٥٩

وقوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ (٥٩)

قيل في القصة: إن نصارى من أهل نجران قدموا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا له: إنك تشتم صاحبنا عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد، وهو يُحْيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فيطير، فأرنا فيما خلق اللّه عبدًا مثله يعمل هذا، والنصارى في الحقيقة مشبهة وقدرية: وأمَّا التشبيه: فإنما حملهم على ذلك ظنهم في قول إبراهيم - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ حيث قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}؛ ظنوا أن عيسى لما قال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} أنه رب وإله؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - أخبر أن ربه {الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}؛ فسموا عيسى إلهًا بهذا، وهم كانوا يرون عيسى يأكل ويشرب وينام؛ فلولا أنهم عرفوا اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - وإلا ما شبهوه به، تعالى اللّه عن ذلك.

وأمّا القدرية: فلما لم يروا للّه في أفعال العباد صنعًا؛ إنما رأوا ذلك للخلق خاصة، فلما رأوا ذلك من عيسى - عليه السلام - ظنوا أنه ربٌّ؛ لما لم يروا ذلك من غيره، ولو كانوا عرفوا اللّه حق المعرفة، لعلموا أن لم يكن من عيسى إلا تصوير ذلك الطير وتمثيله، ويكون مثله من كل أحد؛ وإنَّمَا الإحياء كان من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أجراه على يدي عيسى - عليه السلام - وأظهره، وإنما كان من عيسى تصويره فقط؛ وكذلك ما كان من إبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أجراه على يديه آيات لنبوته؛ لأنهم ادعوا له الربوبية من وجهين: لكونه من غير أب، ولآياته.

ثم قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ} - يحتمل وجهين - واللّه أعلم -:

 أحدهما: أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - صور صورة آدم من طين، ثم جعل فيه الروح، لم يجز أن يقال صار آدم حيًّا من نفسه؛ لوجود صورته، كيف جاز لكم أن تقولوا: إن عيسى لمّا صوَّر ذلك الطير من الطين، صار محييًا له بتصويره إياه دون إحياء اللّه - تعالى - إياه؟! واللّه أعلم.

والثاني: أن آدم - عليه السلام - خُلِقَ لا من أب وأم، ثم لم تقولوا: إنه ربٌّ أو إله، فكيف قلتم في عيسى: إنه إله؛ وإنه خلق لا من أب؟ إذ عدم الأبوة في آدم لم يوجب أن يكون ربًّا؛ وكيف أوجب عدم الأبوة في عيسى كونه ربًّا وإلها؟! واللّه الموفق.

وإنما كان عيسى بقوله: " كن " - كما كان آدم، أيضًا، بـ " كن " - من غير أب.

وقوله: (كُن):

قد ذكرنا أنه أوجز كلام في لسان العرب يعبر فيؤدي المعنى؛ فيفهم المراد، لا أن كان من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - كاف، أو نون، أو وقت، أو حرف، أو يوصف كلامه بشيء مما يوصف به كلام الخلق، تعالى اللّه عن ذلك.

وقوله: {فَيَكُونُ}:

يحتمل وجهين:

يحتمل " يكون "، بمعنى: كان، والعرب تستعمل ذلك ولا تأبى.

والثاني: أن تكون الكائنات بأسبابها في أوقاتها التي أراد كونها على ما أراد، وأصل ذلك، إذا ذكر اللّه ووصف بذكر بلا ذكر وقت في الأزل، وإذا ذكر الخلق معه يذكر الوقت، والوقت يكون للخلق يقول: خالق لم يزل، وخالقه في وقت خلقه.

﴿ ٥٩