت وببنائه؛ فَفَعلا، ثم سألا ربهما: أَن يتقبل منهما. فهكذا الواجب على كل مأْمور بعبادةٍ، أَو قُربة -إذا فرغ منها، وأَداها- أَن يتضرع إلى اللّه، ويبتهل؛ ليقبل منه، وأَلا يرد عليه؛ ليضيع سعيه.

وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} لدعائهم. {الْعَلِيمُ} بما نَوَوْا وأَضمروا.

١٢٨

وقوله: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ (١٢٨)

والإسلام قد ذكرنا فيما تقدم أَنه يتوجه إلى وجوه:

أحدها؛ هو الخضوع له والتذلل.

والثاني: هوِ الإخلاص.

ثم اخْتَلَفَ أهل الكلام في الإسلام:

فقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنه يتجدد في كل وقت؛ لذلك سألوا ذلك، وهو كقوله -

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، معناه: آمنوا باللَّه في حادث الوقت؛ لأَنه تارك فعل الكفر في كل وقت؛ فبترك الكفر يتجدد له الإيمان.

وعلى ذلك: يخرج تأويلنا في الزيادة بقولهم: زادتهم إيمانا يتجدد له، ويزداد في حادث الوقت.

وقال آخرون: كان سؤالهم الإسلام سؤال الثبات عليه والدوام.

وقد ذكرنا أَن العصمة لا ترفع خوف الزوال.

ومثل هذا: الدعاء والسؤال -على قول المعتزلة- يكون عبثًا؛ لأَنه لا يملك إِعطاءَ ما سألوا عندهم، بل هم الذين يملكون ذلك، فيَخرج السؤال في هذا -عندهم- مخرج اللعب والعبث، فنعوذ باللَّه من السرف في القول والزيغ عن الهدى.

ثم الإيمان: هو التصديق والتصديق بالقلب يتجدد في كل وقت، فلا وقت يخلو القلب عنه في حال سكون، أَو حال حركةٍ، واللَّه أعلم.

وقوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ).

يحتمل: أن الأُمةَ المسلمة هي أُمةُ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك: أنه لم يكن من أَولاد إِسماعيل رسول سوى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسألا: أن يجعل من ذريتهما رسولًا، وأُمة مسلمة، خالصة له.

وإنما الرسل كانوا من أَولاد إِسحاق ومن نسله، واللَّه أَعلم.

وقوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا).

وقيل في قوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا): يريد الإراءَة إلى يوم القيامة، يدل عليه قراءَة عبد اللَّه: " وأَرهم مناسكهم "، وفي قراءَة غيره على ضم الرؤية إلى نفسه.

والمنسكُ: هو القربة. وأَفعالُ الحج سميت مناسكًا.

ثم لا يحتمل: أن يسألا ذلك، من غير أَمر سبق منه - عَزَّ وَجَلَّ - بذلك؛ لأَنه ليس من الحكمة سؤال: إِيجاب فضل عبادة، أَو قربة بغير أَمر؛ فدل أَنه قد سبق منه بذلك أمر، لكنه لم يبين لهما، فسألا: تعليم ماهيتها وكيفيتها، فعلمهما جبريل ذلك.

ففيه: دلالة تأخير البيان عن وقت قرع السمع الخطاب؛ أَلا ترى أَنه أَمر بالنداء للحج ولم يعلم.

والثاني: أَن آدم والملائكة قد كانوا حجوا هذا البيت قبل إبراهيم - عليه السلام - فدل

أَن الأَمر به قد سبق.

والثالث: قوله -في نفس الحج-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).

ثم لا يحتمل: لزوم الكلفة بالخروج قبل وجوب الحج؛ لما لم يأْمر بفعل ما له إيجاب الحقوق والفرائض.

لكنها أوجبت شكرًا لما أَنعم عليه؛ فدل أَن الحج كان واجبًا قبل الخروج، وقد تأَخر الإمكان؛ فمثله البيان، واللَّه أعلم.

واحتج بقوله: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ)

أَن ظاهره يوجب خضوعًا، لزم به ما أَداه السمع على تأَخر ما بينه، وكذلك الزكاةُ، وكذا ظاهرُ قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ).

واحتج أَيضًا بقول القائل وسؤاله رسولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن أَوقات الصلاة ففعله في يومين، وقد كان يمكنه تعليمه وقت السؤال، لكنه أَخر؛ فدل أن البيان يجوز تأَخره عن وقت قرع الخطابِ السمعَ.

ثم في تأْخير البيان محنة المخاطب به، أَمر في تعلم العلم وطلب مراد ما تضمن الخطاب، واللَّه أعلم.

وذكر في أَمر الحج -عند كل نسك من المناسك- معاني لها، لكنها ذكرت لأَحوالٍ كانت في شأْن آدم وأَمر إبراهيم، وأَمر مُحَمَّد - عليهم الصلاة والسلام - وقد كان الحج قبلهم.

وقد ذكر في أَمر الرَّمَل أَنه كان من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومن معه؛ ليُعلِم به قوتهم؛ حتى

قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " علام أَهز كتفي، وليس أَحد إِزاءَه؟! لكني أَتبع رسول اللَّه، عليه السلام " أَو كما قال، رحمه اللَّه.

وقد ذكر ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام: أَنه رمل، ولم يكن في وقته من كان الفعلُ لأجله، وكذلك غيرُه من الأَنبياء، صلى اللَّه عليهم وسلم.

إلا أَنا نقول: جعل اللَّه كذلك؛ لعلمه بالحاجة إلى ذلك في وقت قد جعل ذلك نسكًا، فحفظ ذلك على حق النسك، وإن لم يكن المعنى مقارنًا له في كل وقت، على ما قيل: " إِن صلة الرحم تزيد في العمر " -بمعنى جعل اللَّه أَجله ذلك بما علم أَنه يصل الرحم- فيكون صرف العمر إلى تلك المدة لذلك.

وكما يكتب شقيًّا أَو سعيدًا في الأَزل للوقت الذي فيه يكون كذلك، ونحو ذلك، والله الموفق.

ثم الأَصل: أَن اللَّه - جل ثناؤه - جعل على عباده في كل الأنواع التي يتقلب فيها

البشر للمعاش، أَو لأَنواع اللذات؛ لتكون العبادة منهم في كل نوع مقابل ما يختار صاحب ذلك شكرًا لما مكن من مثله، لما يتلذذ به ويتعيش؛ إِذ كل لذة، وكل ما يتعيش به نعمة خصَّ اللَّه بها صاحبها، بلا تقدُّم سبب يستوجبها العبد؛ فلزمه -في الحكمة- الشكر لمن أَسدى إليه تلك النعمة.

وعلى ذلك: نجد التقلب -من حال القيام، إلى حال القعود، والاضطجاع- أَمرًا عاما في البشر، من أَنواع اللذات، فمثله يكون العبادة بذلك النوع عامة، نحو الصلوات.

وعلى ذلك: معنى الرق، والعبودةُ لازم لا يفارق، فمثله الاعتراف به، والاعتقاد دائم لا محالة لا يخلو منه وقت.

وعلى ذلك: أَمر إِعطاءِ النفس شهواتها، من المطاعم ونحو ذلك؛ لا يعم الأَوقات عموم التقلب من حال إلى حال؛ إذ لا يخلو عنها المرءُ وإن كانت مختلفة. فجعلت عبادة الصيام في خاص الأَوقات.

ثم لم يمتد ما بين الأَوقات امتدادًا متراخيًا، فعلى ذلك: جعل العفو عن الصيام، لم يجعل كذلك، بل في سنة، مع ما قد يدخل الصيام في كثير من الأُمور.

ثم للناس في الأَموال معاش، وبها تلذذ:

لكن منها قوت لا بد منه؛ فالارتفاق بمثله لازم، لا يحتمل جعل القربة فيه، سوى أَن جعل ذلك لعينه قربة؛ إذ فرض على المرء الاستمتاع به.

ومنها فضْل، به جعلت قرب التصدق؛ لأَنه له بحق التلذذ، لا بحق ما لا بد منه.

وكذلك نوع تقلب الأَحوال في النفس التي هي بحق الضرورة، لم يجعل لمثل ذلك فضل قربة يؤديها سوى ما به حياته. وذلك يجعل بحكم الفرض عليه ولا ندبه.

وكذلك أَمر الصيام: لم يجعل عما لا بد منه للقوة، ولكن فضل قوة في الاحتمال.

لكن الزكاة هي من حقوق ما يجوز أَن يكون هي لغير من عليه، ففرض عليه البذل إلى غيره. وحقوق الأَفعال لا تحتمل أن يصير السبب الذي له به يجب أَن يكون لغيره فيجب عليه؛ فجعل فرض ذلك الفعل في نفسه. وهي تجب للأَحوال لوجهين:

أَحدهما: أَن فيها حقوقًا شائعة، على نحو النفقات، فأخرت هي إلى الحول؛ تخفيفًا، أَو لما هي تجب فيما له حكم الفضل.

والفضل: ما يفضل عن الحاجة. والحاجات تتجدد في أَوقات -لا أَنها تتتابعُ- لا يظهر في مثله الفضل إِلا بمدةٍ بينةٍ أكثرها حول.

ثم فَرضُ الحج جُعِل في العمر مرة؛ لأنه في حق الأَسفار المديدة، التي لا يختار مثلها للذات إلا في النوادر، فلم يوجَب مثلُه إلا خاصًّا؛ فأوجب في جميع العمر مرة.

وقد أَوجب في الأَموال في كل سنة؛ لأن أَرباب الأَموال قد يتقلبون في البلاد النائية رغبة في فضول اللذات؛ فلذلك يجوز فرض مثل ذلك.

وعلى ذلك أَمر الجهاد -على أن الجهاد كالذي لا بد من الأَقوات- إِذ في ترك ذلك خوف غلبة الأَعداء، وفيها تلف الأَبدان والأَديان، والأَموال، ففرض على قدر ما فرض من الأَقوات؛ لما بينت من الخلل، ثم كانت أَحوال أَهل السفر تكون على غير المعروف من أَحوال المقيمين - في حق الرَّزانة والوقار، وحق الانبساط والنشاط - فعلى ذلك: فرائض الأَمرين - نحو الجهاد- فيه أَنواع: ما عُد في غيره من اللعب، وكذلك أَمر الحج. وعلى مثل هذا يخرج رمي الجمار والرمَل والسعي ونحو ذلك.

فجعل ذلك في حق الأَسفار سُنَّة، وإن كان مثل ذلك عُدَّ في غير ذلك عبثًا؛ إِذ قد بينا مخرج العبادات، على ما عليه أَحوال العباد بأَنفسهم، لولا العبادات، واللَّه أعلم.

ثم جعل ذلك في أَمكنة متباعدة الأَطراف؛ إِذ هو بحق أَمر الأَسفار يجب في المعهود؛ فجعل في النسك، بنفسه بالذي به يقطع الأَسفار، ولا قوة إلا باللَّه.

ووجه آخر: من المعتبرات: أَن العبادات جعلت أَنواعًا:

منها ما يبلغ القيام بحقها العامَ فصاعدًا، وهذه لم يجز أَن يجعل وقتها ينقص عن احتمال فعلها. ولا وقت من طريق الإشارة أجمع لمختلف الأَحوال بعد سقوط اعتبار العمر من السنة.

ثم لأَن فعل الحج قد يمتد ذلك، ويجاوز، لم يجعل ذلك وقتًا له، وإنما جعل العمر، لما كان لا وقت يشار إليه إلا وجميع ما فيه مما يحتمله العام الآخر، وما تقدمه وما تأَخره، ثم في العمر أَحوال، لا تحتمل إِضافتها إلى الأَعوام؛ لأَن ما يضاف إلى عام

فذلك لكل عام. وليس ما يضاف إلى العمر موجودًا بحق الأَعوام. فجعل ذلك وقته، واللَّه أعلم.

ثم الزكاة هي تجب للأَموال؛ صونا لها؛ لكسب عدد، وفضل غنى، ولكن على ذلك تكتب لأَحوال الحياة لا لما يخلف؛ فلم يمتد أَمرها إلى العمر؛ على أَنها جعلت حقا للفقراء. ومتى أُريد جعل الوقت له العمر يصير لغيره، ويجب فيه ما يجب في الأَول؛ فتبطل الزكاة ويبقى الفقراء بلا عيش؛ إذ اللَّه -بفضله- قدر أَقوات الخلق، ثم فضل الخلق في الأَملاك، حتى كان بعضهم بحيث لا يملك شيئًا، وبعضهم يجاوز ما ينالُ أَضعافَ عمره.

ثبت أَن ذلك له بما يقتضي به كفاية الفقراء؛ فلا بد أَن يجعل لذلك مدة يتوسع في ذلك الفريقان جميعًا.

ثم كانت الأَقوات -التي هي مجهولة للخلق جميعًا- تتجدد في كل عام على ذلك؛ إذ جعلت أَقوات الفقراء في أَموال الأَغنياء، جعلت في كل عام.

على أَنه إِذ جعلت أَقوات الخلق في بركات السماء والأَرض، جعلها اللَّه متجددة بتجدد الأَعوام، ولا قوة إلا بالله.

والصلاة والصيام عبادتان تلزم قوى الأَبدان، فعلى ما يختلف قواهما، اختلف في الأَمر بهما والترك، وفي أَنواع الرخص.

لكن الصلاة ليس فيها مكابدة الشهوات، ولا مدافعة اللذات؛ إِذ لا سبيل إلى مثلها متتابعًا لما يصير اللذة أَلما، والشهوة وجعًا؛ فيبطل حق التتابع، وقدر المفروض من الصلوات لا يشتغل عما يقوم بها النفس.

والصيام يضاد ذلك، ويضر في البدن.

فجعل عبادة الصلوات في كل يوم، وعبادة الصيام في أوقات متراخية؛ إذ هي تضاد معنى المجعول له الأغذية بين إِقامة الأَبدان، وفي الصيام خوف فنائها؛ لذلك استعين بطول الاغتذاء على أوقات الصيام، ولا قوة إلا باللَّه.

وإن شئت قلت: إن اللَّه أَنعم على البشر بما هو غذاء وقوام، وبما هو لذة وشهوة، ثم أَنعم عليهم بما هو لهم به رفعة وجاه عند الخلق -وهي الأَموال- فأَلزمهم في كل نوع من هذه الأنواع عباداتٍ.

وعلى ذلك: وقع كل نوع منها لفوت النعمة، التي هي المرغوبة المختارة في الطبيعة، وإلى ما يدوم تلك يدعو العقل ببذل ما ينقطع منه، ثم جعلت قوى النفس بشهواتها، ونعم الأَموال بأَنواع الكد والجهد.

فعلى ذلك: خفف حقوق الأَموال؛ فلم يجعل إلا في الفضل الذي لا اختيار لهم ألا يبلغوا بالجهد ذلك، ففي ذلك جعلت الحقوق على ما يحتمل الوسع لهم من الترتيب، مع اليسر الذي أَخبر اللَّه أَنه يريد بهم ذلك، لا العسر، واللَّه أعلم.

وقوله: (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

دل سؤال التوبة أَن الأَنبياء - عليهم السلام - قد يكون منهم الزلات والعثرات، على غير قصد منهم.

ثم فيه الدليل على أَن العبد قد يُسأَل عن زلة لم يتعمدها ولم يقصدها؛ لأنهم سأَلوا التوبة مجملًا. ولو كان سبق منهم شيء علموا به وعرفوه لذكروه؛ فدل سؤالهم التوبة مجملًا على أَن العبد مسئول عن زلات لم يتعمدها.

 

١٢٩

وقوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ (١٢٩)

يحتمل وجوهًا:

يحتمل {رَسُولًا مِنْهُمْ}: من المسلمين؛ لأَنه أَخبر أَن عهده لا يناله الظالم.

ويحتمل {رَسُولًا مِنْهُمْ}: من جنسهم، من البشر؛ لأنه أَقرب إلى المعرفة والصدق ممن كان من غير جنسهم، كقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا. . .} الآية.

ويحتمل {رَسُولًا مِنْهُمْ}: أي من قومهم، ومن جنسهم، وبلسانهم، لا من غيرهم، ولا بغير لسانهم - واللّه أعلم - كقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ}.

وقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ}.

قيل: الآيات هي الحجج.

وقيل: الآيات هي الدِّين.

ويحتمل: يدعوهم إلى توحيدك، واللّه أعلم.

وقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}.

يعني القرآن: ما أَمرهم به، ونهاهم عنه، ونحو ذلك.

وقوله: {وَالْحِكْمَةَ} أن فيه تكلف المعاش؛ ولهذا ما لا يقضي في كل مكان.

* * *

١٣٠

وقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}.

ثم اختلف في الملة؛ قيل: الملة: الدِّين.

وقكل: الملة السنة.

وقيل: الإسلام.

وكله واحد. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}.

بما يعمل من عمل السفه.

ويحتمل: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} أي بنفسه؛ فكان انتصابه لانتزاع حرف الخافض.

وقيل: جهل نفسه فيضعها في عير موضعها.

وقوله: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا}.

بالنبوة والرسالة والعصمة.

ويحتمل: ما جزاهم في الدنيا بثناء حسن لم ينقص من جزائهم في الآخرة.

وقوله: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}.

في المنزلة والثواب.

ويحتمل {لَمِنَ الصَّالِحِينَ}؛ لمن المرسلين.

ويحتمل: أَن يكون بشَّره في الدنيا: أَنه كان من الصالحين في الآخرة؛ فيكون -في ذلك- وعدٌ له بصلاح الخاتمة، كما وعد محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأَخر.

وفي ذلك أيضا: وعد بصلاح الخاتمة - واللّه أعلم - فأَخبر بما كان بشَّره. ويجوز: تفاضُلهم في الآخرة، على ما كانوا عليه.

١٣١

وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١)

قيل: أَخْلِصْ.

ويحتمل: أَن يكون أَمرًا بابتداءِ إِسلام، على ما ذكرنا من تجدده في كل وقت يهمد.

ثم يحتمل: أَن يكون وحيًا أوحى إِليه، أَن قل كذا، فقال به. فإِن كان وحيًا فهو على أَن يُسلم نفسه للّه.

ويحتمل: أَن يكون إِسلام القلب -بتغاضي الخلقة بالإسلام- فإن كان على هذا؛ فهو على الإسلام دون توحيده.

ويحتمل: أَن يكون إِسلام خِلقة؛ كقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، بالخلْقة.

وعلى ذلك يخرج قوله لإبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}؛ فدعاهم، فأجابوه في أَصلاب آبائهم إِجابة الخِلقة وقت كونهم.

وقيل: يحتمل: أَن يكون أَمر بابتداءِ الإسلام، كقوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا. . .}، إلى آخره. ثم قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا}، يكون جواب قوله: {أَسْلِمْ} واللّه أعلم.

١٣٢

وقوله: (وَوَصَّى (١٣٢)

يعني بالملة. والملةُ تحتمل ما ذكرنا.

وقوله: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّه اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.

وهو الإسلام؛ ردا على قول أُولَئِكَ الكفرة: إِن إبراهيم كان على دينهم؛ لأَن اليهود زعمت أَنه كان على دينهم يهوديا. وقالت النصارى: بل كان على النصرانية. وعلى ذلك قالوا لغيرهم: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}.

فلما ادَّعى كلُّ واحد من الفريقين: أَنه كان على دينهم، أَكذبهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في قولهم، ورد، عليهم في ذلك فقال: قل يا مُحَمَّد: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا}؛ فعلى ذلك قوله: {اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.

أَخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أَن دينه كان دينَ الإسلام، وهو الذي اصطفاه له، لا الدِّين الذي اختاروا هم من اليهودية والنصرانية؛ لقوله تعالى: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) فَللّه الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (٢٥)، أي ليس له.

* * *

١٣٣

وقوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا (١٣٣)

يقول: أَكنتم شهداءَ إِذ حضر يعقوب الموت؟! أَي: ما كنتم شهداءَ حين حضر يعقوب الموت.

قيل: ويحتمل: أَن اليهود قالوا للنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أَلست تعلم أَن يعقوب يوم مات أوصى بَنِيه بدين اليهودية؛ فأَنزل اللّه تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} أَي: أكنتم شهداءَ وصية يعقوب بنيه؟! أَي: لم تشهدوا وصيته، فكيف قلتم ذلك؟!

ثم أَخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن وصية يعقوبَ بنيه فقال:

{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ. . .} الآية.

وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.

يعني: مخلصين بالتوحيد، وبجميع الكتب والرسل، ليس كاليهود والنصارى يؤمنون ببعضٍ ويكفرون ببعضٍ، ثم يدعون: أَن ذلك دين إبراهيم، ودين بنيه.

ثم في الآية دلالة رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَلأَنه أَخبر عن الأَخبار التي قالوا، من غير نظر منه في كتبهم، ولا سماع منهم، ولا تعلم، دل: أَنه باللّه علم، وعنه أَخْبر.

١٣٤

وقوله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)

كان - واللّه أعلم - لما ادعَوْا أَن إِبراهيم ومن ذكر من الأنبياءِ كانوا على دينهم؛ فقال عند ذلك: لا تُسألون أَنتم عن دينهم وأَعمالهم، ولا هم يُسأَلون عن دينكم وأَعمالكم، بل كل يُسأل عن دينه وما يعمل به.

* * *

١٣٥

وقوله: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللّه وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا. . .) الآية.

فالآية تنقض على من يستثني في إيمانه؛ لأَنه أَمرهم أَن يقولوا قولا باتًّا، لا ثُنْيا فيه ولا شك.

وكذلك قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ}

ثم يحتمل: أن يكون هذا ردًّا على أُولئك الكفرة، حيث فرقوا بين الرسل، آمنوا ببعضهم وكفروا ببعض. وكذلك آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعضها؛ فأَمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - المؤمنين، ودعاهم: إلى أن يؤمنوا بالرسل كلهم، والكتب جميعًا، لا يفرقون بين أَحد منهم، كما فرق أُولئك الكفرة.

ويحتمل: أَن يكون ابتداء تعليم الإيمان من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لهم بما ذكر من الجملة.

ثم اختلف في الحنيف:

قيل: الحنيف: المسلم.

وقيل: الحنيف: الحجاج.

وقيل: كل حنيف ذكر بعده مسلم فهو الحجاج، وكل حنيف لم يذكر بعده مسلم فهو مسلم.

وقيل: الحنيف: المائل إلى الحق والإسلام.

١٣٧

وقوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا (١٣٧)

رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال: لا تقرأ {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ}؛ فإِن اللّه ليس له مثل، ولكن اقرأ: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ}، أو (بما آمنتم به). وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (فإن آمنوا بما آمنتم به)، تصديقًا لذلك.

وعلى ذلك قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، إِن الكاف زائدة، أي: ليس مثله شيء. وهو في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - كذلك.

ويحتمل: آمنوا بلسانهم، بمثل ما آمنتم بلسانكم، من الرسل والكتب جميعًا فقد اهتدوا.

ويحتمل بمثل ما آمنتم به: أَي بلسانٍ غير لسانهم فقد اهتدوا.

وقوله: {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}.

قيل: الشقاق هو الخلاف.

وقيل: الشقاق هو الخلاف الذي فيه العداوة، واللّه أعلم.

وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

هذا وعيد من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لهم، ووَعدٌ وَعَدَ نَبيَّه بالصبر له؛ لأَن أُولئك كانوا يتناصرون بتناصر بعضهم ببعض، فوَعَد له عَزَّ وَجَلَّ النصر له بقتل بعضهم، وإِجلاء آخرين إلى الشام وغيره.

١٣٨

وقوله: (صِبْغَةَ اللّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً (١٣٨)

قيل: دين اللّه.

وقيل: فطرةُ اللّه؛ كقوله: " كل مولود يولد على الفطرة ".

وقيل: (صِبْغَةَ اللَّهِ): حجة اللَّه التي أقامها على أُولئك.

وقيل: (صِبْغَةَ اللَّهِ): سنة اللَّه.

ثم يرجع قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) أي: دينًا وسنة، وحجة تدرك بالدلائل التي نصبها وأَقامها فيه، ليس كدين أُولئك الذين أَسسوا على الحيرة والغفلة بلا حجة ولا دليل.

وقيل: إن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماءٍ ليطهروهم بذلك؛ فقال اللَّه عز وجل: (صِبْغَةَ اللَّهِ) يعني الإسلام هو الذي يطهرهم لا الماء.

وقوله: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ).

قيل: موحدون.

وقيل: مسلمون مخلصون.

ويحتمل: ونحن عبيده.

* * *

١٣٩

وقوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللّه}.

رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: قالت اليهود والنصارى: نحن أبناء اللّه وأَحباؤه، ونحن أَولى باللّه منكم، فأنزل اللّه - في ذلك -: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللّه}.

وقيل: في اللّه، يعني: في دين اللّه. أَي: أَتحاجون وتخاصمون في دين اللّه؟!

وقوله: {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}.

أَي: أَتحاجون في اللّه مع علمكم وإِقراركم أنه ربنا وربكم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه}.

وقوله: {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}.

قيل: لنا دينُنا ولكم دينُكم؛ كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

ويحتمل: {لَنَا أَعْمَالُنَا} ولا تُسئلون أَنتم عنها، {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} لا نُسأل نحن عن أعمالكم، كقوله: {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

وقوله:، {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}.

دينًا وعملا، لا نشرك فيه غيره.

١٤٠

وقوله: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّه وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه (١٤٠)

قيل: بل تقولون.

وقيل: على الاستفهام في الظاهر: أيقولون، لكنه على الرد والإنكار عليهم، وذلك أَن اليهود قالوا: إن إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه كانوا هودًا أو نصارى. قال اللّه تعالى: قل يا مُحَمَّد: أَنتم أعلم بدينهم أَم اللّه، مع إِقراركم أَنه ربكم، لا يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماء؟!.

ومعنى الاستفهام: هو تقرير ما قالوه، كالرد عليهم والإنكار.

وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه}

قيل: الشهادة التي عنده: علمهم أَنهم كانوا مسلمين، ولم يكونوا على دينهم.

وقيل: الشهادة التي عندهم بالإسلام: أنه دين اللّه وأَنه حق.

وقيل: الشهادة التي كانت عندهم: مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَبينَه اللّه في كتابهم وأَخذ عليهم المواثيق والعهود بقوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}، فكتموه وكذبوه.

وقيل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه} في قول اليهود لإبراهيم - عليه السلام - وما ذكر من الأَنبياءِ كانوا هودًا أَو نصارى؛ فيقول اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: لا تكتموا الشهادة إن كان عندكم علم بذلك. وقد عَلِم اللّه أَنكم كاذبون.

وقيل: {وَالْأَسْبَاطَ}: بنو يعقوب؛ سموا أسباطًا؛ لأَنه وُلِد لكل رجل منهم أُمَّةٌ.

وقوله: {وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

خرج على الوعيد، أَي: لا تحسبوا أنه غافل عما تعملون.

ويجوز أَن يكون لم ينشئهم على غفلة مما يعملون، بل على علم بما يعملون خَلَقهم؛ ليُعلم أَن ليس له في شيء من عمل الخلق له حاجة؛ ليخلقهم على رجاء النفع له، ولا قوة إلا باللّه.

خلقهم وهو يعلم أنهم يعصونه.

١٤١

وقوله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)

قد ذكرنا هذا فيما مَرَّ.

* * *

١٤٢

وقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا (١٤٢)

هذا - واللّه أعلم - وعد كان وعده عَزَّ وَجَلَّ لنبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه يحوله إلى الكعبة من بيت المقدس، وإخبار عما يقول له اليهود قبل أن يحول وقبل أن يقولوا له شيئًا.

ألا ترى إلى قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}، أنه لو لم يكن فيها وعد بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لكان تقلب وجهه إلى السماء بذلك تخييرًا منه وتحكمًا عليه.

وليس لأحد على اللّه التخيير والتحكم عليه في الأحكام والشرائع ولا في غيرها، فدل أنه على الوعد له ما فعل. واللّه أعلم.

ثم فيه إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث كان أخبره على ما أخبر من التحويل إلى الكعبة.

والقول منهم نقل أنه علم ذلك باللّه واختلف في قوله {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} قيل: هو اليهود، وقالوا ذلك عند تحويل القبلة إلى الكعبة، وذلك أنهم لايرون نسخ الشرائع والأحكام؛ لأنه كالبداء والرجوع عنها.

وذلك فعل من يجهل عواقب الأمور، كبانٍ بنى بناءً ثم نقضه لجهل منه به.

لكن ذلك منهم جهل بمعرفة النسخ وقدره.

ولو عرفوا ما النسخ ما نفوا نسخ الشرائع والأحكام.

وأما النسخ عندنا: فهو بيان منتهى الحكم إلى وقت ليس فيه بداء ولا نقض لما مضى، بل تجديد حكم في وقت بعد انقضاء حكم على بقاء الأول لوقت كونه، ليس على ما فهمت اليهود من البداء والنقض لما مضى كالبناء الذي وصفوا. وباللّه التوفيق.

وإن كانت الآية في غير اليهود من أهل مكة، على ما يقول بعض أهل التفسير، فقالوا: لما رجع مُحَمَّد إلى قبلتنا من القبلة الأولى يرجع إلى ديننا. فقال اللّه عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ للّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}.

قل يا مُحَمَّد: للّه المشرق والمغرب والأمكنة كلها والنواحي، يأمر بالتوجه إلى أي ناحية شاء شرقًا وغربًا، فالطاعة له في الائتمار لأمره، والقبول لدعائه، لا للتوجه نحو الشرق أو نحو الغرب لِهَوى هووا ولتمنٍّ تمنوا؛ لأن اليهود جعلوا قبلتهم المغرب اتباعًا لهواهم، لا اتباعًا لأمر أمروا به.

وكذلك النصارى اتخذوا المشرق قبلة لهوى أنفسهم؛ فأخبر اللّه تعالى المؤمنين أنهم يأتمرون باللّه حيث ما أمروا توجهوا نحوه.

وقوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

هذا على المعتزلة؛ لأنه أخبر عَزَّ وَجَلَّ أنه {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، ولا جائز أن يهدي وهو لا يهتدي. وهم يقولون: شاء أن يهدي ولكن لم يهتدوا.

قوله: {مَن يَشَآءُ} وعلى أن مشيئة الهداية ليست للكل على ما قالت المعتزلة: أن هدايته بيان وذلك للجميع.

وفيه دليل نسخ السنة بالكتاب؛ لأن القبلة إلى بيت المقدس لم تكن مذكورة في الكتاب، بل عملوا على سنة الأولين الماضين، وهذا على الشافعي؛ لأنه لا يرى نسخ الكتاب بالسنة إلا بعد عمل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإذا عمل به صار سنة، فهو نسخ السنة بالسنة، لا نسخ بالكتاب.

فهذا منه قبيح فاحش.

وفيه نبذ الكتاب وهجره، وقد نهينا عنه، والتحكم على اللّه عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه لم يجعل الكتاب من القدر ما يقع فيه الزجر على ما كان عليه آنفا لولا علمه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. فنعوذ باللّه من السرف في القول والزيغ عن الهدى.

ولكن لم يعرف ما النسخ وما قدره، ولو علم لما قال بمثله. وهو عندنا: ما ذكرنا من بيان منتهى الحكم إلى وقته، وللّه جل جلاله نصب الأحكام والشرائع في كل وقت، يبين ذلك مرة بالكتاب، وتارة على لسان المصطفى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وباللّه التوفيق.

وكما جعل له - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يعمل به، فنسخ الكتاب فيه تلك الشريعة. فكذلك في غيره من الناس. واللّه أعلم.

١٤٣

وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (١٤٣)

{وَكَذَلِكَ}، لا يتكلم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلا على العطف على ما سبق من الخطاب، وهو - واللّه أعلم - معطوف على قوله: [{قُولُوا آمَنَّا بِاللّه وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. . .}] الآية، كأنه قال: كما وفقكم على الإيمان بما ذكر، وهداكم للإسلام، كذلك جعلكم {أُمَّةً وَسَطًا} يعني عدلًا، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.

يوجب اختلافًا في الدِّين وتفرقًا فيه.

فنقول: إن الإيمان في الأصل الذي لا يقع على اعتقاد الصلاة إلى جهة دون جهة، بل يقع على الائتمار. فالإيمان من الصحابة، رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين، الذين ماتوا كان على اعتقاد الائتمار فهم مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى بيت المقدس، مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى الكعبة. فلا تفرق ولا اختلاف في الإيمان، إذ في الأصل به وقع الاعتقاد للائتمار. وباللّه التوفيق.

ثم قوله: {وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} تأويله: أي لا يضيع إيمانكم بالصلاة إلى بيت المقدس. ولو كان على الصلاة فهو لوجهين:

أحدهما: أنها إنما قامت بالإيمان، فهو سبب لها، وقد يذكر الشيء باسم سببه.

والثاني: أن اليهود عرفوه إيمانا، فورد الخطاب على ما عندهم معروف؛ كقوله: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ}، لا أن كان ثم آلهة، لكن لما عندهم، وكذلك قوله: {فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}، لا أن كان ثم خالق سواه، ولكن لما عرفوا كل صانع خالقًا، فخرج على الخطاب على ما عرفوا هم ذلك الأول. واللّه أعلم.

* * *

١٤٤

وقوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ (١٤٤)

قد ذكرنا أنه يخرج على الوعد له.

قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}.

قال بعض المُفْتُون: إنه كان يقلب بصره إلى السماء لما يكره أن تكون قبلته قبلة اليهود. ولكن هذا بعيد؛ لأن مثل هذا لا يظن بأحد من المسلمين، فكيف برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ

إلا أن يقال: كره كراهة الطبع والنفس، وأما كراهة الاختبار، فلا يحتمل.

ويقال: إنه كان حبب إليه الصلاة حتى لا يصبر عنها، وقد نهى عن الصلاة إلى بيت المقدس، ولم يؤمر بعد بالتوجه إلى غيرها، فكان تقلب وجهه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالتوجه إلى غيرها، أو أن يقال: " قبلة ترضاها "؛ لأنها كانت قبلة الأنبياء من قبل، فلا شك أنه كان يرضاها. وهذا جائز في الكلام. يقول الرجل لآخر: أعطيك شيئا ترضاه، وإن لم يظهر منه الكراهية في ذلك، ولا التردد.

وقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.

وقد ذكرنا القول في القبلة، والاختلاف فيه فيما تقدم.

وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}.

يحتمل قوله: {أَنَّهُ الْحَقُّ} على وجهين:

أحدهما: أي علموا أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حق، لكنهم يعاندون ويتبعون هواهم.

والثاني: أي علموا بما بُين له في كتبهم أن محمدًا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنه حق.

وقوله: {وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.

وهو على ما ذكرنا أنه على الوعيد والتهديد. واللّه أعلم.

١٤٥

وقوله: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ (١٤٥)

في قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون ولا يتابعون محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قبلته حيث آيسه عن متابعتهم إياه؛ لأنها لو كانت في أهل الكتاب كلهم لكان لهم الاحتجاج على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ودعوى الكذب عليه؛ لأن من أهل الكتاب من قد آمن. فدل أنهم لم يفهموا من عموم اللفظ عموم المراد، ولكن فهموا من عموم اللفظ خصوصًا. وكان ظاهرًا في أهل الإسلام وأهل الكفر جميعًا المعنى الذي وصفنا لك. فظهر أنه لا يجوز أن يفهم من مخرج عموم اللفظ عموم المراد.

وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه في موضع الإخبار بالإياس عن الاتباع له.

ولا يوصل إلى مثله إلا بالوحي عن اللّه عَزَّ وَجَلَّ.

وفيه أن كثرة الآيات وعظمها في نفسها لا يعجز المعاند عن اتباع هواه والاعتقاد لما يخالف هواه.

{وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}.

فيه الوعد له بالعصمة في حادث الوقت وما يتلوه.

ويحتمل قوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}، أي وما لك أن تتابعهم في القبلة، وهذا التأويل كأنه أقرب لما خرج آخر الآية على الوعيد له بقوة.

وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.

وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي.

ويحتمل: أن يكون المراد من الخطاب غيره.

١٤٦

وقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ (١٤٦)

لأن الأولاد إنما تعرف بالأعلام وأسباب تتقدم، فعلى ذلك معرفة الرسل، عليهم السلام، إنما تكون بالدلائل والأعلام، وقد كانت تلك الدلائل والأسباب في رسول اللّه ظاهرة، لكنهم تعاندوا وتناكروا وكتموا بعد معرفتهم به أنه الحق، دليله قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

والكتمان أبدًا إنما يكون بعد العلم بالشيء؛ لأن الجاهل بالشيء لا يوصف بالكتمان.

ورُويَ عن عبد اللّه بن سلام، أنه قال: أعرفه أكثر مما أعرف ولدي؛ لأني لا أدري ما أحدث النساء بعدي.

وفيه الدلالة أن نعته وصفته كانت غير مغيرة يومئذ، وإنما غيرت بعد حيث أخبر أنهم كتموا ذلك.

وقيل: {لَا يعْلَمُونَ}: لا يؤمنون؛ وهو على ما بينا من نفى بذهاب نفعه، وجائز أن يكونوا عرفوه بما وجدوه بنعته في كتبهم، كما قال اللّه عَزَّ وَجَلَّ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧).

١٤٧

وقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)

يحتمل: أن يكون الخطاب له والمراد غيره.

ويحتمل: هو، وإن كان يعلم أنه لا يمتري؛ لما ذكرنا في غير موضع أن العصمة لا تمنع النهي عن الشيء.

١٤٨

وقوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا (١٤٨)

قيل فيه بوجوه:

قيل: " هو موليها " يعني اللّه موليها، ومحولها.

وقيل: " هو " يعني المصلي، هو موليها.

وقيل: ولى -أقبل وأدبر- {هُوَ مُوَلِّيهَا} هو مستقبلها.

ويقال في قوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} لكل ملة من المسلمين قبلكم جعلت قبلتها الكعبة.

وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}.

قيل فيه بوجوه:

قيل: بادروا الأمم السالفة بالخيرات والطاعات.

وقيل: {فَاسْتَبِقُوا} هو اسم الازدحام، يقول: يبادر بعضكم بعضا بالخيرات.

ويحتمل: أي استبقوا في أمر القبلة والتوجه إليها غيركم من الكفرة. واللّه ورسوله أعلم.

وقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعًا}.

قيل: أينما كنتم يقبض اللّه أرواحكم من البقاع البعيدة والأمكنة الحصينة.

وقيل: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا} أي في أي حال كنتم -عظامًا ناخرة أو بالية أو رفاتًا- يجمعكم اللّه ويحييكم، ولا يتعذر عليه ذلك، وهو كقوله: (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، أخبر أن شدة الحال عندكم لا يتعذر عليه، ولا يشتد من الإحياء والإماتة.

وقوله: {إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

من جمع ما ذكرنا من الأشياء المتفرقة وإحياء العظام البالية.

* * *

١٤٩

وقوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (١٤٩)

نقول - واللّه أعلم -: حيثما كنت من المدائن والبلدان {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، شطره: تلقاءه ونحوه وجهته.

وهذا يبطل قول من يقول؛ إن الحرم قبلة لمن نأى عن البيت، وبعد من أهل الآفاق، حيث أمر نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام حيث ما كانت من البلدان. وباللّه العصمة والتوفيق.

وقال الشيخ رحمه اللّه تعالى: ذكر المسجد، ومعناه موضعًا منه عرف ذلك بالفحص من البقاع البعيدة والأمكنة الخفية، لا بالظاهر ولا ذكر وصل البيان به.

وقوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}.

قيل: {وَإِنَّهُ} تحويل القبلة، هو الحق {مِنْ رَبِّكَ}.

وقيل: {وَإِنَّهُ} يعني محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، هو الحق {مِنْ رَبِّكَ} ويحتمل يعني: القرآن هو الحق من ربك.

وقوله: {وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

١٥٠

وقوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (١٥٠)

على ما ذكرنا.

وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.

خاطب الكل، وأمرهم بالتوجه إليه حيثما كانوا، حتى لا يكون هو المخصوص به دونهم.

وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}

تأويل هذا الكلام - واللّه أعلم - أنه لما اختار اليهود ناحية المغرب قبلة، والنصارى ناحية المشرق بهواهم، فأنزل اللّه عَزَّ وَجَلَّ: (للّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى وقوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (١٤٩)

نقول - واللّه أعلم -: حيثما كنت من المدائن والبلدان {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، شطره: تلقاءه ونحوه وجهته.

وهذا يبطل قول من يقول؛ إن الحرم قبلة لمن نأى عن البيت، وبعد من أهل الآفاق، حيث أمر نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام حيث ما كانت من البلدان. وباللّه العصمة والتوفيق.

وقال الشيخ رحمه اللّه تعالى: ذكر المسجد، ومعناه موضعًا منه عرف ذلك بالفحص من البقاع البعيدة والأمكنة الخفية، لا بالظاهر ولا ذكر وصل البيان به.

وقوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}.

قيل: {وَإِنَّهُ} تحويل القبلة، هو الحق {مِنْ رَبِّكَ}.

وقيل: {وَإِنَّهُ} يعني محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، هو الحق {مِنْ رَبِّكَ} ويحتمل يعني: القرآن هو الحق من ربك.

وقوله: {وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

١٥١

وقوله: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)

(كمَا) حرف لا يصح ذكره إلا على تقدم كلام؛ إذ هو حرف عطف ونسق، وهو - واللّه أعلم - كما أرسلنا إليكم رسولا، وأنعم عليكم بمعرفة وحدانيته وبمعرفة محاجة الكفرة وأنعم عليكم بإكرامه إياكم بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كذلك يجب عليكم أن تذكروه وتشكروا له.

ويحتمل على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التفسير: كأنه قال: فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم، وذلك في القرآن كثير.

قال الفراء: يحتمل: كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم أذكركم، فيكون فيه جوابه؛ لذلك جزم، وهذا كقول الرجل: كما أحسنت فأحسن.

وقوله: {وَيُزَكِّيكُمْ}، قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: يأخذ زكاة أموالكم، ففيه زكاتهم.

وقيل: {وَيُزَكِّيكُمْ} يدعوكم إلى ما به زكاة أنفسكم وصلاحها، وهو التوحيد، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} هو القرآن.

{وَالْحِكْمَةَ}، قيل فيه بوجوه:

قيل: " الحكمة ": الفقه.

وقيل: " الحكمة ": الحلال والحرام.

وقيل: " الحكمة ": السنة.

وقيل: " الحكمة ": المواعظ.

وقيل: " الحكمة ": هي الإصابة؛ ومنه سمي الحكيم حكيمًا؛ لأنه مصيب.

وقال الحسن: {الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}: واحد، وهو على التكرار؛ كقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ}، وهما واحد.

وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} من التوحيد والشرائع، والمحاجة مع الكفرة، وما أكرمهم بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وما أنعم عليهم من أنواع النعم.

وقوله: {رَسُولًا مِنْكُمْ}: خاطب العرب، وذكرهم بما أنعم عليهم من بعث الرسول فيهم ومنهم، وإنزال الكتاب بلسانهم وهم كانوا يتمنون ذلك، كقوله: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}، فمنَّ عليهم بذلك، وبه استوجبوا الفضيلة على غيرهم، وكفى بهم فضلًا،

وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤٢).

* * *

١٥٢

وقوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٢)

قيل: {فَاذْكُرُونِي} قيل: بالطاعة في الدنيا، {أَذْكُرْكُمْ} في الآخرة بالتجاوز عن سيئاتكم.

وقيل: اذكروني في الرخاء والسعة، أذكركم في الضيق والشدة.

وقيل: اذكروني في الخلوات، أذكركم في ملأ الناس وأذكركم في ملأ من الملائكة.

ويحتمل: اذكروني بالشكر بما أنعمت عليكم، أذكركم بالزيادة عليها. واللّه أعلم.

وقوله: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}، أي: وجهوا شكر نعمتي إليَّ، ولا تشكروا غيري.

ويحتمل: {وَاشْكُرُوا لِي}: أي وجهوا العبادة إليَّ، {وَلَا تَكْفُرُونِ}: ولا تعبدوا غيري. واللّه أعلم.

* * *

١٥٣

وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)

قد ذكرنا تأويل هذه الآية فيما تقدم.

١٥٤

وقوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤)

قيل فيه بوجوه:

قيل: إن العرب كانت تعرف الموتى من انقطع ذكره، إذا لم يبق له أحد يذكر به من نحو الولد وغيره فيقولون عند موت هَؤُلَاءِ: إن ذكرهم قد انقطع، فأخبر اللَّه تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنهم مذكورون في ملأ الملائكة.

وقال الحسن: إن أرواح المؤمنين تعرض على الجنان، وتعرض أرواح الكفرة على النيران، فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لغيرهم من الأرواح. ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم بعرضها على النار ما لا يكون لغيرهم من الكفرة ذلك، فاستوجبوا اسم الحياة بفضل لذة ما يجدون من اللذة على غيرهم.

أخبر عَزَّ وَجَلَّ: أن أرواح الشهداء في الغيب تتلذذ مثل تلذذهم على ما كانت عليه في الأجساد في دنياهم هذه.

وقيل: إن الشهيد حي عند ربه، كما عرف في اللغة: أن الشهيد هو الحاضر، أخبر عَزَّ وَجَلَّ أنهم حضور عند ربهم وإن غابوا عنكم.

وقيل: إن الحياة والموت على ضروب:

فمنها: الحياة الطبيعية، والحياة العرضية، والموت الطبيعي، والموت العرضي.

فالحياة العرضية هي اليقظة، وهي الحياة بالدِّين، كقوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)، وكقوله في الحياة بالعلم، إنه ميت بالجهل.

والحياة الطبيعية: هي التي بها قوام النفس.

والموت الطبيعي: هو الذي به فوات النفسي.

والشهادة: هي التي بها اكتساب الحياة في الآخرة، سمي به (حياة). واللَّه أعلم.

ويحتمل قوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ)، أي لا تقولوا (أَمْوَاتٌ)، لما ينفر طبعكم عن الموت، ولكن قولوا (أَحْيَاءٌ) لترغب أنفسكم في الجهاد، إذ هو يرد بحياة الدنيا والدِّين، مع ما يحتمل أن يكون اللَّه بفضله يجعل لهم ما كان لهم لو كانوا أحياء يعملون. فكأنهم أحياء فيما جعلت لهم حياة الدنيا. واللَّه أعلم.

١٥٥

قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ (١٥٥) وما ذكر فيه تذكير من اللّه عَزَّ وَجَلَّ للخلق؛ لئلا يجزعوا على ما يصيبهم من أنواع ما ذكر، من المصائب.

وفي كل نوع ما ذكر من المصائب إضمار " شيء "، من نحو {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} و {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} واللّه أعلم؛ لأن اللّه عَزَّ وَجَلَّ أخبر في غير آية من القرآن: أنه خلقهم للموت والفناء، وأن ما أعطاهم من الدنيا والزينة فيها كله للفناء والفوات بقوله: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}،

وقال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٨). أخبر أن الدنيا وزينتها للفناء، فمن عرف أن ذلك كله لما ذكرنا يحق عليه ما يصيبه من الأمراض والأوجاع والنقص في الأموال والأنفس وما ذكر إذ ذلك كله، دون ما ذكر، وليعلموا أن ما أعطاهم من الحياة والصحة والسلامة لم يكن أعطاهم لحق لهم، بل للإفضال والإحسان، وقد جعل ذلك لمدة لا للأبد، فكأنه، في غير تلك المدة لغيرهم لا لهم، فعرفوا به منته لوقت وحقه وقت الأخذ.

ثم يحتمل ما ذكر من الخوف وجهين:

على جهة العبادة من نحو الأمر بمجاهدة العدو والقتال معه.

ويحتمل لا على جهة العبادة، وكذلك الجوع يحتمل الجوع الذي فيه عبادة، وهو الصوم. ويحتمل ما يصيبهم من المجاعة في القحط ما أصاب أهل مكة سنين، وكذلك قوله: {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}، يحتمل: {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ} يمتحنهم بأداء الزكاة والصدقة. ويحتمل الهلاك بنفسها، وكذلك {وَالْأَنْفُسِ} ويحتمل الصرف على الوجهين اللذين ذكرتهما. وكذلك {وَالثَّمَرَاتِ}.

ثم لا يحتمل خصوص الامتحان بما ذكر دون غيره؛ لأنهم كلهم عبيده، له أن يمتحنهم بأجمعهم بجميع أنواع المحن، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه لما عرفهم أن كل ذلك إنما خلق للفناء، فالبعض منه كذلك، ليخف ذلك عليهم. واللّه أعلم.

ثم أمر نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يبشر الذين صبروا على المصائب التي امتحنهم بها عَزَّ وَجَلَّ، ولم يجزعوا عليها، وقالوا: {إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. فيه الإقرار بوحدانيته عَزَّ وَجَلَّ، وبالبعث بعد الموت.

وقيل: إن هذا الحرف خص به هذه الأمة دون غيرها من الأمم؛ لأنه لم يذكر هذا الحرف عن الأمم السالفة؛ ألا ترى أن يعقوب - عليه السلام - على كثرة ما أصابه من المحن والمصائب والحزن على يوسف لم يذكر هذا الحرف عنه، ولكن قال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، ولو كان لهم هذا لظهر منهم على ما ظهر غيره؛ فدل أنه مخصوص لهذه الأمة. واللَّه أعلم.

ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " من استرجع عند المصيبة جبر اللَّه مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفًا صالحًا يرضى به ".

ثم الصبر: هو حبس النفس عن الجزع على ما يفوت؛ إذ هو كله لله عَزَّ وَجَلَّ مستعار عند الخلق، والجزع على فوت ما لغيره محال؛ ألا ترى إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣). نهانا أن نحزن على ما يفوت عنا؛ إذ هو في الحقيقة ليس لنا، وأن نفرح بما أتانا؛ إذ هو في الحقيقة لغيرنا. واللَّه الموفق.

وقوله: (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ)، فهو على إضمار " الشيء " في كل حرف، إذ هو بحق العطف على ما تقدم؛ فكأنه قال: بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع. ولا قوة إلا باللَّه.

ثم يتوجه ما أخبر من البلوى إلى وجهين:

أحدهما: أن يبلوه بعبادة فيها ما ذكر.

والثاني: أن يبلوه بالذي ذكر لا على عبادة يدفع إليه؛ وذلك نحو أن يبلوه بالجهاد، وفيه الخوف، أو يبلوه بأنواع أوصاب تحل به، فيخاف عند ذلك على نفسه.

والجوع: أن يبلوه بالصيام الذي فيه ذلك، أو بقلة الإتراب وغلاء الأسعار.

ونقص من الأموال: يكون في الجهاد، والحج، والزكوات، والمؤن المجعولة في الأموال، ويكون في الخسران في التجارات، وما يلحق أنواع المكاسب من الحوائج.

والأنفس: يكون بالجهاد، ومحاربة الأعداء، ويكون بأنواع الأمراض.

والثمرات: ترجع إلى قلة الإنزال، وقصور الأيدي عما به ينال، ومفارقة الأوطان للجهاد والحج ونحو ذلك مما فيه.

ثم اللَّه سبحانه وتعالى أخبر أنه يبلوهم بشيء مما ذكرنا، لا بالكل. دل أنه -عَزَّ وَجَلَّ -

لم يقطع عليهم كل المخارج، بل جعل لهم في كل نوع من ذلك مسلكًا وإن كان في ذلك نقصًا وضررًا، وجائز بلوغ ذلك تمام ما في كل نوع، لكنه بلطفه قرب إليهم فيما خوفهم وجه الرجاء، وعلى ذلك جميع الفعال ذي المحن أنها مقرونة بالخوف والرجاء، وكذلك هم في أنفسهم. ولا قوة إلا باللّه.

ثم إن اللّه دلهم على ما عليهم من الحق فيما أخبر أنه يبلوهم به بحرف البشارة والوعد الجزيل الذي يسهل بمثله البذل لمن لا حق له، فكيف ومن له كليته ذلك؛ فقال اللّه تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}. ثم وصف الصابرين

١٥٦

 فقال: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦)

وهدى اللّه عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة؛ إذ جعل التوحيد داخلا في ذلك الحرف.

وفيه التبري من أن يكون له في حكم اللّه تدبيرًا ورأى، وبذل النفسي له وما للنفس ليحكم فيها بما شاء.

وقوله: {إنَّا للّه}، كأنه قال: ما لنا فيما ليس لنا حكم ولا تدبير، وأبدًا يكون الحكم في كل ملك لمن يملكه. وبمثل هذا يقدر على كف الأنفس عن الجزع وحملها على ما يكره.

وقوله: {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، فكأنه يقول إذ إليه مرجعنا، لا فرق أن نرجع إليه جملة أو بالتفاريق، بل في التفريق علينا الإبقاء وفضل القبول منا البعض دون الكل.

وفي ذلك تذكير النفسي عاقبتها ليكون كمن تقدم شيئًا مما به قوامه إلى مكان قراوه، وقد انتهى الخبر بالبلوغ.

فمعلوم أن ذلك أطيب لنفسه، وأسكن بقلبه من أن يكون جميع ذلك معه. وباللّه التوفيق. وجملة ذلك أن هذه الدنيا أنشئت لا لها ولكن ليكتسب بها الآخرة، وجعل كل شيء منها زائلًا فانيا لينال به الدائم الباقي.

فهذا لأن حق كل فيما يصيبه أن يرى الذي أنشيء وما له يسعى، فيعلم أنه بلغ في تجارته غايتها من الربح، وأنه باع الشيء الفاني بالباقي، مع ما كان كل شيء من الدنيا مأوى بآفات الفناء والهلاك، فأبدل المأوى بالذي لا آفة فيه. فيجب في التدبير ألا يعد ذا مصيبة، بل هو أعلى السرور وأرفع الربح، لكن البشر - تجبل على طباع نافرة عن كل ألم جاهل بالعواقب التي لعلها يرغب فيها كل أحد، لا أن ينفر عنها. واللّه المستعان.

فإن قال قائل: هذا الاسترجاع خص به هذه الأمة؛ إذ قال يعقوب: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} الآية. فهو واللّه أعلم، إن كان فهو موضع التلقين والتعليم أن قولوا ذلك، لا أن هذا المعنى مما يحتمل أن يكون يعقوب لا يحققه، بل حققه بقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّه أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

وقوله: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّه وَأَعْلَمُ مِنَ اللّه مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦).

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّه إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧)، وهو مع ذلك قد كان بما أخبره يوسف، وبما أوحى إليه أنه قد علم أنه لم يهلك بعد، ولم يوجد منه إلى حيث يرجع هو إليه من البعث بعد الموت. ولا قوة إلا باللّه.

١٥٧

وقوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ (١٥٧) قيل: الصلاة من اللّه عَزَّ وَجَلَّ يحتمل وجوهًا:

يحتمل: الرحمة والمغفرة.

ويحتمل: الصلاة منه - مباهاته الملائكة؛ جوابًا لهم لما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}، كيف قلتم هذا؟ وفيهم من يقول كذا.

وقيل: الصلاة منه: الثناء عليهم. وأي كرامة تبلغ كرامة ثناء اللّه عليهم.

وقوله {وَرَحْمَةٌ} وقَالَ بَعْضُهُمْ الرحمة والصلاة واحد وهو على التكرار، وقيل: الرحمة: النعمة وهي الجنة.

وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}

شهد اللّه عَزَّ وَجَلَّ بالاهتداء لمن فوض أمره إلى اللّه تعالى، ويسلم لقضائه وتقديره السابق وهو كائن لا محالة؛ كقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ}.

قال الشيخ - رحمه اللّه -: قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} يبلوهم بالذي كان به عالمًا ليكون به ما علمه يكون بالأمر والنهي بحق المحنة، وهو كما يستخبر عما هو به خبير، مع ما كانت المحنة في الشاهد لاستخراج الخفيات يكون بالأمر والنهي، فاستعملت في الأمر والنهي، وإن كان لا يخفى عليه شيء، بل هو كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}. ثم له جعل الغيب شاهدًا، فجرت به المحنة، ليعلم ما قد علمه غائبًا شاهدًا، إذ هو موصوف بذلك في الأزل. وباللّه التوفيق.

ثم كان العبد بجميع ما هو له من السعة والسلامة فهو للّه في الحقيقة، لكنه بفضله وكرمه يعامل عبيده معاملة من ليس له ما كان يطلب منه ولي أمره به، فقال: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}،

وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} ليكون ذلك أطيب لأنفسهم وأرغب لهم في البذل لما طلب منهم، وإن كان له أخذ ذلك منهم بلا شيء يعدهم عليه، فعلى ذلك قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} بالذي ذكر، يدلهم على أن ذلك منه؛ ليعلموا أنه فيما كان وعد الاشتراء منهم، وطلب منهم البذل بجزيل العوض لهم، فيخف ذلك عليهم وتطيب به أنفسهم، وأن يكون يذكر أولا أنه يبتليهم بالذي ذكر ليطيبوا أنفسهم به، ولا يتكلفوا ذلك من قلوبهم، فيضجرون عند الابتلاء بذلك، وكذا كل خلاف للطبع إذا كان عن رياضته إياه وإشعاره به قبل النزول، كان ذلك أيسر عليه من أن يأتيه ذلك من حيث لم يهلمم به، مع ما كان في ذلك خطر بالقلوب نسبة مثله إلى الخلق والتشاؤم بهم، فقدم اللّه في ذلك البيان ليعلموا أن ذلك بالذي جرى به الوعد، وذلك كقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ}، الآية، فبين أن ذلك مكتوب عليهم لتطيب الأنفس وتطمئن القلوب عليه.

والأصل في هذا: أن جميع ما ذكر البلوى به في التحقيق ليس بحق للعبد، بل هو امتنان من اللّه وإفضال منه، وأنه لم ينشئه ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية، فعلى ذلك جميع ما أنعم عليه، وإذا سكن العبد على هذا الذي جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه سهل عليه ذهابه، وطابت به نفسه، مع ما يعلم أنه أنعم عليه لوقت، ثم هو نعمة على غيره ولغيره، فيكون المأخوذ منه في الحقيقة لغيره، وإن كان اللّه عَزَّ وَجَلَّ ذكره في الابتلاء والمصائب، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عَزَّ وَجَلَّ. ولا قوة إلا باللّه.

ثم بين اللّه عَزَّ وَجَلَّ ما يكرمهم؛ إذا خضعوا لحكمه ورضوا لقضائه، مع ما دل عليه أيضًا بقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. . .} الآية، فقال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)، وقال في موضع آخر: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجرًا، ومعلوم أن كان ذلك حقا للّه عليهم، بالسابق من نعمه، مع عظم مننه، لكنه سمى ما أفضل به أجرًا له، مع ما كان العبد الدنيا محمول كله على أسباب، لا أنها توجب ولكن اللّه تعالى أجرى أحكامه عليها، فيكون الخوف والرجاء في التحقيق من اللّه تعالى أن يكون جعل ذلك سببًا. واللّه الموفق.

وأيضا: أن يعلم أن المصائب في الدنيا ليست كلها عقيب الآثام، بل للّه تعالى الابتلاء بالحسنات والسيئات، أيضًا لا يدل على وهن عقد المصائب، ولا زلة بليَ بها. وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل، عليهم السلام، ولكن على وجهين:

أحدهما: أن يكون اللّه تعالى يريد أن يحميَ وليه لذات الدنيا لينالها موفرة في الآخرة.

والثاني: أن يكون لهم بعده زلات لا يسلم عنها البشر، فيبتلوا، فيبعثوا يوم القيامة ولا زلة بقيت مما يجزيهم تلك. ولا قوة إلا باللّه. وإنما كذلك جعلت لمحنة.

* * *

١٥٨

قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّه شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)

قال دلَّ: قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّه شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.

دلَّ أن صعودهما من اللازم في نسكه، وكذلك صعد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الصفا

وقال: " نبدأ بما بدأ اللّه "، وقد قال اللّه تبارك وتعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} الآية، ولم يقل: بينهما. فمن لم يصعد الصفا والمروة فلم يطف بهما، مع ما قال اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللّه}، وفي ترك صعودهما إحلال شعائر اللّه، إذ قد بين اللّه أنهما {مِن شَعَائِرِ اللّه}. وما روي أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - طاف بينهما على ناقته، ومعلوم أن ناقته لا تصعدهما، فهو عندنا للعذر فعل ذلك، وإلا فإنه قد رُويَ عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه صعدهما واستقبل البيت

وقال: نبدأ بما بدأ اللّه.

دليل ذلك ما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللّه عنه، أنه طاف بينهما على ناقته وبالبيت لعُذر به.

ولا يحتمل أيضا أن يكون بغير عذر وهو الملقب بالسعي؛ لما فيه من فعل السعي، والراكب لا يسعى.

الجواز من الفساد.

وقوله: {فَإِنَّ اللّه شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.

قيل: {شَاكِرٌ}، أي يجزيهم جزاء الخطير بعمل اليسير.

وقيل: يقبل القليل ويعطي الجزيل. وهو واحد.

عامل اللّه عَزَّ وَجَلَّ بكرمه ولطفه عباده معاملة من لا حق له في أموالهم وأنفسهم؛ حيث وعد قبول اليسير من العمل، وإعطاء الجزيل من الثواب؛ وحيث طلب منهم الإقراض، ووعد لهم العظيم من الجزء، كمن لا حق له فيها، بقوله: {وَأَقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}، وحيث خرج القول منه في الابتلاء والامتحان مخرج الاعتذار لهم كأن لا حق له فيها، بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ. . .}، ثم بشرهم بالجنة بما صبروا على أخذ ما له أخذه، وذلك من غاية اللطف والكرم.

* * *

١٥٩

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّه وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.

قيل: {الْبَيِّنَاتِ} وهي الحجج، أي كتموا ما أنزل اللّه من الحجج التي كانت في كتبهم.

وقيل: كتموا ما بين في كتبهم من نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته.

وجائز أن يكون {الْبَيِّنَاتِ} وما بين للخلق مما عليهم أن يأتوا ويتقوا من الأحكام من الحلال والحرام.

وقوله: {وَالهدَى}.

قيل: الصواب والرشد.

وقيل: {وَالْهُدَى} ما جاءت به أنبياؤهم من شأن مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ودينه وأمروا من هديه من تصديقه وقيل: كتموا الإسلام ومن دين اللّه كتموا محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} اختلف في الناس.

قيل: هم اليهود كتموا بعد ما بين لهم.

وقِيل: بينا للمؤمنين ما كتمهم اليهود من نعته ودينه.

ويحتمل: البيان بالحجج والبراهين.

ويحتمل: البيان بالخبر، أخبر المؤمنين بذلك.

وقوله: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّه}، قال بعض أهل الكلام: اللعن: هو الشتم من اللّه تعالى، لكنا لا نستحسن إضافة لفظ الشتم إليه؛ لأن المضاف إليه الشتم يكون مذمومًا به في المعروف مما جبل عليه الخلق. ونقول: اللعن: هو الطرد في اللغة، طردهم اللّه عز وجل عن أبواب الخير.

وقوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، يعني الداعين عليهم باللعن، سموا بذلك " اللاعنين ".

ويحتمل: تستبعدهم عن الخيرات وأنواع البر.

وقيل: {اللَّاعِنُونَ} هم البهائم، إذا قحطت السماء، وأسنت الأرض قالت البهائم: منعنا القطر بذنوب بني آدم، لعن اللّه عصاة بني آدم.

١٦٠

وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا (١٦٠)

قيل: {تَابُوا} عن الشرك، و {وَأَصْلَحُوا} أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم، و {وَبَيَّنُوا} صفة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقيل: {إلَّا الَّذِينَ تَابُو} عن الكتمان، و {وَأَصْلَحُوا} ما أفسدوا بالكتمان، و {وَبَيَّنُوا} ما كتموا.

وقوله: {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

قيل: يتوب عليهم: يقبل توبة من يتوب.

وقيل: يتوب عليهم، أي: يوفقهم على التوبة.

وقيل: {الرَّحِيمُ}: هو المتجاوز عن ذنبهم في هذا الموضع.

وقيل: الكاشف عن كربهم.

١٦١

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)

قيل: لعنة اللّه، هو إدخاله إياهم النار وإخلادهم فيها.

ولعنة الملائكة قوله: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}، جوابًا لما سألوهم من تخفيف العذاب، كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ}، وكقوله: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}، فتقول لهم الملائكة: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}، هذا ما قيل من لعنة الملائكة.

وقيل: لعنة الناس أجمعين، أنهم لما طلبوا من أهل الجنة: الماء بقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه قَالُوا إِنَّ اللّه حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}، هذا لعنة الناس. واللّه أعلم.

١٦٢

وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)

قيل: لا يقالون ولا يردون إلى ما تمنوا، كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}.

وقيل: لا ينظرون ولا يؤجلون.

وقيل: لا يناظرهم خزان النار بالعذاب.

١٦٣

* * *

وقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}.

ذكر هذا الاسم؛ لأن كل معبود يعبد عند العرب يسمون إلهًا؛ كقوله: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ}، وكقوله {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}؛ لهذا ذكر أن إلهكم الذي يستحق الألوهية والعبادة واحد بذاته، لا واحد من جهة العدد بالخلق ذي أعداد وأزواج وأشكال، بل واحد بذاته وبجلاله وعظمته وارتفاعه وتوحده عن شبه الخلق وجميع معايبهم. يقال: فلان واحد زمانه. يراد لارتفاع أمره وعلو مرتبته، لا بحيث العدد، إذ بحيث العدد مثله كثير.

وقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، فيه إثبات إله واحد، وفي قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ونفى غيره من الآلهة.

فَإِنْ قِيلَ: لم كان هذا دليلًا؟ وهو في الظاهر دعوى.

قيل له: دليل وحدانيته في قوله:

١٦٤

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ..... (١٦٤)

خلق السماوات وجعل فيها منافع، وخلق الأرض وجعل فيها منافع للخلق، ثم جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض لبعد ما بينهما؛ إذ لا منفعة للخلق في منافع إحداهما إلا باتصال منافع الأخرى بها من نحو ما جعل من معرفة الطرف في الأرض بالكواكب، وإنضاج الأعناب والثمار وينعها بالشمس والقمر، وجعل إحياء الأرض وإخراج ما فيها من النبات من المأكول والمشروب والملبوس بالأمطار؛ فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر وتعلقها به على أن منشئهما واحد؛ لأنه لو كان من اثنين لكان إذا قطع هذا وصل الآخر، وإذا وصل هذا قطع الآخر. فإذ لم يكن، ولكنه اتصل، دل أنه فعل واحد، فهو ينقض على الثنوية والزنادقة قولهم.

وكذلك يدل اختلاف الليل والنهار على أن خالقهما واحد؛ لأنه لو كان اثنين لكان إذا أتى هذا بالليل منع الآخر بالنهار، وإذا أتى أحدهما بالنهار منع الآخر بالليل.

وفيه ذهاب عيش الخلق، وفي ذهابه تفانيهم وفسادهم. فدل أنه واحد.

والثاني: أنه جعل للخلق في الليل والنهار منافعًا، وجعل بعضها متصلة ببعض متعلقة مع تضادهما، كقوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}. فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر مع اختلافهما وتضادهما أن محدثهما واحد.

وفيه دلالة حدوث العالم؛ لما ذكرنا من تغييرها وزوالها من حال إلى حال. فدل تغييرها وزوالها على إنما حدث زوال مثل هذه الأشياء بابتدائها وعجزها على قدرة مثلها على أن لها محدثًا.

ثم دلهم - عَزَّ وَجَلَّ - أن الذي سخر السحاب بالرياح التي جعلها في الهواء، وبما فيها من المنافع التي تقدم ذكرها، على أن مدبرهما واحد؛ إذ لو كان التدبير من عند اثنين لأوجب التناقض في التدبير والصنعة، إذ يجعل كل منهما على خلاف ما جعله الآخر، ويتدبر كل منهما لينقض تدبير الآخر.

وفي اتساق التدبير وإتقان الصنعة وإحكامها دليل أن إلهكم هو الواحد الذي دعتكم هذه الأشياء إلى الإقرار بوحدانيته، وألزمتكم العبودية له بما أودع له في كل هذه المصنوعات من أدلة وحدانيته وآيات ربوبيته؛ ولهذا قال: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ليعتبروا ما فيها من الأدلة والحجج؛ إذ من لا يعقل جهة الحكمة في خلق هذه الأشياء: مم خلقت؟ ولماذا خلقت؟ وما الحكمة فيها؟ يستوي عليه خلقها وغير خلقها.

ثم فيه دلالة أن ما خلق من السماوات والأرض، والليل والنهار، والرياح والسحاب، خلقها ليدلهم على وحدانيته وربوبيته، وجعلها مسخرة مذللة لهم. وباللّه التوفيق.

* * *

١٦٥

وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّه}.

قيل فيه بوجوه:

قيل: {يَتَّخِذُ} يعبد {مِنْ دُونِ اللّه}.

وقيل: {يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أَنْدَادًا} في التسمية. يعني: يتخذ الجواهر التي تصاغ أو تنحت ونحو ذلك، مما يتعلق كونهم بصنيعهم، يسفههم بهذا، أنهم تركوا عبادة من به قامت لهم كل نعمة، وسلم لهم كل خير، وعبدوا ما قد اتخذوه بالمعالجات ولا قوة إلا باللّه.

وقيل: {يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أَنْدَادًا}، أي أشباهًا في التسمية، أو أعدالًا في العبادة، أو شركاء في الحقوق كقوله: (وَجَعَلُوا للّه مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا الشهوة أو يستحسنه البصر.

وحب اللّه من المؤمنين من هذين الوجهين فاسد، بل همو من الوجوه التي ذكرنا، وقد كان حب الهيبة والرغبة؛ إذ علموا النعم كلها من اللّه تعالى، وعلموا أن السلطان والعزة للّه ولا أحد ينال شيئًا من ذلك إلا باللّه، فأوجب ما عنده من النعم الرغبة، وما له من السلطان الهيبة. فذلك طريق حب المؤمنين مع ما ظهر من أياديه التي لا تحصى وأفضاله التي لا تحاط، والعلم بهما موجبًا تعظيم الأمور والمبادرة بالقيام بها مع الأدلة المظهرة تعاليه عن تقدير العقول وتصوير الأوهام. فيكون حبه في الحقيقة في تعظيم أموره، وحسن صحبة نعمه، ومعرفة حقوقه، لا في توهم ذاته، وإشعار القلب ما يعقله ليرجع المحبة إلى ذلك، بل هو فيما ذكرت؛ ولذلك أمر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يقول لهم: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وهو أن من أحب آخر محبة الجلال والرفعة عظم رسوله وانقاد لما يدعوه إليه وإن كان في ذلك هلاكه، وتعظيمًا لأمره وتبجيلًا، فكيف فيما نجاته وفوزه في الدارين. واللّه الموفق.

وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعًا وَأَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعَذَابِ}.

قوله: {يَرَى} قرئ بالياء والتاء جميعًا.

ومن قرأ بالتاء جعل الخطاب لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَيقول: ولو ترى الذين ظلموا يا مُحَمَّد: شهدوا لك: {أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعًا}.

ومن قرأ بالياء، يقول: ولو يرى الذين ظلموا في الدنيا إذا رأوا العذاب يعلمون أن القوة للّه جميعًا.

ويحتمل: لو علم الذين ظلموا إذا علموا عذاب الآخرة يعلمون أن القوة للّه جميعا،

ويحتمل: المراد من قوله: {يَرَى}، أي: يدخل، كقوله: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} أي لمن يدخلها ويصليها.

١٦٦

وقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ (١٦٦)

{الَّذِينَ اتُّبِعُوا} يعني: الرؤساء، {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} يعني: الأتباع والسفلة، تبرأ بعضهم من بعض العبادة من الأتباع من القادة، وهو كقوله: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (٣٨).

وقوله: {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}،

وكقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}،

وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّه وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا}،

وقوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ}،

وكقوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.

وقيل: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}، يعني: الشياطين، {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} يعني: الإنس.

وقيل: يبرأ اللّه كلا غدا أن أوثانهم لن تغني عنهم شيئًا، ولا شركاؤهم الذين أضلوهم، ولا أشرافهم شغلوا عنهم حين عاينوا النار.

وقوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}.

قيل: {الْأَسْبَابُ} والأرحام والأنساب؛ كقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}، وكقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧).

وقيل: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} يعني العهود والأيمان التي كانت بينهم في الدنيا.

وقيل: تواصلهم في الدنيا وتوادهم لم ينفعهم شيئًا؛ لأنهم كانوا يتواصلون ويتوادون في الدنيا رجاء أن ينفع بعضهم بعضًا؛ كقوله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.

١٦٧

وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)

وقوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أَعْمَالَهُمْ} التي لم يريدوا اللّه بها.

{حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}، أي: حسرة عليهم وندامة.

وقيل: كل عمل عملوه أرادوا به غير وجه اللّه، كان ذلك عليهم حسرة يوم القيامة.

وقيل: أعمالهم التي عملوها في الدنيا تصير حسرات عليهم حين يرفع اللّه لهم الجنة، فينظرون إلى مساكنهم التي كانت لهم، وبأسمائهم لغيرهم، وبأسماء غيرهم لهم.

قال: وهذا عندي لا يصح أن يجعل اللّه لأحد نصيبًا في الجنة ثم يحرمه، ولكن هذا على أصل الوعد -وعد من أطاع اللّه الجنة، ومن عصاه النار- فهو على أن هَؤُلَاءِ لو أطاعوا كان لهم نصيبًا في الجنة، وهَؤُلَاءِ لو عصوا كان لهم نصيبًا في النار.

أو يكون ذكر النصيب لهَؤُلَاءِ في الجنة هو الذي ادعوه لأنفسهم كما قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، فيحرمون ونورث عنهم ما ذكروا أنه لهم في الجنة؛ كما قال اللّه تعالى: (كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠).

* * *

١٦٨

وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨)

قيل فيه بوجوه:

قيل: إنهم كانوا يحرمون التناول من أشياء والانتفاع من نحو البحائر، والسوائب، والوصائل، والحوامي، فيقولون: حرم الانتفاع بها؛ فأنزل اللّه تعالى فقال: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} وانتفعوا بها؛ فإن اللّه لم يحرمها عليكم، كقوله: (مَا جَعَلَ اللّه مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٣).

وقيل: خلق في الأرض ما هو حلال وما هو حرام؛ فأباح التناول من الحلال ونهى عن الحرام.

وقيل: إن قومًا يحرمون التناول من الرفيع من الطعام والرفيع من الملبوس، ويتناولون من الدرن والرثة، فنهوا عن ذلك.

ولا يحتمل أن يراد بالطيبات الحلال منها، ولكن ما تطيب النفس من التناول؛ لأن النفس لا تتلذذ بالتناول من كل حلال، ولكن إنما تطيب بما هو لها ألذ وأوفق. واللّه أعلم.

وعلى ذلك قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .} الآية. فيكون كأنه الذي في الأرض حلالًا وحرامًا، ثم فما حل طيب دون ما حرم. فأمر بأكل ما طاب من ذلك إذا قدر عليه؛ لأنه على قدر طيبه يعظم محله في القلب، وعلى ذلك يرغب نفسه بالشكر لمن أنعم به عليه، والتعظيم لمن أكرمه بالذي طابت له به النفس. واللّه أعلم.

واختلف في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}.

قيل: آثار الشيطان.

وقيل: وساوس الشيطان.

وقيل: سبل الشيطان؛ كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.

فهو يرجع إلى واحد.

وقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، وذكر في موضع آخر، وسماه وليًّا بقوله: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}. فالوجه فيه أنه يريهم في الظاهر الموالاة ولكنه يريد في الباطن إهلاكهم، فإذا كان كذلك فهو في الحقيقة عدو.

وجائز أن يكون {أَوْلِيَاؤُهُمُ}، أي هو أولى بهم إذ عملوا ماعملوا بأمره، أو أولياؤهم بما وافقوهم في الفعل، وشاركوهم في الأمر، وكانوا في الحقيقة لهم أعداء، إذ ذلك هلاكهم. ولا قوة إلا باللّه.

وقوله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}؛ لأنه يوسوس ويدعو فإن أطاعه -وإلا ليس له عليه سلطان سوى ذلك- فهو ضعيف؛ لأن من لا ينفذ على رعيته سوى قوله فهو ضعيف، يوصف بالضعف - واللّه أعلم - ولكون ضعيفا على من يتأمل مكائده ويتحفظ أحواله.

١٦٩

وقوله: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ (١٦٩)

قيل: يحتمل: أن يكون السوء هو الفحشاء، والفحشاء هو السوء. لما أن كل واحد وقيل: الفحشاء ما فحش في العقل، والسوء ما ينتهي بالنهي عنه.

وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّه مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

يخرج على الأول، وهو السوء والفحشاء، يأمرهم بذلك فيقولوا: اللّه أمرنا بها.

ويحتمل قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّه مَا لَا تَعْلَمُونَ} ما قالوا: إن اللّه حرم هذه الأشياء، أو القول على اللّه ما لا يعلمون بما لا يليق به من الولد وإشراك غيره في عبادته. واللّه أعلم.

* * *

١٧٠

وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّه قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}.

يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: أن آباءهم كانوا أوصوهم ألا يفارقوا دينهم الذي هم عليه، فقالوا عند ذلك: لا ندع وصية آبائنا، كقوله: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.

أو كانوا قومًا سفهاء أصحاب التقليد، فقالوا: إنا قلدنا آباءنا، فلا نقلد غيرهم.

وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.

يخرج هذا الكلام على وجهين:

أي: تقلدون أنتم آباءكم وإن كانوا لا يعقلون شيئًا.

ويحتمل: {أَوَلَوْ كَانَ}، أي: وقد كان آباؤكم لا يعملون شيئًا فكيف تقلدونهم؟ وهو كقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}، أي وقد جئتكم. أو أن يقال: من جعل آباءكم قدوة يقتدى بهم؟

١٧١

وقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً (١٧١)

قيل فيه بوجهين:

قيل: مثلنا {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} أي يصوت {بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} يسمعون الصوت ولا يفهمون ما فيه.

وقيل: {يَنعِقُ} بمعنى يُنْعَقُ، ذكر الفاعل على إرادة المفعول؛ كقوله: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي مرضية. فعلى ذلك الأولى، وهو في اللغة جائز جارٍ.

وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.

سماهم بذلك وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك؛ لما لم ينتفعوا بها، إذ الحاجة من هذه الأشياء الانتفاع بها؛ ولذلك سماهم سفهاء لما لم ينتفعوا بعلمهم وعقلهم.

* * *

١٧٢

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.

يتوجه وجهين:

أحدهما: الإذن في الأكل ما تستطيبه النفس وتتلذذ به، ليكون أرضى وأشكر للّه فيما أنعم عليه، ويكون على إرادة الحلال بقوله: (طيباتِ)، فيكون في الآية دليل كون المرزوق حلالًا وحرامًا، إذ قيل: " من ذا "، ولم يقل: " كلوا ذا "، ولو كان كل الرزق حلالًا لكان يقول: " كلوا مما رزقناكم ". واللّه أعلم.

ثم حق المحنة التمكين مما يحرم ويحل، ومما ترغب إليه النفس وتزهد. فجائز جميع ذلك كله في الملك وفي الرزق ليمكن لكم من الأمرين بالمحنة، إذ ذلك حق المحنة.

واللّه الموفق.

وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، يدل على أن الذي كان لهم الأكل وأمرهم بالتناول منه هو الحلال.

ثم فيه الدليل على أن من الرزق ما هو طيب حلال، وما هو خبيث حرام؛ إذ لو لم يكن منه طيبٌ وخبيثٌ لكان لا يشترط فيه ذكر الطيب، بل يقول: " كلوا مما رزقناكم ".

فَإِنْ قِيلَ: فما وجه الحكمة في الامتحان بجعل الخبيث رزقًا لهم؟

قيل: هذا أصل المحنة في كل شيء، يجعل لهم الغذاء؛ فلا يأمرهم بالامتناع عنه، ويجعل لهم قضاء الشهوة في المحرم ويأمرهم بالكف. وهو الظاهر من المحن.

وقوله: {وَاشْكُرُوا للّه}.

على ما أباح لكم من الطيبات.

وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}

أي: إن كنتم منه ترون ذلك.

ويحتمل: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وأي إياه توحدون.

ويحتمل: {إِنْ كُنْتُمْ} ومِمَّن تعبدونه -إياه تقصدون- فاجعلوا عبادتكم له خالصة، لا تعبدوا غيره ليكون له. ولا قوة إلا باللّه.

وقيل: " إن " بمعنى: إذ آثرتم عبادته فاشكروا له.

ويحتمل قوله: {وَاشكُرُوا للّه} على جميع ما أنعم عليكم من الدِّين، والنبي، والقرآن وغير ذلك من النعم، أي: كونوا له شاكرين.

١٧٣

وقوله: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه (١٧٣)

ذكر " الميتة " فمعناه: حرم عليكم الأكل من الميتة والتناول منها، فإذا كان كذلك فليس فيه حرمة ما لا يؤكل والانتفاع به من نحو الصوف، والشعر، والعظم ونحوه.

ألا ترى أن هذا إذا أريد من الشاة وهي حية وأبين منها لم تصر ميتة لا يجوز الانتفاع به، وغيره من اللحم إذا أبين منها صار ميتة؛ لما روي في الخبر: " ما أبين من الحي وأصله قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}،

وقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، حرم عليهم إلقاء أنفسهم إلى المهالك، وقتلهم الأنفس. وفي دفع هذه الرخصة عنه إباحة محرم، وهو أعظم منه عليه. فلم يفعل؟ وأما من قال: بأن من قتل فأوى إلى الحرم، فإن أهله نهوا عن مؤاكلته ومشاربته، ولم ينه في نفسه الأكل والشرب، إذ لا يقدر أحد منعه عن ذلك. فالقول في مثله تكلف. فكذا الأول. واللّه أعلم.

ثم المسألة في القدر الذي يجوز أن يتناول منها.

فعندنا: أن الإباحة كانت للاضطرار، فهو على القدر الذي له الدفع والإزالة، وذلك بدون ما فيه شدة المجاعة، وذلك الأصل في انتفاء الضرورة.

* * *

١٧٤

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللّه مِنَ الْكِتَابِ}: أي في الكتاب يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: أن كتموا ما في كتبهم من بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله، وصفته.

ويحتمل: ما كتموا من الأحكام والشرائع من نحو الحدود والرجم وغير ذلك من الأحكام. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}.

قد ذكرنا تأويل هذا فيما تقدم.

وقوله: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ}.

يحتمل وجهين:

يحتمل: ما يأكلون في دنياهم إلا أوجب ذلك لهم في الآخرة أكل النار.

ويحتمل: ما يأكلون في دنياهم إلا أكلوا في الآخرة عين النار.

وقوله: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

قيل: لا يكلمهم بكلام خير، ولكن يكلمهم بغيره، كقوله: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}.

وقيل: لا يكلمهم غضبًا عليهم؛ يقال: فلان لا يكلم فلانًا، لما غضب عليه.

١٧٥

وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ (١٧٥)

قيل: استحبوا الضلالة على الهدى.

وقيل: اختاروا العذاب على المغفرة. وما قاله الكلبي فهو أحسن: أنهم اشتروا اليهودية -التي هي تحصل عذابًا- بالإيمان -الذي يحصل مغفرة- وقد ذكرنا هذا فيما تقدم أيضًا.

وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}.

قيل: فما أدومهم في النار.

وقيل: فما أصبرهم على العمل الذي يوجب لهم النار.

وقيل: فما أجرأهم على عمل أهل النار.

وقيل: ما أعملهم بأعمال أهل النار.

وقال الحسن: فما لهم عليها صبر ولكن ما أجرأهم على النار.

وقد يقال لمن يطول حبسه: فما أصبرك على الحبس. ألا على حقيقة الصبر، لكن على وجوده فيه.

١٧٦

وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)

أي: خالفوا. وإلا قد اختلف أهل الإيمان والكفر، ولكن أراد - واللّه أعلم - بالاختلاف: الخلاف، أي: خالفوا الكتاب ولم يعملوا به.

{لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}

قيل: لفي خلاف بعيد.

وقيل: لفي ضلال طويل.

وقيل: لفي عداوة بعيدة.

وقيل: حرف " البعيد " في الوعيد إياس؛ كأنه قال: لا انقطاع له.

* * *

١٧٧

قيل: {لَيْسَ الْبِرَّ} في نفس التوجه إلى ما ذكر دون الإيمان.

ويحتمل: {لَيْسَ الْبِرَّ} في ذلك، ولكن البر لمن يقصد إليه، إذ قد يقع ذلك لحوائج تعرض، تخرج عن القربة.

ويحتمل: {لَيْسَ الْبِرَّ} في التوجه إلى كذا، ولكن البر في الائتمار لأمره والطاعة له، والبر هو الطاعة في الحقيقة.

وقيل: {لَيْسَ الْبِرَّ} تحويل الوجه إلى المشرق والمغرب، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} ما ثبت في القلب من طاعة اللّه وصدقته الجوارح.

وقيل: {لَيْسَ الْبِرَّ} أن تصلوا ولا أن تعملوا غير الصلاة. كل ذلك يرجع إلى واحد.

وجملته أن يقال: ليس البر كله ذلك، لكن ما ذكر، إذ ذلك الوجه هم استعظموه حتى قال اللّه تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}.

والثاني: أن يكون ذلك بنفسه ليس ببر، وإنما صار برًّا بالأمر به، أو بما ذكر من الإيمان والخيرات. فلمَّا زال عنه الوجهان سقط فعله أن يكون برًّا.

وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّه}، بأنه واحد، لا شريك له. يعني صدق باللّه بأنه واحد، لا شريك له.

{وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، وصدق بالكتب، والملائكة، والكتاب، والنبيين.

وللبر تأويلان:

أحدهما: ما قيل.

والثاني: على الإضمار؛ كأنه قال: ليس البر بر من يولي وجهه، ولكن البر بر من آمن باللّه، كما قال: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ)، أي أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن باللَّه؟

وقيل: أجعلتم صاحب السقاية كمن آمن باللَّه؟

وقيل: إن البر بمعنى: البار، يقول ليس البار من يحول وجهه قبل كذا، ولكن البار " من آمن باللَّه " الآية.

وقوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ).

قيل: أعطى على حاجته.

وقيل: على قلته آثر غيره على نفسه؛ كقوله: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).

وقيل: (عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) أي ذوي قرابته.

وفيه دلالة أن الأفضل أن يبدأ بصلة قرابته، ثم اليتامى؛ لأن على جميع المسلمين حفظهم؛ ولأنهم أضعف، فيبدأ بهم قبل المساكين.

رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان. قيل: فما المسكين يا رسول اللَّه؟ قال: الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس، ولا يفطن به فيتصدق عليه ".

(وَابْنَ السَّبِيلِ).

قيل: هو الضيف ينزل بالمسلمين.

وقيل: هو المنقطع -حاج أو غاز- وقيل: هو المجتاز وهو واحد.

قوله تعالى: (وَفِي الرِّقَابِ).

قيل: هم المكاتبون.

(وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ)، ظاهر.

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)

ويحتمل: العهود التي بينهم وبين الناس.

ويحتمل: العهود التي فيما بينهم وبين ربهم. وقد ذكرنا العهد من اللَّه تعالى -ما هو؟ - فيما مضى.

وفي حرف ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ عنه، (والموفين) على النسق على الأول.

قيل: إذا عاهدت عهدًا بلسانك تفي به بعملك وفعلك.

ثم ليس في القرآن آية أجمع لشرائط الإيمان من هذه، وكذلك رُويَ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل عن الإيمان، فقرأ هذه الآية.

وهكذا رُويَ عن عبد اللَّه بن مسعود، رضيَ اللَّهُ عنه، أنه سئل عن الإيمان، فتلا هذه الآية.

وقوله: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ).

قيل: في الآية تقديم وتأخير: " السائلين وفي الرقاب والصابرين ". وعلى هذا يخرج حرف ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه: " والموفين بعهدهم ".

وقوله: (الْبَأْسَاءِ). من البأس، وهو الفقر.

(وَالضَّرَّاءِ).

قيل: هو المرض والسقم.

{وَحِينَ الْبَأْسِ}.

قيل: عند القتال.

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}.

في إيمانهم، أنهم مؤمنون، وصبروا على طاعة ربهم.

وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.

وقيل: الذين صدقوا في إيمانهم وأُولَئِكَ هم المتقون. رُويَ عن عمرو بن شرحبيل، أنه قال: " من عمل بهذه الآية فهو مستكمل الإيمان ".

قال الفقيه أبو منصور: تمام كل شيء باجتماع ما يزينه. ألا ترى أن المصلي إذا اقتصر على فرائضها لم يتم له؟!

* * *

قيل: نزلت الآية في جيشين من العرب، كان وقع بينهما حرب وقتال، وكان لإحداهما فضل وشرف على الأخرى. فأرادوا بالعبد منهم الحر من أُولَئِكَ، وبالأنثى منهم الذكر. فأنزل اللّه تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}. وهي منسوخة؛ لأن فيها قتل غير القاتل. نسخها قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}.

قيل: لا تسرف ولا تقتل غير قاتل وليك.

غيرهم، إذا اقتص ارتفع عنه العذاب الأليم، وإن لم يقتص فلا.

وجائز عندنا: أن يكون العذاب الأليم في الدنيا، إذ لم يخلق شيء من العذاب أشد من القتل؛ إذ القتل هو الغاية من الألم والوجع. واللّه أعلم.

١٧٨

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٨)

قيل: نزلت الآية في جيشين من العرب، كان وقع بينهما حرب وقتال، وكان لإحداهما فضل وشرف على الأخرى. فأرادوا بالعبد منهم الحر من أُولَئِكَ، وبالأنثى منهم الذكر. فأنزل اللَّه تعالى: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى). وهي منسوخة؛ لأن فيها قتل غير القاتل. نسخها قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا).

قيل: لا تسرف ولا تقتل غير قاتل وليك.

وقيل: لا تسرف، أي: لا تمثل في القتل.

وقيل: لا تسرف في القتل، أي: لا تقتل أنت إذ هو منصور.

فثبت بهذا نسخها؛ إذ لم يؤذن بقتل غير القاتل.

وقوله أيضًا: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، ولا يحتمل نفس غير القاتل يقتل بنفس. دليله قوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)، ولا يتصدق على غير القاتل. ثبت أنها منسوخة بما ذكرنا.

وفي الثاني: قال اللَّه تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، لما إذا هم بقتل آخر يذكر قتل نفسه، فيرتدع عن قتله، فيحيا به النفسان جميعًا، فلو لزم قتل غير القاتل لم يكن فيه حياة، إذ لا يخشى تلف نفسه.

ثم هذا يدل على وجوب القصاص بمن الحر والعبد، وبين الكافر والمسلم، إذ لو لم يجعل بينهما قصاص لم يرتدع أحد عن قتلهم، إذ لا يخشى تلف نفسه بهم. فدل أنهم يقتلون بهم. واللَّه أعلم.

هذا فيما يجعل الآية ابتداء، لا في الحيين، اللذين ذكرا به.

ثم يقال: ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم فيه وجعله شرطًا ونفيه في غير شكله. دليله ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ". ثم إذا زنى البكر بالسيب وجب ذلك الحكم، فدل أن ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص في الحكم، ولكن فيه إيجاب الحكم، في كل شكل إذا ارتكب ذلك وهو أن يقتل الحر إذا قتل آخر. والحرية لا تمنع الاقتصاص لفضله. وكذلك العبد إذا قتل آخر يقتل به، والرق لا يمنع ذلك للذل الذي فيه.

وكذلك الأنثى تقتل إذا قتلت أخرى، ولا يمنع ما فيها من الضعف في وجوب القصاص. وباللَّه التوفيق.

وله وجه آخر: وهو أنه قال: (وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى). ومن الإناث إماء، وقد أمر بالاقتصاص بينهن، فلئن وجب تخصيص ما ذكر خاصًّا، وجب أن يذكر عامًّا ما ذكر فيه العموم.

فَإِنْ قِيلَ: على عموم الاسم في أحدهما، وخصوص القول في الآخر.

قيل: ليس هكذا. لو كان في ذكر الوفاق في الاسم منع الحق عن ذلك الوجه المذكور إذ ذكر في الخلاف لم يدخل فيما ذكر في الوفاق ما ليس منه. فإذا دخل علم أن ذكر الوفاق في الخلاف في حق إدخال ما ليس من شكله بمحل واحد.

ثم يقال: إن نفس العبد للعبد في حق الجناية، لا للمولى. إنما للمولى في نفسه الملك والمالية، ألا ترى أن العبد لو أقر على نفسه بالقصاص أخذ به، ولو أقر عليه مولاه لم يؤخذ به. فدل أن نفسه له، لا للمولى. فكان كنفس الحر للحر. فيجب أن يقتل الحر به، إذ هو ساوى الحر في حق النفس، فيجب أن يسوى بينهما في حق القصاص.

وقال بعض الناس: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأنه أفضل منه. ثم هو يقول: إنه يقتل الذكر بالأنثى. وهو أفضل. وقال: إن القصاص إنما ذكر في المؤمنين. ثم قال بالعموم، وألزم قتل الكافر بالمؤمن، ولم يذكر في القصاص الكافر، وترك القصاص للكافر من المؤمن على عموم إيجاب القصاص على المؤمنين. فإذا جاز ترك القصاص، على ما ذكر فيه، وإدخال من لم يذكر في حق الاقتصاص، ما يجب إنكار مثله في الذي ذكر عقيب ذكر الحق؛ وهم بأجمعهم تحت الإيجاب مذكورين. ثم الإناث بالإناث مع اختلاف الأحوال يلزم القصاص، كيف لا لزم مثله في الأحرار؟

والأصل في هذا: ألا يعتبر في الأنفس المساواة. ألا ترى أن الأنفس تقتل بنفس واحدة. هكذا رُويَ عن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، " أنه قتل رجلًا بامرأة ". وروي أنه قتل سبعة نفر بامرأة، وقال: لو تمالأ عليها أهل صنعاء لقتلتهم. وقال: ورُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: لا يقتل مسلم بكافر ".

ثم قال صاحب هذا القول: لو أن كافرًا قتل كافرًا ثم أسلم القاتل يقتل به. فهو قتل

مسلمًا تقيًّا برًّا بكافر، إذ الإسلام يطهره. ولم يقتل مسلمًا فاسقًا ارتكب الكبيرة بالكافر، إذ القتل يفسقه.

والمسلم أحق أن يقتل بالكافر من الكافر بالمسلم. وذلك أن المسلم هتك حرمة الإسلام بقتل الكافر؛ لأنه اعتقد باعتقاد دين الإسلام حرمة دم الذمي، وهو بقتله كمستخف بمذهبه.

وأما الذمي فإنه لا يعتقد باعتقاد مذهبه حرمة دماء أهل الإسلام، فهو ليس بقتل المسلم كمستخف بمذهبه، والمسلم كمستخف بدينه، على ما ذكرنا. لذلك كان أحق بالقصاص من الكافر.

ألا ترى أن من قتل في الحرم قتل به؛ لأنه هتك حرمة الحرم كالمستخف به.

وإذا قتل خارجًا منه، ثم التجأ إليه، لم يقتل به حتى يخرج منه؛ لأنه ليس كمستخف له، والأول مستخف؛ لذلك افترقا. فكذلك الأول. واللَّه أعلم.

والخبر عندنا يحتمل وجهين:

أحدهما: قيل: إن قومًا قتل بعضهم بعضًا في الجاهلية، فأسلم بعضهم، فأراد أُولَئِكَ أن يأخذوا من أسلم منهم بالقصاص، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقتل مسلم بكافر "، كما قال: " كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هذا ".

والثاني: أنه أراد بالكافر المستأمن؛ لأنه قال: " لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ". فنسق قوله: " ذو عهد " على المسلم، فكان معناه: لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد به. فكل كافر لا يقتل به ذو عهد في عهده لم يقتل به المسلم. فالذمي يقتل به ذو العهد، لذلك يقتل به المسلم. والمسلم إذا قتل مستأمنًا لم يقتل به. وكذلك الذمي. فدل

بما ذكرنا أنه أراد بالكافر المستأمن، لا الذمي. واللَّه أعلم.

وقوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ).

اخنلف في تأويله:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو القاتل. إذا عفى له: معناه: عنه. فيتبع الولي بأخذ الدية بالمعروف، شاء القاتل أو أَبى.

احتج بما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في رجل اختصم إليه في قاتل أخيه، فقال: أتعفو عنه؟ قال: لا. قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا. قال: أتقتله؟ قال: نعم ".

عرض عليه الدية، ولو كان غير حقه لم يعرض عليه.

وقال في بعض الأخبار: " ولي القتيل بين خيرتين: بين قتل وأخذ دية ".

وأما عندنا: تأويل قوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ليس هو القاتل؛ لأنه يكون معفوا عنه؛ ولأنه لا يتبع أحدًا وهو المتبع، بل هو الولي؛ لأنه هو المعفو له، لا القاتل، حيث أمر بالاتباع بالمعروف؛ كأنه قال: من بذل له وأُعطيَ من أخيه شيء فاتباع بالمعروف؛ وذلك جائز في اللغة؛ العفو بمعنى البذل والإعطاء، على ما قيل: خذ ما آتاك عفوًا صفوًا، أي فضلًا. وكذلك رُويَ عن عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ عنه، أنه قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ)، أي: أُعطيَ له. والحق عندنا: هو القود، لا غير، على ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " العمد قود إلا أن يعفو ولى المقتول "، وقد روي في بعض الأخبار: " إلا أن تفادى ". والمفاداة: هو فعل اثنين، فلا يأخذه إلا عن تراضٍ

واصطلاح منهما جميعًا.

وفي الآية دلالة: أن الحق: هو القصاص، لا غير، بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) وأخبر أن المكتوب عليه والمحكوم القصاص، فلو كان الخيار بين القصاص والعفو وأخذ الدية -شاء أو أبى- لكن لا يكون مكتوبًا عليه القصاص، ويذهب فائدة قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) وإنما كان يكون عليه أحدهما، كما لا يقال في الكفارة: بأن المكتوب عليه العتق، بل أحد الثلاثة. فلما قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) دل أن أخذ الدية كان كالخلف عنه.

وما رُويَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال لولي القتيل: " أتعفو عنه "؟ قال: " لا ". فقال: " أتأخذ الدية "؟ قال: " لا ". إنما عرض عليه الدية، لما علم أن القاتل يرضى بذلك، على ما روي أن امرأة جاءت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بغض زوجها. فقال لها: " أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، وزيادة. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أما الزيادة فلا " وإنَّمَا قال لها ذلك لما علم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه يرضى بطلاقها إذا ردت عليه حديقته؛ فعلى ذلك الأول.

ولو كانت لفظة " العفو " تعبر عن إلزام الدية ما أحوجه إلى ذكر الإشارة إلى العفو مرة، وإلى أخذ الدية ثانيًا؛ فثبت أن ليس للذي يعفو أن يأخذ الدية بالعفو.

وقيل في قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ): أصلها أنها نزلت في دم بين نفر يعفو أحدهم عن القاتل، ويتبع الآخرون بالمعروف في نصيبهم؛ لأنه ذكر " الشيء "، والشيء: هو العفو عن بعض الحق. فألزم الاتباع للآخرين عند عفو بعض حقه؛ ثبت أن العفو لا يلزم الدية.

ورُويَ عن عمر وعبد اللَّه بن مسعود وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، أنهم أوجبوا في بعض عفو الأولياء، للذين لم يعفوا - الدية، على ترك السؤال عمن عفا عنك عفوت بدية، ولو كان ثم حق ذكروه له؛ فدل أن العفو لا يوجب الدية. واللَّه أعلم.

ثم لا يخلو إما أن يكون حقه القصاص ثم له تركه بالدية؛ فهو إلزام بدل حق قِبَلَ آخر من غير رضاه، وذلك مما لم يعقل في شيء، أو كلاهما، فهو أيضًا كذلك، لا يكون أحدهما إلا باجتماعهما، أو أحدهما وهو مجهول؛ فالعفو عنه يبطل حقه، إذ العفو ترك. وقال: إن في أخذ الدية إحياء النفس التي أمر اللَّه بإحيائها، وفي الامتناع عن أداء الدية إليه والبذل له إذن بالقتل.

ومن قول الجميع: إن أحدا لو قال لآخر: اقتلني، أنه لا يعمل بإذنه. فإذا كان معنى الامتناع عن أداء الدية هو إذن بالقتل، لم يأذن له.

يقال له: أبعدت القياس والتشبيه؛ لأن فيما نحن فيه إذنًا بالقتل، وظهر الأمر به، وفيما ذكرت لم يظهر، حيث قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)، فأنى يشبه هذا بذلك ويقاس عليه؟ أو أن يقال: لو كان الأمر كما ذكرت لكان يجيء أن يكون الصلح على كل شيء ماله، وفيه تلف نفسه أن ليس له منعه.

ومن قول الجميع: إن له المنع وجائز وقوع الصلح على ما فيه تلف ماله. ثبت أن ما يقوم له وهم.

وبعد، فإن الذي ذكرت تدبير الحق عليه أن يفعل، لا تدبير الإلزام. ولو كان ذلك لازمًا، لكان يقتله ببذله نفسه فيغرم فاعل ذلك؛ وهذا كما يغني الرجل بشراء ما به قوام نفسه عند الضرورة إلا أن يلزم لو أبى ذلك، فمثله ديته، بمعنى أن في ذلك تلف نفس تلك قيمته، فمثله الأول.

وما روى في التخيير بين أخذ الدية، وما ذكر فهو - واللَّه أعلم - على بيان الحل والرخصة على ما قيل: إن من حكم التوراة القتل، ولا يجوز لهم العفو ولا أخذ الدية، ومن حكم أهل الإنجيل العفو، لا يقتل بالقصاص، ولا تؤخذ الدية، فحكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ على أهل القرآن: أن جعل لهم القتل مرة، والعفو ثانيا، وأخذ الدية تارة؛ فدل أنه يخرج مخرج بيان الحل والرخصة. إذا طابت به نفس من عليه ذلك يبذله إذا طلب، ولا يوجب قطع الخيار من الآخر. ولهذا ما نقول في قوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وقوله في التخيير في الكفارة: إن ذلك إلى من عليه، لا إلى من يأخذ.

إذ الحق هاهنا من جانب واحد. فيجعل الخيار إلى من عليه إذا كان من كلا الجانبين يعتبر

رضاءهما جميعًا، واللَّه أعلم.

وقوله: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).

لما ذكر من إباحة العفو في حكم القرآن، ولم يكن في حكم غيره من الكتب، وأخذ الدية أو القتل، ولم يكن في حكم التوراة والإنجيل إلا واحد.

ويحتمل: أن كان في التوراة هذا أو هذا كما قال: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ). واحتمل أنه ذكر القود شرعًا لنا، وقوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ)، لنا خاصة.

وقوله: (وَرَحْمَةٌ).

فيه دلالة ألا يقطع صاحب الكبيرة عن رحمة اللَّه؛ لأنه أخبر أن التخفيف رحمته في الدنيا، فإذا لم يوفِهم في الدنيا من رحمته فلا يوفيهم في الآخرة منها.

وفي قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، دلالة ألا يزول اسم الإيمان بارتكاب الكبيرة؛ لأنه سماه أخا من غير أخوة نسب؛ دل أنه أخوة في الدِّين لأنه سماه أخًا. وكذلك قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا)، أبقى لهم اسم الإيمان بعد البغي والقتل. دل أن ارتكاب الكبيرة لا يخرجه من الإيمان.

وهذا يرد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إن من ارتكب كبيرة أخرجته من الإيمان، وما ذكر من التخليد في قتل العمد يخرج على وجهين:

أحدهما لاستحلال قتله، أو يتغمد ديته، وإلا فيخرج الآيتان على التناقض في الظاهر لو لم يجعل على ما ذكرنا. واللَّه أعلم.

وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

قيل: من اعتدى على القاتل بعد ما عفى عنه، أو بعد ما أخذ الدية.

وقيل: (بَعْدَ ذَلِكَ)، أي: من بعد النهي عن قتله.

وقيل: إذا أرى من نفسه العفو، ثم أخذ الدية، ثم أراد قتله، فهو الاعتداء. ثم اختلف بعد هذا بوجهين:

قال قوم: إذا فعل ذلك يترك القصاص فيه للعذاب المذكور في الآخرة: وقال

غيرهم، إذا اقتص ارتفع عنه العذاب الأليم، وإن لم يقتص فلا.

وجائز عندنا: أن يكون العذاب الأليم في الدنيا، إذ لم يخلق شيء من العذاب أشد من القتل؛ إذ القتل هو الغاية من الألم والوجع. واللَّه أعلم.

١٧٩

وقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)

قيل: فيه بوجهين، وإلا فظاهر القصاص لا يكون حياة، لكن قيل: من تفكره في نفسه قتلها إذا قتل آخر ارتدع عن قتله، فتحيا النفسان جميعًا.

والثاني: من نظر فرأى آخر يقتل بغيره امتنع عن قتل آخر ففيه حياته أو تذكر أنه مقتص منه إذا قتل حمله حبه في إحياء نفسه على أن يرتدع عن قتل كلٍّ، ففيه الحياة للأنفس جميعًا؛ ولهذا نقول بوجوب القصاص في الأنفس كلها وإن اختلفت أحوالها، إذ لو لم يجعل بين الأنفس على اختلاف الأحوال قصاص لم يكن في القصاص حياة. فأحق من يجعل فيه القصاص عند مختلف الأحوال لما يغضب الشريف على الوضيع فيحمله غضبه على قتله، فجعل القصاص، أو لما يستخف به.

وأما الوارث لما يطمع وصوله إلى مورثه فيحمله على قتله، فسبب القتل ليس ما يذكر، لكنه شدة الغضب، وفي المواريث زيادة، وهو ما يصل إلى ماله، وفي الكافر من استخفافه بدينه من المقتول، فطلب فيه المعنى الذي فيه الإحياء وهو حرمان الميراث؛ فعلى هذا التقدير يقتل المسلم بالكافر؛ لأن المسلم قد يستخف بالكافر في دار سلمه، فيحمله استخفافه إياه على قتله. ففيه معنى يدعو إلى الفناء، فيجب أن يقتص من المسلم بالكافر لتحقيق معنى الحياة. وعلى هذا التقدير يقتل الحر بالعبد؛ لأن الحر يستخف بالعبد، فيدعوه استخفافه به على قتله، فهو يقتل به.

أو نقول: يقتل الولد بالوالد لما يستعجل الوصول إلى ملكه، فيحمله على قتله؛ فلزم حفظ ما لأجله الحياة، ثم في الوالد شفقة ومحبة تمنع الوالد عن قتل ولده؛ لذلك انتهى عنه القصاص، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يقاد الوالد بولده ". وباللّه التوفيق.

١٨٠

بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)

تكلموا فيه بأوجه:

قيل: إنه منسوخ بما بين عَزَّ وَجَلَّ في آية أخرى من حق الميراث.

ومنهم من قال: لم ينسخ.

ثم قيل: فيه بوجهين:

قيل: إنه قد كان ذلك؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد في الإسلام، يسلم الرجل ولا يسلم أبواه. فقوله: {كُتِبَ} إنما وقع على من كان لا يرث.

ومنهم من يقول: بأنها كانت للوارث ولم ينسخ، وإنما يقع الأمر في غير من يرث ممن ذكر. لكن في ذلك ذكر {كُتِبَ}، وذلك إيجاب.

ولا يحتمل أن يفرض عليهم صلتهم مع التحذير عن اتخاذهم أولياء بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ}

وقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّه وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، وفي إلزام الفرضية من حيث المعروف إبقاء الموالاة وإلزام المحبة، وقد حذر وجود ذلك؛ فثبت أن الآية فيمن يتوارثون اليوم لكنها نسخت. واللّه أعلم.

ومنهم من يقول: لا، ولكنه وقع على من كان يرث وعلى من كان لا يرث بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ}، فهو كان مكتوبًا عليهم مفروضًا في حق الوصاية.

ثم من رأى نسخه استدل بقوله: {يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ}، ذكر فيه الوصاية على بيان كل ذي حق حقه. فليس الذي أوصى اللّه يمنع وصايته التي كتب عليهم. لكن في الآية دليل لم ينسخ بهذه لوجهين:

أحدهما: قوله: {يُوصِيكُمُ اللّه}. فهو وصيته ذكره كذكر الوصاية في الأول، ففيه جعل حق كالحق المجعول لهم إذا لم يذكر ذلك الوصية مع الميراث ثم نفاه.

والوجه الآخر: أنه قال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، فجعل حكم الإرث على ذكر الوصية، والإرث بعد الوصية؛ فبانَ أن لها حكم البقاء.

ثم قيل: فيه بوجهين:

قال قائلون: قوله: {يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ}، لم يكن ميراثًا، ولا هو الرواية من الآحاد، ولكنه من حيث تواتر الناس للعمل به صار بحيث يوجب علم العمل.

فما لم يجز أن يجتمع الأمة على شيء علموا كله من كتاب أو سنة غير ما ورد، فيكونوا قد اجتمعوا على تضييع كتاب أو سنة، فكذا هذا، لا يجوز أن يجتمع الناس على ترك الوصية للوارث، وثم كتاب نسخه أو سنة أخرى يلزم العمل به؛ فلهذا قضينا بنسخه. واللّه أعلم.

١٨١

وقوله: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)

قيل فيه بوجهين:

يحتمل: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} هذه الوصاية المكتوبة للوالدين، إن كان هذا أراد بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الآية، فإنما إثمه عليه.

ويحتمل: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} الوصية {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} ومن الموصي {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}.

ثم يحتمل بعد هذا وجهين:

يحتمل: أنه أراد تبديل الوصي بعد موت الموصي.

ويحتمل: تبديل من حضر الوصي ذلك الوقت من الشهود وغيره.

وقوله: {إِنَّ اللّه سَمِيعٌ} أي: سميع لمقالته ووصايته. و {عَلِيمٌ} بجوره وظلمه، أو {عَلِيمٌ} بتبديله. واللّه أعلم.

١٨٢

وقوله: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)

قيل: فيه بوجهين:

يحتمل: (فَمَن خَافَ) أي: علم من الموصي ظلمًا وجورًا على الورثة بالزيادة على الملث، (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تبديله ومنعه ورده إلى الثلث وقت وصاية الموصي.

ويحتمل: (فَمَن خَافَ)، أي: علم من الموصي خطأ وجوزا بعد وفاته بالوصية، (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تبديله ورده إلى ما يجوز من ذلك ويصح، وهو الواجب على الأوصياء أن يعملوا بما يجوز في الحكم، وإن كان الموصي أوصى بخلاف ما يجيزه الحكم ويوجبه.

قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وكان صرف (الخوف) إلى (العلم) أولى؛ إذ هو تبديل الوصية وقد نهى عنه وأذن به للجور، فإذا لم يعلم فهو تبديل بلا عذر، وقد يخفف للخوف حق العلم إذا غلب الوجه فيه، كما أن أذن للإكراه إظهار الكفر، وذلك في حقيقته خوف عما في التحقيق على العلم بغلبته وجه الوفاء في ذلك.

وقوله: (فَأصلَحَ بَينَهُم)، يعني بين الورثة بعد موت الموصي، ورد ما زاد على الثلث بين الورثة على قدر أنصبائهم.

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، لجور الموصي وظلمه إذا بدل الوصي ذلك ورده إلى الحق.

ويحتمل: (غَفُورٌ رَحِيمٌ)، لمن رد على الموصي جنفه وميله في حال وصايته. والله أعلم.

والأصل في أمر الوصاية للوارث، أن آيات المواريث لم تكن نزلت في أول ما بهم حاجة إلى معرفة ذلك، فيجوز أن يكون في الابتداء كانت الوصايا بالحق الذي اليوم هو ميراث، يبين ذلك ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ابنتي سعد، الذي قتل بأُحدٍ، وقد كان استولى عمهما على ميراثه، فسألت أمهما عن ذلك، فقال: لم ينزل فيه شيء. ثم دعاهما، وأعطاهما ما بَيَّنَ اللَّه في كتابه في قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ. . .).

وكذلك كان للنساء الحول في تركة الأزواج وصية لهن؛ فعلى ذلك كان الأمر بالوصية، فقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) كالمبين بما كان قد أوجب التبيين على الميت، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث "، ومما يبين ذلك أنه معلوم أن تكون الوصية للوارث ليست تثبت فيما هي له؛ لأنه اليوم فيكون حصول الوصية بنصيب بعض الورثة على ذلك الوجه لا يجوز وصية الميت لأحد، فكذلك للورثة. وهذا يبين أنها كانت في وقت لم يبين الميراث، فلا يكون الوصية لمن تثبت له وصية بنصيب غيره في التحقيق، فكان يجوز، ثم بطل ببيان السنة، إذ ليس في متلو القرآن حقيقة ذلك، وإنما يكون بحق الانتزاع منه والنسخ، ومعناه بالانتزاع أبعد عن الاحتمال منه بالسنة. ولا قوة إلا باللَّه.

ثم حق التواتر عندنا يقع بظهور العمل بالشيء على غير ظهور المنع منهم، والتكثير عليهم في الفعل، وفي هذا وجود ذلك من طريق الفعل.

ثم القول أيضًا من الأئمة بالفتوى به بلا تنازع ظهر فيهم مع ما قد ذكر اللّه في المواريث: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللّه}، وتخصيص الورثة قصد مضارة بغيره، واستعمال الرأي فيما قد تولى قسمه على غير الذي قسم. واللّه أعلم.

١٨٣

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)

هَؤُلَاءِ الآيات فيهن فرضية بقوله: {كُتِبَ}، وأيد ذلك الإبدال فيها الإفطار لعذر والأمر بالقضاء، وذلك ليس بشرط الآداب مع الامتنان علينا بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ}، أي يريد بكم الإذن لكم في الفطر للعذر، ولو كان غير فرض بدؤه لم يكن الفطر للعذر بموضع الرخصة مع شرطه إكمال العدة في القضاء معنى، وفي ذلك لزوم حفظ المتروك لئلا يدخل التقصير في القضاء. وعلى ذلك إجماع الأمة.

ثم بين عَزَّ وَجَلَّ أن لم تكن هذه الأمة بمخصوصة في الصيام، بل هي أحق من فيهم استعمل العفو أو الصفح بما خصهم بأن جعلهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وأخبر أنه لم يجعل عليهم (فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، ولا ألزمهم العبادات الشاقة فضلًا منه عليهم وتخصيصًا لهم؛ إذ جعلهم (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) فقال عَزَّ وَجَلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). لكن " كما " يحتمل وجهين:

يحتمل: العذر الذي كتب عليهم.

ويحتمل: الفرضية في الجملة لا عين ما فرض عليهم من حيث الإشارة إلى ذلك؛ ولذلك اختلف في (الكاف) في قوله: (كما) - أنها زائدة، أو حقيقية.

ثم اختلف فيما يأتيه ذلك الصيام: فمن الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، من جعله صوم عاشوراء وأيام البيض. ثم استعملوا نسخ ذلك بصيام الشهر.

وقد روي مرفوعًا: " أن صوم شهر رمضان نسخ كل صيام كان ".

ورُويَ عن جماعة في أمر صوم عاشوراء: أنا كنا نصومه حتى نزل صوم الشهر، فلم يكن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا به ولا ينهانا.

وأصل هذا أنه كان يصام، لو كان ابتداء الآية عليه بحق الفرض فأبدل ذلك بصوم الشهر، فارتفعت عنه الفرضية على ما إذا كان يخرج منه بالفداء لم يكن معه فرضية القضاء، وبقي الفصل فيه؛ النسخ لم يكن من حيث نفس الصوم، إذ مثله من النسخ يكون بغير الصوم ولا يصوم. فثبت أنه في نسخ الفرضية. فبقي فيه حق الأدب والفضل، وتبين النسخ الصوم إذ مثله، وإن ذلك غير صوم الشهر الذكر في صوم الشهر بقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا. . .) الآية. إذ ذلك كان غير موضع الشهر، ولو كان الكل واحدًا لكان الذكر في موضع منه كافيًا عن الإعادة؛ فثبت أنه على تناسخ الصيام. وقد روي عن معاذ رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " أحيل الصيام ثلاثة أحوال ". وبين الخبر على وجهه في ذلك.

ويحتمل: أن يكون المراد منه صوم الشهر، ويكون تكرار الذكر في الرخصة لمكان رفع الفداء، أو لمكان ذكر حق الامتنان بالتيسير، أو التحريض على حفظ العدد. والله الموفق.

وأي ذلك كان؛ فليس بنا حاجة إلى معرفة حقيقة ذلك؛ لأن كيفية الابتداء لم تكلف، وإنما كلفنا ما أبقى فرضه، وهو صيام الشهر الذي لم يختلف في ذلك.

ثم قد خاطب جل ثناؤه بالصيام من قد آمن بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فكان فيما خاطب وجهان:

أحدهما: أنه خاطب المؤمنين فعرف المخاطبون أن الاسم يذكرهم؛ إذ لم يذكر عن أحد أنه ظن خروجه من حكم الآية، من حيث لم يكن وفاء بما به يستحق الاسم، وكذلك سائر عبادات الأفعال.

وهذا من أوضح ما يجب به العلم أن الإيمان ليس باسم لجميع القرب، بل تحقيقه يصير أفعال القرب قربًا.

وفيه إذ لم يقل: يا أيها الذين، قلتم: نحن مؤمنون به صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، دلالة ظاهرة على هجر هذا القول، وأنه من تلقين الشيطان ليبطل عليهم عقدهم، كما يبطل كل عقد يستعمله فيه صاحبه مما أراد إلزامه العقد. واللَّه أعلم.

والثاني: أن اللَّه تعالى خص بالعبادات المؤمنين، وأنهن لا يلزمن غيرهم وإنما يلزم غيرهم فيها الاعتقاد، لا الأفعال التي هي تقوم بالاعتقاد، وليس الاعتقاد بواجب لمكان تلك الأفعال حتى تكون كالأسباب التي توجب بإيجاب أفعال بها تقوم، بل له أوجب غيره.

ألا ترى أنه لا يجوز أن يرتفع ذلك عن الخلائق بحال من الأحوال في الدنيا والآخرة مع ارتفاع غير ذلك من العبادات؛ ثبت أن الأمر بذلك بحيث نفسه، لا لغيره.

ثم لا قيام لغيره مع عدمه؛ ثبت أن المعنى الذي به يصير المرء أهلًا لاحتمال فعل العبادات، لذلك لا يجوز الأمر بشيء منها دون ذلك. وله وجهان يحيلان الأمر أيضًا:

أحدهما: العقل، أنه من البعيد أن يكون من لم يقبل العبودية، ولا أقر بالرسالة تؤمر بالعبادة وباتباع الرسول بحق الرسالة، بل يقول: ألزمونا الأول، حتى يكون الثاني، وهو كما أحال الناس المناظرة في الرسل مع منكري الصانع والمرسل، فمثله الأول، بل يجب كل قربة به؛ إذ لا يكون إلا به. واللَّه أعلم.

والثاني: القول بأن من أسلم بعد أوقات العبادات لا يلزمه القضاء. ثم لذلك وجهان من المعتبر:

أحدهما: بأنهم إذا لم يدخلوا في خطاب القضاء، بما ليس معهم في الحال ما يحتمل معه القضاء، فكذلك خطاب الابتداء؛ إذ هو الذي به لزم القضاء في الإسلام. والله أعلم.

والثاني: أنه لا يلزم القضاء بعد الإسلام، ولا يجوز الابتداء في حاله. فكان ذا تكليف لم يجعل اللَّه للمكلف وجه القيام، وقد تبرأ اللَّه عن هذا الوجه من التكليف بقوله عز وجل: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا)، مع ما بين اللَّه تعالى بقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) أن ما للكافر التمتع في الدنيا، لا العبادات في ذلك. واللَّه الموفق.

فثبت بالآية التي ذكرنا جميع المؤمنين في الخطاب؛ إذ بين الرخصة لِذِي العذر في الإفطار على وجوب القضاء فإذ لم يحتمل خروج من له العذر في الفطر عن أن يتضمنه الخطاب وجه ألزم القضاء، ثبت أن من لا عذر له داخل فيه ولا يسعه الفطر، وعلى هذا جاء ممن ابتلي بالجماع نهارًا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أكد عليه الأمر وألزم الكفارة على غير سؤال عن أحوال سوى ما علم من حاله أنه ليس بمريض ولا مسافر، فكان في ذلك دليل تأكيد الفرض، وفي ذلك إيجاب الكفارة لتعديه على الصيام على حال لا يحتمل الإرخاص، إذ قد كان تلك البلية في الليالي، فلم يُؤمَروا بها من حيث كانوا يملكون إبقاء الرخصة لأنفسهم لولا النوم، وفي ذلك أن فرض الصيام يعم المؤمنين.

١٨٤

ثم قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. . . (١٨٤) الآية، من غير

أن ذكر فطرا، فلا أشار إلى ما ذكر من السفر والمرض اللذين جعلا له تأخير الصيام إلى أيام أخر، ولا أشار إلى أعين تلك الأيام.

وكذلك قال مثله فيما كان عرف الوقت لابتداء الصيام بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} على أثر المعرف له بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، لكن الفطر يعرف أنه مضمر فيه بالعقل والسمع:

فأما السمع: فما جاء من الآثار في الإذن بالإفطار للسفر والمرض؛ دل أن في ذكر

العدة {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إضمار فطر. واللّه أعلم.

والعقل: أن اللّه تعالى جعل المرض والسفر سببي الرخص، فلا يجوز أن يصيرا سببي زيادة فرض على ما كان قبل اعتراضهما، على أن قوله: {يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ} دليل أنه لو كان يلزم القضاء مع فرض فعل الصوم لكان ذلك عسرًا وحرجًا في الدِّين، وقد أخبر اللّه تعالى أنه ما يجعل علينا الحرج في الدِّين.

وعلى ذلك قال بعض الناس: يلزمهما القضاء إن أفطرا أو لا، محتجا بما لم يذكر في القرآن الأنطار، وذكر {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} كأنه جعل الوقت لهما غير الذي هو لغيرهما.

يؤيد ذلك المرُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الصائم في السفر كالمفطر "، ويحتمل: نفس الحج.

ويحتمل: أصل التطوع أن كل ما يتطوع به فهو خير له إذا ثطوع في الأصل خير.

١٨٥

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ (١٨٥).

قوله: {هُدًى لِلنَّاسِ}.

قيل: يهتدون به الطريق المستقيم.

وقيل: بيان للناس من الضلالة.

وقوله: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى}.

قيل: حجج للناس إذا تأملوه.

- وقيل: {وَبَيِّنَاتٍ} أي: فيه الحلال، والحرام، والأحكام، والشرائع.

وقوله: {وَالْفُرْقَانِ}.

قيل: يفرق بين الحق والباطل.

وقيل: {وَالْفُرْقَانِ}، المخرج في الدِّين من الشبهة والضلالة.

قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه تعالى عنه -: " نزل الفرقان إلى السماء الدنيا من اللوح جملة في شهر رمضان في ليلة القدر -في ليلة مباركة- جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلًا رسلًا في الشهور والأيام على قدر الحاجات ".

وقولهه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.

يحتمل قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهو مقيم صحيح، {فَلْيَصُمْهُ}. ثم رخص للمريض والمسافر الإفطار بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

ويحتمل قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} أي: من شهد منكم بعقله الشهر {فَلْيَصُمْهُ} فلا يدخل في الخطاب المجانين ولا الصبيان، ألا ترى أن أول الخطاب خرج للمؤمنين بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فهَؤُلَاءِ لم يدخلوا فيه؛ فدل أن قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} أي؛ شهد منكم بعقله، {فَلْيَصُمْهُ}.

ثم يحتمل أن تكون فرضية الصوم بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلْيَصُمْهُ}.

{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}:

أي: ربكم بهذه النعم التي أنعمها عليكم.

ويحتمل: أنه أمر بالتعظيم له والشكر لما رخص لهم الإفطار في السفر والمرض.

واللّه أعلم.

* * *

١٨٦

وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}.

هو على الإضمار - واللّه أعلم - كأنه قال: وإذا سألك عبادي: " أين أنا عن إجابتهم "، فقل لهم: إني قريب الإحسان، والبر، والكرامة لمن أطاعني.

ويحتمل: {فَإِنِّي قَرِيبٌ}. قرب العلم والإجابة، لا قرب المكان والذات كقرب بعضهم من بعض في المكان؛ لأنه كان ولا مكان، ويكون على ما كان، وكذلك قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وكقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} كل ذلك يرجع إلى قرب العلم والإحاطة وارتفاع الجهات، لا قرب الذات على ما ذكرنا.

وإن كانت القصة على ما قاله بعض أهل التفسير: بأن اليهود قالوا: كيف يسمع ربك دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام، وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام؟! فنزل قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}، هذا لما لم يعرفوا الصانع؛ ألا تراهم جعلوا له الولد، وجعلوا له شركاء، فخرج سؤالهم، إن كان، مخرج سؤال المتعنت، لا سؤال المسترشد.

وقوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.

أي: أقبل توحيد الموحد. وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللّه تعالى عنه، في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، أي: وحدوني أغفر لكم.

وقيل: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ}، على حقيقة الإجابة.

وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي}.

أي: إلى ما دعوتهم.

يحتمل: على ما ذكرنا في قوله؛ {أُجِيبُ} لكم، إذا استجبتم لي بالطاعة والائتمار.

ويحتمل: {أُجِيبُ} لكم، إذا أخلصتم الدعاء لي.

ويحتمل: على ابتداء الأمر بالتوحيد، كأنه قال: وحدوني.

ألا ترى أنه قال: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} إذا نعلوا ذلك.

١٨٧

وقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ (١٨٧)

سماه {لَيْلَةَ الصِّيَامِ}. الليل مضاف إلى يومه، كأنه قال: ليلة يوم الصوم، وإن لم يكن فيها صوم في الحقيفة؛ لانتظار الصيام فيها بالنهار، على ما جاء عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ قال: " منتظر الصلاة ما دام ينتظرها في الصلاة "، وكذلك قوله: {فَمَن فَهِدَ مِنكم أدشهرَ فَتيَممُته}، أضاف الصوم إلى الشهر يدخل فيه الليل والنهار؛ لأن اسم الشهر يجمع الليل والنهار جميعًا.

وقوله: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}.

قيل: {الرَّفَثُ}، الجماع. وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللّه تعالى عنه.

وقيل: {الرَّفَثُ} هو حاجات الرجال إلى النساء من نحو الجماع، والمس، والتقبيل وغيره.

وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}.

وقيل: {تِلْكَ} سنن اللّه. وكان الأول أقرب واللّه أعلم.

١٨٨

قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)

وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}.

قيل: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولا تدلوا بها إلى الحكام. وقراءة أُبي: " فلا تدلوا بها إلى الحكام "، وجهان:

على إضمار لا؛ كقوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}، أي: ولا تكتموا الحق.

وقيل: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} بما تلبسوا على الحكام، وتقيموا على ذلك حججا باطلة، على ما جاء عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه المسلم فكأنما قضيت له بقطعة من النار ".

١٨٩

وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (١٨٩)

يحتمل: {يَسْأَلُونَكَ}، أي: سألوك عن الأهلة.

ويحتمل: {يَسْأَلُونَكَ} أنهم يسألونك من بعد، فإن كان على هذا ففيه دليل رسالته؛ لأنه كان كما أخبر من السؤال له.

ثم معنى السؤال عن الأهلة - واللّه أعلم - هو أنهم لما رأوا الشمس تطلع دائمًا على حالة واحدة، ورأوا القمر مختلف الأحوال من الزيادة والنقصان فحملهم ذلك على السؤال عن حال القمر، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه جعل الهلال معرفًا للخلق الأوقات والآجال والمدد ومعرفة وقت الحج؛ لأنه لو جعل معرفة ذلك بالأيام لاشتد حساب ذلك عليهم، ولتعذر معرفة السنين والأوقات بالأيام. فجعل - عَزَّ وَجَلَّ - بلطفه وبرحمته، الأهلة ليعرفوا بذلك الأوقات والآجال، ويعرفوا وقت الحج، ووقت الزكاة؛ طلبًا للتخفيف والتيسير عليهم.

ثم قال: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، جعل الأهلة كلها وقتا للحج. ولهذا قال أصحابنا: إنه يجوز الإحرام في الأوقات كلها، على ما يجوز بقاء الإحرام في الأوقات كلها.

وأما أفعال الحج: فإنها لا تجوز إلا في وقت فعل الحج، وهو قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، فإنما هي على أفعال فيه، دليله قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}، ولا تفرض من الحج في غير الإحرام؛ دل أنه عنى به أفعال الحج، وقد جاء: أنه سمى الإحرام على الانفراد حجا، وسمى الطواف بالبيت حجا، والوقوف حجا،

وقال: " الحج عرفة " وسمى الذبح حجا، حيث قال: " أفضل الحج اتَّقَى)، واتبع أمر اللّه، وانتهى عما نهى عنه، ويأتي {الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}.

ويحتمل: أن يكون على التمثيل والرمز، ليس على التحقيق؛ كقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}، وكقوله: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللّه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}، فهو ليس على حقيقة الطرح وراء الظهر، ولكن كانوا لا يسمعون كلام اللّه ولا يعبئون به. وكذلك كلام رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: لا يسمعونه ولا يكترثون إليه، فأخبر أنه كالمنبوذ والمطروح وراء الظهر لما لم يعملوا به؛ فعلى ذلك الأول، أخبر أنه {لَيْسَ الْبِرُّ} في ترك اتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والائتمار بأمره، أي: ليس فعل البر مخالفة محمد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يأمر، ولكن البر في الاتباع له والائتمار بأمره.

وقال القرامطة: إن المراد من الأبواب هو علي بن أبي طالب، رضيَ اللّه تعالى عنه، والبيوت بيوت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. أمروا بإتيان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من عند علي، رضيَ اللّه تعالى عنه، على ما جاء أنه قال: " أنا مدينة العلم وعلي بابها ". فمن أراد الدخول في البيت، لا بد من أن يأتي الباب فيدخل من الباب.

لكن الجواب لقولهم على قدر ما تأولوا - أنه ذكر البيوت، وذكر الأبواب أيضًا والبيوت كثيرة، والأبواب كذلك أيضًا، فعليٌّ وغيره من الصحابة من نحو أبي بكر، وعمر، وعثمان، رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين، فيه شرع سواء؛ ألا ترى أنه قال: " أنا مدينة الحكمة "، والمدينة لا يعرف لها باب واحد، بل يكون لها أبواب؛ فدل أن تأويلهم في عليٍّ، رضيَ اللّه تعالى عنه، خاصة، لا يصح. وباللّه العصمة.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللّه}.

أي: اتقوا اللّه ولا تعصوه، ولا تتركوا أمره، وانتهوا عن مناهيه.

١٩٠

وقوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (١٩٠) {سَبِيلِ اللّه}: دينه وطاعته، أي: في إظهار دينه.

قيل: هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال.

وقيل: أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}.

ويحتمل: أنه أخبر كأنهم نهوا أولًا ثم أذن لهم فقاتلوا فأنكر عليهم، فأنزل اللّه أنه أذن لهم إخبارًا. فلا يدري أيتهما أول، ولكن فيه الأمر بالقتال، والنهي عن الاعتداء هاهنا؛ قيل: هو نهي عن قتل الذراري والنساء والشيخ الفاني، على ما جاء أنه بعث سرية أوصى لهم ألا يقتلوا وليدًا ولا شيخًا.

وقيل: نهاهم أن يقاتلوهم في الشهر الحرام إلا أن يبدأهم المشركون بالقتال. واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.

أي أنه لا يحب الاعتداء، لم يحب من اعتدى.

١٩١

وقوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ (١٩١)

قيل: لفظ {حَيْثُ} يعبر عن المكان؛ ففيه إذن بقتلهم في جميع الأمكنة، وفي تعميم الأمكنة تعميم الأوقات، فهو على عموم المكان إلا فيما استثنى من المسجد الحرام مطلقًا.

وأما قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}، فالاستثناء فيه مقيد، فلا يخرج عن ذلك العام. واللّه أعلم.

ويحتمل: أن يمنعوهم عن الدخول فيه؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، وكقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، المنع عن الشرك إخراجًا.

وقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}.

أي: الشرك أعظم جرمًا عند اللّه من القتل فيه.

وقوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}

كما ذكرنا أن هذا

وقوله: {وَاقتُلُوهُم}، كله يخرج على المجازاة لهم.

وفيه لغة أخرى: " ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه ".

فإذا قتلونا لا سبيل لنا أن نقتلهم، فما معنى هذا؟

قيل: يحتمل قوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ}، أي: إذا قتلوا واحدًا منكم فحينئذ تقتلونهم، أو لا تقتلوهم حتى يبدءوا هم بالقتل، أو أن يقول: لا تقتلوهم حتى يقتلوا بعضكم، فإذا فعلوا ذلك فحينئذ تقتلونهم. واللّه أعلم.

وقوله: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}.

أي هكذا جزاء من لم يقبل نعم اللّه، ولم يستقبلها بالشكر.

ويحتمل: كذلك جزاء من بدأ بالقتال في الحرم أن يقتل.

١٩٢

وقوله: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)

يحتمل وجهين:

يحتمل: {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن الشرك، وأسلموا يتغمدهم اللّه برحمته.

ويحتمل: {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن بدء القتال، وأسلموا، فإن اللّه يرحمهم ويغفر ذنوبهم.

١٩٣

وقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للّه (١٩٣)

أنه أمرنا بالقتال مع الكفرة ليسلموا.

فَإِنْ قِيلَ: أيش الحكمة في قتل الكفرة، وهو في الظاهر غير مستحسن في العقل؟ قيل: إنا نقاتلهم ليسلموا، ولا نقتلهم إلا أن يأبوا الإسلام، فإن أبوا ذلك ثم لم نقتلهم لا يسلمون أبدًا؛ لذلك قتلناهم، إذ في القتل ذهاب الفتنة.

ويحتمل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، على وجه الأرض، أي تطهر من الشرك.

وقال قوم: {وَالْفِتْنَةُ} هاهنا العذاب، أي: قاتلوا حتى لا يقدروا عليه كفار.

وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ للّه}.

أي: ليكون {الدِّينُ} دين اللّه في الأرض لا الشرك. و {الدِّينُ}: الحكم.

وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}.

فَإِنْ قِيلَ: فإذا صار الدِّين كله للّه، فلا ظالم هنالك، فما معنى هذا الكلام؟

قيل: يحتمل: أن لا عدوان إلا على الظالم الذي أحدث الظلم من بعد.

ويحتمل: أن لا عدوان إلا على من بقي منهم مع الظلم.

فَإِنْ قِيلَ: فلم سمي عدوانًا، والعدوان هو ما لا يحل؟

قيل: لأنه جزاء العدوان، وإن لم يكن هو في الحقيقة عدوانا، فسمي باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة وإن لم يكن هو سيئة في الحقيقة؛ كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وكما سمي جزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن هو في الحقيقة اعتداء؛ فكذلك الأول.

١٩٤

وقوله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ (١٩٤)

قيل: خرج النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الشهر الحرام يريد مكة فصده المشركون عن دخولها، فجاء من عام قابل في الشهر الحرام فدخلها وأقام ثلاثًا، وقضى عمرته التي فاتته في العام الأول، فسميت عمرة القضاء، فذلك تأويل قوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، هذه الثانية صارت قصاصًا بالأول.

وقيل: إن في الجاهلية كانوا يعظمون الشهر الحرام، ولا يقاتلون فيه، فلما أن ظهر الإسلام عظمه أهل الإسلام أيضًا، ولم يقاتلوا فيه، حتى جعل الكفار يغيرون على أهل الإسلام ويستنصرون عليهم، حتى نسخ ذلك وأمروا بالقتال فيه بقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، كأنه قال: ما هتكتم من حرمة الشهر قصاص لما هتكوا.

وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللّه}.

يحتمل: {وَاتَّقُوا} مخالفة اللّه.

أو: {وَاتَّقُوا} عذاب اللّه.

وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ}.

يعني: مع المؤمنين جملة.

ويحتمل: {وَاتَّقُوا} القتال في الحرم قبل أن يبدءوا هم، فـ {أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ} في النصر والمعونة لهم.

١٩٥

وقوله: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّه وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (١٩٥)

قيل فيه بوجوه:

قيل: أمر بالإنفاق ترتيبًا على الخروج إلى الجهاد، وإلا فكل منفق على نفسه بما يعلم حاجته إليه، ولا يلقي نفسه في الهلاك من حيث منع الإنفاق.

وقيل: في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، هو أن يذنب ذنبًا ثم ييأس عن العفو عنه.

وقيل: {وَأَنْفِقُوا} أي: لا تضنوا بالإنفاق مخافة الفوت في الوقت الثاني؛ فإنه يخلف لكم ما أنفقتم.

وقيل: {وَأَنْفِقُوا} أي: أعينوا أصحابكم، ولا تلقوهم إلى التهلكة بترك المعونة لهم بالإنفاق والتجهيز لهم.

وقيل: {وَأَنْفِقُوا} أي: تصدقوا، فإن فيه حياة أبدانكم وأنفسكم.

وقوله: {وَأَحْسِنُوا}.

قيل: {وَأَحْسِنُوا} إلى أصحابكم بالإعانة والتصدق.

وقيل: {وَأَحْسِنُوا} الظن باللّه في الإنفاق.

وقيل: {وَأَحْسِنُوا} الظن بربكم في الخروج إلى الغزو.

ويحتمل: {وَأَحْسِنُوا} أي أسلموا.

وعلى ذلك يخرج قوله: {إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يعني: المؤمنين.

* * *

١٩٦

وقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه}

اختلفوا في تأويله وفي قراءته:

قال بعض الناس: العمرة فريضة بهذه الآية؛ لأنه أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج.

وقيل: هي الحجة الصغرى.

وأما عندنا: هي ليست بفريضة، وليس في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه} دليل وأما قولنا: ليس عليهم إحصار؛ لأن الإحصار هو الجيش والحيلولة بينهم وبين دخولهم مكة، فإذا كانوا هم فيها قادرون على الطواف بالبيت في كل وقت، كذلك بطل الإحصار.

١٩٧

وقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ (١٩٧)

عن ابن عمر، رضيَ اللّه تعالى عنه، أنه قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.

١٩٨

وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ (١٩٨)

قيل: التجارة، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون من التجارة في عشر من ذي الحجة، فلما أن كان الإسلام امتنع أهل الإسلام عن التجارة، وأحبوا أن يكون خروجهم للحج خاصة، دون أن يختلط غيره من الأعمال، فرخص اللّه عَزَّ وَجَلَّ للحاج وطلب الفضل.

ورُويَ عن ابن عمر - رضي اللّه تعالى عنه -: أن رجلًا سأله، فقال: إنا قوم نكرى، ويزعمون أنه ليس لنا حج، فهل لنا حج؟ فقال: ألستم تحرمون وتقفون؟ فقال: بلى. قال: فأنتم حجاج،

وقال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسأله عما سألتني عنه مثله، فلم يجبه حتى أنزل اللّه تعالى هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنتم حجاج " ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ رضيَ اللّه عنه مثله.

وأصحابنا، رحمهم اللّه تعالى، يرون حج الأجير والتاجر تامًّا، وظاهر القرآن يدل على ذلك. وكان عند القوم أن الاستئجار على الطاعة لا يجوز أمرًا ظاهرًا حتى سألوا في هذا.

وأصله: أن الحج لا يمنع أفعال غيره، فأشبه الصوم، ويجوز فيه الإجارة، كذا في وأما الصلاة فهي مانعة لما سواها من الأفعال؛ فاختلفا.

وقوله {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}.

قيل: إن أهل الجاهلية كانوا يفيضون من عرفات قبل غروب الشمس، ومن مزدلفة بعد طلوع الشمس، فأمر أهل الإسلام بالخلاف في الحالين جميعًا: أن يجعلوا الإفاضة من عرفة بعد الغروب، ومن المزدلفة قبل طلوع الشمس. واللّه أعلم.

قال الشيخ - رضي اللّه تعالى عنه -: الهدى على وجهين:

هدى: عرف، ليوحدوه.

وهدى: وفق، لطاعتهم.

١٩٩

وقوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)

قيل: إن أهل الحرم كانوا لا يقفون بعرفات، ويقولون: إنما نحن أهل حرم اللّه، لا نفيض كغيرنا، ممن قصدنا، فأنزل اللّه فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، أمرهم بالوقوف بعرفات، والإفاضة منها من حيث أفاض غيرهم من الناس.

وذكر عن عائشة، رضيَ اللّه تعالى عنها، أنها قالت: كانت قريش، ومن كان على دينها يقفون بالمزدلفة ولا يقفون بعرفة، أوكان من سواهم يقفون بعرفة. فأنزل اللّه تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}.

وفيه دليل أن الوقوف بعرفة فرض، وعلى ذلك جاءت الآثار؛ رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

" الحج عرفة، من أدرك عرفة بليل، وصلى معنا بجمع، فقد تم حجه ".

ويحتمل في قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، معنى آخر: وهو أنهم رأوا غيرهم من أهل الآفاق فإذا قصدوا على الإحرام من وراء الحرم، وهم أمروا بالإحرام في الحرم، فلما خصوهم بذلك ظنوا أن قضاء غيره من المناسك في الحرم. واللّه أعلم.

قال الشيخ أبو منصور - رحمة اللّه تعالى عليه -: أمر بالإفاضة بحرف " ثم "، بعد ذكر المزدلفة والإفاضة من عرفات بتقديم المزدلفة، فَبَانَ أن حرف " ثم " مما قد يبتدأ به أيضًا.

٢٠٠

وقوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (٢٠٠)

قيل فيه بوجهين:

قيل: إنهم في الجاهلية كانوا إذا قضوا المناسك يجتمعون في مكان ويذكرون آباءهم ومناقبهم ويفتخرون بذلك، فلما أن أسلموا أمرهم أن يذكروا ربهم في الإسلام كذكرهم آباءهم في الجاهلية أو أشد ذكرا، فإنه أولى بذلك من الآباء.

وقيل: أن يكونوا يذكرون آباءهم -ما أنعم عليهم وأحسن إليهم- فقال: اذكروا لي فيما تذكرون آباءكم مكان آبائكم فإني أنا الذي أنعمت عليكم وعلى آبائكم، فاجعلوا ذلك لي دون آبائكم.

وقوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}.

٢٠١

وقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١)

وقوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢).

وقوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. .} الآية في قوم لا يؤمنون بالبعث والإحياء بعد الموت، طلبوا خيرات الدنيا، ولم يطلبوا الخيرات في الآخرة، فأعطوا ما سألوا من حسنات الدنيا، وهو كقوله: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}، فأعطوا ما سألوا من نصيب؛ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}، أي يؤتى حرث الدنيا والآخرة، فمن كان ركونهم إلى الدنيا وميلهم إليها لم يركنوا إلى دعاء غيرها، وأما من آمن بالبعث والإحياء بعد الموت فإنهم سألوا خيرات الدنيا والآخرة جميعًا بقوله:

 (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١) طلبوا حسنات الدنيا؛ لأن الدنيا جعلها محل الزاد للآخرة، لأنه جعلها لهم، إنما خلقهم للآخرة؛ كقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}.

ثم اختلف في {الحسَنَة} في الدنيا، و {الحسَنَة} في الآخرة:

قيل: حسنة الدنيا: العلم والعبادة، وحسنة الآخرة: الجنة والمغفرة.

وقيل: حسنة الدنيا: النصر والرزق، وحسنة الآخرة: الرحمة والرضوان. وكله واحد.

ورُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إن للّه عبادًا يحيون في عافية، ويموتون في عافية، ويدخلون الجنة في عافية. قيل: يا رسول اللّه، بم؟ قال: بكثرة قولهم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ".

وقوله: {وَاللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ}

قيل فيه بوجوه:

قيل: فيه تقديم وتأخير، كأنه قال: حسابه سريع.

وقيل: {سَرِيعُ}، كما أن الإبطاء في الحساب يكون للتفكر فيه والاستذكار وحفظ عقد الأصابع أو لشغل شغله، فاللّه - تعالى - يتعالى عن ذلك أن يوصف به أو يشغله شيء.

وقيل: {سَرِيعُ}، أي قريب، كأن قد جاء، كقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، وكقوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}، وكقوله: أَتَى أَمْرُ اللّهأي قرب.

وقيل: كناية عن عذاب شديد، أي شديد العقاب والعذاب، وهو كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللّه}، وهو كقوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من نوقش الحساب عذب ".

٢٠٣

وقوله: (وَاذْكُرُوا اللّه فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ (٢٠٣)

قيل: إنه يحتمل وجهين:

قيل: إنه أراد بالأيام المعدودات أيام النحر والذبح، أي: اذكروا اللّه بالنحر والذبح في أيامكم. فهو عند أبي حنيفة، رحمه اللّه تعالى، يوم النحر ويومان بعده.

وقيل: أراد بالأيام المعدودات أيام رمي الجمار، دليله قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، وهي أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر.

ورُويَ عن عليٍّ، رضيَ اللّه تعالى عنه، أنه قال: " الأيام المعدودات: يوم النحر ويومان بعده، اذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها ".

وقيل: {لِمَنِ اتَّقَى} جميع ما يحرم عليه الإحرام من الرفث، والفسوق، والجدال وغيره، وعلى ذلك قوله: {وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، خوَّفهم عَزَّ وَجَلَّ ليتقوا اللّه في كل وقت كل معصية. خرج الخطاب في الظاهر للمؤمنين، ويحتمل أن يكون للكفار أيضًا، يأمرهم أن يتقوا الشرك وإشراك غيره في أفعالهم، لما أوعدهم بالحشر والجزاء لأعمالهم.

* * *

٢٠٤

وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّه عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}.

قيل: إن رجلًا من الكفار كان يأتي رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيخبره أنه يحبه وكان يعد له الإيمان والمتابعة له في دينه، ويحلف على ذلك، وكان النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعجبه ذلك ويدنيه في المجلس، وفي قلبه خلاف ذلك، فأنزل اللّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ}. . .) الآية.

وقيل: إنها نزلت في المنافقين؛ لأنهم كانوا يرون من أنفسهم الموافقة له في الدِّين، ويظهرون أنهم على دينه ومذهبه، ويضمرون الخلاف له في السر والعداوة، ويحلفون على ذلك، فأنزل اللّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ. . .} الآية. واللّه أعلم.

وقوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}

قيل: أشد الخصام.

وقيل: أجدل بالباطل.

وقيل: أظلم في الخصومة، لا يستقيم أبدًا.

٢٠٥

وقوله: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّه لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥)

قيل فيه بوجوه:

قيل: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ}، أي يقتل النساء، وهن حرث، كقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}، وفي إهلاك النساء إهلاك النسل.

وقيل: أراد بالحرث: الحرث نفسه -وهو الزرع، والنسل والدواب- يحرق الحرث، ويعقر الدواب وكل حيوان.

وقيل: إنهم كانوا يسعون بالفساد ويعملون بالمعاصي، فيمسك اللّه تعالى عنهم المطر، فيهلك كل شيء من الناس وغيرهم.

ويحتمل: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ}، قتل ولد آدم، وفي إهلاكهم إهلاك كل حرث؛ لأنهم هم الذين يحرثون ويتناسلون. واللّه أعلم.

وقوله: {وَاللّه لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، ظاهر.

٢٠٦

وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (٢٠٦)

{قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه} عن صنيعك، وهو السعي في الأرض بالفساد، حملته الحمية على الإثم تكبرا منه. قال اللّه تعالى لرسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ}، يقول - واللّه أعلم -: أعرض عنه، واتركه وصنيعه، فإن جهنم مصيره ومأواه.

ورُويَ عن عبد اللّه بن مسعود، رضيَ اللّه تعالى عنه أنه قال: " إن أبغض الناس من يقال له: اتق اللّه، فيقول: عليك نفسك ".

٢٠٧

وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه وَاللّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧)

يحتمل: {يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ}، أي يهلك نفسه، أي يبيع نفسه في عبادة اللّه تعالى وطاعته. فذلك شراؤه إياها.

ويحتمل: {يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ}، أي يبذل نفسه للجهاد في سبيل اللّه، وهو كقوله:

{إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}، فهَؤُلَاءِ بذلوا أنفسهم لذلك بتفضيل اللّه عَزَّ وَجَلَّ ببذل الجنة لهم، فهو الشراء. واللّه أعلم. وهو ما روي أن أبا بكر الصديق، رضيَ اللّه تعالى عنه، ألقى نفسه على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عندما همَّ المشركون بقتله.

وفيه دلالة أن أبا بكر الصديق، رضيَ اللّه تعالى عنه، كان أشجع الصحابة وأصلبهم، وإن كان ضعيفًا في نفسه، لما لم يتجاسر أحد من الصحابة على مثله. وما روي أيضًا أنه خرج لمقاتلة أهل الردة وحده. فدل هذا كله أنه كان أشجعهم وأصلبهم في الدِّين.

وقيل: إن هذه الآية نزلت في صهيب، ابتاع دينه بأهله وماله على ذلك واللّه أعلم.

وقوله: {وَاللّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}

ويحتمل: أن أراد كل العباد، وهو أن الكافر إذا أسلم وأخلص دينه للّه تعالى يتغمده في رحمته ويقبل منه ذلك، ويتجاوز عنه عما كان منه في الشرك والكفر. واللّه أعلم.

ويحتمل: أن أراد بالعباد: المؤمنين خاصة، رحيم بهم.

* * * *

٢٠٨

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}.

{السِّلْمِ}، فيه لغتان: بالكسر والنصب. فمن قرأ ذلك بالكسر فهو الإسلام.

ومن قرأ ذلك بالنصب فهو الصلح؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا. . .}، إلى آخر الآية.

فَإِنْ قِيلَ: كيف أمر بالدخول، وهم فيه؛ لأنه خاطب المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؟

قيل: بوجوه:

أحدها: أنه يحتمل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بألسنتهم، آمِنوا بقلوبكم.

ويحتمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ببعض الرسل من نحو عيسى، وموسى، وغيرهم من الأنبياء، آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقيل: أمره إياهم بالدخول أمر بالثبات عليه.

وقيل: إنه تعالى إنما أمرهم بالدخول فيه؛ لأن للإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت، لأنه فعل، والأفعال تنقضي ولا تبقى، كأنه قال: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا فيما مضى من الأوقات، آمنوا في حادث الأوقات. وعلى هذا يخرج تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}.

وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}

وقد ذكرنا تأويله فيما تقدم.

٢٠٩

وقوله: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ (٢٠٩)

أي: ملتم وتركتم من بعد ما ظهر لكم الحق.

وقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

وقيل: {عَزِيزٌ} أي منتقم بميلكم وترككم الحق بعد الظهور.

ويحتمل: {عَزِيزٌ}، أي غني عن طاعتكم له وعبادتكم إياه.

وقيل: {عَزِيزٌ}، من أن يقهر أو يذل أو يغلب؛ لأن العزيز نقيض الذليل.

وقيل: {عَزِيزٌ}، لا يقدر أحد أن يصل إليه، أو يقهره إلا ذل بنفسه، كما يقال: عزيز لا يرام.

٢١٠

وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)

(يل فيه بوجوه:

قيل: {أَن يَأْتِيَهُمُ اللّه} بأمره. وهو قول الحسن.

وقيل: {يَأْتِيَهُمُ اللّه}، أي أمر اللّه؛ وهو كقوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} وكقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، على إضمار الأمر فيه.

وقيل: قوله: {فِي ظُلَلٍ}، في بمعنى (الباء)، وكأنه قال: يأتيهم اللّه بظلل من الغمام، وذلك جائز - استعمال (في) مكان (الباء)؛ لأنهما جميعًا من حروف الخفض، والعرب تفعل ذلك ولا تأبى.

والأصل في هذا ونحوه: أن إضافة هذه الأشياء إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا توجب حقيقة وجود تلك الأشياء منه على ما يوجد من الأجسام، لما يجوز إضافته إلى ما لا يوجد منه تحقحق ذلك، نحو ما يقال: جاءني أمر فظيع، و {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}، وجاء فلان بأمر كذا، وجاءكم رسول. فذكر المجيء والإتيان لا على تحقيق وجود ذلك منه، فعلى ذلك يخرج ما أضاف اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - إلى نفسه من المجيء والإتيان والاستواء، أليس على تحقيق المجيء والإتيان والاستواء، منه على ما يكون من الأجسام.

وفي الشاهد أن ملوك الأرض يضيفون إلى أنفسهم ما عمل بأمرهم من غير أن يتولوها بأنفسهم. وكذلك أضاف جل ذكره أمر القيامة إلى نفسه لفضل ذلك الأمر.

ثم الأصل: أن الإتيان والانتقال والزوال في الشاهد إنما يكون لخلتين: إما لحاجة بدت، فيحتاج إلى الانتمّال من حال إلى حال، والزوال من مكان إلى مكان ليقضيها. أو لسآمة ووحشة تأخذه، فينتقل من مكان إلى مكان لينفي عن نفسه ذلك. وهذان الوجهان في ذي المكان، واللّه - تعالى - يتعالى عن المكان، كان ولا مكان فهو على ما كان.

فاللّه - تعالى - يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تأخذه سآمة. فبطل الوصف بالإتيان والمجيء والانتقال من حال إلى حال أو من مكان إلى مكان. وباللّه التوفيق.

وقيل: إن النص قد ورد بالاستواء والمجيء، وأورد، الخبر بالنزول، والرؤية. ثم قد ورد السمع بأن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، لزم نفي التشبيه فيما ورد عن ذاته، ولزم الإقرار بما جاء من عنده من غير طلب الكيفية له والتفسير. فالسبيل فيه الإيمان بالتنزيل، والكف عن التفسير. واللّه أعلم.

وفي الشاهد الإتيان في العرض: ظهوره، وفي الجسم: نقله من مكان إلى مكان، وهو - جل ذكره - جل أن يوصف بجسم أو عرض. كذلك إتيانه لا يشبه إتيان الأجسام والأعراض، ويكون إتيان لا يعرف كيفيته، وكما جاز أن يكون هو مثبتًا بدليل لا يشبهه عرض ولا جسم. واللّه أعلم.

٢١١

وقوله: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ (٢١١)

يحتمل وجوها:

يحتمل: أن يكون أمر اللّه عَزَّ وَجَلَّ نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، بسؤاله إياهم عما آتاهم من الآيات، على إثر سؤال كان منهم، بطلب الآيات، فقال: سلهم يا مُحَمَّد كم آتيناهم وأجدادهم من الآيات على يدي موسى، فكفروا به، ولم يؤمنوا. فأنتم -وإن آتيناكم آيات- لا تؤمنون أيضًا. يخبر نبيه عليه السلام أن سؤالهم أن كان سؤال تعنت، لا سؤال قبول وتصديق.

واللّه أعلم.

ويحتمل: أن يكون لا على إثر سؤال كان منهم، ولكن على الابتداء أن سل علماء بني إسرائيل وأئمتهم كم آتيناهم من آية منه فجحدوها وكتموها وهو كقوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، الآية.

ويحتمل: {سَلْ}، لا على الأمر به في التحقيق، لكن على التحقيق، والتبيين أنك لو سألتهم لأخبروك.

أو يكون المراد من ذلك في الذين تضيق صدورهم عند الإخبار أنهم لو جاءتهم الآيات التي سألوا عنها لا يؤمنون، ليخبروا بذلك فتطمئن لذلك قلوبهم، فتزول عنها الخطرات وأنواع الوساوس. واللّه أعلم.

وقوله: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّه مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ}.

قيل: {نِعْمَةَ اللّه}، دين اللّه، من بدله بعد ظهوره وبيانه.

وقيل: {نِعْمَةَ اللّه}، يعني محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَأي: من كفر له بعدما علم أنه رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

ويحتمل: {نِعْمَةَ اللّه}، النعم المعروفة التي كان آتاهم من المن، والسلوى، والغمام وغيره مما لم يؤت أحدًا من العالمين ممله.

وقوله: {فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ}

خوَّفهم عَزَّ وَجَلَّ وحذرهم على تبديل ذلك وتركه والكفر بنبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد معرفتهم أنه حق. واللّه أعلم.

ويكون تبديل نعمة اللّه بتوجيه الشكر إلى غيره، وهو أن يعبد غيره. واللّه أعلم.

٢١٢

وقوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا (٢١٢)

قال الحسن زين لهم الشيطان ذلك، وكذلك قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}. ولكن معناه - واللّه أعلم - أي زين لهم التزيين ثم التزين يكون بوجهين:

يزينه الطبع لقرب الشهوات، والعقل لقيام الأدلة، فيكون التزين بالثواب.

وأما ما زين للذين كفروا الحيوة الدنيا لما ركب فيهم من الشهوات وميل الطبع إليه.

وأما الوجهان الآخران منهما للمؤمنين.

وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}

يحتمل وجهين:

يحتمل: {فَوْقَهُمْ}، في الحجة، يقول اللّه تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}.

ويحتمل: {فَوْقَهُمْ}، في الجزاء والثواب.

وقوله: {وَاللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

يحتمل وجوهًا:

يحتمل: {بِغَيْرِ حِسَابٍ}، بغير تبعة.

ويحتمل: {بِغَيْرِ حِسَابٍ}، لا على قدر الأعمال، ولكن على قدر الشهوة وزيادة عليها؛ لأن رزق الجنة على ما تنتهي إليه الشهوات، ورزق الدنيا مقدر على قدر الحاجة والقوت؛ إذ لا أحد يبلغ مناه في الدنيا وحاجته، وفي الآخرة كل ينال فوق مناه.

ولأن أكل الشهوة في الدنيا هو المؤذي.

ويحتمل: {بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي من غير أن ينقص ذلك عن ملكه وخزائنه، وإن عظم عطاياه وكثر مناله، ليس كخزائن المخلوقين تنتقص بالدفع وتنفد. واللّه أعلم.

٢١٣

وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}، قال أبو موسى الأشعري، رضيَ اللّه تعالى عنه، وآخر معه من الصحابة، رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين، قالا: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، كلهم كفار إلى أن بعث اللّه عَزَّ وَجَلَّ فيهم النبيين.

وقال عبد اللّه بن مسعود - رضي اللّه تعالى عنه -: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، مؤمنين كلهم زمن نوح، عليه السلام، الذين كانوا في السفينة إلى أن اختلفوا من بعد، فبعث اللّه فيهم النَّبِيِّينَ.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، مؤمنين كلهم زمن آدم، عليه الصلاة والسلام، إلى أن أنزل اللّه الكتاب عليهم وبعث فيهم الرسل.

ولو قيل بغير هذا كان أقرب.

قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، يعني صنفًا واحدًا.

ومعنى الأمة معنى الصنف، كقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ أي: ما اختلفوا فيه إلا من بعد ما جاءتهم البينات والعلم، إما من جهة العقل، وإما من جهة السمع والكتب والخبر، وإما من جهة المعاينة والمشاهدة لكنهم تعاندوا وكابروا وكفروا به بغيًا.

وقوله: {بغيَا بَينَهُمْ}.

قيل: {بَغيَا بَينَهُمْ}، أي: حسدًا بينهم.

وقيل: {بغيَا بَينَهُمْ}، ظلمًا منهم، ظلموا محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقوله: {فَهَدَى اللّه الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}.

تأويله - واللّه أعلم - أي هدى اللّه الذين آمنوا، ولم يختلفوا من بين الذين اختلفوا.

ويحتمل: هدى اللّه من أنصف ولم يعاند، ولم يهد الذين عاندوا ولم ينصفوا.

وقوله: {بِإِذْنِهِ}، قيل: بأمره، وقيل: بفضله.

لكن قوله: {بِإِذْنِهِ}، بأمره، لا يحتمل، ولكن {بِإِذْنِهِ}، أي: بمشيئته وإرادته.

وقوله: {وَاللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

فيه دلالة أنه من شاء أن يهتدي فاهتدى، ومن لم يشا أن يهتدي لم يهتد؛ لأنه لو كان شاء أن يهتدوا جميعًا أنه من شاء أن يهتدوا جميعًا، على ما يقوله المعتزلة، لكان يقول: واللّه يهدي إلى صراط مستقيم، ولم يقل: {مَنْ يَشَاءُ}، فدل قوله: {مَن يَشَآءُ}، على أنه شاء إيمان من آمن، ولم يشأ إيمان من لم يؤمن، فالآية تنقض على المعتزلة قولهم: إنه شاء أن يؤمنوا، لكن آمن بعضهم ولم يؤمن البعض.

وفي قوله: {فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّينَ}، دلالة على ألا يفهم من البعث والإتيان والمجيء الانتقال من مكان إلى مكان، ولا الزوال من موضع إلى موضع؛ لأنه ذكر البعث، وهم كانوا بين ظهرانيهم، فدل أنه يراد الوجود، لا غير.

٢١٤

وقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّه أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ (٢١٤)

قيل: معنى قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ}، على إسقاط " الميم ".

ويحتمل: إن كان هذا في رسول دون رسول، على ما قاله بعض أهل التأويل: أنه فلان.

وليس لنا إلى معرفة ذلك سبيل إلا من جهة السمع، ولا حاجة إلى معرفته.

وفي قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ. . .} الآية.

وفي قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}.

وفي قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}، وجه آخر، وهو أنهم. - واللّه أعلم - ظنوا لما أتوا بالإيمان أن يدخلوا الجنة، ولا يبتلون بشيء من المحن والفتن، وأنواع الشدائد، فأخبر اللّه عَزَّ وَجَلَّ أن في الإيمان المحن والشدائد لابد منها، كقوله عليه السلام: " حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ". واللّه أعلم.

وكقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، ولأن الإيمان من حيث نفسه ليس بشديد؛ لأنه معرفة حق وقول صدق، ولا فرق بين قول الصدق وقول الكذب، ومعرفة الحق ومعرفة الباطل في احتمال المؤن، والإيمان: مخالفة الهوى والطبع وذلك في أنواع المحن. واللّه أعلم.

٢١٥

وقوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)

فظاهر هذا السؤال لم يخرج له الجواب؛ لأن السؤال " عما ينفق "، فخرج الجواب " على من ينفق "، غير أنه يحتمل أن يكون (ماذا) بمعنى (مَن)، وذلك مستعمل في اللغة، غير ممتنع.

ويحتمل: أن يكونوا سألوا سؤالين:

أحدهما: عما ينفق؟

والثاني: على من ينفق؟ فخرج لأحدهما الجواب على ما كان من السؤال: " على من ينفق "، ولم يخرج جواب ما كان من السؤال: " عما ينفق ". وهذا أيضًا جائز، كثير في القرآن: أن يكثر الأسئلة، ويخرج الجواب لبعض ولم يخرج لبعض، ويكون جواب سؤال: " مم ينفق؟ " في قوله تعالى: {قُلِ الْعَفْو}، فيكون على ما ذكر. واللّه أعلم.

ويدل لما قلنا، أنه كان ثم سؤالان، أن

 أحدهما: " عما ينفق " والآخر: " على من ينفق "، ما رُويَ عن عمرو بن الجموح الأنصاري، رضيَ اللّه تعالى عنه، أنه قال: يا رسول اللّه، " كم ننفق؟ وعلى من ننفق؟ فأنزل اللّه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ. . .} الآية.

ثم اختلف في هذه النفقة:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه النفقة كانت تطوعا، فنسخت بالزكاة.

وقِيل: هذه النفقة صدقة يتصدقون بها على الوالدين والأقربين الذين يرثون، فنسختها آية المواريث.

وقيل: فيه الأمر بالإنفاق على الوالدين والأقربين عند الحاجة، وكان هذا أقرب. واللّه أعلم. وفيه دلالة لزوم نفقة الوالدين والمحارم.

* * *

٢١٦

وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦)

والكراهة المذكورة هاهنا والمحبة: هي كراهة الطباع والنفس، ومحبة الطباع والنفس، لا كراهة الاختيار. ولا يكون في كراهة الطباع خطاب؛ لأن طبع كل أحد ينفر عن القتال والمجاهدة مع العدو، لا أنهم كرهوا ذلك كراهة الاختيار؛ لأنه لا يحتمل أن يكون أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يؤمرون بالقتال والمجاهداة مع العدو ثم هم يكرهون عما أمروا اختيارًا منهم؛ لأن ذلك دأب أهل النار، فثبت أنه على ما ذكرنا من نفور كل طبع عن احتمال الشدائد والمشقة وكراهيته.

وقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}.

يحتمل هذا في القتال خاصة، وهو أن يكونوا كرهوا القتال؛ لما فيه من المشقة والشدة، {وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}؛ لما فيه من الفتوح والظفر وسعة العيش ومنال الثواب والدرجات في الآخرة.

{وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا}، يعني التعود على الجهاد، {وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}، لما فيه من اجتراء العدو والأسر والقتل والذل والصغار وقطع الثواب في الآخرة.

ويحتمل هذا في كل أمر يحب الرجل، في الابتداء ويكون عاقبته شرّا له، ويكره أمرًا فيكون عاقبته خيرًا له. هذا لجهلنا بعواقب الأمور وخواتيمها؛ ليعلم أن ليس إلينا من التدبير في شيء. واللّه أعلم.

وقوله: {وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، أي: ويعلم ما هو خير لكم في العواقب مما هو شر لكم، " وأنتم لا تعلمون ".

٢١٧

وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّه وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ (٢١٧)

معناه - واللّه أعلم -: يسئلونك عن القتال في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام، {قُل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، لو لم يكن من الكفرة ما ذكر من الصد عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والكفر به، وإخراج أهله منه، لكن إذ فعلوا ذلك، لم يكن القتال بجنبه كبيرًا، بل الكفر فيه أكبر من القتل. فكأنه - واللّه أعلم - ذكر هذه الأحرف وعنى به الكناية عن الكفر، ثم جعل الكفر أكبر من هذا كله مع المعرفة أن الذي يؤذيه أقل منه. ثم ألزمهم اختيار الأيسر عند البلوى بما بين. والقتال بنفسه كبير؛ لأن فيه تفاني الخلق، ولم يخلقوا للفناء.

ثم فيه نقض على المعتزلة بوجهين:

أحدهما: أنه ذكر القتل، وجعل الكفر أكبر منه، ولو أوجب القتل التخليد، ما أوجب الكفر، لكان فيه التساوي، ولا يكون الكفر أكبر من القتل فبان أن الكبيرة لا توجب بحسنات، فهو حالة الانتفاع به كما قال عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}.

وقوله: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.

أما في الدنيا: فذهاب التعظيم والإجلال والثناء الأحسن الذي يستوجب بالخير والدِّين عند الناس، فإذا ارتد عن الإسلام حبط ذلك كله أصار على أعين الناس أخف من الكلب والخنزير.

وأما حبطه في الآخرة: فذهاب ثواب أعماله، وكأن ما يستوجب المرء من الثواب إنما يستوجب بما يأتي من الأعمال ويحضرها عند اللّه، لا بالعمل نفسه؛ ألا ترى إلى قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}،

وقوله: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)، دل هذا أن الثواب إنما يستوجب بإحضاره وإتيانه عند اللّه، لا بالعمل نفسه. واللّه أعلم.

٢١٨

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا (٢١٨)

تضمن قوله: {آمَنُوا} والإيمان باللّه، والإيمان بجميع ما جاء به الرسل من الرسالات وغيرها.

وقوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا}.

الهجرة تكون على وجهين:

أحدهما: الهجرة المعروفة التي كانت إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، وهو كقوله: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّه يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّه وَكَانَ اللّه غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٠).

ثم رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " لا هجرة بعد فتح مكة ".

والهجرة الثانية: هجرة الآثام والإجرام، فهي لا ترتفع أبدًا.

وقال الحسن في قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّه}: أي بالعداوة منه لمن كفر باللّه.

وقال أبو بكر الصديق - رضي اللّه تعالى عنه -: أن يهجر قومه وداره ويخرج للّه.

وقوله: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه}.

المجاهدة تكون على وجوه:

مجاهدة العدو، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس.

وقوله: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّه}.

فيه دلالة على أن الذي يحق رجاؤه يعمل ما ذكر اللّه.

وقوله: {رَحْمَتَ اللّه}، يحتمل وجهين: الرحمة: الجنة، والرحمة: المغفرة.

وقوله: {وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

لما كان منهم من التقصير فيما ذكر من المجاهدة والمهاجرة.

* * *

٢١٩

وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا رقبته وإعتاقها. ولا قوة إلا باللّه.

وفي قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} دلالة جواز تأخير البيان؛ لأنه أمر بالتفكر والتدبر، وجعل لهم عند الفكر الوصول إلى المراد في الخطاب، فدل أنه يتأخر عن وقت قرع الخطاب السمع.

٢٢٠

وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ (٢٢٠)

كأن في السؤال إضمارًا؛ لأنه قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى}، ولم يبين في أي حكم، وإضماره - واللّه أعلم - أن يقال: يسألونك عن مخالطة اليتامى. يبين ذلك قوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} أن السؤال كان عن المخالطة.

وكذلك قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، ولم يبين في أي حكم، فكأنه قال: يسألونك عن شرب الخمر والعمل بالقمار والميسر، ثم قال: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}، دل قوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أن السؤال كان عن شرب الخمر والعمل بالميسر. وهذا جائز في اللغة، وفي القرآن كثير أن يكون في الجواب بيان السؤال أنه عما كان وإن لم يذكر في السؤال؛ كقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} دل ما ذكر من الفتيا أن الاستفتاء كان عن الميراث. وكذلك قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}، دل قوله: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} أن السؤال كان عن نساء اليتامى. وهذا جائز، وربما يخرج الجواب على إثر نوازل، فيعرف مراده بالنوازل دون ذكر السؤال.

ثم السؤال يحتمل وجهين:

يحتمل: أن يكون عن مخالطة الأموال والأنفس جميعًا بقوله: {قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، فإنما حملهم - واللّه أعلم - على سؤال المخالطة، ما قيل: لما نزل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}،

وقوله: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا} أشفق المسلمون من خلطة اليتامى، فعزلوا لهم بيتا، وعزلوا طعامهم وخدمهم وثيابهم، فشق ذلك عليهم جميعًا، فسألوا عن ذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فنزلت هذه يستوجب بعضهم قبل بعض المعونة لهم والحفظ والصلاح، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. دل قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}، على أن الصغير قد يعق والديه في أمر الدِّين، ويجوز منهم التدين إذا عقلوه وإن لم يكونوا بلغوا. واللّه أعلم.

ثم أوعدهم عَزَّ وَجَلَّ بقوله:

{وَاللّه يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}.

أي - واللّه أعلم - يعلم طالب النفع والنظر لهم من طالب الفساد والإسراف في أموالهم.

وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللّه لَأَعْنَتَكُمْ}.

قيل: يضيق عليكم، ولم يأذن لكم بالمخالطة معهم.

وقيل: لأعنتكم، فلم يرض لكم في الخلطة.

وقيل: لأحرجكم. وهو واحد.

وأصل العنت: الإثم، كقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، يعني: أثمتم.

وقوله: {إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

فيه وعيد لهم على ما ذكرنا. واللّه أعلم.

* * *

٢٢١

قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ... (٢٢١)

اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية:

فقال قائلون: الحظر على كل مشرك ومشركة -كتابيًّا كان أو غير كتابي- ثم نسخ بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. فالإماء على الحصر؛ لأنه إنما استثنى الحرائر دون الإماء بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}.

وقال آخرون: هو على المشركات خاصة دون الكتابيات، والكتابيات مستثنيات،

وقوله: {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}، يحتمل وجهين:

أحدهما: الخبر عما يدعو بعضهم بعضا إلى عبادة غير اللّه، وذلك دعاء إلى النار، كما قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، بما يوجب الفعل الذي دعوا إليه ذلك فكأنما دعوا إلى ذلك، إذ هوالمقصود من الثاني. وعلى ذلك تسمية الجزاء باسم العمل الذي له الجزاء. واللّه أعلم.

ويحتمل: {يَدْعُونَ} في التناكح للّهو واستكثار الأتباع في معاداة اللّه تعالى ومعاداة أوليائه بالتناكح، واللّه يدعو إلى التعفف واستكثار الأتباع على ما ينال به مغفرته ورحمته.

واللّه أعلم.

وقوله: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}، يعني: يدعون إلى العمل الذي يستوجب به النار.

{وَاللّه يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}، يعني يدعو إلى العمل الذي يوجب لهم الجنة والمغفرة واللّه أعلم،

وقوله: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

* * *

٢٢٢

وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه}.

دل جوابه على أن السؤال كان عن قربان النساء في الحيض، أو كان عن موضع قيل: معنى قوله: {مِن حَيثُ أَمَرَكُمُ اللّه}: لا تأتوهن صائمات، ولا معتكفات، ولا مصليات.

ويحتمل: لا تأتوهن حُتضًا، ولكن {فَأْتُوهُنَّ} طهرا.

وقيل: {فَأْتُوهُنَّ} في الموضع الذي أباح لكم إتيانها، وهو القبل، ولا تأتوهن في أدبارهن.

ويشبه -إذ " حيث " يعبر به عن المكان- أن يكون {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه} أن تبتغوا الولد، بقوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّه لَكُم}.

وقوله: {إِنَّ اللّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} من الذنوب.

{وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.

من الأحداث والأذى.

والثاني: ممن فعل هذا قبل النزول {الْمُتَطَهِّرِينَ} أنفسهم بالتكفير، والتواب هو الرجاع عما ارتكب، والتارك عن العود إلى ذلك، غير مصر على الذنب.

ويحتمل: التواب: الذي لا يرتكب الذنب.

٢٢٣

وقوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (٢٢٣)

الحرث: هو الزرع. وفيه دليل النهي عن الاعتزال عنها؛ لأن الزرع إذا ترك سُدًى فيضيع ويخرب.

وفيه دليل أن الإباحة في إتيان النساء طلب التناسل والتوالد، لا قضاء الشهوة؛ لأنه سمى ذلك حرثًا، والحرث ما يحرث فيتولد من ذلك الولد.

وفيه دليل أن الإتيان في غير موضع الحرث يحرم منهن، وعلى ذلك جاءت الآثار أنها سميت اللوطية الصغرى، ما جاء أنه نهى عن إتيان النساء في محاشهن، يعني: في أدبارهن، وفي بعض الأخبار: إتيان النساء في أدبارهن كفر.

وأما الاعتزال عن الإماء وملك اليمين فإنه لا بأس؛ لأنه لا يطلب النسل من الإماء في المتعارف؛ لذلك لم يكره، ولأن في إحبالهن إتلافًا، وللرجل ألا يتلف ملكه؛ لذلك افترقا. واللّه أعلم.

والأصل: أن الشهوات مجعولة لما بها إمكان قضاء الحاجات التي يقضي بها جرى تدبير العالم، وبه يكون دوام النسل، وبقاء الأبدان، الحاجة لا تحتمل الوقوع في الأدبار؛ لذلك لم يجعل فيها.

وقوله: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ}.

قيل فيه بوجهين:

قيل: {وَقَدِّمُوا} العمل الصالح.

وقيل: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} من الولد تحفظونه عند الزيغ عما لا يجب.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.

يحتمل قوله: {أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ}، أي: ما قدمتم من العمل الصالح فتجزون على ذلك؛ كقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه}.

ويحتمل: {أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ}، أي: ملاقو ربكم بوعده ووعيده.

* * *

٢٢٤

وقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ}.

قيل: كان الرجل يحلف ألا يصنع المعروف، ولا يبر، ولا يصلح بين الناس، فإذا أمر بذلك، قال: إِنِّي حلفت على ذلك، فنهوا عن ذلك، يقول: لا تحلفوا على أمر هو لي معصية ألا تصلوا القرابة، وألا تبروا، وألا تصلحوا بين الناس، وصلة القرابة خير لكم من الوفاء باليمين في معصية اللّه تعالى. و " العرضة " العلة، يقول: لا تعللوا، أي: لا يمنعكم أن تبروا أو ما ذكر.

وقوله: {وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

حرفان يخرجان على الوعيد: {سَمِيعٌ} بمقالتكم وأيمانكم، {عَلِيمٌ} بإرادتكم في حلفكم.

٢٢٥

وقوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)

قال الشيخ - رحمه اللّه تعالى - في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}: إن كسب القلوب لا يكون عقدًا ولا حنثًا، إنما هو تعمد الكذب.

كقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}، فعلى ذلك أَمْر يمين اللغو والتعمد. وهذا يبين أن اليمين يكون في موجود، لا فيما يوجد؛ إذ فيه وصف المآثم، وفيما يكون لم يكسب قلبه ما يأثم فيه. فعلى ذلك أمر اللغو؛ فهو في الماضي، ولا يأثم بالخطأ، ويأثم في غير اللغو بالتعمد.

ثم قال اللّه تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}، وبين أن المؤاخذة تكون في هذا بالكفارة وفي الأول بالمأثم، وفي اللغو لا يؤاخذ بهما، فلزم تسليم البيان لما جاء في كل ذلك، ثم جميع المؤاخذات في كسب القلب بالمأثم ولزوم التوبة؛ فكذا في هذا.

وقد رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أمر اللعان، أنه قال: " إن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟ " ومعلوم كذب أحدهما ولزوم التوبة، مع ما في تركه الوعيد الشديد من الغضب أو اللعن. ولو كانت فيه كفارة لكان لا سبيل إلى العلم بها إلا بالبيان؛ فهي أحق أن يبين لو كانت واجبة، دل ما لم يبين أنها غير واجبة على أنها تجب للحنث، والحنث عقيب العقد يدفعه، وكان هاهنا ملاقيا له، فهو يمنعه على نحو جميع الحرمات التي تفسخ الأشياء، فهي عند الابتداء تمنع. وليس ذلك كالطلاق ونحوه؛ لما قد يكون بلا شرط، واليمين لا يصح إلا به ولم يكن فأنفذ.

وقوله: (وَاللّه). وقد يخرج مخرج الاستخفاف الحلف باللّه كاذبًا والجرأة على اللّه، فيجيء أن يكون كفرًا، لولا أن المؤمن يخطر بباله ما يحمله على ذلك دون قصد فَإِنْ قِيلَ: الحلف بالطلاق، والعتاق، والحج بالماضي يلزم، كيف لا لزمته الكفارة؟ قيل: لأن الطلاق، والعتاق، والحج يلزم دون ذكر ما ذكر، إذا قال: (عليَّ حجة)، أو (أنت طالق)، أو (هو حر). ولو قال: (واللّه) ألف مرة، دون ذكر ذلك الفعل لا يكون يمينًا، ولا يلزمه شيء؛ لذلك افترقا. واللّه أعلم.

٢٢٦

وقوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦)

قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: الإيلاء معلوم في اللغة أنه اليمين. وكذلك كان ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقرأ: (للذين يُقْسِمُون من نسائهم).

وما هو لليمين من الحكم، لا يجب لغيرها نحو الكفارة التي تجب للحنث فيها، ثم يجب له على كل حال، على أي وصف كانت اليمين. فكذلك حكم الإيلاء. وهو قول عبد اللَّه بن مسعود وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما.

ورُويَ عن عليٍّ - رضي اللَّه تعالى عنه - التفريق بين الغضب والرضا. ثم أوجب التربص للمُولِي. فمن كانت يمينه بدون أربعة أشهر فهو بعد المدة ليس بِمُولٍ، فلم يلزمه الحكم الذي جعل اللَّه للإيلاء؛ ألا ترى أنه في المدة ذكر (الفيء)، وهو لو وجد منه لم يجب عليه ما في الفيء من

الكفارة؟! فكذا بمضي المدة لا يلزمه الطلاق. وبه يقول علي وابن عَبَّاسٍ وابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهم - فيقول ابن مسعود: يلزمه حكم يمين يوم، وابن عَبَّاسٍ يقول: الإيلاء يمين الأبد. وذلك عندنا على إرادة الإتمام، ولو جعله شرطًا لكان الحكم يلزمه بمضي الأربعة الأشهر؛ فلا وجه للزيادة عليه، وهو قول عبد اللَّه بن مسعود: يلزمه بدونه.

ثم اختلف الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - في الوقف بعد الأربعة الأشهر، على اتفاقهم على حق لزوم الطلاق أو حقه بمضي المدة، ثم لا يجوز أن يحلف بحق الطلاق فيلزم، ويجوز أن يحلف بالطلاق فيلزم؛ لذلك كان الطلاق أحق مع ما ذلك زيادة في المدة للتربص. وجميع المدد التي جعلت بين الزوجين لم تحتمل الزيادة عليها لما جعلت له المدة، فمثله مدة الطلاق. وهذا على أن اللَّه - تعالى - حذر نقض اليمين بقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا)، وأطلق في هذا أربعة أشهر، بما روي في قراءة أُبي بن كعب، أنه

قرأ: " فإن فاءوا فيهن "، يعني في الأربعة الأشهر، ففي غير ذلك حكم النهي له آخذ. والله أعلم.

٢٢٧

وقوله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ (٢٢٧)

كقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}. وليس ذلك على إحداثه بعد مضي المدة، كذلك الأول. واللّه أعلم.

ثم اختلف فيه على وجوه:

قال ابن مسعود - رضي اللّه تعالى عنه -: الإيلاء على يوم فقط، وأما التربص بأربعة أشهر؛ لأنه لم يذكر في الكتاب للإيلاء مدة، وإنما ذكر المدة للتربص.

وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه تعالى عنه -: الإيلاء على الأبد، ذهب في ذلك إلى أن الإيلاء كان طلاق القوم، والطلاق يقع إلى الأبد.

وقال آخرون: من ترك القربان في حال الغضب مُولٍ، وإن لم يحلف. لكن هذا ليس بشيء؛ لأن اللّه تعالى ذكر الإيلاء، والإيلاء هي اليمين. دليله ما ذكرنا من حرف ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ: (للذين يقسمون)؛ فدل هذا أن حكم الإيلاء لا يلزم إلا باليمين على ترك القربان.

ورُويَ عن عليٍّ بن أبي طالب - رضي اللّه تعالى عنه -: أن رجلا سأله - أنه حلف ألا يقرب امرأته سنتين. فقال: هو إيلاء، وأنها تبين إذا مضت أربعة أشهر. فقال: إنما حلفت ذلك لمكان ولدي. فقال: لا يكون إيلاء. فرأى في ذلك إيلاء إذا كان عاصيًا وإذا كان إيلاؤه هو ترك قربانه إياها بمكان الولد لم ير ذلك إيلاء. ثم لا يجوز أن يحمل ما حمل هَؤُلَاءِ. أما ما حمل علي بن أبي طالب، رضي اللّه تعالى عنه، واعتباره بالعصيان وغير العصيان، فالإيلاء هو اليمين، والأيمان لا يختلف وجوبها ووجوب أحكامهما في حال العصيان وفي حال الطاعة. فعلى ذلك حكم الإيلاء.

ولو حمل على ما حمل ابن مسعود، رضيَ اللّه تعالى عنه، لكان لا يبقى الإيلاء بعد مضي اليوم، فإذا لم يكن يمين بعد اليوم لم يبق حكمها.

ولو حمل على ما قال ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، لكان لا فائدة لذكر التربص.

فإذا بطل ما ذكرنا ثبت قولنا: إن مدة الإيلاء إذا قصرت عن أربعة أشهر لم يلزمه حكم الإيلاء. ولو كان على الأبد لكان لا فائدة في ذكر المدة، وألا يعتبر العصيان ولا الطاعة ولا الغضب ولا الرضاء على ما ذكرنا.

وروي في بعض الأخبار، أنه قال: الإيلاء ليس بشيء. معناه ما قيل: إن الإيلاء كان طلاق القوم، فقوله: " ليس بشيء " يقع للحال دون مضي المدة ثم اختلفوا أيضًا بعد مضي المدة، قيل أن يفيء إليها في المدة.

قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: إذا مضت أربعة أشهر وقع الطلاق.

وقال قوم: إنه يوقف بعد مضي المدة، فإما أن يفيء إليها، وإما أن يطلقها.

واحتجوا في ذلك إلى أن اللَّه تعالى ذكر الفيء بعد تربص أربعة أشهر بقوله: (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا)؛ لذلك كان له الفيء بعد مضي الأربعة الأشهر، وروى في بعض الأخبار الوقف فيه، ورُويَ عن عمر وعلي وعثمان وعائشة وابن عمر - رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم - في الْمُولي: إذا مضت أربعة أشهر فإما أن يفيء وإما أن يطلق. إلى هذا يذهبون. لكن هذا يحتمل أن يكون من الراوي دون أن يكون ما قالت الصحابة. وأما عندنا: إن قولهم: ذكر الفيء بعد تربص أربعة أشهر، فذلك لا يوجب الفيء بعد مضيها؛ ألا ترى إلى قوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، ليس أنه يمسكها بعد مضي الأجل، ولكن معناه: إذا قرب انقضاء أجلهن فأمسكوهن. فعلى ذلك جعل لهم الفيء، إذا قرب انقضاء أربعة أشهر.

وأما ما روي من (الوقف)، فليس فيه الوفف بعد مضي أربعة أشهر، يحتمل الوقف في الأربعة الأشهر.

وأما عندنا: فإنها تَبِينُ إذا مضت أربعة أشهر؛ لما روي عن سبعة من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو ثمانية، أنهم قالوا: إذا مضت أربعة أشهر بانت منه، من نحو: عمر وعلي وابن مسعود وعثمان وابن عَبَّاسٍ وجابر وزيد بن ثابت، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، فاتبعناهم.

ثم اختلف في الطلاق إذا وقع:

قال قوم: هو رجعي. وهو قول أهل المدينة. فهو على قولهم؛ تعنُّت؛ لأن الزوج يقدم إلى الحاكم، فيطلق عليه الحاكم، ثم كان له حق المراجعة، فيكلف الحاكم العنت.

وأما عندنا: فهو بائن. وعلى ذلك جاءت الأخبار، رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: إذا مضت أربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة. وعن ابن مسعود - رضيَ اللَّهُ تعالى عنه - مثله. ورُويَ عن أُبي بن كعب - رضي اللَّه تعالى عنه - في قوله: " فإن فاءوا " أي فيهن يعني في الأربعة الأشهر، (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فثبت أنه جعل الرحمة والمغفرة فيها.

والثاني: قوله: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)، ولو لم يجعل له القربان والنقض في المدة لكان لا سبيل له إلى نقضها بعد مضي المدة؛ إذ هي تتأكد؛ فثبت أنه لا بما اعتبروا يلزم.

ثم قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يحتمل وجهين:

يحتمل: بما جعل له الخروج مما ضيق على نفسه؛ لأنه لا تطول عليه المدة.

ويحتمل: أن المغفرة كانت بما ارتكب ما إذا مضى عليه وجد ذاته مستحقًا للعقوبة، فغفر له صنيعه، ورحمه بأن يجاوز عنه ما فعل.

وقوله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ):

رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: عزيمة الطلاق مضيُّ أربعة أشهر. وقد ذكرنا قول الصحابة - رضي اللّه تعالى عنهم -: إن عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر.

وقوله: {فَإِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

سميع: بإيلائهم، عليم: بترك الفيء وتحقيق حكمه، أو عليم بما أراد بالإيلاء، كأنه قال: إنه عن علم بما يكون من خلقه وبما به صلاحهم وما إليه مرجعهم، وهو السميع بجميع ما به تناجوا وأسروا وجهروا. واللّه الموفق.

والفيء: الجماع، وهو الرجوع في الحاصل؛ لأنه حلف ألا يقربها، فإذا قربها رجع عن ذلك. وهكذا رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ وابن مسعود - رضي اللّه تعالى عنهما - أنهما قالا: الفيء: الجماع.

* * *

٢٢٨

ثم اختلف الناس في الأقراء في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الأقراء: هي الأطهار.

وقيل: لهم من الفضيلة من الولايات والشهادات والعقل، وذلك ليس لهن.

وقيل: هي فضيلة في الحق وبما ساق إليها من المهر.

وقال الشيخ أبو منصور، رحمه اللّه تعالى، في قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.

أي من الحقوق على الأزواج. ثم يحتمل حقوقهن المهر والنفقة، ويحتمل ما أتبع من قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، ويحتمل قضاء ما لها من الحوائج خارج البيت مما به قوام دينها ووقايتها عن النار. وعليها من الحقوق:

مقابل الأول: البذل له وألا يوطئن فرشهن أحدًا.

ومقابل الثاني: أن يحسن إليهن في البر باللسان والقول المعروف الذي فيه تطيب نفسه به، كما وصف الحميدة منهن. " من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا دعوتها أجابتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ".

ومقابل الثالث: ألا تتلقاه بمكروه، ولا تقابله بما يضجره ويغضبه مع الخدمة وكفاية الداخل مما به قوام دينه. واللّه أعلم.

و" الدرجة ": التي ما له من الملك فيها، والفضل في الحقوق عليها، وما جعل " قوامًا عليها "، وغير ذلك. واللّه أعلم.

ويحتمل: ما لهن من قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وعليهن بذل حقهم المعروف، والإحسان إليهم فيما يبغون من الخدمة والقيام بكفاية داخل البيت، مع حفظ ماله عندها. واللّه أعلم.

٢٢٩

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ (٢٢٩)

فيه دلالة أنه يطلق بنيتين بمرتين.

وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.

أن له الرجعة بعد طلاقين، بذكره مرتين. وفيه أن المطلق في الطهر الثالث من غير رجعة مطلق للسنة؛ لما خير بين الإمساك أو التسريح من غير مراجعة، وهو على مالك؛ لأنه يقول: ليس له أن يزيد على تطليقة واحدة إلا أن يراجع.

والتسريح بإحسان: هو التطليقة الثالثة، كذلك رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل عن " التسريح بإحسان "، فقال: " هو التطليقة الثالثة ".

الخلق ومجيئهم؟ والاستواء والمجيء إلى احتمال معان أن ينفي عنه التشبيه أكثر من احتمال الحدود التي في الشاهد. فإذا لم يفهم من هذا ذلك لم يجز أن يفهم من الأول ما فهموا، وقد قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

وقوله: {حُدُودُ اللّه}.

قيل: أحكام اللّه وسننه.

وقيل: أوامره ونواهيه.

وقيل: آدابه وهو واحد.

وقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

يحتمل وجهين:

يحتمل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه} مستحل بها، فيكفر بتعديه ذلك، فهو ظالم - ظلم كفر.

ويحتمل. {وَمَنْ يَتَعَدَّ} تجاوز أمر اللّه وما نهاه عنه غير مستحل لها، فهو ظالم نفسه، غير كافر.

٢٣٠

وقوله: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (٢٣٠)

هذه الآية رجعت إلى الأولى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، فإن طلقها بعد التطليقتين تطليقة أخرى {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}،

وقوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، قيل: التطليقة الثالثة، وعلى ذلك جاء الخبر، وهو واحد عندنا، يدل عليه أيضًا قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.

ويحتمل: عقد النكاح خاصة، دون الجماع من الثاني؛ إذ ليس في الآية ذكر الدخول بها. وأما عندنا: فهو على الجماع في النكاح الثاني، يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: " لا، حتى تذوق من عسيلته ويذوق من عسيلتها "، فيكون النكاح مضمرًا، وهو أولى؛ لأن الآية في عقوبة الأول ولا يشتد عليه النكاح حتى يتصل به الوطء.

وفيه دلالة على كراهية التطليقة الثالثة - إذ هي لا تحل له بعدها إلا بعد دخول زوج آخر بها، وذلك مما ينفر عنه الطبع ويكرهه.

اللّه لا يحب كل ذواق مطلاق "؛ وذلك لقصده الفراق بالنكاح، إذ النكاح بني في الأصل على البقاء والدوام عليه، وفيه التعفف، وفي الطلاق زوال ما به يقصد؛ فلهذا لحقه ما لحقه من اللعن.

ثم المحلَّل له لما طلب بنكاح الزوج الثاني ما ينفر عنه الطباع ويكرهه من عودها إليه بعد مضاجعة غيره إياها، واستمتاعه بها منع لهذا المعنى عن إيقاع الثالثة، لكن إذا تفكر حرمتها عليه إلا بنكاح آخر، انزجر عن ذلك.

ثم العقد نفسه لا ينفر عنه الطباع ولا يكرهه؛ ثبت أن الدخول شرط فيه ليكون زجرًا ومنعًا عن ارتكابه.

وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا}، يخرج على الترخيص؛ وذلك - واللّه أعلم - أن الطلاق يحرمها عليه ويبينها منه كما تحرم عليه هي بأنواع الحرم يحرم فأخبر - عز وجل - وأباح له النكاح بعد وقوع الحرمة - أن هذه الحرمة ليست كغيرها من الحرم التي لا ترتفع أبدًا. واللّه أعلم.

* * *

٢٣١

وقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}

وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}، ذكر في الآية الأولى (الإمساك)، والإمساك المعروف: هو إمساكها على ما كان من الملك. وذكر في الآية الأخيرة (الرد)، والرد لا يكون إلا بعد الخروج من الملك. هذا هو الظاهر في الآية. لكن بعض أهل العلم يقولون: إنه يمسكها على الملك الأول ويردها من الحرمة إلى الحل؛ لأن من مذهبهم: أن الطلاق يوجب الحرمة، ولا يخرجها من ملكه. وهذا جائز أن يحرم المرأة على زوجها وهى بعد في ملكه. فإذا كان كذلك فأمر بالإمساك على الملك الأول وبالرد من الحرمة إلى الحل. وهو قول أهل المدينة أي يردها من العدة إلى ما لا عدة، ويمسكها بلا عدة.

وأما عندنا: فهو واحد بحدث الإمساك، دليله قوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}،

ولو لم يكن الإمساك سوى القصد إليه، لكان لم يكن بالقصد إليها مضرًّا.

وهو فيما أمر بالإمساك بالمعروف فيه وجهان:

وفي قوله: {وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، تخويف وتحذير، ليعلموا أن كل شيء في علمه، وأنه لا يعزب عنه شيء في علمه. وباللّه العصمة.

٢٣٢

وقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ (٢٣٢)

اختلف في تأويله:

قال قائلون: فيه دليل فساد النكاح دون الأولياء، واحتجوا بأن قالوا: قال اللّه تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}، ولا ينهى عن القول من غير أن يعمل، إذ القول فيما لا يعمل غير ضار لعضلها به؛ فثبت أنه عامل، وأن له فيه حقًّا إلى أن نهوا، ثبت أن قوله: " لا تعضل "، منع؛ إذ لو لم يجعل منعًا لم يكن ضارًّا به.

وقال آخرون: فيه دليل جواز نكاحهن دون الأولياء؛ لأنه تعالى قال: {أَنْ يَنْكِحْنَ}، واستدلوا: بأن النكاح على وجود العضل يجوز، ولو كان العضل سبب المنع في الجواز لم يحتمل جوازه إذا فات. وفيه أن العضل إذا لم يكن، جاز للنساء تولى النكاح. واحتجوا أيضًا بما أضاف النكاح إليهن بقوله: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}،

وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ}، وأضاف الإنكاح إلى الأولياء على إرادة إدخال الصغار، والثاني على وجوب الحق لهن عليهم، لا أن يجب لهم عليهن.

ثم الأصل: بأن كل نكاح أريد بالذكر الصغار وأضيف الإنكاح إلى الأولياء؛ كقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}،

وقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}، مع ما احتمل دخول البالغين في هذا، دليله قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}، والفدية لا تصح من الصغار،

وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللّه}، والصغار لا يخاطبن بإقامة حدود اللّه،

وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وإن كان متأخرًا في الذكر.

بهذا قيل إن وقوع الإنكاح بالإضافة في الصغار إلى الأولياء، وفي الكبار إليهن، ثم ذكر الكفاءة والمهر، وجرى إضافته إلى الأولياء، لذلك كان لهم التعرض في فسخه.

ثم قوله: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}، رجع ذلك إلى المهر؛ لأن (التراضي) فعل أي: اللّه يعلم من حب كل واحد منهما صاحبه، وأنتم لا تعلمون ذلك.

ويحتمل: {وَاللّه يَعْلَمُ} وفيما صلاحكم، {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك.

* * *

٢٣٣

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ}، هن المطلقات، يرضعن أولادهن، وهو كقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، ذكر هاهنا الأجر، وذكر هناك الرزق والكسوة، وهما واحد.

وقال آخرون: لا، ولكن قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} هن المنكوحات،

وقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} هن المطلقات. دليل ذلك: ذكر الأجر في أحدهما، والرزق والكسوة في الأخرى، على أن المنكوحة إذا استؤجرت على رضاع ولدها منه لم يستوجب الأجر، ويستوجب قبل الزوج الرزق والكسوة؛ فدل هذا على أن ذكر الأجر في المطلقات، وذكر الرزق والكسوة في المنكوحات.

فَإِنْ قِيلَ: ما فائدة ذكر الرزق والكسوة في المنكوحة في الرضاع، وقد يستوجب ذلك في غير الرضاع؟

قيل: فائدة ذكر الرزق والكسوة فيه - واللّه أعلم - لأنها تحتاج إلى فضل طعام وفضل كسوة لمكان الرضاع؛ ألا ترى أن لها أن تفطر لذلك؟! فثبت أن لها فضل حاجة في حال الرضاع ما لا يقع لها تلك الحاجة في غير حال الرضاع؛ فخرج ذكر الرزق والكسوة فيه - واللّه أعلم - ذكر تلك الزيادة والفضل، واللّه أعلم.

وفي القرآن دليل أن مؤنة الرضاع على الأب من أوجه:

أحدها: قوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}.

التسليم عليه. وذلك دليل لقول من يفرق بين قوله: أعطيتتني كذا، فلم أقبضه. وسلمتني فلا أقبضه، واللّه أعلم.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللّه}.

أي: فيما أمركم من الإنفاق، والكسوة، ونهاكم من إضرار أحدهما صاحبه.

وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

وهو وعيد على ما سبق من الأمر والنهي.

* * *

٢٣٤

وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.

قيل: هي ناسخة لقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ}. إنها وإن كانت مقدمة في الذكر، وتلك مؤخرة، {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، ناسخة لتلك. إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل؛ ألا ترى إلى ما جاء في الخبر: أن امرأة أتت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت: أن بنتًا لها تُوفي عنها زوجها، واشتكت عينها، وهي تريد أن تكحلها. فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قد كانت إحداكن في الجاهلية تجلس حولًا في منزلها ثم تخرج عند رأس الحول، فترمى بالبعر، وإنما هو أربعة أشهر وعشرا ". فثبت بعد انقضاء عدة، وقيل: المعروف هو وضعهن أنفسهن، أي في الأكفاء بمهر مثلهن. قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

٢٣٥

وقوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ (٢٣٥) قيل: (التعريض) هو أن يرى من نفسه الرغبة فيما يكنى به من الكلام، على ما ذكر في الخبر: أن فاطمة بنت قيس لما استشارت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال لها: " إذا انقضت عدتك فآذنيني، فاستأذنته في رجلين كانا خطباها، فقال لها: أما فلان فإنه لا يرفع العصا عن عاتقه، وأما فلان فإنه صعلوك لا شيء له؛ فعليك بأسامة بن زيد ". فكان قوله عليه النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)

٢٣٦

وقوله: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)

فيه دليل رخصة طلاق غير المدخولات بهن في الأوقات كلها؛ إذ لا يتكلم بنفي الجناح إلا في موضع الرخصة، ولم يخص وقتًا دون وقت. وأما المدخولات بهن فإنه عز وجل ذكر لطلاقهن وقتًا بقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}؛ لذلك قال أصحابنا - رحمهم اللّه تعالى -: أن لا بأس للرجل أن يطلق امرأته في حال الحيض إذا لم يدخل بها.

وجهه: أنه إذا كان دخل بها فعرف وقت طهرها مه، سبق من الدخول بها، فأمر بالطلاق في ذلك الوقت ليكون أدعى إلى المراجعة إذا ندم على طلاقها. وأما التي لم يدخل بها لا يعرف وقت طهرها لما لم يسبق منه ما به يعرف ذلك الوقت، فلم يؤمر بحفظ ذلك الوقت. ولأنه إذا لم يدخل بها فإن الطلاق بينهما منه، فجعل كل الأوقات له وقتا للطلاق، لما لم يجعل له حق المراجعة قبلها ليكون بعض الأوقات له أدعى إلى ذلك. واللّه أعلم.

والثاني: أن المدخول بها يتوهم علوقها منه، فجعل الطلاقها وقتًا لتستبين حالها: أحامل، أم لا؟ لئلا يندم على طلاقها؛ لأن الرجل إذا طلق امرأته ثم علم أنها حامل يندم على طلاقها؛ لذلك كان الجواب ما ذكرنا. واللّه أعلم.

وفيه دليل رخصة طلاق المبين منه إذا لم يملك إمساكها عند الندامة. لأن الطلاق قبل الدخول تبين المرأة من زوجها.

والأصل في الأمرين - جعل الطلاق في وقت حلها للأزواج. وكل الأوقات في غير المدخول بها وقت الحل.

وقوله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}

ومعناه - ولم تفرضوا لهن فريضة، كأنه عطف على قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}، دليله قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ}، دل الأمر بالمتعة أن قوله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ}، معناه - ولم تفرضوا لهن. ودل قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} "، أن ذلك في غير المفروض لها؛ حيث أوجب في المفروض نصف المفروض كانت التي وقعت الفرقة عليها بغير طلاق يلزمها ما يلزم المطلقة، ومثل ذلك كثير مما يكثر ذكره. واللّه أعلم.

وأما عندنا فإنه لا تلزم المتعة، ولكن يلزم مهر المثل لوجوه:

أحدها: قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}، ذكر في الطلاق قبل الدخول نصف المفروض، وفي الدخول كل المفروض؛ فعلى ذلك ما أوجب من الحكم في التي لم يدخل بها ولم يسم لها مهرًا دون ما أوجب في حكم الدخول. واللّه أعلم.

والثاني: أن المقصود بالنكاح إنما يكون إلى موت أحد الزوجين، فإذا كان كذلك لزم كل المسمى أو كل مهر المثل. واللّه أعلم.

والثالث: الخبر الذي ذكرنا: أنه قضى بمهر المثل، وخبر أمثال هَؤُلَاءِ مقبول إذا كانت البلية في مثله بلية خاصة، إذ بمثل هذا لا يبلى إلا الخواص من الناس؛ لذلك كان ما ذكرنا.

٢٣٧

وقوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)

ذهب قوم إلى ظاهر الآية - أنه ذكر فيها {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}، ولم يخص المفروض في العقد دون المفروض بعد العقد، فكله مفروض، فلها نصف المفروض سواء كان المفروض في العقد أو بعد العقد.

وعلى ذلك قال قوم: إن الرجل إذا تزوج امرأة على جارية ودفعها إليها، فولدت عندها ولدًا، ثم طلقها قبل الدخول بها، أن لها نصف الجارية؛ لأن اللّه تعالى قال: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}، وأنتم لا تجعلون له نصف ما فرضتم، فخالفتم ظاهر الكتاب.

أما الجواب لمن جعل المفروض بعد العقد كهو في العقد فيما جعل لها نصف ما فرض، فإن الخطاب من اللّه تعالى إنما خرج في المفروض في العقد لا في المفروض بعد العقد؛ الأنه لم يتعارف الفرض بعد العقد، فإذا لم يتعارف في الناس الفرض بعد العقد إنما يعارف في العقد، خرج الخطاب على هذا المتعارف فيهم، وهو المفروض في العقد، فيجعل لها نصف ذلك وما يفرض بعد العقد وإنما يفرض بحق مهر المثل، فإذا وجد الدخول وجب ذلك وإلا لم يجب.

٢٣٨

وقوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للّه قَانِتِينَ (٢٣٨)

و (المحافظة) هو المفاعلة والمفاعلة هي فعل اثنين. فهو - واللّه أعلم - أنه إذا حفظها على وقتها ولم يسهو عنها حفظته، وهو كما ذكر في آية أخرى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}. وفي حرف ابن مسعود - رضي اللّه تعالى عنه -: (إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر). فعلى ذلك إذا حفظها على أوقاتها مع أحكامها وسننها، ولم يدخل ما ليس فيها - من الكلام، والالتفات، وغير ذلك مما نهي عنه - حفظته. وكذلك قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ}،

وقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ}، من المفاعلة، فإذا بادر إليها بدرت إليه. وباللّه التوفيق.

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}.

اختلف أهل العلم في تأويله:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}، أراد كل الصلاة لا صلاة دون صلاة. وهو - واللّه أعلم - أن الصلاة هي الوسطى، هي من الدِّين. وهو على ما جاء: الإيمان كذا كذا بضعة، أعلاها كذا كذا، وأدناها كذا، فعلى ذلك قوله: والصلاة هي الوسطى من الدِّين، ليست بأعلاها ولا بأدناها، ولكنها الوسطى من الدِّين.

وقال آخرون: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}، هي صلاة العصر. وعلى ذلك رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " هي العصر ". وذكر في حرف حفصة - رضي اللّه تعالى عنها -:

صلاتهم خاضعين ساهين، فأمر أهل الإسلام أن يقوموا مطيعين.

و" القنوت " هو القيام، على ما رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل عن أفضل الصلوات، فقال: طول القنوت. وأصل القنوت - ما ذكرنا - هو القيام، غير الذي يقوم لآخر، يفوم على الخضوع والخشوع والسكوت. وليس في الآية أنه أمر بذلك في الصلاة، غير أن أهل التأويل صرفوا إلى ذلك؛ لأنها ذكرت على أثر ذكر الصلاة. وكذلك

٢٣٩

قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (٢٣٩) ليس فيه أن ذلك في الصلاة، لكنهم صرفوا إليها ذلك؛ لأنه ذكر على أثر ذلك الصلاة. ثم اختلف فيه:

قالوا: {رُكبَانًا} على الدواب، حيثما توجهت بهم الدواب يصلون عليها في حال السير والوقوف. وعلى ذلك جاءت الآثار من فعل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفعل الصحابة، رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين، في النوافل، فتكون الفرائض عند العذر به مرادة بالآية، بل على ما ظهر فعل النوافل في غيره بالسنة.

وأما قوله: {فَرِجَالًا} فمما اختلف فيه:

قال: ما يكون {فَرِجَالًا}، فمشاة، وهو من الرجل وترجل: مشى راجلا.

وأما عندنا: فهو على المعروف من الصلاة على الأرجل والأقدام قيامًا وقعودًا، لا يزال عن الظاهر. والمعروف الذي عرف الفعل به على ما عرف من الصلاة على الأرجل.

أنه على خلق فعل التعليم ونفيه. واللّه تعالى أعلم.

* * *

٢٤٠

وقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)

قد ذكرنا فيما تقدم أنها تخرج على وجهين:

على النسخ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.

ويحتمل: على نسخ الوصية خاصة دون نسخ العدة، وأن الأمر بالاعتداد في الآيتين أمر واحد - أربعة أشهر وعشرًا، ونسخ الوصية بآية الميراث وبقول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -:

" لا وصية لوارث ".

وفيه دلالة: أن للموصَى له خيارًا بين قبول الوصية وبين ردها.

وفيه أيضا: أن له أن يردها إذا قبل بقوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، إذ في الخروج ردها وذلك بعد القبول.

وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، قد ذكرنا فيما تقدم أنها تحتمل وجهين:

تحتمل: ما فعلن في أنفسهن من معروف، من التشويف والتزيين. وكذلك روى في حرف ابن مسعود - رضي اللّه تعالى عنه -: " لا جناح عليهن أن يتشوفن ويتزين ويلتمسن الأزواج ".

ويحتمل: وضعهن أنفسهن في الأكفاء بمهر مثلهن. واللّه أعلم.

٢٤١

وقوله: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)

تحتمل الآية أن تكون في المطلقات المدخولات بهن وقد فرض لهن أن يأمر الأزواج بالمتعة ندبًا، لا وجوبًا، على ما رُويَ عن الحسن بن علي - رضي اللّه تعالى عنهما - أنه متع بعشرة آلاف، على ما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ وابن عمر، رضيَ اللّه تعالى عنهما، أنهما قالا: إن كنت من المتقين ومن المحسنين فمتعها. فهو أمر ندب، لا أمر إيجاب يجبر على ذلك.

وإن كانت في المطلقة التي لم يدخل بها ولا فرض لها صداقًا فهو على ما يقوله - وهي واجبة يجبر على ذلك؛ فتخرج هذه الآية والتي قبلها، قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}، على مخرج واحد، غير أن في إحديهما بيان قدر المتعة، وليس في الأخرى سوى ما ذكر.

ويحتمل وجه آخر: وهو أن الأمر بالمتعة أمر بالإنفاق عليها والكسوة لها إذا دخل بها، ما دامت في العدة. أو على الاختيار على ما ذكرنا، لا على الإيجاب؛ إذ لو كان على الوجوب لكان في ذلك إيجاب بدلين -الصداق والمتعة- ولم يعرف عقد من العقود أوجب بدلين؛ فكذلك هذا. واللّه أعلم.

والثاني: أن الطلاق سبب إسقاط، لا سبب إيجاب. فإذا كان كذلك لم يجز أن يوجب السبب الذي هو سبب الإسقاط؛ لذلك لم يجب. واللّه أعلم.

٢٤٢

وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)

ما سبق ذكره من الأحكام من الأمر بالاعتداد، والإنفاق عليهن، والتمتع وغير ذلك {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، أمره ونهيه.

قال الشيخ، رحمه اللّه تعالى، في قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ}: أي كما يبين في هذا يبين في جميع ما يعلم لكم إلى بيان ذلك حاجة على قدر ما أراد من البيان -من بيان كفاية أو مبالغة- ليعلم أن جميع ما إليه بالخلق حاجة داخل تحت البيان، يوصل إلى ذلك بقدر ما تحتمله العقول على ما يكرم اللّه المجاهدين فيه في طلب مرضاته.

ولا قوة إلا باللّه.

٢٤٣

وقوله: {أَلَمْ تَرَ}، حرف تعجب وتنبيه، ليتأمل فيما يلقى إليه مما أريد الإنباء عنه، أو فيما قد كان سبق الإنباء عنه، ليتجدد بالنظر فيه عهدا. وعلى ذلك المعروف من استعمال هذه الكلمة، وكذلك وجه تأويله إلى الخبر مرة وإلى العلم به ثانية، وإلى النظر فيه ثالثاً، على اختلاف ما قيل. وفيه كل ذلك. واللّه تعالى أعلم.

قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ}، " ألم تخبر "،

و" ألم تنظر "، ومثل هذا إنما يقال عن أعجوبة.

فالقصد فيه - واللّه تعالى أعلم - أنه جواب قوله: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}، أخبرهم اللّه عَزَّ وَجَلَّ عن قصة هَؤُلَاءِ: أن جهلهم بآجال أُولَئِكَ حملهم على هذا القول؛ مثل جهل بني إسرائيل بآجالهم حملهم على الخروج من ديارهم حذر الموت، ثم لم ينفعهم ذلك بل أُميتوا. كذلك هذا.

ثم اختلف في قصة هذه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: أخرجوا فرارًا من الجهاد في سبيل اللّه، فأماتهم اللّه، ثم أحياهم، وأمرهم أن يخرجوا إلى الجهاد في سبيل اللّه.

وقال آخرون: وقع الطاعون في قريتهم، فخرج أناس وبقي أناس، فمن خرج أكبر ممن بقي، فنجا الخارجون، وهلك الباقون، فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلًا، فأماتهم اللّه، ثم أحياهم.

فلا تدري كيف كانت القصة. فإن كانت القصة في الفرار من الجهاد في سبيل اللّه، وله نظير في الآيات، قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى يقطع ولا يصل؛ إذ لو حمل ذلك على ما يقولون هم لخرج فعله فعل من يجهل العواقب. فَإِنْ قِيلَ: فلِمَ يلام القاتل إذا قتل غيره بغير حق؟

قيل له: لأنه كتب أجل المقتول بقتل هو معصية بما علم اللّه أنه ينقضي به. وكتاب الآجال هو بيان النهايات والأعمار.

٢٤٤

وقوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)

قد ذكرناه متضمنًا فيما تقدم.

٢٤٥

وقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّه يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)

عامل اللّه تعالى بلطفه وكرمه الخلق معاملة من لا حق له في أموالهم، لا كمعاملة العباد بعضهم بعضًا، وإن كان العبيد وأموالهم كلهم له حيث طلب منهم الإقراض لبعضهم من بعض ثم وعد لهم الثواب على ذلك فقال: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}. ثم لما سمع اليهود ذلك قالوا: إن إله مُحَمَّد فقير، وهو قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا ِإنَّ اللّه فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}. ومرة قالوا لما رأوا الشدة على بعض الناس فقالوا: إنما يفعل ذلك ببخله حيث قالوا: {يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ}. فرأوا المنع إما للبخل وإما للفقر. فأكذبهم اللّه في قولهم ذلك فقال: {وَاللّه يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ}.

قيل: {يَقْبِضُ}، أي يقتر، {وَيَبْسُطُ}، أي يوسع.

وقيل: {يَقْبِضُ} ما أعطى، أي يأخذ. و {وَيَبْسُطُ} ويترك ما أعطى، ولا يأخذ منه شيئًا.

وقيل: إنها نزلت في أبي الدحداح؛ وذلك أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " من تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة. فقال أبو الدحداح: إن تصدقت بحديقتي، فلي مثلها في الجنة؟ فقال: نعم.

وقال: وأم الدحداح معي؟ قال: نعم.

وقال: والصبية معي؟ قال: نعم. فرجع أبو الدحداح فوجد أم الدحداح والصبية فيها، فقام على باب الحديقة، فنادى: يا أم الدحداح إِنِّي جعلت حديقتي هذه صدقة، واشترطت مثيلتها في الجنة، وأم الدحداح  والصبية فيها معي. قالت: بارك اللَّه لك فيما شريت، وفيما اشتريت أربيت. فخرجوا منها، فتركوا ما كانوا اجتنوا منها، وسلموا الحديقة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. فنزل قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا. . .) الآية.

قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) الآية، في توجيه الآية إليه: فمنهم من يوجهها إلى جميع المحاسن يؤثرها ويختارها لله، فله أضعاف ذلك في الموعود - آجلا وعاجلا - فالآجل ما وعد، والعاجل ثناء الناس وجلالة القدر له في القلوب، متعارف ذلك للأخيار. وسماه قرضا بما هو اسم المعروف، ليذكره عظم نعمه عليه، إن قبله قول المعروف بالشكر له في ذلك، وإن كان ذلك حقا له عليه. واللَّه أعلم.

والثاني: ليعرف الخلق كيفية الصحبة والمعاشرة بينهم. إن اللَّه تعالى عامل عبده فيما هو له معاملة من يستحق الشكر منه بما يسدى إليه من النعم، ولله حقيقة ذلك، ليعقل الحكماء أن مثل ذلك في معاملة الإخوان، وفيما كان نعمه في الحقيقة أوجب وأحق، وليعظموا المعروفين بالمعروف بما أكرمهم اللَّه تعالى بالأسماء الجليلة. ولا قوة إلا باللَّه. ومنهم من يوجهها إلى الصدقات خاصة؛ سماها قرضا لوجوه:

أحدها: أن جعل معاملة الفقراء والتصدق عليهم معاملة اللَّه تفضيلا لهم، على ما نسب مخادعة المؤمنين إلى اللَّه تعالى تعظيمًا لهم، فمثله الصدقة. ثم وعد فيه العوض لتصير الصدقة بمعنى الإقراض، إذ يرجع في عوضه، فيزول وجه الامتنان عن الفقير بما يأخذ منه البدل. وباللَّه التوفيق.

والثاني: سمى ذلك قرضًا بما هو له على ما لم يزل اللَّه تعالى عود به عباده بالذي عرفوا به كرمه وجوده حتى سمى تسليم الذي له في الحقيقة قرضا كالتسليم إلى من لا حق له في الحقيقة، وعلى ذلك أمر الشراء بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، واللَّه أعلم.

والثالث: أنه ذكرهم وجه القصد في الصدقات، والموقع لها، ليكون ذلك تبينًا لعظيم منه الفقر عليه إذ وصل به إلى اللَّه ذكره وأجل محله عنده، فيصير عنده أحد الأعوان له والأنصار على عظيم الموعود وجليل القدر عند اللَّه. فيحمده على ذلك ويشكر له دون أن يمن عليه أو يؤذيه. واللَّه الموفق.

٢٤٦

وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه ... (٢٤٦).

في هذه الآية والتي قبلها قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات؛ لأن القصة فيهم كانت ظاهرة في أهل الكتاب، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يختلف إلى أحد منهم، ولا نظر إلى كتبهم، ثم أخبر على ما كان، دل أنه إنما عرف ذلك باللّه عَزَّ وَجَلَّ.

ثم فيه دلالة: أن كل نبي منهم كان إنما يشاور الأشراف من قومه والرؤساء منهم، وإليهم يصرف تدبير الأمور، ولا إلى السفلة منهم والرُّزالة.

وفيه دلالة أيضًا: أن الأنبياء، صلوات اللّه عليهم وسلامه، لم يكونوا يتولون الجهاد والقتال بأنفسهم، ولكن الملوك هم الذين يتولون ذلك. ثم الملوك هم الراجعون إلى تدبيرالأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، في أمر الدِّين والآخرة، حيث سألوا (ملكا) يقاتلون معه عدوهم.

ذكر أن كفار بني إسرائيل قهروا مؤمنيهم فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، فمضوا زمانًا ليس لهم ملك يقاتل عدوهم، فقال النبي لهم، وهو من نسل هارون ابن عمران أخى موسى: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ} عدونا، فقال لهم نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} استخبار عن سؤالهم الذي سألوا، أحق هو أم شيء أجروه على ألسنتهم من غير تحقيق، لئلا يستوجبوا العذاب بتركهم ذلك إذا أجيبوا وأعطوا ما سألوا وتمنوا؛ لما عرف من شدة القتال مع العدو والجهاد في سبيل اللّه، وكراهية ذلك في كل قوم إلى أن بينوا أنهم عن حق سألوا لما تبينوا العلة التي حملتهم على ذلك، وغاية رغبتهم فيها، وما لأجله كان السؤال، إن قالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّه وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}، من القتل، وأخذ الأموال وسبي الذراري.

قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ}، أي: فرض، {تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}، فيه دلالة على أنه قد كان فيهم ما كان في هذه من قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}، من كراهية القتال والجهاد في سبيل اللّه.

وقيل: {تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرًا لم يتولوا عما سألوا. ثم قال لهم نبيهم.

٢٤٧

قوله تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا (٢٤٧)

قيل: سمي " طالوتا " لطوله وقوته.

وقوله: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}.

يتوجه مثل هذا الكلام وجهين:

أحدهما: على الإنكار، فلا يحمل على الإنكار؛ لأنه كفر.

والثاني: على الاسترشاد وطلب العلم لهم منه في ذلك عن جهة جعله له ملكًا، لما قد عرفوا أن لا يستوجب الملك، ولا يولى إلا أحد رجلين: إما بالوراثة من الآباء، أو بالسعة في المال، لذلك قالوا: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}، لأنهم كانوا أبناء الملوك وأرباب الأموال.

ثم بين لهم - عَزَّ وَجَلَّ - أن جهة الاختيار ليس إليهم، وأن سبب الملك ليس ما ذكرنا دون غيره، بل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - يختار من يشاء لذلك بأسباب سوى ما ذكروا بفضل علم وبفضل قوة، حيث قال:

{قَالَ إِنَّ اللّه اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّه يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}.

قرر عندهم أن الملك يحتاج إلى فضل علم وفضل قوة.

٢٤٨

وقوله: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (٢٤٨)

وكأنهم سألوا نبيهم: ما آية ملكه؟

فقال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت تحمله الملائكة.

ذكر في القصة: أن التابوت يكون مع الأنبياء، إذا حضروا قتالا قدموا التابوت من بين أيديهم إلى العدو، ويستنصرون به على عدوهم. وفيه سكينة، كأنها رأس هرة فإذا أن ذلك الرأس سمع التابوت أنين ذلك الرأس دف نحو العدو، وهم يمضون معه ما مضى، فإذا استقر ثبتوا خلفه. فلما هربت بنو إسرائيل وعصوا الأنبياء سلط اللّه تعالى عليهم عدوهم، وأخذوا منه التابوت لما سئموا وملوا، ثم رد عليهم بعد زمان طويل، وجعل ذلك آية من آيات ملك طالوت. فلا ندري كيف كانت القصة.

ثم اختلف في قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}.

قيل: {سَكِينَةٌ}، ريح هفافة، فيها صورة كوجه الإنسان.

وقيل: السكينة لها وجه كوجه الهرة، لها جناحان، فإذا تصوتت عرفوا النصرة.

وقيل: السكينة: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.

وقيل: (فِيه)، أي: في التابوت {سَكينَةٌ}، أي طمأنينة من ربكم، كأن التابوت في أي مكان كان اطمأنوا إليه وسكنوا.

فلا ندري ما السكينة؟ سوى أننا عرفنا أن قلوبهم كانت تسكن إليه وتطمئن. فليس لنا إلى معرفة (السكينة)، وكيفيتها حاجة.

وقوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

قيل: " البقية " فيه رضاض الألواح -وهو كسرها- وثياب موسى، وثياب هارون. وقيل: عصا موسى، وعصا هارون.

٢٤٩

وقوله: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ (٢٤٩)

أي: من المدينة.

: هم سبعون ألفا.

وقيل: كانوا مائة ألف، سار بهم في حر شديد، فنزلوا في قفرة من الأرض، فأصابهم عطش شديد، فسألوا طالوت الماء، فقال لهم طالوت:

{إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}

قيل: نهر بين الأردن وفلسطين.

وقيل: هو نهر فلسطين.

وقيل: إنما قال لهم: إن اللّه مبتليكم بنهر نبيهم.

وقوله: {فَمَن شَرِبَ} غرفة كفاه، ومن شرب أكثر منه لم يروه؛ لأنهم عصوه.

وقيل،

{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي}.

أي: ليس معي على عدوي، أي: لا يخرج معي.

ويجوز {فَلَيْسَ مِنِّي} من أتباعي وشيعتي.

وجائز أن يكون به ظهور النفاف والصدف {مِنِّي} في الدِّين.

{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}.

يقول: {مِنِّي}، أي معي على عدوي.

فيه دليل أن يسمى الشراب باسم الطعام، والطعام باسمه.

{إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}

استثنى (الغرفة)، كأنه قال: من شرب منه فليس مني إلا غرفة.

ففيه جواز الثنيا من الكلام المتقدم وإن كان دخل بين حرف الثنيا وحرف الأول شيء آخر. وهو يدل لأصحابنا، رحمهم اللّه تعالى، حيث قالوا: فيمن أقر، فقال:

٢٥٠

وقوله: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ (٢٥٠)

يعني لقتالهم.

وقوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.

يقول: اصبب. ويقال: أتمم علينا صبرا.

وهكذا الواجب على كل من لقي العدو أن يدعو بمثل هذا.

وعلى قول المعتزلة لا معنى لهذا الدعاء، لأنه قد كان فعل بهذا الأصلح.

فاستجاب اللّه دعاءهم، وهزم عدوهم؛

٢٥١

وهو قوله تعالى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّه وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ (٢٥١)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {بِإِذْنِ اللّه}، بأمر اللّه. لكن لا يحتمل؛ لأنهم كانوا يقاتلون بالأمر، ولا يهزمون بالأمر.

وقال آخرون: {بِإِذْنِ اللّه}، بعلم اللّه، كان في علمه في الأزل أنهم يهزمونهم.

وقيل: {بِإِذْنِ اللّه}، بنصر اللّه. وهو أقرب. واللّه أعلم.

وقيل في القصة: إن داود، عليه السلام، كان راعيًا، وكان له سبعة إخوة مع طالوت خرجوا معه للقتال. ولما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أرسل داود إليهم لينظر ما أمرهم ويأتيه بخبرهم. قال: فأتاهم وهم في الصفوف. فبرز جالوت، فلم يخرج إليه أحد.

فقال: (يا بني إسرائيل) لو كنتم على حق لخرج إليَّ بعضكم. فقال داود لإخوته: أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف؟ قال: فقالوا: اسكت. قال: فذهب داود إلى طالوت، فقال: أيها الملك، إِنِّي أراكم تعظمون شأن هذا العدو. ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ قال طالوت: أنكحه ابنتي، وأجعل له نصف ملكي. فقال داود لطالوت: فأنا أخرج إليه. فلما قال داود: (أنا أخرج إليه)، قال له طالوت: من أنت؟ قال: أنا داود بن فلان. فعرفه طالوت، ورأى أنه أجلد إخوته. قال: فأعطاه طالوت درعه وسيفه. قال: فلما خرج داود في الدرع جرها في الأرض؛ لأن طالوت كان أطول منه. قال: فأخذ داود العصا ثم خرج إلى جالوت. فمر بثلاثة أحجار، فقلن: يا داود خذنا معك، ففينا ميتة جالوت. فأخذها ثم مضى نحوه. وعلى جالوت بيضة هي ثلاثمائة رطل. فقال له جالوت: إما أن ترميني، وإما أن أرميك؟ فقال له داود: بل أنا أرميك. فرماه بها، فأصابه

في آخرها، فوقعت في صدره، فنفذته وقتلته، وقتل الحجر بعد ما نفذ جنودًا كثيرة، وهزم اللَّه جنوده. وهو قوله: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)، والقصة طويلة فلا ندري كيف كانت القصة وليس لنا إلى معرفتها حاجة (١).

وقوله: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ).

فالملك يحتمل: علم الحرب، وسياسة القتال؛ إذ لم يكونوا يقاتلون إلا تحت أيدي الملوك، وهو كقوله: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ).

ويحتمل: (الْمُلْكَ)، بما عقد له من الخلافة؛ كقوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).

وذكر: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) الأمرين لما كان من قرب زمانه على ما عليه ابتداء الآية أن الملك يكون غير نبي، فجمعا جميعًا له فيكون على ذلك تأويل الحكمة أنها النبوة.

(وَالْحِكْمَةَ)، قيل: هي الفقه.

وقيل: هي النبوة. وقد تقدم ذكره.

وقوله: (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ).

قيل: صنعة الدروع، كقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ).

وقيل: كلام الطير، وتسبيح الجبال، كقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ). وذلك مما خص به داود دون غيره من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.

ويحتمل: (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)، أشياء أخر.

وقوله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بالكفار بعضهم ببعض شرهم عن المسلمين، لما شغل بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض أعداء إلى أن لم يتفرغوا عن أنفسهم للمسلمين، وإلا كان

__________

(١) القصة تفتقر إلى سندٍ صحيح، وإن كانت روائح الإسرائيليات تفوح منها، ونعم ما قال المفسِّر - رحمه اللَّه -.

في ذلك فساد الأرض.

وقال آخرون: دفع بالرسل والأنبياء شرهم عن المسلمين، وكفاهم بهم.

وقال غيرهم: دفع بالمؤمنين بعضهم عن بعض - دفع بالمجاهدين في سبيل الله عن القاعدين عن الجهاد، وإلا لغلب المشركون على الأرض.

وقيل: بدفع بالمصلي عمن لا يصلي، وبالمزكي عمن لا يزكي، وبالحاج عمن لا يحج، وبالصائم عمن لا يصوم.

ثم اختلف في قوله: (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)

وقيل: لو لم يدفع بعضهم ببعض لقتل بعضهم بعضًا، وأهلك فريق فريقًا، وفي ذلك تفانيهم وفسادهم، وفي ذلك فساد الأرض.

وقال آخرون: لو لم يدفع لفسدت الأرض، أراد بفساد الأرض فساد أهلها؛ لأنه لو لم يدفع لغلب المشركون على أراضي الإسلام وأهلها. فإذا غلبوا فسد أهلها.

وقال: (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)، إذا غلب المشركون عليها هدمت المساجد والصوامع، ففيه فساد الأرض. واللَّه أعلم.

وقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).

وعلى قول المعتزلة: ليس هو بذي فضل على أحد؛ لأن عليه أن يفعل ذلك، وأن يدفع ذلك كله عن المسلمين على قولهم، فإذا كان عليه ذلك لا يصير هو بما يدفع مفضلا ولا ممتنًّا. فنعوذ باللَّه من السرف في القول.

٢٥٢

وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)

يحتمل قوله: {آيَاتُ اللّه}، ما ذكره من قتل داود جالوت بالأحجار.

ذكر في القصة مع ضعف داود وقوة جالوت، على ما قيل: إن قامته كانت قدر ميل، وإن بيضته كانت ثلاثمائة رطل.

ويحتمل: ما ذكر من قيام القليل للكثير؛ لأنه قيل: إن جنود جالوت مائة ألف، وجنود طالوت ثلاثمائة وثلاثة عشر. وذلك من الآيات.

ويحتمل: جميع ما قص اللّه عليه في القرآن من خبر الأمم السالفة. واللّه أعلم.

وفي قتل داود جالوت، وقتل القليل الكثير، دليل: أنهم لم يقتلوا لقوة أنفسهم، ولكنهم باللّه وبنصره إياهم.

قال الشيخ - رحمه اللّه -: من آيات وحدانيته: قتل داود جالوت مع ضعف داود وقوة عدوه.

* * *

٢٥٣

قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}

يحتمل: تفضيل بعضهم على بعض ما ذكر {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّه}، ومنهم من اتخذه خليلا، ومنهم من سخر له الريح والطير، ما كان في الأنبياء مثله.

ويحتمل: {بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، في الحجاج، والحجج على القوم؛ لأن فيهم من كان أكثر محاجة لقومه وأعظم حججا، وهو إبراهيم، صلوات اللّه عليه وسلامه، وموسى.

ويحتمل: " التفضيل " التمكين في الأرض، مكن لبعضهم ما لم يكن للباقين.

ويحتمل: ذلك في الآخرة في الشفاعة، ورفع الدرجات.

ويحتمل: {بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، في الرسالة؛ لأن منهم من أرسل إلى الإنس والجن جميعًا، ومنهم من أرسل إلى الإنس خاصة، ومنهم من أرسل إلى قومه خاصة، ومنهم من أرسل إلى نفر. واللّه أعلم.

وقد ذكرنا ألا يكون من اللّه تفضيل لبعض الرسل على بعض على قول المعتزلة؛ لأنه فعل ما عليه أن يفعل، وكل من فعل ما عليه أن يفعل، فإنه لا يوصف بالفضل والإفضال؛ دل أنه ليس على ما يقولون ويذهبون إليه.

وقوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}، قد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} هذه الآية والآيتان من بعدها - قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا اقْتَتَلُوا}،

وقوله: {وَلَكِنَّ اللّه يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}، على المعتزلة. لأنه أخبر أنه لو شاء ألا يقتتلوا ما اقتتلوا. وهم يقولون: شاء ألا يقتتلوا، ولكن اقتتلوا. والاقتتال هو فعل اثنين، وفيهم من اقتتل ظالما، وفيهم من اقتتل غير ظالم، دليله قوله: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}، ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا اقْتَتَلُوا}، أخبر أنه لو شاء ألا يقتتلوا ما اقتتلوا وأخبر أنه يفعل ما يريد ثبت الفعل في الإرادة وهم يقولون لا يفعل ما يريد.

وكذلك قوله {وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا اقْتَتَلُوا} أخبر أنه لو شاء ما اختلفوا وهم يقولون: شاء ألا يختلفوا ولكن اختلفوا ثم لا يجوز صرف الآية إلى مشيئة القسر والجبر؛ لأن المشيئة التي ذكرها اللّه تعالى معروفة في الناس فلا يجوز صرفها إلى غير المشيئة المعروفة إلا بعد تقدم ذكر أو بيان أنها هي المرادة

وقوله: {مَا اقْتَتَلُوا} ولا اختلفوا فجعلهم على أمر واحد ودين واحد كقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}، والمعتزلة يقولون: شاء أن يصيروا أمة واحدة ولكن لم يصيروا فنعوذ باللّه من السرف في القول والقول في اللّه بما لا يليق به.

٢٥٤

وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ (٢٥٤) يحتمل الأمر بالإنفاق، أمر بتقديم الطاعات والمسارعة إلى الخيرات قبل أن يأتي يوم يمنعه ويعجزه عن ذلك وهو الموت.

ويحتمل أمره بالإنفاق من الأموال في طاعة اللّه من قبل أن يأتي يوم، وهو يوم القيامة {لَا بَيْعٌ فِيهِ} قيل: لا فداء، {وَلَا خُلَّةٌ}، {وَلَا شَفَاعَةٌ}.

يحتمل قوله: {وَلَا خُلَّةٌ} أي لا ينفع خليل خليله كما ينفع في الدنيا وكذلك لا شفيع تنفع شفاعته كما تنفع في الدنيا.

ويحتمل: {وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}، أي: لا ينفع أحد أحدا، ولا يخال أحد أحدا، ولا يشفع أحد أحدا.

ويحتمل: {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ}، أنهم يملكون بيع أنفسهم من اللّه تعالى ما داموا أحياء، فإذا ماتوا لم يملكوا، كقوله تعالى: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}. فأول الآية وإن خرج الخطاب للمؤمنين فالوصف فيها وصف الكافرين، لكن فيها زجر للمؤمنين مثل صنيع الكفار.

وقوله تعالى: (اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) قيل: اللّه هو اسم المعبود، وكذلك تسمي العرب كل معبود إلها ومعناه - واللّه أعلم - أن الذي يستحق العبادة ويحق أن يعبد هو اللّه الذي لا إلا إلا هو لا الذي تعبدونه أنتم من الأوثان والأصنام التي لا تنفعكم عبادتكم إياها ولا يضركم ترككم العبادة لها.

ويحتمل أن يكون على الإضمار: أن قل اللّه الذي لا إله إلا هو لأنهم كانوا يقرون بالخالق ويقرون بالإله؛ كقوله عَزَّ وَجَلَّ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه} وكقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ للّه) وكقوله: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ للّه)، فإذا كانوا يقرون به فأخبرهم أن الذي يقرون به وشممونه هو اللّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ويحتمل أن يكون لقوم من أهل الإسلام عرفوا اللّه تعالى وآمنوا به، ولم يعرفوا نعته وصفته فعلمهم نعته وصفته أنه الحي القيوم إلى آخره.

* * *

٢٥٥

قوله تعالى: (اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... (٢٥٥)

وقوله {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قيل هو الحي بذاته لا بحياة هي غيره كالخلق هم أحياء بحياة هي غيرهم حلت فيهم لابد من الموت، واللّه عَزَّ وَجَلَّ يتعالى عن أن يحل فيه الموت؛ لأنه حي بذاته وجميع الخلائق أحياء لا بذاتهم، تعالى اللّه عَزَّ وَجَلَّ عما يقول فيه الملحدون علوا كبيرا.

والأصل: أن كل من وصف في الشاهد بالحياة وصف ذلك للعظمة له والجلال والرفعة. يقال: (فلان حي)، وكذلك الأرض سماها اللّه تعالى (حية)، إذا اهتزت وربت وأنبتت، لرفعتها على أعين الخلق. فعلى ذلك اللّه سبحانه وتعالى (حي) للعظمة.

وكذلك الأرض سماها اللّه تعالى: (حية) للعظمة والرفعة ولكثرة ما يكون يذكر في المواطن كلها، كما سمى الشهداء (أحياء)؛ لأنهم مذكورون في الملأ من الخلق.

ويحتمل: أنه يسمى (حيًّا) لما لا يغفل عن شيء، ولا يسهو، ولا يذهب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وباللّه العصمة.

وقوله: {الْقَيُّومُ}، القائم على مصالح أعمال الخلق وأرزاقهم.

وقيل: {الْقَيُّومُ}، هو القائم على كل شيء يحفظه ويعاهده، كما يقال: (فلان قائم على أمر فلان)، يعنون أنه يتحفظ أموره حتى لا يذهب عنه شيء.

ويقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ}، وهو خلق من خلقه.

وقيل: إن الكرسي هو الكرسي، لكنه خلقه ليكرم به من يشاء من خلقه.

ثم لا يجوز أن يفهم من إضافته إليه ما يفهم من الخلق، كما لم يفهم من قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه}، و " نور اللّه "، و " بيت اللّه " ونحوه ما يفهم من إضافته إلى خلقه.

فعلى ذلك لا يفهم من قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ}، وغيره من الآيات ما يفهم من الخلق بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

وقوله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}.

قيل: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، لا يشق عليه حفظهما. وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللّه تعالى عنه، ورُويَ عنه أيضًا أنه قال: لا يثقل عليه.

وقيل: {وَلَا يَئُودُهُ}، لا يجهده.

وقيل: لا يعالج بحفظ شيء مثال الخلق.

وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}.

{الْعَلِيُّ} عن كل موهوم يحتاج إلى عرش أو كرسي، {الْعَظِيمُ} عن أن يحاط به.

وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه تعالى عنه -: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ}، قال: علمه، ألا ترى إلى قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، كل شيء في علمه، لا يَئُودُهُ حفظ شيء، واللّه أعلم.

قال الشيخ: - رحمه اللّه تعالى - {الْعَلِيُّ}، عن جميع أحوال الخلق وشبههم، و {الْعَظِيمُ} القاهر والغالب.

* * *

٢٥٦

وقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.

قيل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، أي: لا يكره على الدِّين. فإن كان التأويل هذا فهو على بعض دون بعض.

بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)، لقول قوم حيث قالوا: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وإلا لكان في الإيمان باللّه إيمان بجميع ذلك.

وقوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: فقد عقد لنفسه عقدًا وثيقًا لا انقصام لذلك العقد ولا انقطاع، لا تقوم الحجة ببعضه.

ويحتمل: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، بنصره إياه بالحجج والبراهين النيرة التي من اعتصم بها لا انفصال بها عنه ولا زوال.

ثم فيه نقض على المعتزلة؛ لأنه أخبر عَزَّ وَجَلَّ أن من آمن باللّه فقد استمسك بكذا.

والمعتزلة يقولون: صاحب الكبيرة يخلد في النار، وهو مؤمن باللّه، فأية عروة أوهَى من هذا على قولهم؟ وأن له زوالاً وانقطاعًا من ثوابه الذي وعد له عَزَّ وَجَلَّ بإيمانه وتصديقه به. وباللّه العصمة.

وقوله تعالى: {وَاللّه سَمِيعٌ} لقولهم، {عَلِيمٌ} بثوابهم.

أو {سَمِيعٌ}، بإيمانهم، {عَلِيمٌ}، بجزاء إيمانهم. واللّه أعلم.

٢٥٧

وقوله تعالى: (اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا (٢٥٧)

قيل: الولي: الحافظ.

وقِيل: الولي: الناصر، وهو ناصر المؤمنين وحافظهم.

وقيل: سمى وليًّا لأنه يلي أمور الخلق من النصر والحفظ والرزق وغيره. وعلى ذلك يسمى الولي وليًّا لما يلي أمور الناس.

وقيل: قوله: (اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواأي: اللّه أولى بهم إليه رجاؤهم أطعمهم، وهو الذي يكرمهم، وأن الطاغوت أولى بالكافرين، كما قال: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}، أي أولى بهم. واللّه أعلم.

وقوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}.

وقوله: {يُخرِجُهُم}، بمعنى: أخرجهم. وجائز هذا في اللغة (يفعل) بمعنى (فعل)، و (فعل) بمعنى (يفعل)، جاز فيها، غير ممتنع عنه.

٢٥٨

وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّه الْمُلْكَ (٢٥٨)

فقد ذكرنا فيما تقدم أن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ}، إنما يفتتح به لأعجوبة، كقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}،

وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}.

وفيه إباحة التكلم في الكلام والمناظرة فيه والحجاج بقوله: {حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}، ورد على من يمنع التكلم فيه وهو كذلك؛ لأنا أمرنا بدعاء الكفرة جميعًا إلى وحدانية اللّه تعالى، والإقرار له بذلك، والمعرفة له أنه كذلك، وكذلك الأنبياء بأجمعهم أمروا وندبوا إلى دعاء الكفرة إلى شهادة أن " لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه وحده لا شريك له "، فإن دعوناهم إلى ذلك لا بد من أن يطلبوا منا الدليل على ذلك، والبيان عليه، والوصف له كما هو له، والتقرير عندهم أنه كذا، فلا يكون ذلك إلا بعد المناظرة والحجاج فيه؛ لذلك قلنا: أن لا بأس بالتكلم والمناظرة فيه. وفيه دلالة على إباحة المحاجة في التوحيد.

وفيه الإذن بالنظر في النظر؛ لأنه حاجه لينظر. واللّه أعلم.

وقوله: {أَنْ آتَاهُ اللّه الْمُلْكَ}.

قال أهل الاعتزال في قوله تعالى: {أَنْ آتَاهُ اللّه الْمُلْكَ}: هو إبراهيم، عليه السلام، لا ذلك الكافر؛ لقوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، أخبر أن عهده لا يناله الظالم، والملك عهد.

لكنه غلط عندنا لوجوه:

أحدها: أن إبراهيم، صلوات اللّه عليه وسلامه، ما عرف بالملك.

والثاني: أن الآية ذكرت في محاجة ذلك الكافر إبراهيم، ولو كان غير ملك، وكان إبراهيم، عليه السلام، هو الملك، لم يقدر المحاجة مع إبراهيم، عليه السلام إذ لا يظهر عليه من الحجة ما هو أظهر وأعجز له، وآخذ للقلوب.

والثاني: أراد أن يريه أن هذا مما قدر عليه بغيره، إذ الذي لم يجعل له القدرة عليه لم يقدر عليه، ثم لما ثبت عجزه في أحدهما يظهر عجزه في الآخر. واللّه أعلم.

وقيل: بأن هذا من إبراهيم انتقال من حجة إلى حجة، ليس بانقطاع. وهو جائز.

وقوله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}، قيل: انقطع وتحير.

وقوله تعالى: {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

ذكر الظالم؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير محله، حيث هذا اللعين المحاج في غير موضعه.

٢٥٩

وقوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ (٢٥٩)

قيل: هو نسق قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ}.

وقيل: هو نسق على قوله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}؛ لأنه بذلك أنكر البعث.

ثم اختلف في المار على القرية:

قَالَ بَعْضُهُمْ: كافر قال ذلك.

وقال آخرون: لا، ولكن قال ذلك مسلم.

وقال أكثر أهل التأويل: هو عزير.

فإن كان قائل ذلك كافرًا فهو على إنكار البعث والإحياء بعد إماتة. وإن كان مسلمًا فهو على معرفة كيفية الإحياء، ليس على الإنكار، وهو كقول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. وليس لنا إلى معرفة قائله حاجة، إنما الحاجة إلى معرفة ما ذكر في الآية. واللّه أعلم.

وقوله تعالى: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}.

قيل: خالية من سكانها.

وقيل: (خاوية)، ساقطة سقوفها على حيطانها، وحيطانها على سقوفها.

والأول أشبه؛ لأنه يقال من التغير والتنتن: لم يتسنن.

وقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}.

وهو من الأحياء.

و {نُنْشِزُهَا} بالزاي - وهو من الارتفاع والنصب.

وفيه لغة أخرى: " ننشرها " بالراء، وهو من الإحياء. و " ننشرها " من النشر.

وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

{أَعْلَمُ}، بالنصب والخفض:

فمن قرأه بالنصب، صرف قوله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّه}، إلى المسلم.

ومن قرأ (اعلم) بالخفض صرف إلى الكافر، يقول اللّه له: اعلم أن اللّه على كل شيء قدير. ويحتمل أيضًا صرفه إلى المسلم: " واعلم "، على الإخبار، كأنه قال: اعلم ما كنت تعلمه غيبًا مشاهدة.

وفي هذه الآيات إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك أن هذه القصص كانت ظاهرة بينهم، ولم يكن له اختلاف إليهم، ولا النظر في كتبهم، ثم أخبر على ما كان؛ ليعلم أنه إنما علم ذلك باللّه عَزَّ وَجَلَّ ثناؤه.

٢٦٠

وقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ...(٢٦٠)

قَالَ بَعْضُهُمْ: كان إبراهيم، عليه السلام، موقنا بأن اللّه يحيي الموتى، ولكن أحب أن يعاين ذلك؛ لأن الخبر لا يكون عند ابن آدم كالعيان، على ما قيل: " ليس الخبر كالمعاينة ".

وقيل: يحتمل سؤاله عما يسأل لما نازعته نفسه وحدثته في كيفية الإحياء، وقد تنازع النفس وتحدث بما لاحاجة لها إليه من حيث نفسه؛ ليقع له فضل علم ومعرفة.

وقيل: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، أي: ليسكن قلبي وأعلم أنك قد استجبت لي فيما دعوتك، وأعطيتني الذي سألتك.

وقيل: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}، أي: أو لم توقن بالخلة التي خاللتك؟ قال: بلى.

سأل ربه على الخلة.

وقيل: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}، قال: {بَلَى}، {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، بأنك أريتني الذي أردت.

ويحتمل: أن يكون إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أراد بسؤاله ذلك أن تكون له آية حسية؛ لأن آيات إبراهيم كلها كانت عقلية، وآيات سائر الأنبياء كانت عقلية وحسية، فأحب إبراهيم، صلوات اللّه عليه وسلامه، أن تكون له آية حسية، على ما لهم، كسؤال زكريا ربه حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَاتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} جعل له آية حسية؛ فعلى ذلك سؤال إبراهيم، عليه السلام.

وقوله تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}.

معناه: وجههن إليك، كقول الرجل: " صر وجهك إليَّ "، أي: حول وجهك إليَّ.

وروي في حرف ابن مسعود - رضي اللّه تعالى عنه -: " فصِرْهن إليك "، بالكسر، بمعنى قطعهن، قيل: هو التقطيع.

وقيل: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}، اضممهن.

* * *

٢٦١

وقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللّه يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)

يحتمل ضرب مثل النفقة في سبيل اللّه بالحبة التي ذكر وجهان:

أحدهما: أن يبارك في تلك النفقة، فيزداد وينمو، على ما بارك في حبة واحدة فصارت سبعمائة وأكثر.

والثاني: قال: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، ورأوا الصدقة تتلف وتتلاشى في أيدي الفقراء فقالوا: كيف تربى، وهي تالفة؟ فقال: تربى كما أربي الحبة في الأرض بعد ما تلفت فيها وفسدت، فصارت مائة وزيادة. فعلى ذلك الصدقة في طاعة اللّه والنفقة فيما يربى وإن كانت تالفة.

وقيل: إنها منسوخة بالفرائض. لكن هذا لا يحتمل؛ لأنه نسخ وعد في الآخرة، والوعد لا يحتمل النسخ، إلا أن يعنون نسخ عين الصدقة بغيرها، فأما الوعد فهو حالة. واللّه أعلم.

وقوله تعالى: {وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

قيل: {وَاسِعٌ}، غني.

وقيل: {وَاسِعٌ}، جواد، يوسع على من يشاء.

٢٦٢

وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى (٢٦٢)

قال المفسرون: للجهاد، خصوا الجهاد بهذا. واللّه أعلم.

لأن العدو إذا خرجوا لقتال المسلمين خرجوا للشيطان، ويسلكون سبيله وطريقه، والمؤمنون إنما يخرجون ليسلكوا طريق اللّه تعالى، وينصروا دينه وأولياءه؛ لذلك كان التخصيص له لقولهم، وإلا كان يجيء أن يسمى الطاعات كلها والخيرات (سبيل اللّه)؛ لأنه سبيل اللّه وطاعته، كقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}.

وقوله: {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى}. اختلف فيه:

قيل: {مَنًّا}، على اللّه، و {أَذًى}، للفقير.

وقيل: {مَنًّا}، على الفقير، و {أَذًى}، له.

ثم قيل: منه على الفقير عد ما أنفق عليه وتصدق، وأذاه وتوبيخه عليه بذلك. وأما منُّه على اللّه تعالى؛ كقوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧).

وقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

وقد ذكرنا تأويله فيما تقدم.

٢٦٣

وقوله تعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّه غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)

قيل: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ}، كلام حسن، يدعو الرجل لأخيه بظهر الغيب.

وقيل: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ}، يستغفر اللّه ذنوبه في السر و {وَمَغْفِرَةٌ} له، يغفر له، ويتجاوز عن مظلمته.

وقيل: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ}، الأمر بالمعروف خير ثوابا عند اللّه من صدقة فيها أذى ومن.

فَإِنْ قِيلَ: كيف جمع بين قول المعروف والمغفرة وبين الأذى والمن، فقال: (خير من كذا. .)، وأحدهما خير والآخر شر، وإنَّمَا يفعل هذا إذا كانا جميعًا خيرين، فيقال: " أيهما أخير "؟

قيل: معناه - واللّه أعلم - هذا خير لكم من ذلك، وهو كقوله: {قُلْ مَا عِنْدَ اللّه خَيْرٌ مِنَ اللّهوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ}، أي: خير لكم في الآخرة من اللّهو والتجارة، في دنياكم، وإن لم يكن اللّهو والتجارة من جنس ما عند اللّه، فعلى ذلك الأول.

ويحتمل: أن تكون الآية على الابتداء، لا على الجمع: هذا خير، وهذا شر.

قال الشيخ - رحمه اللّه تعالى -: ووجه ذلك أن الصدقة قربة، وهي خير، فإذا أتبعها الأذى أبطلها، فيكون {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ}، أي: رد جميل للسائل خير من إجابة في البذل، ثم الرد بالأذى؛ لأن هذا يبقى، وإن كان لا ينشفع به الآخر، والصدقة لا، وإن كان ينتفع بها الفقير. واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (المن) و (الأذى)، أن يقول للسائل: خذه، لا بارك اللّه فيه لك.

وقوله تعالى: {وَاللّه غَنِيٌّ}، عن صدقاتكم، {حَلِيمٌ}، لا يعجل بالعقوبة عليكم بالمن والأذى.

* * *

٢٦٤

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}

المن والأذى: ما ذكرنا.

فكذلك الثواب الذي يكون للصدقة يذهب ويتلاشى حتى لا يُظفر بها بالمن والأذى والرياء، كما أذهب المطر التراب الذي على الصفوان، فصار صلدًا، لا شيء عليه من التراب.

وقوله تعالى: {وَاللّه لَا يَهْدِي القَومَ الْكَافِرِينَ}.

قالت المعتزلة: لا يهدي القوم الكافرين بكفرهم الذي اختاروا.

وقلنا نحن: لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر، ويهديهم وقت اختيارهم الإيمان.

وفي قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}، وجه آخر، هو أن يحتمل قوله: {مَعْرُوفٌ}، هذه التسبيحات والثناء والحمد، {وَمَغْفِرَةٌ}، ستر ما ارتكب من المأثم.

وقوله: {خَيْرٌ}، أي أحب على البذل من صدقة يتبعها أذى. واللّه أعلم.

٢٦٥

وقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)

في الأمثال التي ضربها اللّه تعالى وذكرها في القرآن وجوه:

أحدها: جواز قياس ما غاب من الحكم عن المنصوص بالمنصوص إذا جمعهما معنى واحد.

والثاني: أن علوم المحسوسات والمشاهدات هي علوم الحقائق، وهي الأصول التي بها يستدل ويوصل إلى صرفة الغائب.

والثالث: فيها إثبات رسالة مُحَمَّد، عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات، وذلك أن العرب كانت لا تضرب الأمثال، ولا كانت تعرفها في أمر التوحيد وتعريف ما غاب عن حواسهم من أمر القيامة ونحو ذلك. ثم بعث اللّه تعالى محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنزل عليه القرآن، وذكر فيه الأمثال؛ ليذكرهم تلك الأمثال ليعلموا أنه إنما عرفها باللّه عَزَّ وَجَلَّ، لا أنه أنشأ هذا القرآن من تلقاء نفسه. وذلك من آيات نبوته ورسالته. وعلى ذلك جعل عدم الكتابة وإنشاء الشعر من آيات نبوته ورسالته؛ لأن من عادة العرب إنشاء الشعر والكتابة، ويفضلون أربابها على غيرهم؛ لئلا يعرف هو بها، ويقولون: إنه أخذ من الكتب، أو اختلق من نفسه، كقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ وقوله تعالى: {أَصَابَهَا وَابِلٌ}.

والوابل: قد ذكرنا أنه المطر الشديد العظيم القطر.

وقوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}، يعني الحبة أضعفت في ثمرها في الحمل ضعفين حين أصابها وابل. كذلك الذي ينفق ماله للّه في غير منة يمن بها يضاعف نفقتها، كثرت النفقة أو قلت.

وقيل: يضاعف اللّه للمنفق الأجر مرتين.

وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}.

والطل، هو المطر الضعيف.

وقيل: هو الطش من المطر.

وقيل: هو الرذاذ من المطر مثل الندى، لا تزال الحبة خضراء دائمًا ثمرها، قل أو كثر.

٢٦٦

وقوله: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ ... (٢٦٦)

ليس لهذا الخطاب جواب؛ لأن جوابه أن يقول: يود، أو لا يود. لكن الخطاب من اللَّه تعالى يخرج على وجوه ثلاثة:

خطاب يفهم مراده وقت قرعه السمع.

وخطاب لا يفهم مراده إلا بعد النظر فيه والتفكر والتدبر، وهو كقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وكقوله عز وجل: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، و (يَعْقِلُونَ).

وخطاب لا يفهم مراده إلا بالسؤال عنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو من له علم في ذلك؛ كقوله تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)، وكقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

فإذا كان ما ذكرنا، فيحتمل أن ما ترك من الجواب للخطاب إنما ترك للطلب والبحث

عنه والتفحص.

ثم إن هذا الخطاب يحتمل أن يكون في أهل النفاق؛ وذلك أن المنافق يرى من نفسه الموافقة لأهل الإسلام في الظاهر، وهو مخالف لهم في السر، وعنده أنه يستحق الثواب بذلك وقت الثواب، كان كصاحب الضيعة التي ذكرت في الآية: أن صاحبها يغرس فيها الغرس، وينبت فيها النبات في حال شبابه وقوته؛ رجاء أن يصل إلى الانتفاع بها في وقت الحاجة والضعف، فإذا بلغ ذلك واحتاج - حيل بينه وبين الانتفاع فيها. فكذلك المنافق الذي كان دينه لمنافع في الدنيا وسعة لها، إذا بلغ إلى وقت الحاجة حرم ذلك. وكذلك هذا في الكافر؛ لأنه رأى لنفسه النفع بعمله لوقت تأمله كصاحب الضيعة، ثم عند بلوغه الحاجة حرم عنه ذلك لاعتراض ما اعترض من الآفة، وهو كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا)؛ لأن الكافر بما يدين من الدِّين إنما يدين لنفع يتأمله في الدنيا، والمؤمن إنما يدين بما يدين لنفع يتأمله ويطمع في الآخرة. فرجاء الكافر في غير موضعه؛ لذلك كان ما ذكر. والله أعلم.

ثم الأمثال التي ضربت ينتفع بها المؤمنون؛ لأن نظرهم ما في الأمثال من المعنى المدرج والمودع فيها، لم ينظروا إلى أعينها. وأما الكفار إنما ينظرون إلى أعين الأمثال، لا إلى ما فيها، فاستحقروها واستبعدت عقولهم ذلك؛ لذلك قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، و (يَعْقِلُونَ).

ووجه ضرب هذا المثل: هو أن الكافر يحرم أجره عند أفقر وأحوج ما كان إليه، كما حرم هذا نفع بستانه عند أفقر وأحوج ما كان إليه حين كبرت سنه وضعفت قوته، ولا حيلة له يومئذ.

وقوله تعالى: (إِعْصَارٌ).

قال ابن عَبَّاسٍ: الإعصار: ريح فيها سموم.

وقيل: الإعصار: ريح فيها نار تحرق الأشجار.

وقيل: هي الريح تسطع إلى السماء، وهي أشد.

قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ. . .)

الآية: فمعناه - واللَّه أعلم - أن يكون ألا يود أحد أن تكون له جنة ينال منافعها في وقت قوته وغناه بقوته عنها وبغيرها من وجوه المعاش، ثم يحرم نفعها لوقت الحاجة إليها بضعف بدنه وارتكاب مؤن الذرية، فكذلك لا ترضوا من أنفسكم في وقت قوتها وغناها الغفلة عنها لوقت حاجتها إلى الأعمال والاضطرار إلى ثوابها. واللَّه أعلم.

وأن يكون المعنى من ذلك أي: لا تغتروا بظاهر أحوالكم في الدنيا، وبما تنالون من النافع بالذي أظهرتم من موافقة المؤمنين، كاغترار من ذكرت بجنسه في خاص ما عليه حاله إلى أن صار إلى ما أراه اللَّه من عاقبته أنه يود عنه نهاية ذلك، أن لم يكن منه الاغترار في ذلك، ولكن كان قيامه على ما لا يضيع عنه ذلك بتلك الحال؛ فيخرج ذا على ضرب المثل للمنافق.

ويحتمل: أن يكون ذلك مثلًا لمن كفر بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ممن يؤمن بالبعث، أن الذي ينال بالكفر به من الرياسة والعز، كالذي ذكر من صاحب الجنة أنه لا يود ذلك الابتداء بما يعلم تلك العاقبة؛ فكذا ما ينبغي لهم إذ بين لهم عواقب الكفر بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يؤثروا الذي نالوا بعد علمهم بشدة تلك العاقبة. واللَّه أعلم.

والمثل خرج على غير ذكر الجواب فيه؛ لما قد جرى له البيان لعلمه بالمبعوث مبينًا أو بما في الحال التي لها نزول الآية دليل التعريف، أو بما أراد اللَّه امتحان السامعين بالتأمل في الآية لينال كل ذي عقل فضله، وليكرم به أهل التدبر في آياته في صرف وجوه من دونهم إليهم في الصدور عن آرائهم والاعتماد على إشارتهم. واللَّه أعلم.

وجملة ذلك: أن أفعال ذوي الاختيار تكون للعواقب، وما إليه مرجع الفاعل مقصود في الابتداء، فبين لمن أغفل عنه بالذي عرف من حيرة المسرور بجنته لما انكشفت له عاقبتها حتى لعله يود أن لم يكن له تلك، ليكون سروره بما يحمد عاقبته. فعلى هذا الأمر: الأفعال التي يغفل عن عواقبها إذا صار إليها صاحبها. واللَّه الموفق.

٢٦٧

وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)

فيه دليل وجوب الزكاة في أموال التجارة بقوله: (مَا كَسَبْتُمْ)؛ لأن أموال التجارة هي التي تكتسب، وليس في كتاب اللَّه تعالى بيان وجوب الزكاة في أموال التجارة في غير هذا الموضوع، وليس فيه سنة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن ذكر عن بعض الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - القول به؛ فيحتمل أن يكون ما قالوا قالوا بهذه الآية. وأما زكاة الفضة، والذهب، والمواشي فيما لها ذكر في الكتاب والسنة، فالزكاة تجب فيها لعينها، اكتسب فيها أو لم يكتسب.

وأما أموال التجارة فإن الزكاة تجب فيها بالاكتساب. وفيه دليل أن النفقة المذكورة فيه لازمة واجبة؛ لأنه قال: (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)، ذكر الإغماض، والإغماض لا يذكر في المعروف، إنما يذكر في اللازم والواجب الذي لا مخرج له عنه إلا بالأداء، إلا عن عفو وصفح والرضاء بدون الحق - ثبت أنه على اللزوم.

وفيه دليل وجوب الحق في الرطاب والخضراوات؛ لأنه ذكر في الآية المخرج، والرطاب هي التي تخرج من الأرض. وأما الحبوب إنما تخرج من الأصل الذي يخرج من الأرض؛ لذلك كان الرطاب والخضراوات أولى بوجوب الحق من غيره بظاهر الآية.

قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: والوجوب في الحبوب بما كانت تخرج من الحقوق، والحقوق بظاهر هذه الوجوه في التي تخرج من الأرض. وأما أبو يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه تعالى - فإنهما قالا: يحتمل قوله: (أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)، يعني من الأصل الذي يخرج لكم من الأرض، كقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا)، ولا ينزل من السماء اللباس كما هو، ولكن أراد الأصل الذي به يكون اللباس، وكذلك قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، وهو لم يخلقنا من التراب، وإنما خلق الأصل من التراب، وهو آدم - عليه السلام - فعلى ذلك الأول. واللَّه أعلم.

والوجه فيه: أنه منَ اللَّه تعالى علينا بما أخرج لنا من الأرض من أنواع ما أخرج بحبة تلقى في الأرض فتفسد فيها، فيخرج منها النبات بلطفه، لا صنع لأحد فيها. وتلك المنة لا تكون على أربابها خاصة دون الفقراء أو بل هي على الفقراء كهي على أربابها؛ لأنه أخرجه رزقًا للكل، ففيه حق الفقراء والأغنياء جميعًا. ومن ثم جاز وجوب العشر على الفقير؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤). وقوله: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا)، قيل: ءأنتم تنبتونه أم نحن المنبتون؟ وأما ما بعد النبات فيشترك العباد فيه بالسقي والحفظ وغيره؛ لذلك كان ما ذكرنا. واللَّه أعلم.

وفي قوله تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)، دلالة على ألايتصدق بالرديء عن الجيد. فإذا تصدق به يلزمه فضل ما بين الرديء إلى الجيد، على قول مُحَمَّد - رحمه اللَّه تعالى - بظاهر قوله: (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ). وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رضي اللَّه تعالى عنهما -: يجوز ولا يختار له ذلك؛ وذلك أن اللَّه - تعالى - أطمع الناس قبول ذلك إذا تغامضوا، فهو أحق أن يطمع فيه القبول لكرمه ولطفه؛ ولأنه ليس لصفة ما يكال ويوزن من نوعه قيمة، فإذا لم تكن له قيمة لا يلزمه فضل الصفة.

٢٦٨

وقوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)

قوله: {يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} في الدنيا بالتصدق والإنفاق، {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} بترك الصدقة.

ويحتمل: {يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}، في الدنيا بطول الأمل وفناء المال، {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} بسوء الظن بربه.

{وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} بالصدقة، و {وَفَضْلًا} ذكرًا في الدنيا.

ويحتمل قوله: {وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} في الآخرة، و {وَفَضْلًا} في الدنيا، يعني خَلَفًا.

وقيل: {مَغْفِرَةً} لفحشائكم، و {وَفَضْلًا} لفقركم.

وقوله: {وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، أي: غني يقدر إخلاف ما أنفقتم، {عَلِيمٌ} جزاء صدقاتكم.

ويحتمل: {عَلِيمٌ} ما تنفقون من الصدقة والحسنة.

وفي قوله: {وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، و (اللّه غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، ونحوه دلالة أن اللّه - تعالى - إنما رغب الناس على الصدقات والنفقات ابتلاء ومحنة منه، لا حاجة وفقرًا.

٢٦٩

وقوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩)

قيل: {الْحِكْمَةَ} في هذا الموضع معرفة القرآن وتفسيره. وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضيَ اللّه تعالى عنه - وكذا روي مرفوعا.

وقيل: {الْحِكْمَةَ} الفهم في القرآن.

وقيل: الفقه.

وقيل: {الْحِكْمَةَ} النبوة.

وقيل: {الْحِكْمَةَ} هي الإصابة. وفيه دليل جواز الاجتهاد، وأنه مصيب في اجتهاده.

قال الشيخ - رحمه اللّه تعالى - في قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}: اختلف في تأويل {الْحِكْمَةَ} في هذا:

قال قوم: {الْحِكْمَةَ} هي القرآن، وهو على ما وصفه (نورا) و {وَهدًى}، و {رُوحًا}، و {وشِفَآء} هو الذي يبصر به حقائق الأشياء، وبالهدى يدرك كل شيء ويتقى كل تلف، وبالروح يحيى كل ذي روح، وبالشفاء يبرأ كل سقيم ويزال كل آفة. والذي هذا وصفه فهو الخير. وباللّه التوفيق.

وقال قوم: {الْحِكْمَةَ} هي الإصابة لحقيقة كل شيء، وبها يتقى كل شر، وينال كل خير، وذلك هو الخير الكثير، وباللّه العصمة.

٢٧٠

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {الْحِكْمَةَ}، هي السنة، كأنه أكرم رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالذي من سلكه نجا،

أَنْصَارٍ (٢٧٠)

يحتمل: نفقة المحارم.

ويحتمل: النفقات التي تجري بين الخلق.

ويحتمل: المفروض من الصدقات.

ويحتمل غيرها.

ثم رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه تعالى عنه - عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوله تعالى: {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} قال: " من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا أطاقه فليوف به ".

فيه تنبيه وتذكير أن اللّه تعالى يعلم صدقهم ونذرهم؛ ليحتسبوا في النفقة ويخلصوا، وفي النذر يوفوا به.

وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللّه يَعْلَمُهُ}.

قيل: يقبله.

وقيل: يأمر بوفائه.

ويحتمل قوله: {يَعْلَمُهُ} أي: يعلم ما وفيتم منه؛ فيجزيكم على ذلك.

ويحتمل: {يَعْلَمُهُ}: ما أردتم بصدقاتكم ونذوركم؛ فيكون فيه ترغيب للناس في أداء الفرائض.

وقوله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.

في الآخرة، يعني مجير يجيرهم من العذاب.

وقيل. ما للظالمين من شفيع يشفع لهم، ولا نصير ينصرهم؛ لأنه ما من ظالم إلا وله في الدنيا ظهير.

٢٧١

وقوله: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الفريضة.

وقال آخرون: هي التطوع. وهو أَوْجَه.

وقال غيرهم: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ)، هي الفريضة، (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ) هي التطوع.

قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: لا يحتمل الإخفاء في التطوع، والإبداء في الفرض؛ لما أخبر في الإخفاء أنه خير، ولا يكون التطوع خيرًا من الفريضة. ومن حمله على الفريضة يستحب أن يظهروا الزكاة المفروضة ليقتدوا به ويرغبوا الناس عليها. ومنهم من يستحب الإخفاء أيضًا، ويقولون: في الإبداء شيئان: الصدقة نفسها، والاقتداء، وفي الإخفاء وجوه:

أحد ها: الصدقة.

والآخر: ترك المراءاة وسلامتها.

والثالث: الكف عن المن والأذى.

ومنهم من حمل قوله: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ) على الفريضة، و (وَإِنْ تُخْفُوهَا) على التطوع، وذهب إلى أن الفريضة ليس فيها الرياء؛ لأنه لا شيء عليه، فسواء فيها الإبداء والإخفاء، وأما التطوع ففيه الرياء؛ لأنه معروف ليس عليه، والإخفاء له أسلم. والله أعلم.

وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - في قوله: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. . .) الآية، جعل اللَّه - تعالى - صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.

وفي بعض الأخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصلة الرحم تزيد في العمر ".

وعن الحسن، قال: الإبقاء على العمل أشد من العمل؛ وذلك أن العبد ليعمل العمل سرا فيكتب له عمل السر، فلا يزال به الشيطان حتى ينسخ من عمل السر إلى عمل العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد، حتى يكتب من عمل العلانية في الرياء.

وقوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}:

فيه دليل أن من السيئات ما يكفرها الصدقة، ومنها ما لا يكفر.

وقيل: إن " من " هاهنا صلة، ففيه إطماع تكفير السيئات كلها بالصدقة، كقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.

وهو نقض على المعتزلة؛ لأنهم لا يرون تكفير الكبائر بغير التوبة عنها، ولا التعذيب على الصغائر. فأما إن كانت الآية في الكبائر - فبطل قولهم: لا يكفر بغير التوبة، أو في الصغائر فيبطل قولهم: إنها مغفورة؛ إذ وعدت بالصدقة؛ لأنهم يخلدون صاحب الكبائر في النار، واللّه تعالى أطمع له تكفير السيئات كلها بالصدقة. واللّه الموفق.

وقوله تعالى: {وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}:

فيه وعيد وتحذير، أنه يعلم ما تسرون وما تعلنون في الصدقة.

ويحتمل: {تَعْمَلُونَ}، من جزائكم للصدقة.

* * *

٢٧٢

قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّه وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)

أخبر أنه ليس عليه هداهم، وعليه البيان والتبليغ؛ فدل أن هناك فضل هدى، لا يملك هو ذلك، وهو التوفيق على الهدى والتحقيق له.

وهذا يرد على المعتزلة ويكذبهم أن كل الهدى: البيان؛ إذ لو كان كل الهدى بيانًا لكان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يملك ذلك، إذ عليه البيان، فدل أنه لا يملك الهدى المراد في الآية؛ فهو على ما ذكرنا من التوفيق.

ويحتمل قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} أي: حساب ترك اهتدائهم، كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، و {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ}.

وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ}:

{مِنْ خَيْرٍ}، أي: مال، {فَلِأَنْفُسِكُمْ}، يعني: فلأنفسكم الثواب.

وقيل قوله: {فَلِأَنْفُسِكُمْ}، يعني: منفعته لكم.

وفي قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} دلالة على أنهم كانوا يتحرجون بالتصدق على أقربائهم من الكفار خشية ما يقع من التعاون على ما اعتيدوا من الدِّين؛ إذ المكاسب لكل أهل دين إنما تقع من العقلاء مكان ما ينفقون به لأجل الدِّين؛ فبين جل وعلا: أن ذلك يقع لكم ولأنفسكم، وتكفير ما ارتكبتم.

ثم في الآية دلالة جواز الصدقة على الكفار، ودليل جواز دفع الكفارات إليهم بقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ}؛ فهو دليل لأصحابنا؛ لأنه جعل هذه الصدقة مكفرة.

وقوله تعالى: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}، يعني: يوفر عليكم ثواب صدقاتكم، وإن كان التصدق على الكفرة.

وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}، في حرمان الثواب والجزاء.

٢٧٣

وقوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)

قيل: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه} وقيل: {فِي سَبِيلِ اللّه} أي: من سبيل اللّه، يعني: حبسوا بالفقر عن الجهاد، وهو كقوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ}. والعرب تستعمل حروف الخفض بعضها في موضع بعض.

ويحتمل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه}، أي: حبسوا أنفسهم في طاعة اللّه، لا يجدون ما يتجرون، ولا ما يحترفون، ولا ما يكتسبون.

وقوله تعالى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}: للتجارة.

وقوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، يحتمل وجهين:

يحتمل: لا يظهرون السؤال، أي: لا يسألون؛ كقوله تعالى: {وَلَا تنفَعُهَا شَفَاعَة} أي: لا يشفع لهم.

ويحتمل: فإن كان على السؤال فإنهم إذا سألوا لم يلحفوا، دليله قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من فتح على نفسه بابًا من المسألة، فتح اللّه عليه سبعين بابا من الفقر ". ثم ذكر في الخبر: " من استغنى أغناه اللّه، ومن استعف أعفه اللّه ". وإن كان على التعريض، ففيه إباحة التعريض بين يدي أهل الجود والسخاء.

وقوله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}:

قيل: {بِسِيمَاهُمْ}، يعني: سيما التخشع.

وقيل: {بِسِيمَاهُمْ}: بسيما الفقر عليهم، و {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} يعني: إلحاحا.

وقيل: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، أي: بتجملهم، {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، أي: إلحاحًا، ولا غير إلحاح.

٢٧٤

وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)

قيل: هي النفقة على الخيل المحتبسة للجهاد، ينفقون ليلا ونهارًا، سرًّا وعلانية، لا رياء فيها، ولا إضمار.

وعن عليٍّ وأبي أمامة الباهلي - رضي اللّه تعالى عنهما -: هي النفقة على الخيل في سبيل اللّه.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه تعالى عنه - أنه قال: هي في علف الخيل والنفقة عليها.

وقيل: نزلت هذه الآية في نفقة عبد الرحمن بن عوف في جيش العسرة.

٢٧٥

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا}، ليس على حقيقة الأكل، ولكنه كان على الأخذ، كقوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}. فإذا كان هذا على الأخذ فقوله تعالى: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} هو على التمثيل، ليس على التحقيق.

وقال آخرون: هو على نفس الأكل، وما ذكر من العقوبة، لما أكلوا من الربا لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم المجنون المنخنق.

وقال غيرهم: ذلك لاستحلالهم الربا، وتخبيطهم اللّه عَزَّ وَجَلَّ في الحكم في تحريمهم الربا بقولهم: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}.

ثم قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، فيه دليل جواز القياس في العقل؛ لأنه لو لم يكن في العقل جوازه لم يكن لقولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} معنى. لكنهم لم يعرفوا معنى المماثلة.

ثم المماثلة على الوجهين: مماثلة أسباب، ومماثلة أحوال.

فالمماثلة التي هي مماثلة أحوال: هي ابتداء محنة في الفعل، لا يقاس على غيره، نحو أن يقال: اقعد، أو أن يقال: قم، لا يقاس القيام على القعود، ولا القعود على القيام، إنما هو محنة لا يلزم غير المخاطب به.

وأما مماثلة الأسباب: فهي مماثلة الإيجاب، نحو أن يقال: حرم اللّه السكر في الخمر، فحيث ما وجد السكر يحرم؛ لأنه يجني على العقل، فكل شيء يجني عليه فهو محرم التناول منه.

وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}.

يقولون: لما جاز أن يباع ثوب يساوي عشرة بأحد عشر، كيف لا جاز أن يباع عشرة بأحد عشر؟

وقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

إن المعتزلة استدلوا على الوعيد لأهل الإسلام بما ذكر فيه من العود.

لكن بدء الآية على الاستحلال، فعلى ذلك العود إليه على جهة الاستحلال، يدل عليه قوله تعالى: {وَاللّه لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} فأثبت له الكفر بالذي كان منه في الابتداء، وهو الاستحلال؛ فكذلك العود إليه.

٢٧٦

وقوله تعالى: (يَمْحَقُ اللّه الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّه لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)

قيل: {يَمْحَقُ اللّه}: يهلك.

وقيل: {يَمْحَقُ}: يبطل.

ولكن أصل " المحق " هو رفع البركة؛ وذلك أن الناس يقصدون بجمع الأموال والشح عليها، لينتفع أولادهم من بعدهم إشفاقًا عليهم، وكذلك يمتنعون من التصدق على الناس. فأخبر اللّه تعالى: أن الأموال التي جمعت من جهة الربا ألا ينتفع أولادهم بها، وهو الأمر الظاهر في الناس. وأخبر أن الصدقات التي لا يمتنعون من الإنفاق عنها يربى ويخلف أولادهم إذا تصدقوا، ويمحق الربا ويرفع البركة عنها؛ حتى لا ينتفع أولادهم بها. وهو ما رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما فيه، وإن كذبا وكتما محقت عنهما البركة ".

٢٧٧

وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) الآية ظاهرة.

٢٧٨

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)

قيل فيه بوجهين:

قيل: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ} من عمركم {الرِّبَا} إذا صرتم مؤمنين.

وقيل: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}، الذي تقبضون {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

وفي الآية دلالة على أن الربا الذي لم يقبض إذا ورد عليه حرمة القبض أفسدته.

لذلك قال أصحابنا - رحمهم اللّه تعالى -: إن فوت القبض عن المبيع يوجب فساد العقد، كما كان فوت قبض الربا في ذلك العقد أوجب منع قبض الربا. والذي يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}، فأوجب الفسخ فيه حتى أوجب رد رأس المال.

وفي الآية دليل وجه آخر: وهو أنه جعل حدوث الحرمة المانعة للقبض، يرتفع به العقد في فساد العقد؛ فعلى ذلك يجعل حدوث شيء في عقد معقود قبل القبض كالمعقود عليه في استئجار حصته من الثمن.

وقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}،

وقوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} فيه دلالة: أن ما جرت بين أهل الإسلام وأهل الحرب من المداينات والمقارضات ثم أسلموا يرد، وما أخذوا قهزا لا يردون؛ وذلك أن الربا الذي قبضوا لئلا يرد لم يؤمر برده.

فعلى ذلك ما أخذوا قهرا أخذوا لئلا يرد، لم يجب رده. وأما رأس المال فإنما أخذوا للرد؛ فعلى ذلك ما أخذ بعضهم من بعض دَيْنًا أو قرضًا وجب رده. ففيه دليل لقول أصحابنا - رحمهم اللّه تعالى - على ما ذكرنا. واللّه أعلم.

٢٧٩

وقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)

عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه تعالى عنه - قال: فمن كان مقيمًا على الربا مستحلًا له لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه: فإن تاب ونزع عنه، وإلا ضرب عنقه.

وقوله تعالى: {فَأْذَنُوا}، فيه لغتان: بالقطع، والوصل.

فمن قرأ بالقطع، فهو على الأمر بالإعلام لمستحليه أنه يصير حربا له بالاستحلال.

ومن قرأ بالوصل، فهو على العلم، كأنه قال للمؤمنين: إنه حرب لنا.

وقوله تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}:

عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه تعالى عنه - قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}، أي: {لَا تَظْلِمُونَ} فتربون، {وَلَا تُظْلَمُونَ}: فتنقصون.

وقتادة - رضي اللّه تعالى عنه - يقول: بطل الربا وبقيت رءوس الأموال.

٢٨٠

وقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)

عن ابن عباس - رضي اللّه تعالى عنه -: {إِلَى مَيْسَرَةٍ} قال: هو المطلوب، وهو في الربا.

وفيه دلالة جواز التقلب في البيع الفاسد؛ لأنه جعل لأرباب الأموال النظرة إلى ميسرة من عليه المال. فلو كان له حق أخذه حيثما وجده بعد ما تناسخت الأيدي، أو كان له حق تضمين من هو أغنى لم يكن لإنظار المعسر إلى وقت الميسرة معنى. ولكن يحتاج إلى تضمين أيسرهم وأغناهم إذا كان يقدر، فله خصومته، وإذا كان شرط سقطت الخصومة، كما تقول في الذي يكفل عن معسر أو عمن أجل، ثم النظرة بالاختيار ممن له الحق، لا أنه يكون هكذا شاء هو أو أبي. دليله قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الصاحب الحق اليد واللسان ". أما اللسان فيتقاضاه، وأما اليد فيلازمه بها ويحبسه. ولكنه إذا أجل قطع على نفسه حق اللسان واليد إلى أن يمضي ذلك الوقت، فإذا مضى ذلك الوقت، ثبت له حق اللسان واليد. واللّه أعلم.

وقوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، يعني برءوس الأموال إذا ظهر إعساره. وعن الضحاك - رضي اللّه تعالى عنه - أنه قال في قوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، قال: أخذ رأس المال حسن، وتركه أحسن. وإنما الصدقة على المعسر، فأما على الموسر فلا.

وفيه دليل جواز صدقة الدَّين وهبته ممن عليه دين، وهو الأخْيَرُ له إذا ظهر إعساره وفقره. واللّه أعلم.

٢٨١

وقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)

قال عامة أهل التأويل: إن هذه الآية آخر ما نزلت على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللّه تعالى عنه.

فإن كان ما ذكروا فهو - واللّه أعلم - أنه عَزَّ وَجَلَّ رغبهم في ذكر ذلك اليوم؛ لما في ترك ذكره بطول الأمل، وطول الأمل يورث الحرص، والحرص يورث البخل ويشغله عن إقامة العبادات والطاعات. فإذا كان كذلك فأحق ما يختم القرآن به هذا؛ لئلا يتركوا ذكر ذلك اليوم فيسقطوا عن منزلته الثواب والجزاء. واللّه أعلم.

قال الشيخ - رحمه اللّه تعالى -: ويصير كأنه قال: اتقوا وعيده تعالى في جميع ما يعدكم وما ألزمكم من الحق.

٢٨٢

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّه فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّه رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا .... (٢٨٢)

فيه دليل جواز السلم من قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}؛ لأن المداينة هي فعل اثنين، وهو السلم نفسه؛ لأنه دين من الجانبين جميعًا، وعلى ذلك رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - أنه قال: شهدوا أن الْمُسْلَم المضمون مما أجازه اللّه - تعالى - في كتاب الكريم، ثم تلا هذه الآية.

فأما الخبر الذي جاء به نهى عن الدَّين: فإن ذلك على فوت القبض فيه، دليله: جواز ما كان دينًا بدين إذا قبض أحد الجانبين.

وقال آخرون: قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}، هو بيع كل دين إلى أجل مسمى، فهو يسمى

وقوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} لا يشغل الكاتب ولا الشهيد، فيقول له: اكتب لي كذا، واشهد لي على كذا، وهو يجد غيره.

وقال آخرون: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}، أي لا يضار كاتب صاحب الحق، فيكتب ما لا ينبغي أن يكتب بالزيادة والنقصان، وكذلك الشاهد لا يزيد على الحق ولا ينقص من الحق شيئًا، ولا يكتم الشهادة أيضًا. فهذا أقرب. واللّه أعلم.

فَإِنْ قِيلَ: إذا كان المعنى راجعًا إلى ما ذكرت ألا يزيد الكاتب ولا ينقص ألا قال: لا يضارُّ بالرفع؟

قيل: إنه لا يضاره فطرحت إحداهما فإذا طرحت انتصبت علامة للطرح إذ هكذا عمل الإضمار.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: " الإضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني: إن اللّه أمرك ألا تأبى إذا ما دعيت فتضاره بذلك ".

وقوله: {وَإن تَفعَلُوا} أي: تضاروا {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}؛ هذا يدل على أن التأويل هو ما ذكرنا من النهي عن الزيادة والنقصان والتحريف والكتمان؛ إذ في ذلك خروج عن الأمر.

والفسق هو الخروج عن الأمر كقوله {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}، وهو على المعتزلة؛ كقوله: {وَاتَّقُوا اللّه} في المضارة من الزيادة والنقصان والكتمان {وَيُعَلِّمُكُمُ اللّه} الحكم والأدب وما يحل وما لا يحل {وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} حرف وعيد.

٢٨٣

وقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّه رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)

قد ذكرنا فيما تقدم في الأمر بالكتابة والإشهاد: أنهما - واللّه أعلم - لحفظ الحقوق، ما جل منها وما دق، وألا يحملهم على الإنكار والجحد، وأن يذكرهم ذلك حتى لا ينسوا، فعلى ذلك الأمر بالرهان لئلا يؤخر قضاء الدَّين ويذكرون ولا ينسون، واللّه أعلم.

ثم فيه دلالة ألا يجوز الرهن إلا مقبوضا؛ لأن الرهن يقبض لأمرين:

أحدهما: لأنه إذا كان مقبوضًا محبوسًا عن صاحبه عن جميع أنواع منافعه ذكره وتقاضاه لقضاء دينه، وإذا كان في يديه لم يتقاضاه على ذلك؛ لذلك قلنا: إنه لا يجوز إلا

٢٨٤

وقوله تعالى: (للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (٢٨٤)

هو ظاهر، إذ ما في السماوات والأرض كلهم عبيده وإماؤه، ردًّا على قولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه}، و {الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه}، و " الملائكة بنات اللّه ".

وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم في غير موضع.

وقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّه}.

ومن الناس من استدل على نسخها بقوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}، لكنه لا يحتمل؛ لأن الآية وعد وخبر بالمحاسبة، والوعد لا يحتمل النسخ؛ لأنه خلف وبداء، وذلك ممن يجهل بالعواقب، تعالى اللّه عَزَّ وَجَلَّ عن ذلك علوًا كبيرًا.

ثم اختلف فيه:

قال الحسن: هو على ما عزم لا على ما خطر بالنفس. وكذا قوله: " مَن هَمَّ ". ويحتمل: أن يكون على التقديم والتأخير: إن تخفوا ما في أنفسكم أو تبدوه يحاسبكم به اللّه.

ويحتمل أيضًا: إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه وعزمتم عليه وعقدتم، لا على الخطر فيه أو حديث النفس، على ما روي: " مَن هَمَّ بحسنة فله كذا، ومَن هَمَّ بسيئة فكذا "، ليس على ما يخطر فيه أو حديث النفس، على ما روي، وتحدث النفس به، ولكن على العزم عليه والاعتقاد. وكذلك قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} همت هي به هَمَّ عزم، وهو هَمَّ بها هَمَّ خطر. والمرء غير مؤاخذ بما يخطر في القلب وتحدث النفس به، إنما يؤاخذ على ما عزم واعتقد عليه. واللّه أعلم.

وقوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

فيه دليل ما قلنا: إنه على العزم والاعتقاد عليه؛ لما ذكرنا من العفو والعقوبة عليه.

٢٨٥

وقوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ (٢٨٥)

وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ}، يحتمل وجهين:

وهذه الآية جمع جميع شرائط الإيمان؛ لذلك قلنا: إن الإيمان بالقرآن إيمان بجميع الكتب والأنبياء والبعث وغيره. وباللّه العصمة والنجاة.

يحتمل: آمن بنفس المنزل (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ)، أنه من عند اللَّه وكذلك (وَالْمُؤْمِنُونَ) أيضًا آمنوا بما أنزل إليه أنه من عند اللَّه تعالى.

ويحتمل: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ)، أي: آمن الرسول بما في المنزل إليه، وكان فيه ما ذكر: (آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)، إلى قوله: (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، وكذلك " المؤمنون " آمنوا بجميع ما في المنزل، وهو ما ذكرنا.

وفيه دليل أن الإيمان بالمنزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إيمان بجميع الرسل والكتب كلها والملائكة والبعث والجنة والنار.

وفيه دلالة نقض قول من يشك في إيمانه ويستثني؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ شهد لهم بالإيمان، فلا يخلو الاستثناء: إما أن يكون لشكهم في إتيان ما أمروا، أو في الذي أخبر اللَّه عنه بما كان، ففيه الويل لهم.

وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه شهد لهم بالإيمان، وهم نفوا عنهم الاسم الذي شهد اللَّه لهم بالإيمان به، وبالذي ذكر، وكل صاحب كبيرة مؤمن بجميع ما ذكر، وقد سماهم اللَّه به مؤمنين، وشهد لهم به. واللَّه الموفق.

فَإِنْ قِيلَ: فقد ذكر الطاعة في آخرها.

قيل: ذكر الطاعة في الإجابة، وبتلك الإجابة شهد لهم؛ فيلزمهم ما شهد اللَّه لهم جل وعلا بما أجابوا. واللَّه أعلم.

وقوله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)

ويحتمل: أن يكون هنا خبرا أخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن المؤمنين أنهم قالوا: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) كما فرق اليهود والنصارى.

وقوله تعالى: (. . . وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا).

يحتمل: (سَمِعْنَا) قولك ودعاءك، و (وَأَطَعْنَا)، أي: أطعناك في الإجابة.

ويحتمل: (سَمِعْنَا) القرآن، و (وَأَطَعْنَا)، أي: أطعنا ما فيه. واللَّه أعلم.

وقوله تعالى: (. . . غُفْرَانَكَ رَبَّنَا). أي: اغفر لنا ربنا

(وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي: المرجع.

وهذه الآية جمع جميع شرائط الإيمان؛ لذلك قلنا: إن الإيمان بالقرآن إيمان بجميع الكتب والأنبياء والبعث وغيره. وباللَّه العصمة والنجاة.

٢٨٦

وقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (٢٨٦)

واختلف فيه:

قال الحسن: قوله تعالى: {إِلَّا وُسْعَهَا}، إلا ما يحل ويسع، لكن بعض الناس يقولون: هذا بعيد، لا يحتمل الآية، إذا كلف حل ووسع. فإذا كان كذلك لم يكن لقوله معنى.

قيل له: هو كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}، إذا أحل طَيَّب وإذا طيب أحل. فكذا الأول. وكذا ذكرنا الأمرين جميعًا.

وتأويل ثان {إِلَّا وُسْعَهَا}: إلا طاقتها وكذلك قول المعتزلة: غير أنا اختلفنا في تقدم استطاعة الأفعال فمنعنا نحن تقدمها وقلنا لا تكون إلا مع الفعل، وقالت المعتزلة، بتقدم الفعل، وأما عندنا: فإنها على وجهين:

استطاعة الأحوال والأسباب، واستطاعة الأفعال.

أما استطاعة الأحوال والأسباب: فإنها يتقدمها، وعلى ذلك يقع الخطاب، دليله: قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. قيل: يا رسول اللّه ما الاستطاعة؟ قال: " الزاد والراحلة ". ثم كل يجمع أن من كان بأقصى بلاد المسلمين قد يلزمه فرض الحج، على علم كل منهم أن تلك الاستطاعة لو صرفت إلى استطاعة الأفعال لم يبق إلى وقت وجود الأفعال، ثم قد لزمه ذلك؛ فبان أن الكلفة إنما تقع على استطاعة الأحوال والأسباب، وكذلك الكلفة في جميع الطاعات.

فَإِنْ قِيلَ: قد يقع هذا على الخروج، فيوجد الفعل عقيب قوة الخروج، قيل: لو كان كذا لكان لا يلزم فرض الحج إلا بالخروج، وله ترك الخروج، إذ باكتساب الخروج يلزمه فرض الحج، فلا يلزم عليه فرض الحج؛ فثبت أنه لا يحتمله، بل هو على ما قاله أصحابنا - رحمهم اللّه -: إنها استطاعة الأحوال والأسباب، وتلك تتقدم، لما ذكرنا. واللّه أعلم.

وأما استطاعة الأفعال: فإنها تحدث بحدوث الأفعال وتتلو كالأوقات التي لا تبقى في وقت ثان، فهي كالوقت الذي لا يبقى في وقت ثان. واللّه أعلم.

فإن سئلنا عن التكليف: أيكون فيما لا يطاق؟

فجوابنا: أنه فيما منعنا عنه فلا. وفيما لم نمنع، وصنيعنا يشغلنا بغيره، فبلى. ثم الكافر بما أعطى من القوة والاستطاعة، شغل نفسه بغير وضيع ما أعطى من القوة. فإذا ضيع لم يكن تكليف ما لا يطيق ثم ننظر أينا أحق بالقول بتكليف ما لا يطاق.

فمن دول المعتزلة: إن القوة على الفعل ليوجده في الوقت الثاني، ثم في الوقت الثاني جعلوه غير قادر عليه بقدرة توجد، ثم جعلوه أيضًا غير قادر على الترك للفعل. والمتعارف من الأمر في الظاهر بشيء يفعله في وقت ألا يقع الأمر به وقت ما يسمعه ويقرع الخطاب السمع، بل في ثان من الوقت. فحصل عندهم الأمر على الوقت الذي هو غير قادر فيه.

فأي تكليف على فقد الطوق والوسع أبين مما قالوا؟! وباللّه التوفيق.

ثم أفحش من هذا ما قالوا: إن القدرة تتقدم الفعل، والفعل هو الذي يدل على وجود الولاية، وهو في وقت إيجاد الفعل، إن كان كفرا يعادى، وإن كان إيمانًا يوالى. فحصل القول: على أن الموالاة والمعاداة أبدا تقع في غير وقت الانتهاء والائتمار.

ثم قولهم في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} أنه على الجبر. ولا يحتمل ذلك؛ لأنه قد أوجب لكل ذلك مرة بالجبر في الخلقة، وهو قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، فقد ألزمهم الإسلام بالخلقة، بأن أن الثاني على الاختيار.

ثم قولهم: في استطاعة واحدة لفعلين خطأ؛ لأن من قولهم: إن الاستطاعة لا تبقى، ثم وجود الفعلين معًا في وقت باستطاعة واحدة محال، ووجود تلك الاستطاعة لأحد الفعلين بعدم الآخر مستحيل لعدم البقاء، ووجوده عندهم على البدل محال، إذ جعلوا عين ما هو الأصل لأحدهما للآخر؛ فثبت أنه خطأ.

وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}

فيه دلالة: أن اللّه تعالى إنما يأمر عبيده وينهى، وإنما يأمر وينهى؛ لمنافع لهم ولضرر يلحقهم، لا لمنافع تكون له بالأمر فيأمر، أو بضر يلحقه فينهى عن ذلك. فيكون الأمر جارًّا منفعة، وفي النهي دافعا مضرة. كما يكون في الشاهد أن من أمر آخر بشيء إنما يأمر لمنفعة تتأمل فيه، وينهى عن شيء لدفع ضرر يخافه. وتعالى اللّه عن ذلك.

وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.

قيل فيه بوجهين:

قيل: {إِنْ نَسِينَا}، يعني: تركنا، كقوله تعالى: {نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ}. وكقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ}، أي: ترك.

وقوله: {أَخْطَأْنَا}، يعني: ارتكبنا ما نهيتنا.

وقيل: إنه على حقيقة النسيان والخطأ، كأنه على الإضمار أن قولوا {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا. . .} الآية.

ثم اختلف بعد هذا:

قالت المعتزلة: أمر بالدعاء بهذا تعبدا أو تقربًا إليه. وكذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، وكذلك قوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ}، ونحوه، خرج الدعاء به مخرج التعبد والتقرب؛ لأن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبر أن لا يؤاخذنا بالنسيان والخطأ، وأخبر أنه لا يخلف الميعاد، وكذلك معلوم أنه لا يحكم إلا بالحق. وكذلك قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}، وقد أخبر أنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه على ما ذكرنا، وإلى هذا يذهب المعتزلة.

وأما الأصل عندنا في هذا: أنه جائز في الحكمة أن يعاقب على النسيان والخطأ، ليجتهدوا في حفظ حقوقه وحدوده وحرماته لئلا ينسوا. ألا ترى أن اللّه تعالى أوجب على قاتل الخطأ الكفارة، ثم قال: {تَوْبَةً مِنَ اللّه}، فلو لم يجز أن يعاقب على النسيان والخطأ، لم يكن لوجوب الكفارة عليه والتوبة معنى؛ دل أنه جائز في الحكمة المؤاخذة به.

والثاني: قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ}، وفعل الشيطان مما يتقى ويحذر؛ لذلك كان ما ذكرنا - واللّه أعلم - لأنه لو اجتهد عن فعل السهو والنسيان سلم عنه، فجائز أن يسأل السلامة عنهما، إذ بالجهد يسلم عنه، وبالغفلة يقع فيه.

والثالث: ما ذكرنا: أن النسيان هو الترك، والخطأ هو ارتكاب المنهي، والتارك لأمر اللّه، والمرتكب لنهيه يستوجب العقاب عليه. واللّه أعلم. فيصبح الدعاء على ذلك؛ لئلا يلحقهم العذاب بترك ذلك الأمر وارتكابه المنهى.

فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "؟ ْقيل: إنما جاء هذا في الكفر خاصة، لا في غيره؛ وذلك أن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام، يجري على ألسنتهم الكفر على النسيان والخطأ، وكذلك كانوا يكرهون على الكفر فيجرون على ألسنتهم الكفر مخافة القتل، فأخبرهم النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك مرفوعًا عنهم.

قال الشيخ - رحمه اللّه تعالى -: وبعد فإن في الخبر العفو، فيكون في ذلك دليل جواز الأخذ، ولعل الوعد بالعفو مقرونا بشرط الدعاء؛ فلذلك يدعون. وذكر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعا بهذا، فأجيبا لا أن يؤمر أحد أن يدعو ابتداء. واللّه أعلم.

وأما قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ}، ففيه وجهان:

 أحدهما: أنه وعد الرسل والمؤمنين جملة الجنة. فسؤال كل منهم أن يجعله من تلك الجملة التي وعدهم الجنة.

والثاني: يسأل الختم على ما به يستوجب الموعود.

وأما الأمر بالاستغفار: فهو يخرج على وجهين:

أحدهما: ما روي: " المؤذن يغفر له مد صوته "، فهو على استيجاب أُولَئِكَ المغفرة به؛ فعلى ذلك استغفاره، ليغفر به بعض أمته.

والثاني: أن المغفرة في اللغة هي التغطية والستر؛ فكأنه يسأل الستر عليه بعد التجاوز عنه.

قال الشيخ - رحمه اللّه تعالى -: ثم الأصل أن الاستغفار هو طلب المغفرة، فلو كان لا يجوز له التعذيب، فيكون التعذيب جَورًا، فيصير السؤال في التحقيق سؤال ألا يجورَ، وذلك مما لا يسع المحنة. وكذلك لو كان مغفورا له، كان الحق فيه الشكر لما أنعم عليه، وفي ذلك كتمان النعمة، والمحنة بكتمان نعم اللّه وكفرانها محال؛ لذلك لا بد أن يكون في الآيات ما يتمكن معه المحنة من المعنى. واللّه أعلم.

وأما قوله عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ}، قيل: الحق هاهنا هو العذاب، كأنه أمره أن يسأل بإنزال العذاب عليهم.

وقيل: {احْكُمْ بِالْحَقِّ}، أي احكم بحكمك الذي هو الحق.

فإذا كان ما ذكر محتملا، دل أنه ليس على ما ذهب إليه أُولَئِكَ. واللّه أعلم.

وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}.

قيل: " الإصر "، هو العهد، ويقول: لا تحمل علينا عهدا تعذبنا بتركه ونقضه كما حملته على الذين من قبلنا. وكان من قبلهم إذا خُطِّئُوا خطيئة حرم اللّه عليهم على نحوها مما أحل لهم الطيبات، كقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وكأصحاب الأخدود، وغيرهم. فخاف المسلمون ذلك فقالوا: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا}، في جرم أجرمناه فتحرم علينا الطيبات.

وأصل " الإصر "، الثقل والتشديد الذي كان عليهم من نحو ما كان توبتهم الأمر بقتل بعضهم بعضا، كقوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.

وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}

يحتمل وجهين:

يحتمل: أن {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} من القتل والهلاك، إذ في ذلك إفناؤهم، وفي الفناء ذهاب طاقتهم.

قال الشيخ - رحمه اللّه تعالى -: أي مما نشتغل عما أمرتنا، فيكون كالدعاء بالعصمة. واللّه أعلم.

ويحتمل: أن يراد به طاقة الفعل، وهي لا تتقدم عندنا الفعل. واللّه أعلم.

وقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا}

قيل: اتركنا على ما نحن عليه، ولا تعذبنا.

وقوله تعالى: {وَاغْفِرْ لَنَا}.

أي: استر لنا. و " الغفر "، هو الستر؛ ولذلك يسمى المغفر " مغفرًا "؛ لأنه يستر. وستر الذنب هو أعظم النعم.

وقوله تعالى: {وَارْحَمْنَا}

أي: تغمدنا برحمتك، لأنه لم ينج أحد إلا برحمتك،

وقوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلَانَا}

قيل: أنت أولى بنا.

وقيل: أنت حافظنا.

وقيل -: أنت ولينا وناصرنا. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله تعالى: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}

يحتمل: الكفار المعروفين.

ويحتمل: الشياطين، أي: انصرنا عليهم.

﴿ ٠