١٨٣

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)

هَؤُلَاءِ الآيات فيهن فرضية بقوله: {كُتِبَ}، وأيد ذلك الإبدال فيها الإفطار لعذر والأمر بالقضاء، وذلك ليس بشرط الآداب مع الامتنان علينا بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ}، أي يريد بكم الإذن لكم في الفطر للعذر، ولو كان غير فرض بدؤه لم يكن الفطر للعذر بموضع الرخصة مع شرطه إكمال العدة في القضاء معنى، وفي ذلك لزوم حفظ المتروك لئلا يدخل التقصير في القضاء. وعلى ذلك إجماع الأمة.

ثم بين عَزَّ وَجَلَّ أن لم تكن هذه الأمة بمخصوصة في الصيام، بل هي أحق من فيهم استعمل العفو أو الصفح بما خصهم بأن جعلهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وأخبر أنه لم يجعل عليهم (فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، ولا ألزمهم العبادات الشاقة فضلًا منه عليهم وتخصيصًا لهم؛ إذ جعلهم (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) فقال عَزَّ وَجَلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). لكن " كما " يحتمل وجهين:

يحتمل: العذر الذي كتب عليهم.

ويحتمل: الفرضية في الجملة لا عين ما فرض عليهم من حيث الإشارة إلى ذلك؛ ولذلك اختلف في (الكاف) في قوله: (كما) - أنها زائدة، أو حقيقية.

ثم اختلف فيما يأتيه ذلك الصيام: فمن الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، من جعله صوم عاشوراء وأيام البيض. ثم استعملوا نسخ ذلك بصيام الشهر.

وقد روي مرفوعًا: " أن صوم شهر رمضان نسخ كل صيام كان ".

ورُويَ عن جماعة في أمر صوم عاشوراء: أنا كنا نصومه حتى نزل صوم الشهر، فلم يكن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا به ولا ينهانا.

وأصل هذا أنه كان يصام، لو كان ابتداء الآية عليه بحق الفرض فأبدل ذلك بصوم الشهر، فارتفعت عنه الفرضية على ما إذا كان يخرج منه بالفداء لم يكن معه فرضية القضاء، وبقي الفصل فيه؛ النسخ لم يكن من حيث نفس الصوم، إذ مثله من النسخ يكون بغير الصوم ولا يصوم. فثبت أنه في نسخ الفرضية. فبقي فيه حق الأدب والفضل، وتبين النسخ الصوم إذ مثله، وإن ذلك غير صوم الشهر الذكر في صوم الشهر بقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا. . .) الآية. إذ ذلك كان غير موضع الشهر، ولو كان الكل واحدًا لكان الذكر في موضع منه كافيًا عن الإعادة؛ فثبت أنه على تناسخ الصيام. وقد روي عن معاذ رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " أحيل الصيام ثلاثة أحوال ". وبين الخبر على وجهه في ذلك.

ويحتمل: أن يكون المراد منه صوم الشهر، ويكون تكرار الذكر في الرخصة لمكان رفع الفداء، أو لمكان ذكر حق الامتنان بالتيسير، أو التحريض على حفظ العدد. والله الموفق.

وأي ذلك كان؛ فليس بنا حاجة إلى معرفة حقيقة ذلك؛ لأن كيفية الابتداء لم تكلف، وإنما كلفنا ما أبقى فرضه، وهو صيام الشهر الذي لم يختلف في ذلك.

ثم قد خاطب جل ثناؤه بالصيام من قد آمن بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فكان فيما خاطب وجهان:

أحدهما: أنه خاطب المؤمنين فعرف المخاطبون أن الاسم يذكرهم؛ إذ لم يذكر عن أحد أنه ظن خروجه من حكم الآية، من حيث لم يكن وفاء بما به يستحق الاسم، وكذلك سائر عبادات الأفعال.

وهذا من أوضح ما يجب به العلم أن الإيمان ليس باسم لجميع القرب، بل تحقيقه يصير أفعال القرب قربًا.

وفيه إذ لم يقل: يا أيها الذين، قلتم: نحن مؤمنون به صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، دلالة ظاهرة على هجر هذا القول، وأنه من تلقين الشيطان ليبطل عليهم عقدهم، كما يبطل كل عقد يستعمله فيه صاحبه مما أراد إلزامه العقد. واللَّه أعلم.

والثاني: أن اللَّه تعالى خص بالعبادات المؤمنين، وأنهن لا يلزمن غيرهم وإنما يلزم غيرهم فيها الاعتقاد، لا الأفعال التي هي تقوم بالاعتقاد، وليس الاعتقاد بواجب لمكان تلك الأفعال حتى تكون كالأسباب التي توجب بإيجاب أفعال بها تقوم، بل له أوجب غيره.

ألا ترى أنه لا يجوز أن يرتفع ذلك عن الخلائق بحال من الأحوال في الدنيا والآخرة مع ارتفاع غير ذلك من العبادات؛ ثبت أن الأمر بذلك بحيث نفسه، لا لغيره.

ثم لا قيام لغيره مع عدمه؛ ثبت أن المعنى الذي به يصير المرء أهلًا لاحتمال فعل العبادات، لذلك لا يجوز الأمر بشيء منها دون ذلك. وله وجهان يحيلان الأمر أيضًا:

أحدهما: العقل، أنه من البعيد أن يكون من لم يقبل العبودية، ولا أقر بالرسالة تؤمر بالعبادة وباتباع الرسول بحق الرسالة، بل يقول: ألزمونا الأول، حتى يكون الثاني، وهو كما أحال الناس المناظرة في الرسل مع منكري الصانع والمرسل، فمثله الأول، بل يجب كل قربة به؛ إذ لا يكون إلا به. واللَّه أعلم.

والثاني: القول بأن من أسلم بعد أوقات العبادات لا يلزمه القضاء. ثم لذلك وجهان من المعتبر:

أحدهما: بأنهم إذا لم يدخلوا في خطاب القضاء، بما ليس معهم في الحال ما يحتمل معه القضاء، فكذلك خطاب الابتداء؛ إذ هو الذي به لزم القضاء في الإسلام. والله أعلم.

والثاني: أنه لا يلزم القضاء بعد الإسلام، ولا يجوز الابتداء في حاله. فكان ذا تكليف لم يجعل اللَّه للمكلف وجه القيام، وقد تبرأ اللَّه عن هذا الوجه من التكليف بقوله عز وجل: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا)، مع ما بين اللَّه تعالى بقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) أن ما للكافر التمتع في الدنيا، لا العبادات في ذلك. واللَّه الموفق.

فثبت بالآية التي ذكرنا جميع المؤمنين في الخطاب؛ إذ بين الرخصة لِذِي العذر في الإفطار على وجوب القضاء فإذ لم يحتمل خروج من له العذر في الفطر عن أن يتضمنه الخطاب وجه ألزم القضاء، ثبت أن من لا عذر له داخل فيه ولا يسعه الفطر، وعلى هذا جاء ممن ابتلي بالجماع نهارًا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أكد عليه الأمر وألزم الكفارة على غير سؤال عن أحوال سوى ما علم من حاله أنه ليس بمريض ولا مسافر، فكان في ذلك دليل تأكيد الفرض، وفي ذلك إيجاب الكفارة لتعديه على الصيام على حال لا يحتمل الإرخاص، إذ قد كان تلك البلية في الليالي، فلم يُؤمَروا بها من حيث كانوا يملكون إبقاء الرخصة لأنفسهم لولا النوم، وفي ذلك أن فرض الصيام يعم المؤمنين.

﴿ ١٨٣