٢٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} الظاهر في الثنيا أنه من غير جنس المستثنى؛ لأنه استثنى التجارة عن تراضٍ من أكل المال بالباطل بينهم، وأكل المال بالباطل ليس من جنس التجارة، ولا التجارة من نوع أكل المال بالباطل، والثنيا في الأصل جعل تحصيل المراد في المجمل من اللفظ؛ فإذا لم يكن من نوعه كيف جاز؟! لكنه يحتمل - واللّه أعلم - أن يكون على الابتداء والائتناف؛ كأنه قال: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولكن كلوا بتجارة عن تراض منكم؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}، استثنى السلام، والسلام ليس من جنس اللغو، لكن معناه ما ذكرنا: لا يسمعون فيها لغوًا، ولكن يسمعون فيها سلامًا. ويحتمل أن يكون في الثنيا بيان تخصيص المراد في المطلق من الكلام؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ)، دل استثناؤه آل لوط على أنه أراد بقوم مجرمين قوم لوط خاصة؛ لأنه قد كان في قوم إبراهيم - عليه السلام - وفي غيرهم أقوام مجرمين؛ دل الثنيا على مراد الخصوص؛ فعلى ذلك يدل استثناؤه التجارة عن تراض منهم - على أنه أراد بأكل المال بالباطل تجارة عن غير تراض، وإن كان -في الحقيقة- يصير مال هذا بمال هذا، وهو أن يأخذ مال غيره فيتلفه؛ فيلزمه بدله؛ فيصير ما عوض من بدله بما أتلفه قصاصًا؛ فهو -في الحقيقة- تجارة. أو يحتمل: أن يكون أكل المال بالباطل بينهم ما لا يجوز ولا يطيب؛ لأن حرف البين لا يستعمل إلا فيما كان البدل من الجانبين؛ فإذا كان ما وصفنا محتملا - كان الثنيا من ذلك من وجه يطيب، ومن وجه لا يجوز ولا يطيب. وفيه دليل: أن التجارة هي جعل الشيء له ببدل، وترك الشيء بالشيء؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}، ذكر الشرى ولم يكن منهم إلا ترك الهدى بالكفر، ثم سمى ذلك تجارة بقوله - تعالى -: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}. وفيه دلالة: أن البيع يتم بوقوع التراضي بين المتبايعين، وليس كما قال قوم: لا يتم البيع وإن تراضيا على ذلك حتى يتفرقا عن المكان؛ فكانوا تاركين - عندنا - لظاهر هذه الآية، فإن احتجوا بالخبر الذي روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الْمُتَبَايِعَانِ بِالخيَارِ مَا لَم يتَفْرَّقَا " - لكن معناه عندنا: أن يقول الرجل للرجل: بعتك عبدي بكذا، فلصاحبه أن يقول: قبلت البيع، ما دام في مجلسه. أو يحتمل: أن يكون إذا قال: بعتك، كان له الرجوع قبل أن يقول الآخر: قبلت. على أن قوله - عليه السلام -: " مَا لَم يتَفْرَّقَا "، لا يوجب أن يكون تفرقًا عن المكان وتفرق الأبدان؛ ألا ترى أن اللّه - سبحانه وتعالى - قال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّه كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}، ولا يفهم المعنى من ذلك تفرق المكان والأبدان؛ ولكن وقع ذلك على القول والطلاق. على أن في الآية بيان تمام البيع بوجود التراضي بقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}. ومما يدل على ذلك -أيضًا-: قوله - تعالى -: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}، فلو كان البيع لا يتم بالتراضي؛ فمتى يشهد: قبل التفرق أو بعد التفرق؟ إن أشهد قبل التفرق، فهل المقر صادق في أن لصاحبه عليه الثمن أو كاذب؟ إذ كان البيع لم يتم، وما ينفعه الإشهاد إن كان للمقر أن يبطل إقراره برد السلعة. وإن كان إنما يشهد بعد التفرق فقد يجوز أن يتلف المال بالتفرق قبل الإشهاد؛ فأين التحصين الذي أمر اللّه تعالى؟! ومما يدل على تأويلنا في الخبر: ما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الْبَيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرقَا مِنَ بَيعِهِمَا، أَوْ يَكُونُ بَيّنَهُمَا خِيَارٌ "، وما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الْبَيعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرقَا، وَلَا يَحِل لِأَحَدٍ أَنْ يُعَجلَ فِرَاقَهُ خشية أَنْ يَستَقيلَهُ ". وقوله: " يستقيله " يدل على أن ليس له أن يرده إلا بأن يقيله صاحبه؛ ويدل قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَالَم يَتَفْرقَا مِنْ بَيعِهِمَا " - على أن التفرق هو الفراغ من عقد البيع لا غيره. ومما يدل على أن الخيار ليس بواجب: قول عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - إن البيع عن صفقة أو خيار؛ فكان موافقًا لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - يقول: دل قوله - تعالى -: {لَا تَأكُلُوا. . .} إلى قوله: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} - على الإذن في الأكل إذا وجدت التجارة عن تراض من الناس، والتجارة معروفة عند جميع من له عقل، ومعروف أن تفرق المتعاقدين بعد الفراغ من العقد لم يعرف -فيما هو عند الخلق- تجارة، ولكن التفرق بانقضاء ما له الاجتماع والفراغ منه بما ليس من معاقدة العقلاء الوقوف في مكان بلا حاجة؛ فليس التفرق مما يحتمل أن يظنه حكيم أو سفيه من التجارة، وقد أذن في الأكل، والأكل عبارة عن الأخذ وأكل أنواع المنافع بالباطل؛ فثبت أن قد ملك بالفراغ عن التجارة بغير الرضا، وأيد ذلك قوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} والتبايع الذي عليه الإشهاد هو التعاقد، لا التفرق، ومن البعيد أن يكلفوا الإشهاد على التبايع قبل وجوب الواجب من الحق الذي عليه الإشهاد؛ فثبت بذلك وجوب ما جعل البائع بوجوبه دون التفرق؛ وإذن ثبت الذي ذكرنا من أحكام القرآن مع الكفاية بالأمر الذي لا يجوز شذوذ حق لا يسلم عنه بشر عن علم جميع البشر، وكل أهل التبايع به يتعارفون الحق بينهم بالفراغ من العقود، ولا يجوز شذوذ العلم بحق ذلك محله؛ فيكون اتفاق الخلق على الجهل بالاعتقاد في أمر يعرفه الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أئمة الهدى، لا ينتهون عن ذلك، واللّه أعلم. فإذا لزم ذا الولاء المروي من الخيار: أن كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، حمل الخبر على ما فيه بعض العلم بحق القرآن، وما عليه أمر الخلق على اتساع لغير ذلك الوجه، بل لعله بغيره أولى، ثم يخرج على وجوه: على إضمار: حُقَّ على المتبايعين أن يكونا كذلك في حق الجعل، لا في حق العبادة عن واجب؛ دليله رواية عبد اللّه بن عمر - رضي اللّه عنه - أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " البَيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَم يتَفْرقَا ". أو لا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه؛ خشية أن يستقيله؛ ثبت أن المعنى بالخيار في حق الجعل لو طلب - كالفسخ في الاستقالة، واللّه أعلم. والثاني: أن يريد به: ما داما في التبايع؛ دليل ذلك احتمال اللفظ في قوله - سبحانه -: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}، والإشهاد على التبايع، والتبايع هو فعل اثنين، وقد ثبت منهما مع الفراغ - الإشهاد على التبايع، وهذا أحق بوجوه: أحدها: حق اللغة أنه اسم التفاعل، وهو اسم لفعلهما؛ فيستحقان ذلك في وقت كونهما فيه: كالتضارب، والتقاتل، ونحو ذلك، وبعد الفراغ التسمية تكون بحق الحكاية دون تحقيق الفعل. والثاني: بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " البَيعَانِ بِالْخِيارِ مَا لَمْ يَتَفَرقَا مِنْ بَيْعِهِمَا، وَبَيْعُهُمَا مَعْرُوفْ "، واللّه أعلم. والثالث: متفق القول من أهل العقل على رؤية وجوب البيع دون التفرق عن المكان، واللّه أعلم. والرابع: أن يجعل ذلك الحد لإصلاح البياعات أنهما ما لم يتفرقا يملكان الاصطلاح، وإذا تفرقا لا، وهو أولى؛ إذ قد جعل التفرق التام شرطًا للفساد ومنع الإصلاح، وقد كان في بعض العقود مما يصلح بالقبض؛ فهو على الوجود قبل التفرق، ثم لا يصلح إذا وجد التفرق؛ فمثله مما كان الصلاح بالقول في الإصلاح؛ وعلى ذلك إذا قال أحد للآخر: اختر - انقطع خياره لو كان تفرقا من القول، وليس فيه زيادة على ما في قوله: بعت منك، في حق الإصلاح؛ فثبت أن التفرق لقطع الإصلاح، لا للإصلاح - واللّه أعلم - قوله: إن للناس عرفًا في التبايع من وجهين: أحدهما: في التعاقد. والثاني: في التقابض؛ فيكون المعنى من الخبر فيما البيع عن تقابض، وهو بيع المداومة إذا ترك كل واحد منهما الآخر يفارقه على ما سلم وقبض كان ذلك بينهما، وجاز ذلك -أيضًا- بحق الآية في الإباحة عن تراض، واسم التجارة قد يقع على تبادل ليس فيه قول البيع؛ كقوله - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} وقوله: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ}، وذلك مع قوله - سبحانه وتعالى -: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}، وفي ذلك أن البيع الموقوف إذا أجيز يباح الأكل؛ لما كان وقت الأكل قد وجدت التجارة عن تراض، وفي ذلك دليل وجوب خيار الرؤية؛ إذ قد جعل الرضا سببًا، وهو بما يجهل غير محق، وإنَّمَا يعلم بالرؤية. وفيه أنه بالقبض يمضي حق العقد؛ إذ التجارة للأكل، ولا يوصل إليه إلا بالقبض، فإذا فات، فات ما له التجارة؛ فيبطل، واللّه أعلم. وفي قوله -أيضًا-: " تبايعا " وإن كان اسما لفعل اثنين، فلما يتصل صحة كلام كل واحد منهما إذا كان الآخو حاضرا؛ فكأنهما اشتركا في صحته؛ فصارا به متبايعين، نحو قوله: حتى يتفرقا، والتفرق اسم لفعل اثنين، لكن أحدهما إذا فارق مكان البيع والآخر لم يفارقه - فقد وجد حق التفرق من أن ليس أحدهما بجنب الآخر؛ فكأنهما اشتركا في التفرق وإن لم يوجد الفعل من أحدهما، واللّه أعلم. وقوله - جل وعز -: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} يحتمل وجهين: أي: لا يقتل بعضكم بعضًا؛ فإنه إذا قتل آخر يقتل به؛ فكأنه هو الذي قتل نفسه؛ إذ لولا قتله إياه وإلا لم يقتل به. والثاني: أنه أضاف القتل إلى أنفسهم؛ لأنهم كلهم كنفس واحدة؛ إذ كلهم من جنس واحد، ومن جوهر واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} أي: من رحمته: أن جعل لكم فيما بينكم القصاص، وأخذ النفس بالنفس، والمال بالمال، وفي ذلك حياة أنفسكم، وإبقاء أموالكم. ومن رحمته -أيضًا-: أن جعلكم من جوهر واحد؛ إذ كل ذي جوهر يألف بجوهره، ويسكن إليه، واللّه أعلم. ومن رحمته: أرسل إليكم الرسل، وأنزل عليكم الكتب، وأوضح لكم السبل. ومن رحمته: أن أمهل لكم، وستر عليكم، ودعاكم إلى المتاب. ومن رحمته: دفع عنكم الآفات، وأوسع لكم الرزق، وبالمؤمنين خاصة برحمته اهتدوا، وسلموا عن كل داء. |
﴿ ٢٩ ﴾