سُورَةُ الْمَائِدَة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}

أجمع أهل التأويل على أن العقود - هاهنا - هي العهود، ثم العهود على قسمين:

عهود فيما بين الخلق، أمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بوفائها.

وعهود فيما بينهم وبين ربهم، وهي المواثيق التي أخذ عليهم، من نحو: الفرائض التي فرض اللّه عليهم، والنذور التي يتولون هم إيجابها، وغير ذلك، أمر عَزَّ وَجَلَّ بوفائها.

وأما العهود التي فيما بينهم من نحو: الأيمان وغيرها، أمر بوفاء ذلك إذَا لم يكن فيها معصيَة الرب؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا. . .} الآية، أمر هاهنا بوفاء الأيمان، ونهى عن تركها ونقضها، ثم جاء في الخبر أنه قال: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَي غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الذِي هُوَ خَيرٌ، وَلْيُكَفرْ عن يَمِينَهُ ". أمر فيما فيه معصية بفسخها، وأمر بوفاء ما لم يكن فيه معصية، ونهي عن

نقضها بقوله تعالى: {وَلَا تنقُضُوا. . .} الآية.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}: وهي العهود، وهو ما أحل وما حرم، وما فرض وما حد، في القرآن كله، وهو ما ذكرنا.

وقيل: إن العقود التي أمر اللّه - تعالى - بوفائها هي العهود التي أخذ اللّه - تعالى - على أهل الكتاب: أن يؤمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويأخذوا بشرائعه، ويعملوا بما جاء به، وهو كقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}، وكقوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّه إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي}.

فالخطاب لهم على هذا التأويل؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الوحوش، وهو قول الفراء؛ ألا ترى أنه قال: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}؟!.

وقال الحسن: هي الإبل والبقر والغنم.

وقال آخرون: البهيمة: كل مركوب.

لكن عندنا: كل مأكول من الغنم، والوحش، والصيد، وغيره، وإن لم يذكر.

دليله، ما استثنى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}؛ كأنه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا ما يتلى عليكم من {الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} الآية، {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}

دل قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} على أن الصيد فيه كالمذكور، وإن لم يذكر؛ لأنه استثنى الصيد منه، وأبدًا: إنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان فيه ذلك، وأما إذا لم يكن؛ فلا معنى للاستثناء، فإذا استثنى الصيد دل الاستثناء على أن الصيد فيه، وإن لم يذكر.

ودل قوله - تعالى -: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}، على أن النهي كان عن الاصطياد في حال الإحرام لا عن أكله؛ لأن للمحرم أن يأكل صيدًا صاده حلالٌ.

ودل قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} على أن الصيد قد دخل في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} على ما ذكرنا فيما تقدم: أن البيان في الجواب يدل على كونه في السؤال، وإن لم يكن مذكورًا في السؤال؛ فعلى ذلك تدل الثنيا من الصيد على كونه فيه، واللّه أعلم.

ويحتمل {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} الثمانية الأزواج التي ذكرها في سورة الأنعام: (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ. . . إلى آخر ما ذكر.

والآية تدل على أن الذي أحل من البهائم - الأنعام منها - ثمانية؛ دل عليه قوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ثم قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}؛ ففصل بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير؛ فالخيل والبغال والحمير، خلقها للركوب، والأنعام للأكل.

وقوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}

كأنه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد، {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}: يحتمل: يتلى على الوعد، أي: يتلى عليكم من بعد ما ذكر على أثره: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ. . .} إلى آخره، ويحتمل: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وهو ما ذكر.

 وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " إلا ما يتلى عليكم فيها "، في سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا. . .} إلى آخره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}

وهذا - واللّه أعلم - أي: إلى اللّه الحكم، يحكم بما شاء من التحريم والتحليل، فيما شاء، على ما شاء، ليس إليكم التحكم عليه، وهذا ينقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: يريد طاعة كل أحد، ولو أراد ذلك لحكم؛ لأنه أخبر أنه يحكم ما يريد، ولا جائز أن يريد ولا يحكم؛ فدل أنه: لم يرد؛ لأنه لو أراد لحكم، وباللّه العصمة.

﴿ ١