٨٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ذكر التحية، ولم يذكر ما تلك التحية، واسم التحية يقع على أشياء: من نحو ما جعل الصلاة لتحية المسجد، والطواف تحية البيت، وغير ذلك مما يكثر عددها، لكن أهل التأويل أجمعوا على صرف هذه التحية إلى السلام دون غيرها من التحية التي ذكرنا؛ ألا ترى أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ رُدُّوهَا}؟! ولو كان غيرها أراد - لم يقل: {أَوْ رُدُّوهَا}؛ لأن غيرها من التحية لا يرد؛ إذ في الرد ترك القبول، ولم يؤمر بذلك؛ دل أنه أراد بالتحية: السلام، ويدل على ذلك آيات من كتاب اللّه - تعالى -: قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّه}؛ فجعل تحية الملائكة للمؤمنين السلام؛ كقوله - تعالى -: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ}، وجعل تحية أهل الجنة السلام؛ كقوله - تعالى -: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}، وكقوله - تعالى -: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}، وتحية الملائكة بعضهم على بعض: بالسلام؛ ألا ترى أنه قال اللّه - تعالى -:، {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّه. . .} الآية فعلى ذلك يمكن أن يكون المراد من قوله - تعالى -: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ}: السلام، وجعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - السلام علمًا وشعارًا فيما بين المسلمين، وأمانًا يؤمن بعضهم بعضًا من شره؛ ألا ترى أن أهل الريبة لا يسلِّمون ولا يردون السلام، وإن كانوا لا يعرفون تفسيره ولا معناه؟! ولكن على الطبع جعل ذلك لهم. والسلام: قيل: هو اسم من أسماء اللّه - تعالى - فهو يحتمل وجوهًا: يحتمل: سلام مسَلَّم طاهر عن الأشباه والأشكال، وسلام عدل منزه عن العيوب كلها، والجور والظلم. وقوله: " رحمت اللّه "، أي: برحمته ينجو مَنْ نجا، وسعد من سعد: " وبركاته ": به ينال كل خير، وهو اسم كل خير؛ ألا ترى أنه جعل التحليل من الصلاة بالسلام بقوله: " السلام عليكم ورحمة اللّه "؛ على ما جعل تحريمها باسم اللّه؛ فعلى ذلك جعل الافتتاح بما به جعل الختم. ثم اختلف في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}: فقيل: حيوا بأحسن منها للمسلمين، أو ردوها على أهل الكتاب. وعن أنس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: نهينا أن نزيد على أهل الكتاب على: عليك، وعليكم. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: السلام: اسم من أسماء اللّه وصفاته في الأرض، فأفشوه بينكم؛ فإن الرجل إذا سلَّم كتبت له عشر حسنات، فإن هم ردوها عليه كتب لهم مثله. وقيل: قوله - تعالى -: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} بالزيادة، {أَوْ رُدُّوهَا}: بمثلها. وروي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه جاءه رجل فقال: السلام عليكم، يا رسول اللّه، فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَلَيكُم وَرَحْمَةُ اللّه "، ثم جاءه آخر فقال: السلام عليكم، يا رسول اللّه ورحمة اللّه، فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَلَيكُم وَرَحْمَةُ اللّه وَبَرَكَاتُهُ "، ثم جاءه آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، فقال: " عَلَيكُم "؛ فقيل له: إنك زدت في الأول والثاني؟ فقال: " إِنَّ الْأَولَ وَالثانِي قَدْ أَبْقَيَا لي زِيادَةً، وَهَذَا لَم يُبقِ لي زيادةً ". وقيل: إنه روي أنه سلَّم عليه رجل فقال: السلام عليكم، فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَشرٌ " يعني: عشر حسنات، وسلَّم عليه آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه؛ فقال: عِشرُونَ "، وقال آخر: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته؛ فقال: " ثَلاثُونَ ". ومنتهى السلام قوله: " وبركاته "، لا يزاد عليه؛ كقوله: {رَحْمَتُ اللّه وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}. فَإِنْ قِيلَ: يسلم في الصلاة على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، ولا يقول في التحليل من الصلاة: وبركاته؟ قيل: لوجهين: أحدهما: تفضيلا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: إبقاء لهم في الرد زيادة. ويسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على القائم، والقائم على القاعد: روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يُسَلِّمُ الراكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالماشي عَلَى القَائِمِ، وَالْقَائِمُ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالصغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْقَليلُ عَلَى الكَثِيرِ ". وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِذَا انْتَهَى أَحَدُكم إِلَى المَجْلِسِ فَلْيُسَلم، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِس، وَإِنْ قَامَ وَالْقَوْمُ جُلُوسٌ فَلْيُسَلم؛ فَلَيسَتِ الْأُولَى بِأحَق مِنَ الْأُخْرَى ". وعن جابر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيرِنَا فَلَيسَ مِنَّا "، وقال: " لَا تُسَلمُوا تَسليمَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ تَسليمَ النَّصَارَى بِالْأَكُفِّ، وَتَسليمَ الْيَهُودِ بِالإشارَةِ ". ويكره أن يبتدئ أهل الكتاب بالتسليم، ولكن إذا بدءوا هم - يردّ؛ وعلى ذلك جاءت الآثار: روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَبدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالتَّسليمِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُم فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُم إِلَى أَضْيَقِهَا ". وعن أبي نضرة الغفاري - رضي اللّه عنه - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لهم يومًا: " إِنى رَاكِبٌ إِلَى يَهُودَ؛ فَإِنْ سَلَمُوا عَلَيكُم فَقُولوُا: وَعَلَيكُم ". ثم قيل في تفسير: " السلام عليكم " بوجوه: قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: اللّه شهيد عليكم. وقيل: اللّه قائم عليكم، وهو كقول اللّه - تعالى -: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} برًّا وفاجرًا، يرزقهم، ويحفظهم، ويستجيب لهم. وقيل: هو الدعاء لهم بالمغفرة والسلامة، وهو ما ذكرنا بدءًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}. قيل: شهيدا. وقيل: حفيطا. وقيل: كافيًا مقتدرًا؛ يقال: أَحْسَبَني هذا، أي: كفاني. وقال الكسائي: مشتقة من الحساب؛ كقوله - تعالى -: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي: حاسبًا؛ كالأمير والآمر، والقدير والقادر، واللّه أعلم. |
﴿ ٨٦ ﴾