٢٨٦وقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (٢٨٦) واختلف فيه: قال الحسن: قوله تعالى: {إِلَّا وُسْعَهَا}، إلا ما يحل ويسع، لكن بعض الناس يقولون: هذا بعيد، لا يحتمل الآية، إذا كلف حل ووسع. فإذا كان كذلك لم يكن لقوله معنى. قيل له: هو كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}، إذا أحل طَيَّب وإذا طيب أحل. فكذا الأول. وكذا ذكرنا الأمرين جميعًا. وتأويل ثان {إِلَّا وُسْعَهَا}: إلا طاقتها وكذلك قول المعتزلة: غير أنا اختلفنا في تقدم استطاعة الأفعال فمنعنا نحن تقدمها وقلنا لا تكون إلا مع الفعل، وقالت المعتزلة، بتقدم الفعل، وأما عندنا: فإنها على وجهين: استطاعة الأحوال والأسباب، واستطاعة الأفعال. أما استطاعة الأحوال والأسباب: فإنها يتقدمها، وعلى ذلك يقع الخطاب، دليله: قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. قيل: يا رسول اللّه ما الاستطاعة؟ قال: " الزاد والراحلة ". ثم كل يجمع أن من كان بأقصى بلاد المسلمين قد يلزمه فرض الحج، على علم كل منهم أن تلك الاستطاعة لو صرفت إلى استطاعة الأفعال لم يبق إلى وقت وجود الأفعال، ثم قد لزمه ذلك؛ فبان أن الكلفة إنما تقع على استطاعة الأحوال والأسباب، وكذلك الكلفة في جميع الطاعات. فَإِنْ قِيلَ: قد يقع هذا على الخروج، فيوجد الفعل عقيب قوة الخروج، قيل: لو كان كذا لكان لا يلزم فرض الحج إلا بالخروج، وله ترك الخروج، إذ باكتساب الخروج يلزمه فرض الحج، فلا يلزم عليه فرض الحج؛ فثبت أنه لا يحتمله، بل هو على ما قاله أصحابنا - رحمهم اللّه -: إنها استطاعة الأحوال والأسباب، وتلك تتقدم، لما ذكرنا. واللّه أعلم. وأما استطاعة الأفعال: فإنها تحدث بحدوث الأفعال وتتلو كالأوقات التي لا تبقى في وقت ثان، فهي كالوقت الذي لا يبقى في وقت ثان. واللّه أعلم. فإن سئلنا عن التكليف: أيكون فيما لا يطاق؟ فجوابنا: أنه فيما منعنا عنه فلا. وفيما لم نمنع، وصنيعنا يشغلنا بغيره، فبلى. ثم الكافر بما أعطى من القوة والاستطاعة، شغل نفسه بغير وضيع ما أعطى من القوة. فإذا ضيع لم يكن تكليف ما لا يطيق ثم ننظر أينا أحق بالقول بتكليف ما لا يطاق. فمن دول المعتزلة: إن القوة على الفعل ليوجده في الوقت الثاني، ثم في الوقت الثاني جعلوه غير قادر عليه بقدرة توجد، ثم جعلوه أيضًا غير قادر على الترك للفعل. والمتعارف من الأمر في الظاهر بشيء يفعله في وقت ألا يقع الأمر به وقت ما يسمعه ويقرع الخطاب السمع، بل في ثان من الوقت. فحصل عندهم الأمر على الوقت الذي هو غير قادر فيه. فأي تكليف على فقد الطوق والوسع أبين مما قالوا؟! وباللّه التوفيق. ثم أفحش من هذا ما قالوا: إن القدرة تتقدم الفعل، والفعل هو الذي يدل على وجود الولاية، وهو في وقت إيجاد الفعل، إن كان كفرا يعادى، وإن كان إيمانًا يوالى. فحصل القول: على أن الموالاة والمعاداة أبدا تقع في غير وقت الانتهاء والائتمار. ثم قولهم في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} أنه على الجبر. ولا يحتمل ذلك؛ لأنه قد أوجب لكل ذلك مرة بالجبر في الخلقة، وهو قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، فقد ألزمهم الإسلام بالخلقة، بأن أن الثاني على الاختيار. ثم قولهم: في استطاعة واحدة لفعلين خطأ؛ لأن من قولهم: إن الاستطاعة لا تبقى، ثم وجود الفعلين معًا في وقت باستطاعة واحدة محال، ووجود تلك الاستطاعة لأحد الفعلين بعدم الآخر مستحيل لعدم البقاء، ووجوده عندهم على البدل محال، إذ جعلوا عين ما هو الأصل لأحدهما للآخر؛ فثبت أنه خطأ. وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فيه دلالة: أن اللّه تعالى إنما يأمر عبيده وينهى، وإنما يأمر وينهى؛ لمنافع لهم ولضرر يلحقهم، لا لمنافع تكون له بالأمر فيأمر، أو بضر يلحقه فينهى عن ذلك. فيكون الأمر جارًّا منفعة، وفي النهي دافعا مضرة. كما يكون في الشاهد أن من أمر آخر بشيء إنما يأمر لمنفعة تتأمل فيه، وينهى عن شيء لدفع ضرر يخافه. وتعالى اللّه عن ذلك. وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. قيل فيه بوجهين: قيل: {إِنْ نَسِينَا}، يعني: تركنا، كقوله تعالى: {نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ}. وكقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ}، أي: ترك. وقوله: {أَخْطَأْنَا}، يعني: ارتكبنا ما نهيتنا. وقيل: إنه على حقيقة النسيان والخطأ، كأنه على الإضمار أن قولوا {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا. . .} الآية. ثم اختلف بعد هذا: قالت المعتزلة: أمر بالدعاء بهذا تعبدا أو تقربًا إليه. وكذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، وكذلك قوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ}، ونحوه، خرج الدعاء به مخرج التعبد والتقرب؛ لأن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبر أن لا يؤاخذنا بالنسيان والخطأ، وأخبر أنه لا يخلف الميعاد، وكذلك معلوم أنه لا يحكم إلا بالحق. وكذلك قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}، وقد أخبر أنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه على ما ذكرنا، وإلى هذا يذهب المعتزلة. وأما الأصل عندنا في هذا: أنه جائز في الحكمة أن يعاقب على النسيان والخطأ، ليجتهدوا في حفظ حقوقه وحدوده وحرماته لئلا ينسوا. ألا ترى أن اللّه تعالى أوجب على قاتل الخطأ الكفارة، ثم قال: {تَوْبَةً مِنَ اللّه}، فلو لم يجز أن يعاقب على النسيان والخطأ، لم يكن لوجوب الكفارة عليه والتوبة معنى؛ دل أنه جائز في الحكمة المؤاخذة به. والثاني: قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ}، وفعل الشيطان مما يتقى ويحذر؛ لذلك كان ما ذكرنا - واللّه أعلم - لأنه لو اجتهد عن فعل السهو والنسيان سلم عنه، فجائز أن يسأل السلامة عنهما، إذ بالجهد يسلم عنه، وبالغفلة يقع فيه. والثالث: ما ذكرنا: أن النسيان هو الترك، والخطأ هو ارتكاب المنهي، والتارك لأمر اللّه، والمرتكب لنهيه يستوجب العقاب عليه. واللّه أعلم. فيصبح الدعاء على ذلك؛ لئلا يلحقهم العذاب بترك ذلك الأمر وارتكابه المنهى. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "؟ ْقيل: إنما جاء هذا في الكفر خاصة، لا في غيره؛ وذلك أن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام، يجري على ألسنتهم الكفر على النسيان والخطأ، وكذلك كانوا يكرهون على الكفر فيجرون على ألسنتهم الكفر مخافة القتل، فأخبرهم النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك مرفوعًا عنهم. قال الشيخ - رحمه اللّه تعالى -: وبعد فإن في الخبر العفو، فيكون في ذلك دليل جواز الأخذ، ولعل الوعد بالعفو مقرونا بشرط الدعاء؛ فلذلك يدعون. وذكر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعا بهذا، فأجيبا لا أن يؤمر أحد أن يدعو ابتداء. واللّه أعلم. وأما قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ}، ففيه وجهان: أحدهما: أنه وعد الرسل والمؤمنين جملة الجنة. فسؤال كل منهم أن يجعله من تلك الجملة التي وعدهم الجنة. والثاني: يسأل الختم على ما به يستوجب الموعود. وأما الأمر بالاستغفار: فهو يخرج على وجهين: أحدهما: ما روي: " المؤذن يغفر له مد صوته "، فهو على استيجاب أُولَئِكَ المغفرة به؛ فعلى ذلك استغفاره، ليغفر به بعض أمته. والثاني: أن المغفرة في اللغة هي التغطية والستر؛ فكأنه يسأل الستر عليه بعد التجاوز عنه. قال الشيخ - رحمه اللّه تعالى -: ثم الأصل أن الاستغفار هو طلب المغفرة، فلو كان لا يجوز له التعذيب، فيكون التعذيب جَورًا، فيصير السؤال في التحقيق سؤال ألا يجورَ، وذلك مما لا يسع المحنة. وكذلك لو كان مغفورا له، كان الحق فيه الشكر لما أنعم عليه، وفي ذلك كتمان النعمة، والمحنة بكتمان نعم اللّه وكفرانها محال؛ لذلك لا بد أن يكون في الآيات ما يتمكن معه المحنة من المعنى. واللّه أعلم. وأما قوله عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ}، قيل: الحق هاهنا هو العذاب، كأنه أمره أن يسأل بإنزال العذاب عليهم. وقيل: {احْكُمْ بِالْحَقِّ}، أي احكم بحكمك الذي هو الحق. فإذا كان ما ذكر محتملا، دل أنه ليس على ما ذهب إليه أُولَئِكَ. واللّه أعلم. وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}. قيل: " الإصر "، هو العهد، ويقول: لا تحمل علينا عهدا تعذبنا بتركه ونقضه كما حملته على الذين من قبلنا. وكان من قبلهم إذا خُطِّئُوا خطيئة حرم اللّه عليهم على نحوها مما أحل لهم الطيبات، كقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وكأصحاب الأخدود، وغيرهم. فخاف المسلمون ذلك فقالوا: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا}، في جرم أجرمناه فتحرم علينا الطيبات. وأصل " الإصر "، الثقل والتشديد الذي كان عليهم من نحو ما كان توبتهم الأمر بقتل بعضهم بعضا، كقوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يحتمل وجهين: يحتمل: أن {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} من القتل والهلاك، إذ في ذلك إفناؤهم، وفي الفناء ذهاب طاقتهم. قال الشيخ - رحمه اللّه تعالى -: أي مما نشتغل عما أمرتنا، فيكون كالدعاء بالعصمة. واللّه أعلم. ويحتمل: أن يراد به طاقة الفعل، وهي لا تتقدم عندنا الفعل. واللّه أعلم. وقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا} قيل: اتركنا على ما نحن عليه، ولا تعذبنا. وقوله تعالى: {وَاغْفِرْ لَنَا}. أي: استر لنا. و " الغفر "، هو الستر؛ ولذلك يسمى المغفر " مغفرًا "؛ لأنه يستر. وستر الذنب هو أعظم النعم. وقوله تعالى: {وَارْحَمْنَا} أي: تغمدنا برحمتك، لأنه لم ينج أحد إلا برحمتك، وقوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلَانَا} قيل: أنت أولى بنا. وقيل: أنت حافظنا. وقيل -: أنت ولينا وناصرنا. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله تعالى: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} يحتمل: الكفار المعروفين. ويحتمل: الشياطين، أي: انصرنا عليهم. |
﴿ ٢٨٦ ﴾