١٥٧

وقوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ (١٥٧) قيل: الصلاة من اللّه عَزَّ وَجَلَّ يحتمل وجوهًا:

يحتمل: الرحمة والمغفرة.

ويحتمل: الصلاة منه - مباهاته الملائكة؛ جوابًا لهم لما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}، كيف قلتم هذا؟ وفيهم من يقول كذا.

وقيل: الصلاة منه: الثناء عليهم. وأي كرامة تبلغ كرامة ثناء اللّه عليهم.

وقوله {وَرَحْمَةٌ} وقَالَ بَعْضُهُمْ الرحمة والصلاة واحد وهو على التكرار، وقيل: الرحمة: النعمة وهي الجنة.

وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}

شهد اللّه عَزَّ وَجَلَّ بالاهتداء لمن فوض أمره إلى اللّه تعالى، ويسلم لقضائه وتقديره السابق وهو كائن لا محالة؛ كقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ}.

قال الشيخ - رحمه اللّه -: قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} يبلوهم بالذي كان به عالمًا ليكون به ما علمه يكون بالأمر والنهي بحق المحنة، وهو كما يستخبر عما هو به خبير، مع ما كانت المحنة في الشاهد لاستخراج الخفيات يكون بالأمر والنهي، فاستعملت في الأمر والنهي، وإن كان لا يخفى عليه شيء، بل هو كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}. ثم له جعل الغيب شاهدًا، فجرت به المحنة، ليعلم ما قد علمه غائبًا شاهدًا، إذ هو موصوف بذلك في الأزل. وباللّه التوفيق.

ثم كان العبد بجميع ما هو له من السعة والسلامة فهو للّه في الحقيقة، لكنه بفضله وكرمه يعامل عبيده معاملة من ليس له ما كان يطلب منه ولي أمره به، فقال: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}،

وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} ليكون ذلك أطيب لأنفسهم وأرغب لهم في البذل لما طلب منهم، وإن كان له أخذ ذلك منهم بلا شيء يعدهم عليه، فعلى ذلك قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} بالذي ذكر، يدلهم على أن ذلك منه؛ ليعلموا أنه فيما كان وعد الاشتراء منهم، وطلب منهم البذل بجزيل العوض لهم، فيخف ذلك عليهم وتطيب به أنفسهم، وأن يكون يذكر أولا أنه يبتليهم بالذي ذكر ليطيبوا أنفسهم به، ولا يتكلفوا ذلك من قلوبهم، فيضجرون عند الابتلاء بذلك، وكذا كل خلاف للطبع إذا كان عن رياضته إياه وإشعاره به قبل النزول، كان ذلك أيسر عليه من أن يأتيه ذلك من حيث لم يهلمم به، مع ما كان في ذلك خطر بالقلوب نسبة مثله إلى الخلق والتشاؤم بهم، فقدم اللّه في ذلك البيان ليعلموا أن ذلك بالذي جرى به الوعد، وذلك كقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ}، الآية، فبين أن ذلك مكتوب عليهم لتطيب الأنفس وتطمئن القلوب عليه.

والأصل في هذا: أن جميع ما ذكر البلوى به في التحقيق ليس بحق للعبد، بل هو امتنان من اللّه وإفضال منه، وأنه لم ينشئه ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية، فعلى ذلك جميع ما أنعم عليه، وإذا سكن العبد على هذا الذي جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه سهل عليه ذهابه، وطابت به نفسه، مع ما يعلم أنه أنعم عليه لوقت، ثم هو نعمة على غيره ولغيره، فيكون المأخوذ منه في الحقيقة لغيره، وإن كان اللّه عَزَّ وَجَلَّ ذكره في الابتلاء والمصائب، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عَزَّ وَجَلَّ. ولا قوة إلا باللّه.

ثم بين اللّه عَزَّ وَجَلَّ ما يكرمهم؛ إذا خضعوا لحكمه ورضوا لقضائه، مع ما دل عليه أيضًا بقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. . .} الآية، فقال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)، وقال في موضع آخر: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجرًا، ومعلوم أن كان ذلك حقا للّه عليهم، بالسابق من نعمه، مع عظم مننه، لكنه سمى ما أفضل به أجرًا له، مع ما كان العبد الدنيا محمول كله على أسباب، لا أنها توجب ولكن اللّه تعالى أجرى أحكامه عليها، فيكون الخوف والرجاء في التحقيق من اللّه تعالى أن يكون جعل ذلك سببًا. واللّه الموفق.

وأيضا: أن يعلم أن المصائب في الدنيا ليست كلها عقيب الآثام، بل للّه تعالى الابتلاء بالحسنات والسيئات، أيضًا لا يدل على وهن عقد المصائب، ولا زلة بليَ بها. وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل، عليهم السلام، ولكن على وجهين:

أحدهما: أن يكون اللّه تعالى يريد أن يحميَ وليه لذات الدنيا لينالها موفرة في الآخرة.

والثاني: أن يكون لهم بعده زلات لا يسلم عنها البشر، فيبتلوا، فيبعثوا يوم القيامة ولا زلة بقيت مما يجزيهم تلك. ولا قوة إلا باللّه. وإنما كذلك جعلت لمحنة.

* * *

﴿ ١٥٧