١٧١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} والغلو في الدِّين: هو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم، وكذلك الاعتداء: هو المجاوزة عن الحد الذي أحد لهم، في الفعل وفي النطق جميعا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تفسير الغلو ما ذكر: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ}؛ فالقول على اللّه بما لا يليق به غلو. وقيل: لا تغلوا: أي لا تَعَمَّقُوا في دينكم، ولا تَشَدَّدُوا؛ فيحملكم ذلك على الافتراء على اللّه، والقول بما لا يحل ولا يليق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ}. أي: الصدق. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ} يقول: لا تقولوا للّه - تعالى - ولد ولا صاحبة. وفي حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: " ولا تقولوا: اللّه ثالث ثلاثة؛ إنما هو إله واحد). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّه} الخطاب بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} في حقيقة المعنى - للخلق كلهم؛ لأن على كل الخلائق ألا يغلوا في دينهم، وهو في الظاهر في أهل الكتاب، والمقصود منه النصارى دون غيرهم من أهل الكتاب؛ حتى يعلم أن ليس في مخرج عموم اللفظ دليل عموم المراد، ولا في مخرج خصوصه دليل خصوصه؛ ولكن قد يراد بعموم اللفظ: الخصوص، وبخصوص اللفظ: العموم؛ فيبطل به قول من يعتقد بعموم اللفظ عموم المراد، وبخصوص اللفظ خصوصه. ثم افترقت النصارى على ثلاث فرق في عيسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد اتفاقهم على أنه ابن مريم: قال بعضهم: هو إله، ومنهم من يقول: هو ابن الإله، ومنهم من يقول: هو ثالث ثلاثة: الرب، والمسيح، وأمه؛ فأكذبهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في قولهم، وأخبر أنه رسول اللّه ابن مريم، ولو كان هو إلهًا لكانت أمه أحق أن تكون إلهًا؛ لأن أمه كانت قبل عيسى - عليه السلام - ومن كان قبلُ، أحق بذلك ممن يكون من بعد، ولأن من اتخذ الولد إنما يتخذ من جوهره، لا يتخذ من غير جوهره؛ فلو كان ممن يجوز أن يتخذ ولدًا - لم يتخذ من جوهر البشر؛ كقوله - تعالى -: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} قَالَ بَعْضُهُمْ: كلمته: أن قال له: كن؛ فكان. لكن الخلائق كلهم في هذا كعيسى؛ لأن كل الخلائق إنما كانوا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: كن؛ فكان؛ فليس لعيسى - عليه السلام - في ذلك خصوصية. وأصله أنه سمي كلمة اللّه لما ألقاها إلى مريم، ولا ندري أية كلمة كانت؛ وإنما خلقه بكلمته التي ألقاها إليها؛ فسمي بذلك، كما خلق آدم من تراب؛ فنسب إليه، وحواء خلقها من ضلع آدم؛ فنسبها إليه، وسائر الخلائق خلقهم من النطفة؛ فنسبهم إليها؛ فعلى ذلك عيسى، لما خلقه بكلمة ألقاها إليها - نسب إليه، لكن في آدم وغيره من الخلائق ذكر فيهم التغيير من حال إلى حال، ولم يذكر ذلك في عيسى؛ فيحتمل أن يكون له الخصوصية بذلك، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرُوحٌ مِنْهُ} كقوله - تعالى -: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} فسمي لذلك روحًا؛ لما به كان يحيي الموتى؛ ألا ترى أنه سمى القرآن روحًا، وهو قوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}، سماه روحًا؛ لما به يحيي القلوب، كما يحيي الأبدان بالأرواح. وقيل: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: أحياه اللّه وجعله روحًا. وقيل: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: رسولا منه. وقيل: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: أمر منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَآمِنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ. . .} لأن الرسل كلهم لم يدعوكم إلى الذي أنتم عليه أنه ثالث ثلاثة؛ إنما دعاكم الرسل أنه اللّه إله واحد لا شريك له ولا ولد. {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}. بما ذكرنا بالآية الأولى. وقوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} بالرفع، أي: لا تقولوا: هو ثلاثة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} نزه نفسه عن عظيم ما قالوا فيه بأن له ولدًا، ثم أخبر أن له ما في السماوات وما في الأرض؛ وإنَّمَا يُتَّخَذُ الولد لإحدى خصال ثلاث: إما لحاجة تمسه؛ فيدفعها به عن نفسه، أو لوحشة تصيبه؛ فيستأنس به، أو لخوف غلبة العدو؛ فيستنصر به ويقهره، أو لما يخاف الهلاك؛ فيتخذ الولد ليرث ملكه. فإذا كان اللّه - سبحانه - يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تصيبه وحشة، أو لملكه زوال - يتعالى عن أن يتخذ ولدًا وهو عبده. {وَكَفَى بِاللّه وَكِيلًا}. قيل: حافظًا. وقيل: شهيدًا. وقيل: الوكيل: هو القائم في الأمور كلها، واللّه أعلم. |
﴿ ١٧١ ﴾