٦

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّه ... (٦) وقد قال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} الآية، فأمر بالآية الأولى عند الوجود بالإجارة، وفي هذه بالقتل والأسر، وأمر في الأولى بتبليغه مأمنه، وفي هذه بأن يقعد له كل مرصد، وحال هذه هي حال الأولى في رأي العين، ويتهيأ له في كل وقت يظفر به أن يستجير؛ لما ذكر، وفي كل حال يرصد له أن يحتال ليرد إلى مأمنه، وفي ذلك زوال القيام بما في إحدى الآيتين في الظاهر، فألزم ذلك طلب المعنى الموفق بين الأمرين من طريق التأمل بالأسباب التي هي تدل على حق المعاملة بالآيتين جميعًا.

فقال أصحابنا: إنه إذا قصد نحو مأمن أهل الإسلام غير مظهر أعلام الحرب، ولا بما يدل أنه على ذلك مجيئه؛ بل يمشي مشي من ينقلب لحاجة، ومن يتعاهد ومن ينادي إليه بالاستجارة - فيجار.

ولو كان مقبلا نحو مأمننا، كالطالب لأحد، عليه أعلام الحرب، لكنه كالغافل عن الذين يرصدون له أو الذين لهم منعة ولا قوة به - فلا يقبل قوله، وذلك على تسليم الأمر الغالب من الأحوال؛ إذ لا وجه لعلم الحقيقة في ذلك، وعلى ذلك عامة الأمور بين أهل الدارين، وما ذكرت من الآية في لزوم ذلك الاعتبار؛ إذ لا وجه له غيره هو دليله، واللّه أعلم.

ثم دل قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} بعد العلم بأنه من مأمنه لا يقدر على الاستجارة لبعد مأمن كل من مأمن الآخر، ثم لا يكون مأمن الفريقين في إحدى الدارين؛ لما كان تحقيق أمن كل فريق منهما نفي أمن الآخر؛ إذ به خوفه؛ فثبت أنه قد يؤذن له بالخروج للاستجارة من مأمنه والدخول في مأمن المسلمين إلى أن يبلغوا مساكنهم فيستجيروا؛ فلذلك لا يوجب ذلك الوجود حق الأسر ولا القتل، ويجب رده لو لم يجر، ولم يسع تعرضه لشيء من ذلك.

ثم قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} من غير أن يبين استجارته لماذا، يحتمل أن يكون ترك بيانه؛ لما في الجواب ذلك بقوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّه}، وذلك كقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}، أنه في الجواب بيان ما استفتوا.

ويحتمل أن يكون ذلك لازم أن يسمع كلام اللّه بمعنى حجته لأي وجه دخل بأمان.

وذلك قريب؛ لأنا أمرنا بالتضييق عليهم ليسلموا، فإذا أبحنا لهم الدخول للحاجات بلا غرض، تذهب منفعة التضييق، فيكون المقصود بالعهد لما يرون من آثار الإسلام، وحسن رعاية أهل الإسلام، ويسمعون حججه وما به ظهور الحق فيه، رجاء أن يجيبوا، فلذلك يؤذنون، وإن كان في ذلك قضاء حاجاتهم.

وقد روي عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لم يكن يقاتل حتى يدعو؛ إلى الإسلام، فيما قد كان دعاهم غير مرة، فذلك المعنى عند الأمان أولى، واللّه أعلم.

قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّه} فالأصل أن حقيقة الكلام لا تسمع بالكلام نفسه؛ إذ الذي به يؤدي حروف الكلام بما يقلب الحروف ويؤلفه ولا صوت له يسمع؛ نحو

اللسان، والشفة، ونحو ذلك، وإنما يسمع بصوت يهيج من حيث الجارحة التي يتكلم وقوله فيبلغ كلامه أو حروف كلامه المسامع، فالسمع يقع على الصوت الذي به يدرك الكلام ويفهم، فصار سمع الكلام في الأصل مجازًا لا حقيقة؛ فعلى ذلك ما قيل من سماع كلام اللّه.

ثم هو يخرج على وجوه:

أحدها: أن يسمع المعنى الذي جعل له الكلام وهو الأمر، والنهي، والتحريم والتحليل، ونحو ذلك، وذلك مما ينسب إلى اللّه، فقيل بذلك كلام اللّه؛ لما إليه ينسب إلى الأمر به والنهي، ونحو ذلك.

والوجه الثاني: أن يكون اللّه ألفه ونظمه على ما أعجز خلقه عن مثله، فينسب إليه بما منه تأليفه على ما هو عليه، وإن كان مسموعًا من غيره؛ على ما تنسب القصائد إلى مبدعيها، والكتب إلى مؤلفيها، والأقاويل إلى الأوائل التي منهم ظهرت، وإن لم يكن الذي يقوله في الحقيقة قوله أو كلامه بما كان منه البداء الذي عليه يتكلم؛ فمثله معنى قوله: " حتى يسمع كلام اللّه ".

والثالث: أن يكون ذلك؛ لما بكلامه يعبر، وبه يوصف أن له كلامًا، وبه يرجع إلى ذلك، وإن كان اللّه - تعالى - يجل عن الوصف لكلامه بالحروف، والهجاء، والأبعاض، ونحو ذلك، فلما كان إليه المرجع، وإن كان حد ذلك غير متوهم هنالك ولا متصور، فنسب إليه؛ كما قال اللّه - تعالى -: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}،

وقال: {خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ}، من غير توهم كلية العالم في ذلك التراب أو النفس الواحدة؛ لما إليه مرجع الكل نسب إليه؛ فعلى ذلك أمر الكلام، وذلك على ما قيل من لقاء اللّه والمرجع إلى اللّه والمصير بما لا تدبير لأحد هنالك ذكر المصير إليه؛ لأن لذلك من صيرورة إليه - في الحقيقة - ورجوع لم يكن من قبل، فمثله لما قيل: كلام اللّه.

ثم اللّه - تعالى - يجل عن التصوير في الأوهام أو التقدير في العقول فعلى ذلك

صفته بل ذلك أحق وأولى، إذ نجد صفات الخلق لا تحد ولا تصور في الأوهام ولا تقدر بها العقول، إلا من طريق القول بالحقيقة لهم على ما هن أغيار لهم، فاللّه - تعالى - المتعالي عن التصور في الأوهام ووصفه بالعلم، والكلام، ونحو ذلك، أحق في إبطال توهم ذلك، فتدبر فيه.

وقال الثلجي: يقال: كلام اللّه، على الموافقة، لا على الحقيقة؛ كما يقال: ذا قول فلان، وكلام فلان، وليس غيره كلام المتكلم به، فالقائل الشاهد.

وقال أبو بكر: فهذا يدل على أن كلام اللّه يسمع من وجوه؛ فكأنه يذهب إلى مثل ما يقال: يعرف اللّه من وجوه، على تحقيق الوجوه، فمثله كلامه واللّه أعلم من غير توهم المعنى الذي به يعرف عن اللّه - سبحانه - كذلك سماع كلامه.

وفي قوله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} دلالة أنه لم يقبل ما سمع وعرض عليه؛ إذ لو قبل لكان يكون مأمنه هذه الدار، لا تلك، ولكان يحق عليه الخروج منها، لا العود إليها.

ثم معلوم أن كلام اللّه هو حجته، وأن الحجة قد لزمته؛ لوجهين:

أحدهما: ما ظهر عجز الخلق عن مثله، وانتشر الخبر في الآفاق على قطع طمع المقابلين لرسول اللّه بالرد، الباذلين مهجهم وما حوته أيديهم في إطفاء نوره، فكان ذلك حجة بينة لزمتهم.

والثاني: أن جميع ما يتلى منه لا يؤتى عن آيات إلا وفيها مما يشهد العقول على قصور أفهام الخلق عن بلوغ مثله من الحكمة وعجيب ما فيه من الحجة؛ مما لو قوبل بما فيه من المعنى وما يحدث به من الفائدة، ليعلم أن ذلك من كلام من يعلم الغيب، ولا يخفى عليه شيء، وإذا كان كذلك صار هو بالرد مكابرًا، وحق مثله الزجر والتأديب أنه لم يفعل ألما لم يكن يضمن أمانة القبول، ولا أن يعارضه بالرد، وذلك أعظم مما فيه الحدود، فالحد أحق ألا يقام عليه، واللّه أعلم.

ثم قوله: {أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} ويحتمل وجهين:

 أحدهما: أن يدعه ولا يمنعه عن العود إلى مأمنه؛ ليعلم أن حكم تلك الدار لم يزل عنه، وأنه لا تلزم الجزية إلا عن طوع أو دلالة عليه.

والثاني: أن يكون عليه حفظه إلى أن يبلغه مأمنه بدفع المسلمين عنه، وفي ذلك لزوم حق الأمان الجميع بإجارة بعض، وعلى ذلك كل مسلم.

ثم سماع كلام اللّه يخرج على القرآن، وفيه ما ذكرت من الدلالة، وعلى سماع أوامر اللّه ونواهيه في حق الفرض عليه، وعلى سماع حجج النبوة وآيات الرسالة والتوحيد من القرآن، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}.

أي: ما لهم وما عليهم.

ويحتمل نفي العلم: بما لم ينتفعوا بما علموا.

ويحتمل ذلك تعليم من مع رسول اللّه كيفية معاملة الكفرة؛ إذ هم لم يكونوا يعلمون من قبل، واللّه أعلم.

﴿ ٦