١٥٥قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ (١٥٥) وما ذكر فيه تذكير من اللّه عَزَّ وَجَلَّ للخلق؛ لئلا يجزعوا على ما يصيبهم من أنواع ما ذكر، من المصائب. وفي كل نوع ما ذكر من المصائب إضمار " شيء "، من نحو {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} و {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} واللّه أعلم؛ لأن اللّه عَزَّ وَجَلَّ أخبر في غير آية من القرآن: أنه خلقهم للموت والفناء، وأن ما أعطاهم من الدنيا والزينة فيها كله للفناء والفوات بقوله: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، وقال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٨). أخبر أن الدنيا وزينتها للفناء، فمن عرف أن ذلك كله لما ذكرنا يحق عليه ما يصيبه من الأمراض والأوجاع والنقص في الأموال والأنفس وما ذكر إذ ذلك كله، دون ما ذكر، وليعلموا أن ما أعطاهم من الحياة والصحة والسلامة لم يكن أعطاهم لحق لهم، بل للإفضال والإحسان، وقد جعل ذلك لمدة لا للأبد، فكأنه، في غير تلك المدة لغيرهم لا لهم، فعرفوا به منته لوقت وحقه وقت الأخذ. ثم يحتمل ما ذكر من الخوف وجهين: على جهة العبادة من نحو الأمر بمجاهدة العدو والقتال معه. ويحتمل لا على جهة العبادة، وكذلك الجوع يحتمل الجوع الذي فيه عبادة، وهو الصوم. ويحتمل ما يصيبهم من المجاعة في القحط ما أصاب أهل مكة سنين، وكذلك قوله: {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}، يحتمل: {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ} يمتحنهم بأداء الزكاة والصدقة. ويحتمل الهلاك بنفسها، وكذلك {وَالْأَنْفُسِ} ويحتمل الصرف على الوجهين اللذين ذكرتهما. وكذلك {وَالثَّمَرَاتِ}. ثم لا يحتمل خصوص الامتحان بما ذكر دون غيره؛ لأنهم كلهم عبيده، له أن يمتحنهم بأجمعهم بجميع أنواع المحن، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه لما عرفهم أن كل ذلك إنما خلق للفناء، فالبعض منه كذلك، ليخف ذلك عليهم. واللّه أعلم. ثم أمر نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يبشر الذين صبروا على المصائب التي امتحنهم بها عَزَّ وَجَلَّ، ولم يجزعوا عليها، وقالوا: {إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. فيه الإقرار بوحدانيته عَزَّ وَجَلَّ، وبالبعث بعد الموت. وقيل: إن هذا الحرف خص به هذه الأمة دون غيرها من الأمم؛ لأنه لم يذكر هذا الحرف عن الأمم السالفة؛ ألا ترى أن يعقوب - عليه السلام - على كثرة ما أصابه من المحن والمصائب والحزن على يوسف لم يذكر هذا الحرف عنه، ولكن قال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، ولو كان لهم هذا لظهر منهم على ما ظهر غيره؛ فدل أنه مخصوص لهذه الأمة. واللَّه أعلم. ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " من استرجع عند المصيبة جبر اللَّه مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفًا صالحًا يرضى به ". ثم الصبر: هو حبس النفس عن الجزع على ما يفوت؛ إذ هو كله لله عَزَّ وَجَلَّ مستعار عند الخلق، والجزع على فوت ما لغيره محال؛ ألا ترى إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣). نهانا أن نحزن على ما يفوت عنا؛ إذ هو في الحقيقة ليس لنا، وأن نفرح بما أتانا؛ إذ هو في الحقيقة لغيرنا. واللَّه الموفق. وقوله: (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ)، فهو على إضمار " الشيء " في كل حرف، إذ هو بحق العطف على ما تقدم؛ فكأنه قال: بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع. ولا قوة إلا باللَّه. ثم يتوجه ما أخبر من البلوى إلى وجهين: أحدهما: أن يبلوه بعبادة فيها ما ذكر. والثاني: أن يبلوه بالذي ذكر لا على عبادة يدفع إليه؛ وذلك نحو أن يبلوه بالجهاد، وفيه الخوف، أو يبلوه بأنواع أوصاب تحل به، فيخاف عند ذلك على نفسه. والجوع: أن يبلوه بالصيام الذي فيه ذلك، أو بقلة الإتراب وغلاء الأسعار. ونقص من الأموال: يكون في الجهاد، والحج، والزكوات، والمؤن المجعولة في الأموال، ويكون في الخسران في التجارات، وما يلحق أنواع المكاسب من الحوائج. والأنفس: يكون بالجهاد، ومحاربة الأعداء، ويكون بأنواع الأمراض. والثمرات: ترجع إلى قلة الإنزال، وقصور الأيدي عما به ينال، ومفارقة الأوطان للجهاد والحج ونحو ذلك مما فيه. ثم اللَّه سبحانه وتعالى أخبر أنه يبلوهم بشيء مما ذكرنا، لا بالكل. دل أنه -عَزَّ وَجَلَّ - لم يقطع عليهم كل المخارج، بل جعل لهم في كل نوع من ذلك مسلكًا وإن كان في ذلك نقصًا وضررًا، وجائز بلوغ ذلك تمام ما في كل نوع، لكنه بلطفه قرب إليهم فيما خوفهم وجه الرجاء، وعلى ذلك جميع الفعال ذي المحن أنها مقرونة بالخوف والرجاء، وكذلك هم في أنفسهم. ولا قوة إلا باللّه. ثم إن اللّه دلهم على ما عليهم من الحق فيما أخبر أنه يبلوهم به بحرف البشارة والوعد الجزيل الذي يسهل بمثله البذل لمن لا حق له، فكيف ومن له كليته ذلك؛ فقال اللّه تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}. ثم وصف الصابرين |
﴿ ١٥٥ ﴾